13 يوليو 2021

اللِّد.. ملحمةُ الدولة الثَّامنة

اللِّد.. ملحمةُ الدولة الثَّامنة

"اللد باقية مهما تشد"، فالمدينة أطلّت في الهبّة الأخيرة، مثلما ظلّت تُطلُّ برأسها رغم عثرات الزمان ودورانه عليها. اجتاحها الهواءُ الأصفر (الكوليرا) سنة 1900 في زمن تركيا، فكانت جائحةً كادت تُودي بنصف أهل سوريا! ولّى الهوا، وظلّت اللد مشجونةً بأغاني "الهوا والدوا". دارت رحى الحرب العُظمى سنة 1915، فجاع أهلُ البلاد، وزاد على جوعهم جوعُ الجراد، دفن اللدادوة المئاتِ من أطفالهم، ولكن النساء ظلّت تنجب. 

اهتزّت فلسطين في سنة السبعة وعشرين (1927)، فكان عام الزلزال، وكان مركزُه مدينة اللد. أودى الزلزال بالعشرات من أبناء المدينة، وجاء على أكثر من 500 من بيوتها1منيّر، إسبير، اللد في عهدي الانتداب والاحتلال، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، رام الله، ط4،  2011، ص 17.. قام اللدادوة من تحت ركامهم ونفضوا أكمامهم وألقوا بأحزانهم حتى صارت آباراً مثل آبار بياراتهم المشتولة من حولهم بالبرتقال والكِبّاد (نوع من أنواع الحمضيات)، مُحاطةً بشجر السدر والخشخاش.

اقرؤوا المزيد: "جند وجوع وجراد.. فلسطين في عام النفير".

اللدادوة ولِدهم

علّم بؤسُ الزمانِ اللدادوة شِدةَ البأس وحِدّة الطبع، فصاروا على دين مدينتهم ومسمّاها، لُد ولِد أو اللِد، أي قومها "شديدو الخصومة ولدودو العداء".2اختلفت الروايات في أصل ومعنى مُسمى اللد، غير أن اللدادوة ظلوا يميلوا إلى المعنى الذي ذكره الجغرافي الإسلامي ياقوت الحموي في مؤلفه معجم البلدان. لم يُكتب لحكواتي أن دخلَ مقهى البجاوي فيها، أو أيّاً من مقاهيها وخرج بعد حكايته منها سالماً، خاصّةً أنَّ اللدادوة كانوا مقسومين بين "غَربة وشَرقة"، أي الحارتين الغربيّة والشرقيّة، فأهل الشرقيّة بغالبهم فلاحون وزُرَّاع، بينما الغربيّون معظمهم تجّار وصنّاع، فإذا ما مال أهلُ "غَربة" في حكاية حرب البسوس مع التغلبيين، انحاز أبناءُ شَرقة مع البكريين، و"ساعتها الحكواتي إلو الله"، يقول السيد عودة الحلتة.3الحلتة، عودة، مقابلة شفوية - اللد، ضمن تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، موقع فلسطين في الذاكرة، ج1، بتاريخ 21/4/2005.

زايدَ أهلُ اللد على أهل الرملة وعيّروهم، حتى آخر نَفسْ من نفسِ عام النكبة الأخير، فاللدادوة اعتبروا أنفسهم أسرع تلبيةً لنداء السيف من الرمالوة - وهذا إلى حدٍّ ما صحيح. تقعُ الرملة جنوبيّ اللد، على بعد مسافةِ شُرب سيجارة، تفصِلُهما بئرُ الزيبق، التي لم يكن ماؤها يسقي كلا المدينتين، بقدر ما كان يغسل مظاهرَ التحاملِ والنزاعِ بعدَ كلِّ "طوشة" سنويّة كانت تحدث بين أبناء المدينتين في موسم النبي صالح. ومع ذلك، ظلّت كلُّ خفايا الحب والهوى، وحكايا التصاهر والنسب بين أهالي المدينتين مربطها بئر الزيبق. فاللد والرملة مدينتان كشقّي تمرةِ النخيل في وسط السهل الساحليّ الأوسط من فلسطين.

