11 فبراير 2019

طفولةُ حُزيران

فتى يقفُ على أطلال النكسة

فتى يقفُ على أطلال النكسة

يتعامل إسماعيل ناشف مع النافذة كمنهجيّة يطلّ منها على الظواهر الاجتماعيّة، ليقدّم رؤيةً مغايرة -حرفياً- لما جرى. إذ يُتيح الوقوف على النافذة رؤيةً نقديّة للتاريخ، فهو وقوفٌ على أرضيّة هُمّشت. لماذا نلجأ إلى الرؤية من النافذة؟ هذا إمّا لأن الأبواب غير كافية لفهم الظواهر، أو لأن السلطة سيطرت عليها فلم يعد بمقدورنا العبور منها. بهذا، فإن العديد من الحقول المعرفيّة يعتبرها ناشف نوافذ، كان أدب الأطفال إحداها في كتابه "طفولة حزيران: دار الفتى العربي وأدب المأساة" (2017) للنظر في أزمات المجتمع العربي عامة، والفلسطيني خاصة؛ أزماتٌ تجسّدت في نكسة 1967، وما آلت إليه.

غير أنّ النافذة التي يطلّ منها ناشف على الطفولة، إنّما تنتمي لبيتٍ صنعه "الكبار"، ومن ثمّ أسكنوا "الصغار" فيه. كان البيت الذي بنته "دار الفتى العربي" (1974-1993)،  قائماً على أساساتٍ أرستها حالة ما بعد "الهزيمة"، التي لم يكن قد مرّ عليها إلّا سبع سنوات ساعة تأسيس الدار.

البناية والمطبخ

يأخذنا الكتاب إلى تلك الفترة من الزمن، التي فعلت فيها النكسة فينا ما يفعله صاروخٌ في بناية. هُدمت الطوابق جميعها وتراكمت فوق بعضها، واستحالت أساسات البناية إلى أسئلة سيطرحُها الجيل الذي عقب الهزيمة: ماذا حصل؟ ولماذا لم تكن الأساسات بمتانة تحافظ على البناية؟ من مثل هذا النوع من الأسئلة انبثق ميثاق "فلسفة التربية للشعب العربي الفلسطيني"، وشكّل بداية لمحاولة الإجابة على سؤال الهزيمة.

باختزال، لم يكن التشخيص الذي صاحب النكسة حينها، والسهولة التي سقطت بها البناية، إلّا بسبب الافتقار لنموذج "الدولة القوميّة"، وعدم التمسّك بتاريخ المنطقة. وبحسب ناشف، كان هذا التشخيصُ الأساسَ الفكريَّ الذي قامت عليه "دار الفتى العربي".

يمكّننا أدبُ أطفالِ "دار الفتى العربي"، من معرفة تطلّعات المثقفين العرب للمشروع الذي كانوا بصددِ بنائه. شكّل الأطفالُ، لمؤسسي وكتّاب الدار وقتها، المسدّسَ الذي حين يتحسّسونه يخبرهم أنّ الجيل القادم سيحقّق ما أخفقوا هم فيه. من هنا تحديداً يفحص ناشف رؤية الدار للإشكاليّات المُترتّبة عن فعل النكسة، والحلول المُرافقة لها.

ببعضٍ من السرد التاريخي لفترة النكسة والجيل الذي تلاها، ومع كميّة لا بأس بها من النظريّات السوسيولوجيّة والسيكولوجيّة حول الطفولة واللغة، يريد أن يُخبرنا ناشف بنشوءِ خطابٍ ما، ذي طابعٍ علمانيّ وقوميّ. خطابٌ امتصّته "دار الفتى العربي"، كما لو أنّها تصنع "طبخة"، أضافت عليه "بهارات" يساريّة وليبراليّة. وعلى نارٍ ربّما عالية، عُرضت المأساة الفلسطينيّة والقضيّة العربيّة، في سياقها الاستعماري، ثمّ قُدّمت للطفل في إناء قصصيّ حديث، اعتمد الابتكار والتجريب والإبداع.

آنَ أوانُ المبيت

آنَ أوانُ المبيت، لكن هل ظلّ بيتٌ؟ وهل من ذاكرة تسكنه؟ لقد سرُق البيت، وكذلك تاريخه. حسناً، هذا ما حاولت "دار الفتى العربي" استعادته للطفل. يُظهر ناشف وجود خطٍّ ناظم في العديد من قصص الدار، وتمحورها حول فكرة السَكَن في البيت "الكائن" الأصليّ، سواء كان هذا البيت بحراً بالنسبة للسمكة، أو المكانَ الذي هُجّر منه العربي والفلسطيني.

