26 يونيو 2019

ورشة البحرين

من التطبيع مع "إسرائيل" إلى التحالف معها

من التطبيع مع "إسرائيل" إلى التحالف معها

على عكس التأكيدات الأميركيّة بأنّ الاجتماع في المنامة "اقتصاديٌّ بحت"، وأنّهم "لا يتحدثون هناك عن السّياسة"، إلا أن ورشة المنامة بالمنظور السّياسي التحليليّ ليست مجرد ورشةٍ اقتصاديّةٍ تُضَاف إلى مجموع اللقاءات الاقتصاديّة السّابقة، التي حملت عناوين ومشاريع مشابهة حتى، والتي جرت العادة أن تكون بوابةً للتطبيع مع "إسرائيل". 

الجديد هنا، أنّ هذه الورشة توّفر أرضيّةً جديدةً لإعادة تشكيلِ حضور "إسرائيل" في المنطقة، ليس من خلال جعلها طبيعيّة فقط، بل وأيضاً حليفة مركزيّة تُساهم في استقرار الأنظمة العربيّة المشاركة وبقائها. فلسطين في هذه الحالة مجرد منتجٍ عرضيّ؛ منتج تسهُل التضحيةُ به في سبيل هذا السعيّ للحفاظ على العروش. بهذا، يعلن المجتمعون في المنامة انتقالهم من "التطبيع" مع "إسرائيل" إلى التحالف معها. فـ"ليس من السّليم أن نختلف مع الولايات المتحدّة على قضايا جانبيّة [في الإشارة لنقل السّفارة الأميركية إلى القدس]، بينما نحن نواجه معاً الخطر الإيرانيّ"، بحسب تعبير وزير الخارجيّة البحرينيّ خالد بن أحمد في ديسمبر/كانون الأول 2017، و"نحن" هنا بطبيعة الحال تشير إلى العرب و"إسرائيل".

تحاول الورشة على عجل التخلص من آخر عقدة تقف حائلاً أمام اندماج "إسرائيل" في المنطقة، عن طريق نزع كلّ مركبات الصّراع السّياسيّة وتحويله إلى مشكلةٍ إنسانيّةٍ يمكن حلّها بالمزيد من الاستثمارات الماليّة التي تطمح إلى تحسين الوضع الاقتصاديّ للفلسطينيين، وبالتّالي تُحَلُّ "أزمتُهم" (تعد الورشة بتجنيد 50 مليار دولار على مدى السّنوات العشرة القادمة، ستُصرَف في الضّفة الغربيّة وقطاع غزّة والدول العربيّة المجاورة). ما هذه الورشة إلا احتفال رسميّ يُعلَنُ من خلاله تقديم هذه الأموال من دول الخليج إلى الفلسطينيّين كرشوةٍ للتخليّ عن أنفسهم. وكما أعلن البيتُ الأبيض، هذه البداية فقط، إذ يفترض أن يُقدّم الشق السياسيّ من صفقة القرن بعد نوفمبر/ تشرين الثاني القادم. 

القوى السياسيّة والاقتصاديّة الفلسطينية من جهتها أجمعت على رفض المؤتمر؛ الفصائل الفلسطينيّة، وقطاع رجال الأعمال، وكذلك السّلطة الفلسطينيّة (التي رأت بقمّة المنامة وخطاب الاستثمارات مقدّمةً لتصفية نفوذها السّياسي في الضفّة)، ولم توافق على المؤتمر أيّة جهةٍ فلسطينيّةٍ تُذكر، حتى كـ"ديكور" لم يجدوا أحداً1. إلا أن هذا الرفض الموّحد من الفلسطينيين لم يؤثر على أحد، فالقضية الفلسطينيّة هي في نهاية المطاف القربان الذي سيقدموه للشيطان كي يحميهم من إيران. هكذا، بسذاجة تراكم على نفسها تظن هذه الأنظمة أنّه يمكن شراء الأمان بالمال.