بعد انكسار تركيا، سنة 1917، واستباحة الإنجليز للبلاد، لم تعد اللد مُحاطةً بالقرى والديار العربيّة، بقدر ما أضحت مدينةً مُطَوقةً بالمنشآت والثكنات العسكريّة. من غربها أُقيمت محطةُ قطار فلسطين المركزيّة، ومن محطة القطار غرباً، عند قرية صرفند العمار، أقام الإنجليز أكبر معسكرٍ حربيٍّ على مستوى الشرق الأوسط في حينه، فيه مخازن للذخيرة والعتاد، وأخرى للخُردة من السلاح، ومجمع "الوايرلس" أكبر محطةٍ للاتصالات الحربيّة في البلاد، واسطبلات لخيل صواري الجيش، فضلاً عن سجن صرفند العسكريّ الذي ظلّ يتذكرُه كلُّ أسرى الحرب العالميّة الثانيّة من الطليان.4عن ذلك، راجع: عبد الرحيم، محمد سرحان، مقابلة شفوية - صرفند العمار، ضمن تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، موقع فلسطين في الذاكرة، ج1، تاريخ 28/2/2005.

إلى الناحية الشماليّة من اللد،  ومن شمالي جسر جنداس (جسر الملك الظاهر) أقام الإنجليزُ مطارَ اللد (بن غوريون)، الذي عُرِف لدى اللدادوة بمطار كفر جِنّس لأنه يقع على أراضيهم التي عُرِفت بهذا الاسم.5النابلسية، محمد، مقابلة شفوية - اللد، ضمن تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، موقع فلسطين في الذاكرة، ج1، بتاريخ 11/11/2005. أُعد المطار للنقل الجويّ المدنيّ والحربيّ معاً، خصوصاً مع اندلاع ثورة الـ36. ومن المطار شمالاً عند قرية بيت نبالا أقامت بريطانيا معسكراً كان فيه أكبر مستودعٍ لتموين جيشها في فلسطين. بينما من شرقها، ظلّت اللدُ مُزنرةً بقُرى العِرقيات العربيّة، منها: الحدَيْثة وجمزو ودانيال، وسُمّيت العِرقيات لأنها تقع بـ"عِرق الجبل"، لِتَفصله عن السهل الساحليّ. لم يكسر إيقاعُ تجاور هذه القرى غير وجودُ مستعمرة "بن شيمن" اليهوديّة التي أُقيمت على أراضي بيت عريف العربيّة.

جنود بريطانيون يحرسون سكة حديد بالقرب من مفرق اللد ، 12 أكتوبر/تشرين الأول 1938. تصوير: Sepia Times / Universal Images Group.

أما جنوباً من جهة الرملة، فقد أُقيم أكبر مركز بوليس إنجليزيّ، على طريق اللد-الرملة أيام الانتداب، والذي حوّله الصهاينة بعد النكبة إلى أكبر سجنٍ أمنيٍّ في البلاد.6عاشور، محمود  مقابلة شفوية - الرملة، ضمن تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، موقع فلسطين في الذاكرة، ج1، تاريخ 13/4/2005. فضلاً عن مطار الرمل العسكريّ الذي بنته بريطانيا عند موقع بركة جاموس جنوب الرملة.

 ذاكرة الرفض

لم يسكن اليهودُ اللدَ قبل النكبة، بل تفادوها من دون مدن فلسطين، ورفضهم أهلُها حتى ولو لزيارةٍ من أجل قضاءِ حاجةٍ ما. ولمّا التحق بعضُ أبناء المدن الفلسطينيّة وأريافها بسلك الشرطة البريطانيّة مطلع عشرينيات القرن الماضي، ظلَّ أبناءُ اللد يزجرون هذا الالتحاق، وقلّ ما ذُكر عن لداويّ أن التحق بسلكِ شُرطة بريطانيا أو جيشها في فلسطين.7صقر، عبد الحميد، مقابلة شفوية - اللد، ضمن تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، موقع فلسطين في الذاكرة، ج2 ، تاريخ 15/5/2005.

لم يقف الرفض اللداويّ عند هذا الحدّ. وُصِلَت كلُّ مُدن فلسطين قبل النكبة بشبكة "شركة كهرباء فلسطين" المعروفة بمشروع "روتنبرغ" إلا اللد، التي رفضت ذلك الوصل والوِصال معاً. فالمجلس البلديّ للمدينة ومعه أهلها، رفضوا المشروعَ رفضاً قطعيّاً، لِمَعرفتهم بأنَّ شركة الكهرباء تعود ملكيتُها لرأسِ مالٍ يهوديّ - صهيونيّ، لا بل رفض اللدادوة حتى مرور خطوط الشبكة من أراضيهم، ولم يفوتوا فرصةً لتعطيلها كلما لاح لهم ذلك.8 منيّر، إسبير، المرجع السابق، ص 20.