لا شكّ في أنّ عرض المسألة من نواحي عدّة: بيئية وعلميّة وسياسيّة واقتصاديّة وثقافية اجتماعيّة، كان مُذهلاً؛ لأنه يضع الطفل في أكثر من حالة وفي أكثر من عالم، لهدف واحد ووحيد: بيتُه الذي نشأ فيه، أو الذي كان يجب أن ينشأ فيه، والذي يُشكّل تاريخ وجوده على هذه الأرض. إنّه جوهره الذي إن تخلّى عنه إنّما هو يتخلّى عن نفسه.

إنّ ما فعلته "دار الفتى العربي" -بلُغة درويش- ما هو إلّا إفصاحُ الأبِ لولده عن سبب تركه الحصان وحيداً لمؤانسة البيت الذي خُطف. ما فعلته الدار ليس ترويضَ الحصان كي يظلّ مُلازماً البيتَ فقط، وإنّما روّضت خيال الطفل، فأخذته في رحلة من خيال إلى مكان وزمان مفقودين. مكانٌ اسمه فلسطين والمنطقة العربيّة، وزمانٌ ملامحهُ الإنجازات والإرث الذي صنعته هذه المنطقة.

بهذا، فإن ناشف يشير إلى أن الأزمة التي نشأت حول فكرة البيت وتاريخ فقدانه، إنّما هي إحدى روافد ما فعلته النكسة بالجيل السابق، بعد أنّ رُحلّت الأزمة للأطفال على شكل أدب. يصل ناشف إلى خلاصة مفادها أنّ الرحلة التي تدعو الدارُ الطفلَ إلى الاشتراك فيها، ما هي إلا السبيل الذي انتهجته الدار لتحقيق العودة الفعليّة والحقيقيّة لكلّ ما هو مفقود. وهي بهذا تكون قد صنعت خيطاً يربط جميع النصوص الأدبيّة التي نشرتها، ساعيةً بذلك إلى تحقيق لحظة الانتصار لدى الصغار.

علاقة "الكبار" بـ"الصغار"

إنّ الاعتراض الأساسي حين التفكير في الطفولة، هو أنّ الطفل لم يختر أيّاً من هذا الذي يعيش، لم يختر اسمه ولا الملابس التي سيرتديها، ولا البيت الذي يفضّل العيش فيه. هناك من اختار كلّ ذلك عنه، بناءً على ما يفكّر فيه وما يعتقده. لقد نقل "الكبار" فشلهم إلى "الصغار" بعد أن استنتجوا منه ماهيّة "النجاح". وبطريقة تشبه نصيحة الجدّ الجالس على كرسيه ينظر في عينيّ حفيده، تلّقينا -كأطفال- حلولاً جاهزة لبيتٍ ربّما تختلف جدرانه و"شبابيكه" عن تلك التي عاش فيها من كانوا قبلنا: لا تفعل ذلك، جرّبته وعاد عليّ بالسوء، بل جرّب هذا!

هذا تحديداً ما يجري في العلاقة بين "الكبار" و"الصغار"، وأدب الأطفال الذي أنتجته "دار الفتى العربي" ليس معزولاً عن ذلك. وكما يخبرنا ناشف، نقلَ جيلٌ من "الكبار" على إثر ما فعلته بهم النكسة، تناقضاتٍ وأزمات جرّبوا معالجتها على "الصغار" على شكل أدب. يعتبر ناشف الاعتراضَ على هذا "الترحيل" الإجباري إشكاليّاً، لأنّه يعمل على فصل الأطفال عن المجتمع. وفي الحقيقة هم جزءٌ منه، إذ يغيّرون فيه ويتغيّرون به، شأنهم في ذلك شأن أي فاعلٍ آخر في المجتمع. لهذا بالذات يمكنّنا الطفل من العبور في زمنين: الماضي وما يحمله من تناقضات غطّت على الفترة الزمنيّة التي عايشها الكبار في فترة الـ 67، والمستقبل وما يحمله من وعود تُنبِئ بالانتصار.

تجلّى هذا الترحيل بين جيلين، على أنّه استبدالٌ للعربيّ المهزوم، بآخر سيكون قاهراً للمستقبل، على حدّ تعبير ناشف. ترحيلٌ يراه ناشف، بالرغم ممّا سبق، مُتشنّجاً. ربّما كانت هذه هي إشكاليّة الترحيل الأساسيّة التي مارستها الدار، وكأنه، إذا ما استعنّا بتعبيرٍ من حسين البرغوثي، ربطةُ عُنق محكمة على رقبة الطفل، تخنقه.