تخطّت القمة السقفَ (المنخفض أصلاً) في مبادرة السّلام العربية السعوديّة التي تبنتها قمة بيروت عام 2002. المبادرة التي لم تعبأ بها "إسرائيل" وأخذت في فرض المزيد من الحقائق على الأرض لإقامة نفوذها على كامل فلسطين، حقائق على الأرض تنفي أية إمكانية لتطبيق مثل هكذا مبادرة. لقد مسحت "إسرائيل" بشكلٍ نهائيٍّ الفكرةَ القائمةَ على إقامة دولة فلسطينية في حدود 67، وأخذت في التوّسع في إقامة المستوطنات في الضّفة بشكلٍ غير مسبوق، وهي اليوم تطمح لضمّها ومعها مناطق "ج" التي تشكّل ما يزيد عن 60% من مساحة الضّفة الغربيّة. بموازاة ذلك، تُعمّق "إسرائيل" سيطرتها على شرقي القدس، وتزيد ربطها بغربي المدينة، بمشاريع اقتصاديّة-اجتماعيّة ومشاريع بنية تحتية وقبضة أمنية مشددة. إلى الشمال، مرّ الاعتراف الأميركيّ بضمّ الجولان بسهولة مفرطة، كل ذلك يُثبِتُ أنّ حقائق القوّة أهمّ من حقائق الشرعية. 

أمام هذا المشهد لم يتراجع العرب عن مبادرة السّلام بل نسوها بكلِّ بساطة، وهم اليوم لا يعرضون "مبادرة" على الفلسطينيّين بل يطلبون منهم الاستسلام، لأن الأولوية اليوم اتخذت شكلاً واضحاً بالنسبة لهم؛ رؤية إيران كعدوٍّ أساسيّ، ومصالح تتشكل على وقع ثورات الشّعوب العربيّة 2011، إذ بعد ذلك العام بدأت الأنظمة الجمهوريّة تتهاوى تباعاً تحت وطأة الموجات الشّعبية المطالبة بكرامتها، فيما أخذت الأنظمة الملكيّة على عاتقها التصدي لهذا الجديد؛ تكفّلت الملكيات في قيادة الثورة المضادّة ودعمها، وهي نفسها التي تقود اليوم مهمة جعل "إسرائيل" طبيعيّة، بل وأكثر من ذلك التحالف معها ضدّ الفلسطينيين وضدّ شعوبها أيضاً.

الثورة المضادّة.. إسرائيل في الكواليس

تعود علاقة البحرين (البلد المستضيف للورشة) بـ"إسرائيل" لبداية التّسعينيات. لكنّ التظاهرات بين عامي 2011-2014 في البحرين شكّلت مفترقاً هاماً في هذه العلاقة، إذ تعاونت حينها المخابرات البحرينيّة مع الموساد الإسرائيلي لإخماد ثورة 14 فبراير، تعاون بدأ منذ حوالي عقد قبل اندلاع الاحتجاجات واستمرّ تصاعدياً، استناداً إلى الفكرة التي تقدّمها "إسرائيل" عن نفسها كجهةٍ تمتلك خبرةً في قمع الانتفاضات الشعبيّة. بذلك، اشترى النظام في البحرين من "إسرائيل" تاريخاً من قمع الفلسطينيين ليستخدمه ضدّ شعبه.

في هذا السّياق، قدّمت "إسرائيل" لقيادات الثورة المضادّة العديد من الخدمات الأمنيّة، كان أشهرها  برنامج"بيغاسوس" للتجسس على الهواتف المحمولة من مزوّد "برامج الحرب الرقميّة"NSO2، الذي يتخذ من "إسرائيل" مقراً له. احتاجته هذه الأنظمة للتجسس على مواطنيها؛ هناك ستة مشغّلين في العالم العربيّ، يشمل على الاقل مشغلين يعملان بتركيز على الإمارات العربيّة المتحدة، ومشغّل آخر يركّز على البحرين، وآخر على السّعودية.