ظلّ اللدادوة بلا كهرباءٍ حتى النكبة، دون أن ينطفئ نورُ مدينتِهم ليلةً واحدة، إذ ظلّت لياليها مُشعةً بقناديلِها المُدلّاة من تحت "أسبطة" 9 كما وردت في الرواية الشفوية، والمقصود بها سقوف الشوارع المسقوفةأزقتها المسقوفة، ومنوّرةً بفوانيسها التي بقيت منصوبةً على جوانب شوارعها من عند جامع دهمش مروراً بمقام شيخ الجسر حتى خان الحلو، وصولاً إلى كنيسة الخضر والجامع العمريّ الكبير. طبعاً، وكما هي عادتهم، لم يَنس اللدادوة في حينه أن يزايدوا على الرمالاوة قبولَهم أنوارَ شركة روتنبرغ.

ثورة مُدهوري القطارات

كان معظمُ أهالي اللد من المجلسيّين10نسبةً للمجلس الأعلى الإسلاميّ بقيادة الحاج أمين الحسيني. حين أُعلِنَ الإضرابُ العام سنة 1936. لم يلتزم اللدادوة بالإضراب فقط، بل لاحقوا كلَّ من لم يلتزم به من أبناء المدينة وريفها، إلى حدٍّ جرّسوا فيه كلَّ من حاول فتح دكانه وخرق قرار الإضراب، بوضعِهِ على ظهر الحمار مكتوفاً، وحذاؤه في رقبته، بينما يهتف أطفالُ المدينة خلفه: "فلان خاين ملحو وزيتو، إدعولوا يخرب بيتو".11 نابلسية محمد، المقابلة السابقة، ج2.

ولما عمَّمَت قيادةُ الثورة على أبناء مدن فلسطين قرارَ خلع الطربوش واستبدلوا به الحطة والعقال العربيّين، لم يترك اللدادوة طربوشاً على رأس أحدهم إلا وأطاحوا به عنوةً، فغنّوا وقتها رَدَتهم المشهورة: "عقال وحطة بست قروش **  وعرص الي بيلبس طربوش"12عاشور، محمود، المقابلة السابقة، ج2.، وذلك  في غمزٍ تقصّدوا به بعضَ بكوات وأفندية المدن المحيطة باللد. 

كانت محطةُ قطار اللد الواقعة غربَ المدينة ما بينها وبين قريتي السافرية وصرفند العمار، تُعتبر المركزيّةَ في فلسطين، فهي مُلتقى جميع خطوط سكك القطار في البلاد. ولأنّ اللد بمثابة قلب فلسطين، كانت تتفرّع خطوطُ السِكة منها مثل شرايين على كامل جسد التراب الفلسطينيّ. إلى الشمال كان خطُّ السِكة يمرُّ بيافا وحتى حيفا، ثم ينعطف شرقاً إلى بيسان وجسر المجامع، ثم شمالاً حتى سمخ - طبريا، وصولاً إلى درعا والشام. بينما يتفرع خطُّ السِكة من اللد شرقاً باتجاه القدس. وللجنوب كانت سِكة القطار تتجه من اللد باتجاه المجدل ثمّ خان يونس وغزّة وحتى رفح، لتمتدَ في الديار المصريّة مروراً بالعريش وحتى القنطرة، وصولاً إلى محطة باب الحديد على أبواب القاهرة. ولم تكن محطةُ سِكة اللد مجرد مجمعٍ لركوب ونزول الركّاب المسافرين، بل أُقيم فيها أكبر حيٍّ للإنجليز -من غير العساكر- في البلاد، عُرِف بـ"حيّ السِكة"، كما أنه حوى على مساكن لموظفي وعُمّال محطة القطار الأجانب والعرب.13 الفار، مصطفى، مقابلة شفوية - اللد، ضمن تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، موقع فلسطين في الذاكرة، ج1، تاريخ 19/4/2005.