إنّها تناقضاتٌ ثقيلة وحادّة جرى إلقاؤها على أكتاف ورقاب صغيرة وناعمة: "لقد هُزمنا لأنّنا بعيدون عن تاريخنا، فلنقم إذن باستعادته عند الأطفال. لقد هُزمنا لأنّنا لم نستحضر نموذج دولة القومية، فلنستحضره لدى الأطفال. حسناً، تبدو هذه عدّةً جيّدة للانتصار!". لكن ماذا لو لم تكن كذلك؟ سنكون حينها قد بَنَيْنا بيوتاً على غير الأراضي المُعدّة لها.

ما كان مفقوداً لدى كنفاني

ينطلقُ أدبُ أطفالِ "دار الفتى العربي"، كما يخبرنا ناشف، من القضيّة الفلسطينيّة ومأساتها. فلسطينيّاً، كان غسّان كنفاني وأدبه الفلسطيني التراجيدي، الأرضيةَ التي وقفت عليها الدار. إذ تعرِضُ أعمال كنفاني القصصيّة ثلاثة أجيال: جيل الهزيمة، ويتمثّل في رواية "رجال في الشمس"، وجيل اللجوء، ويتمثّل في رواية "ما تبقى لكم"، وجيل الثورة، ويتمثّل في رواية "أم سعد"، التي لم تكن مكتملة بحسب يوسف سامي اليوسف.

في هذه الأجيال التراجيديّة الثلاثة، بحسب كنفاني، تتمظهر ثلاثة أضلُع: عقدة الذنب التي حملها جيل الهزيمة، والشعور بالقصور والتدني الذي حمله جيل اللجوء، والنهوض عبر المقاومة كعملية تطهير وتحرير الذي سيحمله جيل الثورة؛ الأطفال "قاهرو المستقبل"!

يُظهرُ نقد اليوسف لرواية "أم سعد" أنّ مسلك العودة والتحرير لدى كنفاني كان ناقصاً، وهذا ما يتّفق معه إحسان عبّاس (اللذان يستخدم ناشف مراجعاتهما لأعمال كنفاني في تحليله لتأثير الأخير في الدار)، بقوله إن اغتيال كنفاني حالَ دون اكتمال مشروعه.

من هنا كان اهتمام "دار الفتى العربي"، كما يوضّح ناشف، بالتركيز على ما كان ناقصاً لدى كنفاني، وهو مسلك العودة والتحرير. فنرى جليّاً ضخّ الدار بالأفكار الثوريّة التي يجب على الطفل أن يعتنقها. يعني ذلك لناشف أنّ الأدب المتعلّق بالقضيّة الفلسطينيّة جرى من خلال التعامل مع الأطفال على أنّهم الجيل الذي سيحقّق ما لم يحقّقه "الكبار". وبهذا، تكون "دار الفتى العربي" قد شكّلت، بالنسبة لناشف، محاولة للنهوض بعد الهزيمة.

بالرغم من أن لغة الكتاب كانت في حاجة إلى قليل من الماء، كي يسهل على القارئ هضمها، إلا أنّ الكتاب كُتب كما لو أنّه قصة، فالقصة تنطلق بالحدث، لتطرح المسألة، ثمّ تحلّها. أمّا الكاتب، فينشئ في كلّ فصلٍ مقدمةً، ثم يغوص في مضامينها، ثمّ يلّخصها. بالإضافة إلى أنّه يبدو وكأنّه يبالغ في وصف الظاهرة وتحليلها حتّى لا يعود بإمكانها أن تكون هي؛ ربّما هذه خطورة النظر من النافذة، إذا لم تُراعَ المسافة المتضمّنة للرؤية. انتهيتُ من الكتاب، وظلّت تدور في ذهني فكرةٌ مفادها أن دراسة الطفولة وأدبها أمرٌ ضروريّ في السياق العربي والفلسطيني، كما لو أنّ فرويدياً يُحقّق في طفولتك كي يفهم ما صِرت عليه.



30 مارس 2019
وثائقي 30 آذار | في يوم الأرض

في ذكرى يوم الأرض، ينشر متراس، حصرياً، الفيلم الوثائقي "30 آذار" للمخرج نضال بدارنة، الذي يوثّق قصص شهداء يوم الأرض…