التعاون شهد مستوياتٍ أمنيّةٍ أخرى، بما فيها التّصنيع العسكريّ، فقد كشفت صحيفة يديعوت أحرونوت عام 2016 عن تعاون إماراتي-إسرائيلي-ألماني في بناء سفن حربيّة من طراز "ساعر 6" لصالح "إسرائيل". وكانت شركة "أبو ظبي مار" الإماراتية تعاقدت مع شركة ألمانيّة باسم "تيسنكروب" ThyssenKrupp للتعاون في مجال بناء السّفن، والشركة الألمانيّة بدورها تعاقدت مع "إسرائيل" لتزويدها بالسفن اللازمة لحماية منشآت حقول الغاز الإسرائيليّة في البحر المتوسط.

وتتعلق المستويات الأمنيّة في التعاون كذلك بالتصدي لما يُسمى "الخطر الإيرانيّ"، وهو عنوان تردد في آخر 5 سنوات تقريباً بكثرة في خطابات الزعماء العرب، بالأخصّ الخليجيين، و"حلفائهم" في مواجهة هذا الخطر في "إسرائيل". في فبراير/شباط الماضي مثلاً، التقى بنيامين نتنياهو في العاصمة البولنديّة وارسو بوزراء خارجيّة أربع دول خليجيّة عُرِف منها السعودية والإمارات. الهدف الأساسي من الاجتماع: مواجهة إيران. عن ذلك اللقاء صرح نتنياهو حينها أن من بين الوزراء الذين التقوا قالوا "في الماضي كانت القضية الفلسطينية هي المركزية، واليوم القضية الإيرانية هي المركزية، لأن ذلك يهدد وجودنا".  

عدا عن الأهداف الأمنية المشتركة، شهدت السنوات الأخيرة إعلاناً صريحاً "للعلاقات الدافئة" بين عدد من تلك الدولة العربيّة و"إسرائيل"، والأمثلة على ذلك كثيرة؛ من استقبال اللاعبين الإسرائيليين وقبول مشاركتهم في مسابقات دوليّة في قطر، إلى استقبال شخصيات سياسية إسرائيلية على أراضي الخليج، بدءاً بنتنياهو في عُمان، برفقة رئيس الموساد يوسي كوهين، مروراً بميري ريجيف وزيرة الثقافة الإسرائيلية في الإمارات، ووفود متنوعة في البحرين وغيرها وغيرها من لقاءات سريّة تتسرب عنها بعض الأخبار في بقية دول الخليج. 

إرث أمنيّ ممتد شرقاً وغرباً

تشترك الأنظمة العربية مع العديد من الدول الديكتاتورية التي تعاونت مع "إسرائيل" كمزوّد للخدمات الأمنيّة القائمة على "التجربة على أجساد الفلسطينيين"، أبرزها الحكومات الديكتاتورية في أميركا اللاتينية وأفريقيا وشرق آسيا طوال النصف الثاني من القرن العشرين. في غواتيمالا مثلاً نظّمت "إسرائيل" عمل "فرق الموت" وفق أساليب متطورة تكنولوجياً، كما أنها أنشأت معسكراتِ تدريبٍ لمقاتلي اليمين في السلفادور، وشيلي، وبوليفيا، والأرجنتين، وبنما، والبيرو، ومولومبيا، وفنزويلا، فضلاً عن الجمهوريّة الدومينيكية. كما زوّدت حكومتي السلفادور والبراغواي ببرامج حاسوب قادرة على رصد نشاطات المقاومة. 

وفي الستينيات والسبعينيات أقامت "إسرائيل" علاقاتٍ قوّيةً مع آسيا من خلال مكتب الموساد في سنغافورة، وقدّمت مساعداتٍ استخباراتيّةٍ ولوجستيةٍ لأندونيسيا في حربها ضدّ التيمور، وساعدت في المجازر التي ارتكبت هناك في أواخر السبعينيات.