كانت أولُ عملية نسفٍ لسكة القطار ودهورة قاطراته أثناء الثورة تاريخ 4/7/1936  بقيادة قائد فصيل ثوار اللد حافظ صقر. قام صقر ورفاقه بنزع بعض قضبان خطِّ سكة حديد اللد-حيفا قرب جسر جنداس (الملك الظاهر)، وكَمِن الثوارُ قرب الجسر، ولمّا وصل القطارُ مُحمَّلاً بالجنود والعتاد الحربيّ، ومرَّ على القضبان المُفكَّكة، انفجرت الألغام وانقلب إلى قاع الوادي، ثمّ فتح الثوارُ من كمينهم النّارَ على جنود الإنجليز وأوقعوا بهم خسائر كانت كبيرة.14منيّر، إسبير، المرجع السابق، ص 26.

قطار قلبه الثوار خلال سنوات الثورة بين 1936 - 1939، بينما يتفقده الجنود البريطانيون. تصوير: هاينريش هوفمان.

نَسَف ثوارُ اللد سكة القطار أكثر من 12 مرةً خلال سنوات الثورة، وعلى إثرها نسف الإنجليز كلَّ بيوت اللدادوة المحاذية لسكة القطار من جهة الغرب، وكانت أولى بيوت فلسطين التي نسفها الإنجليز ردّاً على الثوار والثورة15المرجع السابق، ص 33.. كما لاحقوا حافظ صقر وقبضوا عليه بعد إصابته في إحدى المعارك، ويروى أنه استشهد تحت التعذيب بعد أن رفض الاعتراف والإدلاء بأسماء مدهوري عربات القطار.16تجمع جميع الروايات على قيام الإنجليز بالقبض على حافظ صقر جريحاً بعد أحد كمائن دهورة القطار خلال الثورة وقتله.

اتبّع الإنجليز لمواجهة دهورة القطارات في اللد فكرةَ "عَربة الدروع البشريّة"، والتي سمّاها اللدادوة "تروليه الأربعَات". كانت هذه العربة تُوضعُ على السِّكة وتسير أمام القطار، وفي داخلها أربعةُ أشخاص من أبناء اللد، في محاولةٍ أراد من خلالها الإنجليزُ ردعَ مُدَهوري القطارات اللدادوة. كان الإنجليزُ يختارون الأشخاصَ الأربعة، ثم يجري إعلامهم بذلك، ثمّ تُعمَّم أسماؤهم على جميع أهل المدينة، فإذا كان من بين الأربعة وجيهٌ أو كبيرٌ في السن، تطوّع الشبابُ لتبديله.17الحلتة، عودة، المقابلة السابقة، ج2. وأحياناً كان الإنجليز يأتون بمعتقلين وأسرى من العرب المعتقلين في معتقل صرفند ويضعونهم في العَربة.18  المقابلة السابقة، ج2. ومع ذلك، ظلّ ثوارُ اللد يتحايلون على تقنية عَربة الدروع البشريّة، بقطعهم الطريق بين التروليه والقطار ومهاجمة الأخير، بطريقة حيّرت وأربكت جنودَ الإنجليز. 

من الثورة إلى الدولة الثامنة 

انتهت الثورة، بينما ظلّت اللد مشدودةً بها ولها، فأغاني دهورة القطارات الثوريّة، صارت أناشيد يتغنّى بها صبيانُ مدارس البلدية، منها مفردات أسقطها الزمنُ من ذاكرة الحاج عبد الرحمن الشاقلدي، ومنها ظلّت عالقةً تقول:
نابلس طولكرم وجنين
فيها رجال مدرّبين
والله مع شباب اللد
القطارات مدهورين..19  الشاقلدي، عبد الرحمن، مقابلة شفوية - اللد، ضمن تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطبنية، موقع فلسطين في الذاكرة، ج1، تاريخ 26/11/2004.

اقرؤوا المزيد: "النكبة بنفخة اليرغول".

بينما بقيت الجَناكي20 يُسمي أهلُ المدن في منطقة السهل الساحلي الأوسط الفرقة الموسيقية التي تُحيي الأفراحَ الجناكي، ويسمون الراقصة بالـ"جنكية". في أفراح المدينة تُذَكّرها بأحزانها، في تواشيحٍ كانت تشحذ ذاكرة الدمِّ والدمع فيهم، وتُذكّرهم بـأمين شحادة حسونة الذي ودّعته اللدُ وشيّعته بأكبر زفةِ شهيد، بالرصاص والرز والزغاريد. وعن عبد الرزاق أبو كويك أول زارع لغمٍ على خطّ سِكة حديد اللد-يافا، خانه اللغمُ أثناءَ زرعِهِ فَشَظّاه، فصار زرعُ الألغام عُرفاً يؤدَى وفاءً لذكراه21 الفار، مصطفى، المقابلة السابقة، ج2. وللمنفيين والمطاردين، ولأعواد حبال الشنق والمشنوقين، غنوا وعنّوا، ولحجار البيوت التي قاتلت مع أهلها، قبل نسفها وبعد جرفها.

وخلال حرب نكبة سنة 1948، كان حسن سلامة قائد المنطقة الوسطى- يافا، اللد، الرملة - منذ أيام الثورة، وحمزة صُبح قائد حامية الدفاع عن مدينة اللد ونجدة القرى المجاورة، اسمان لمعا في فضاء قضاء اللد. كانت حامية مدينة اللد مكونةً من 400 متطوع، يقودهم حمزة صُبح بإمرة سلامة قائد المنطقة،  والذي اتخذ من مبنى الرجاء ثكنةً عسكريّةً بعد أن كان ملجأً للأيتام من غربيّ المدينة ما بين الرملة وصرفند.22 منيّر، إسبير، المرجع السابق، ص56... والفار، مصطفى، المقابلة السابقة، ج2.

حسن سلامة (في المنتصف) يفحص الخريطة مع اثنين من مساعديه خلال حرب النكبة في أبريل/نيسان 1948. تصوير: رولز برس.

انحازت بلديةُ اللد برئيسها وكامل أعضاء مجلسها للمقاومة وحاميتها بلا أيّ قيدٍ أو شرط، بل تكلّفت البلديةُ بتجنيد المتطوعين وشراء السِّلاح ومدّهم فيه، إذ كانت بلديةُ اللد ميسورةَ الحال تفيض موازنتُها، لاستفادتها من وجود المحطة المركزيّة للقطار، والمطار من حولها. هذا فضلاً عن عائدات رسوم ضرائب سوق البرين للمواشي والأنعام في اللد، الذي كان يُقام أسبوعيّاً كلّ يوم اثنين.23عن سوق البرّين، راجع : حبيب الله، علي، سوق البرّين-يوم من أيام اللد، على موقع باب الواد، تاريخ 4/6/2021. ويقال إنَّ بلديات مدن كلّ من يافا والرملة والقدس كانت كلها مَدينةً لبلدية مدينة اللد بالمال حين نُكبت البلاد.24صقر، عبد الحميد، المقابلة السابقة، ج2. ومع ذلك، لم يمنع يُسر حالِ البلدية نساءَ اللدادوة من بيع حُليّهنّ ومصاغهنّ لدعم حامية المدينة.

اقرؤوا المزيد: "يافا تصنع مدفعين".

دخلت اللدُ حربَ النكبة وهي تملك ست قاذفات ومدفعيْن، وسبعَ مصفَّحات، وفي روايةٍ أُخرى اثنتي عشر مصفحةً،25نابلسية، محمد، المقابلة السابقة، ج2. منيّر، إسبير، المرجع السابق، ص62. في ترسانة ظلَّت حديث لاجئي قضائي الرملة واللد لعقود من الزمن. لم يشترِ اللدادوة المدافعَ وقذائفها، بل غنموها من الإنجليز في واحدةٍ من أشهر عمليات دهورة القطار، بينما يقول آخرون إنَّ ثوار المدينة بالتعاون مع سائقٍ لداويّ للقطار يُدعى عبد السلام النابلسية قد جاء بالقاطرة إلى جسر جنداس، وهناك بالاتفاق مع الثوار سلّمهم القاطرة مشبوكةً بالعربة التي كانت تنقل المدفعين، وسلّم نفسه للثوار بالاتفاق معهم بأن يأخذوه كرهينةٍ أمام الإنجليز.26نابلسية، محمد، المقابلة السابقة، ج2.

أمّا المُصفَّحات التي امتلكتها المقاومة في اللد فكانت في أصلها شاحناتُ نقل يعتاش منها بعضُ أبناء عائلات المدينة قبل النكبة، فحوّلتها البلدية بعد أن صفّحَتها في محادد ومخارط المدينة. ويُقال إنّ تصفيحها تمَّ في محددة الحاج حسن حمّاد27 الحلتة، عودة، المقابلة السابقة، ج2. فيما الأشهر منها كانت مَخرطة "ديدح" التي تحوّلت من محددةٍ إلى ورشةٍ لصنع القنابل، وإعادة تدوير قاذفات المِدفعين بعد استخدامها أوّل مرة، إذ كان اللدادوة يُعيدون تدوير قشرة القذيفة وسكبها في مخرطة ديدح لثلاث وأربع مرات إلى أن تهترئ القشرة. هذا في الوقت الذي لم تكن فيه بعض الدول العربيّة تعرف قاذفات المدفعية بعد، يقول الحاج عبد الحميد صقر.28 صقر، عبد الحميد، المقابلة السابقة،ج 2.