التحقت أنظمة الثورات المضادّة العربيّة بهذا الإرث من التعاون الأمنيّ العسكريّ مع "إسرائيل"، مستفيدةً من خبرة دولة استعماريّة في ممارساتها القمعية ضدّ الشعب الفلسطينيّ، وهذا يعكس بنيتها -أي الدول العربيّة- الذهنيّة في تصوّر شعوبها. بالإضافة إلى أنها تعوّل على "إسرائيل" في مواجهة إيران ايضاً، إذ تشترك مع "إسرائيل" في التذمر من تلكؤ أميركا من المواجهة. 


"إسرائيل" ليست مشكلة الفلسطينيين وحدهم، إنّها مشكلة كلّ الشعوب التي تسعى للتحرر، وهي تموضع نفسها في هذا الموقع  منذ زمن بعيد، وتعتاش عليه، بوصفها قوّة جذابة قادرة على تزويد الآخرين بما يحتاجونه؛ الأمن والتقنية العالية وغيرها. وهي لا تريد أن تمرّ العلاقة معها عبر أميركا أو من أجل إرضائها، بل تريد تطبيعاً يربط حاجة الآخرين بها بشكلٍ مباشرٍ.

وتبقى مشكلة "إسرائيل" في أن التطبيع لن يجعلها طبيعية بالفعل ما لم يتم تعميمه لمستويات أوسع وتحتضنه الشّعوب العربيّة. لذلك هي ترى أن التطبيع لا بدّ أن يتحول إلى ثقافة وأن يتسلل إلى الوعي، ومن هنا نرى حرصها على أمورٍ تبدو أحياناً سطحيةً (دون التقليل من فداحتها)، مثل احتفائها بعزف النشيد الوطنيّ الإسرائيليّ في دولةٍ عربيّةٍ، أو بحفلٍ غنائيّ، أو حتى بما يُنشر على حسابات عربيّة مغمورة على وسائل الإعلام الاجتماعي تُعبّر عن قبولها لـ"إسرائيل".   

لذلك تشهد هذه الموجة من التقارب مع "إسرائيل"، محاولة مكثفة لتمرير عقيدة جديدة لا تقوم على خطاب المصالح كما هو مفترض، بل تتجاوزه إلى رؤية عقدية ترى بالشعوب والناس محض ركام يسهل قمعه أو شراء سكوته، وتروّج لما هو "ثقافيّ" في "إسرائيل" لتفكيك آخر حصون المناعة ضدّ هذا الكيان.

في هذا السياق كذلك، نلاحظ أنّ الحسابات العربيّة الفعّالة على مواقع التواصل الاجتماعيّ في الدعوة للتطبيع مع "إسرائيل"، تقف أيضاً في صف الثورة المضادّة، لأن المنطق الذي يصدر عنه الموقفان واحد، هو عدم إدراك ما الذي تعنيه "إرادة التحرّر"، أو بالأحرى ما الذي يعنيه شعب ما. 

 

 



 

 

  1. تقول صحيفة "تايمز أوف ازرائيل"، أنّهم بحدود العشرة فلسطينيين. عُرف منهم أشرف الجعبري، المشهور بتطبيعه المعلن مع المستوطنين في مدينة الخليل، ومشاركته في مؤتمرات إسرائيليّة مختلفة. تضيف الصحيفة وفق مصادرها أن بقية المشاركين، في غالبهم، معروفون بارتباطاتهم وعلاقاتهم مع الجعبري. رجلُ أعمال آخر باسم محمد عارف مساد، الموصوف بأنّه هارب من الضّفة الغربيّة إلى الأراضي المحتلة عام 48، نشر كذلك على صفحته على فيسبوك أنّه ينوي الحضور. إعلان قابلته نقابة المحامين الفلسطينيين بالقول أنها تطالب النائب العامّ باتخاذ الإجراءات اللازمة ضدّ أي فلسطيني يشارك في الورشة. في بداية الورشة يوم أمس الثلاثاء قال كوشنير إن هناك من رغبوا بالحضور ولكن "قيادتهم السياسية منعتهم".
  2. "لعبة الغميّضة: تتبع عمليات برنامج بيغاسوس من شركة NSO في 45 دولة"، موقع "ذا سيتيزن لاب"، يمكن الوصول إليه: https://bit.ly/2D938GE