على إثر هذا التسلح الذاتيّ الذي ندر أن تعرفه أيُّ مدينة أخرى في فلسطين، أعلنت اللد عن نفسها دولةً، وتحديداً في مرحلةِ الهدنة خلال حرب النكبة ما بين 10 حزيران حتى 9 تموز 1948. وسُميت بـ"الدولة الثامنة" لأنه حين أقيمت جامعة الدول العربيّة عام 1948، لم يكن فيها غير سبع دول، واللد هي الدولة الثامنة29 منيّر، إسبير، المرجع السابق، ص 78. كما وأجمعت كل الروايات الشفوية السابقة على قيام اللد بالإعلان عن نفسها الدولة الثامنة.. ولِمَ لا؟ يقول أهلها، لطالما فيها المطار وعندها أكبر محطة لسكة القطار، وأهلها زرّاع وتجار، فضلاً عن ورش السكب والنار فيها.

وربما صار إعلانُ اللدادوة عن مدينتهم دولةً في حينه مبعثاً للتباهي والتندر، إلا أنّ البلدية تصرّفَت على أنها حكومةٌ فعلاً في حينه، إذ فرضت الضرائب على الداخلين والخارجين منها طوال شهر حزيران سنة  194830 صقر، عبد الحميد، المقابلة السابقة، ج2.، كما نظرت لحدِّ بياراتها والوديان المحيطة بالمدينة على أنّها حدود طبيعيّة لدولة اللد، التي لم تعد مدينة، بدون أي مبالغة.

بعيون أيوب

بدأ اللدادوة ملحمةَ اشتباكهم مع الصهاينة، منذ أوائل عام النكبة، وهبّت حاميةُ المدينة مع حاميات القضاء بقيادة حسن سلامة، في فزعاتٍ كان لها صيّحات ظلّت مدويةً في فضاء القضاء، من معركة اللطرون في منتصف أيار إلى وقعة رأس العين في آخره، والتي جُرح فيها القائد حسن سلامة بعد أن استولى عليها الصهاينة، ثم استُشهد على إثرها موصياً قبل استشهاده المناضلَ حمزة صُبح ألا تغيب رأسُ العين من رأسه وعن عينه حتى يستردها، وقد استردها صُبح فعلاً في معركةٍ حامية خاضتها حاميتُه، ووصل خبرُها لسلامة قبل أن يلفظ أنفاسَه الأخيرة بلحظات.31 منيّر، إسبير، المرجع السابق، 67.

 تدفّق نازحو قضاء اللد من القرى المحيطة فيها شمالاً وغرباً على المدينة، حتى صار تعدادها  أكثر من 27 ألف نفر، فيما سكان اللد لم يكن يتعدّى تعدادهم قبل ذلك العشرين ألف. وفي شهر الهدنة الممتدة ما بين العاشر من حزيران - والعاشر من تموز حفر أهالي اللد أكبرَ خندقٍ عرفته حربُ النكبة، امتدَّ الخندقُ على طول الناحية الغربيّة غربي وادي "الخيار"، في اتساع مكّن من إخفاء مصفحات المدينة فيه.

اعتقد اللدادوة أنّ الصهاينة سيهاجمون المدينةَ من الغرب، فكثّفوا من استحكاماتِهم على تلك الجهة، خصوصاً بعد أن احتلّ الصهاينة قرى النواحي الغربّية، فضلاً عن ركون اللدادوة لوجود الجيش العربيّ الأردنيّ شرقي مدينتهم، فركّزوا استعداداتهم في الجهة الغربيّة. غير أنَّ الصهاينة وفي العاشر من تموز، مع انتهاء الهدنة باغتوا اللد من شرقها على غير ما توقع أهلها، لتبدأ معركةُ المدينة الأخير وتمتدّ لثلاثة أيام بلياليها.

تذكُر بعض الروايات أنَّ العصابات الصهيونيّة دخلت المدينة بلباسٍ عسكريٍّ عربيّ، "فاتوا علينا بزيّ الحُفّى"32الشاقلدي، عبد الرحمن، المقابلة السابقة، ج2.، في إشارةٍ للجيش العربيّ الأردنيّ الذي كان يسيرُ بعضُ عناصرهِ حُفاةً بلا أحذية. دارت معارك دامية على أبواب المدينة من شَرقها، دافع فيها أبناء اللد عن مدينتهم واستشهد منهم العشرات قبل أن يحتلها الصهاينة، وبعد احتلالهم لها، بدأوا بتفريغ البيوتِ من أهلها، وتجميع الناس في الجامعين: دهمش والعمري الكبير، وفي كنيسة الخضر كذلك. 

جندي من إحدى العصابات الصهيونية أمام جامع دهمش، الذي ارتكبت فيه العصابات مذبحة بحق أهالي اللد. (المصدر: شبكات التواصل الاجتماعي).

ورغم قسوة مشهد أن يمرّ أهل المدينة خارجين من بيوتهم عن جثث المئات من أبنائهم مذبوحين ومطروحين في شوارع المدينة أثناء تجميعهم، غير أن مذبحة جامع دهمش الوحشية ظلَّت محفورةً في وجدان وذاكرة لاجئي اللد وقراها إلى يومنا. اختلفت الروايات في عدد ضحايا مجزرة الجامع، إلا أن شهداء المذبحة كانوا بالمئات، أُغلق الجامع على رائحة الدمّ، وظلَّ حتى أواخر التسعينيات مغلقاً ملطخةً جدرانُه بدم أبنائِه حتى ذلك الوقت. 

اقرؤوا المزيد: "النواة التوراتية تعسكر في قلب اللد".

لم تسقط اللد، رغم دخول اليهود لها في اليوم الثاني على القتال. وقد ظلّت كتيبةٌ من مقاتلي حامية اللد متحصنةً في مبنى شرطة المدينة، ورفضت الاستسلام، ولمّا حاول الصهاينةُ الاستعانةَ بوفد وساطةٍ مكوّنٍ من بعض وجهاء المدينة لإقناع المقاتلين بالاستسلام، لم تُقدّر لهم العودة من مهمتهم سالمين، إذ فُتحت عليهم النارُ، وقُتل بعضُهم وجُرح بعضهم الآخر، واختُلِف إلى يومنا حول ما إذا كانت الكتيبة المتحصنة هي من أطلقت عليهم النار رفضاً للاستسلام، أو أنّ الصهاينة من فعلوا ذلك لتوريط المقاتلين مع أهل المدينة.33منيّر، إسبير، المرجع السابقة، ص 99.

كان ذلك في اليوم الأخير من معركة احتلال المدينة وسقوطها في الثالث عشر من تموز عام النكبة. خرج اللدادوة من مدينتهم على شكل نهرٍ، يهدرُ نهيدُهم مثل هدير الماء في الأودية، بينما يصيح بهم ضباطُ الهاغاناه بعربيةٍ واضحةٍ: "يلا على عبدالله"، أي إلى الضفة الشرقيّة عند ملك الأردن، فيما صوتُ أنين الأطفال مسموعٌ من بين صبّار قرية جمزو مع الراحلين شرقاً، وجُثَث تعفّنت خلفهم في أزقة المدينة حتى تفسخت، وأخرى في البيوت لم يُنتبه إليها رغم رائحتها لولا طيور غربان السهل الساحليّ التي نبّهت إليها بحومانها حول نوافذها.

لم يُعرف ما الذي حلّ بكتيبة مقاتلي المعقل الأخير في مبنى شرطة اللد.34يذكر إسبير منيّر في شهادته على أحداث اللد التي أوردها في كتابه، أن كتيبة مقاتلي مبنى شرطة البلدية قد أخلت المبنى واختفت قبل اقتحام الصهاينة للمبنى بساعات. راجع، اللد في عهدي الانتداب والاحتلال، ص 98.ومن كل أهل المدينة لم يُبقي الصهاينة إلا على خمسمئة نفرٍ منها، ظلوا شهوداً على ملحمة شهدائها، ينظرون إليها بعيون أيوب، كما لو أنهم شواهد بلا قبور، تُعرف بحكاية مدينة قاتلت للتاريخ بشرف، بكامل لِديتها ونِديتها معاً.