22 يونيو 2020

كورونا وجورج فلويد.. ما الذي يُثير غضبنا؟

كورونا وجورج فلويد.. ما الذي يُثير غضبنا؟

في الحادي عشر من مارس/ آذار 2020، أصدر البيت الأبيض قراراً بحظر السفر من وإلى دول الاتحاد الأوروبي باستثناء المملكة المتحدة وإيرلندا. جاء القرار، الذي اتضح لاحقاً أنّه جاء متأخراً جداً، نتيجة ضغوط على إدارة ترمب لاتخاذ إجراءات ضرورية للحدّ من انتشار "كورونا" في الولايات المتحدة. كانت أوروبا حينها مركز تفشي الوباء، وبالأخصّ في إيطاليا التي شهدت معدلات وفيات قياسية. لكن الاستثناء "الأنجلوسكسوني" من قيود السفر لم يكن مفهوماً إلا بدوافع إيدلوجيّة وسياسيّة.

بدت العلاقات التاريخيّة الخاصّة بين لندن وواشنطن (والتي أعاد ترسيخها تحالف بوش-بلير بعد "11 سبتمبر")، كما الثقافة المشتركة بين الدول الثلاث الناطقة بالإنكليزية، عاملاً رئيسياً أيضاً. كانت "الثقافة" كلمة مفتاحيّة في تغطية انتشار الوباء في وسائل الإعلام والسجالات السياسيّة، سواء العادات الغذائية "الإيكزوتيكيّة" الصينية التي نُظر لها كسبب رئيسي لانتشار الفيروس، أو الثقافة المتوسطية الحميمة التي ساهمت في تفشيه في دول كإيطاليا وإسبانيا. لكن الاستثناء، الذي تراجع عنه البيت الأبيض سريعاً، ربما يعود إلى أكثر من هذا. فنظرية "مناعة القطيع" وتغليب الاقتصاد على الإجراءات الصحيّة، كان ما يجمع وقتها بين الحكومتين الأميركية والبريطانية. 

كارثة استثنائيّة

لكن الاستثناء الأنجلوسكسوني سرعان ما انقلب إلى مفارقة ذات طابع تراجيدي. سلسلة من الإجراءات المتخبطة على جانبي المحيط قادت إلى ارتفاع معدلات الوفاة بين سكّان بريطانيا إلى مستوى يكاد يكون الأعلى عالمياً. وإلى صعود الولايات المتحدة إلى قمة جدول الوفيات على مستوى العالم، بعدد ضحايا يفوق الخسائر الأميركية في الأرواح على مدى الحرب العالميّة الأولى، وتكاد أن تصل إلى ضعف عدد الضحايا في حرب فيتنام.

إلا أنّ وقع الأرقام يزداد فداحةً حين تقارن بالدول الأخرى في العالم الصناعيّ: الولايات المتحدة (362 وفاة لكل مليون نسمة) في بريطانيا (620 وفاة لكل مليون نسمة)، مقارنةً باليابان (7 وفيات لكل مليون نسمة) وكوريا الجنوبية (5 وفيات لكل مليون نسمة) وبولندا (35 وفاة لكل مليون نسمة) والتشيك (31 وفاة لكل مليون نسمة) واليونان (18 وفاة لكل مليون نسمة) وبلغاريا (26 وفاة لكل مليون نسمة) وألمانيا (107 وفاة لكل مليون نسمة).

اقرأ/ي أيضاً: "لئلا تختفي السياسة من مكافحة العنصرية".

تمتازُ دولة مثل اليابان بجاهزيّتها واستعداد مؤسساتها الصحيَّة والتنفيذيَّة لفيروس "كورونا"، كونها جابهت في عاميْ 2002 و2003 وباء "سارس"، لكنّ تلك الجاهزيَّة ليست كافية لتفسير الفارق الهائل في معدلات الوفيات؛ أكثر من 100 ضعف في بريطانيا مقارنة بكوريا الجنوبية أو اليابان، وحوالي 60 ضعفاً في الولايات المتحدة مقارنةً بكلا البلدين الآسيويين. كما تظل المعدلات البريطانيّة والأميركيّة صادمة حين تقارن بدول أوروبا الشرقيّة، وحتى بدول أخرى في وسط وغرب أوروبا ذات معدلات عالية.

ويتضاعف وقع تلك الفوارق التي يمكن وصفها بالكارثية دون أدنى مبالغة، إن أخذنا بعين الاعتبار الإمكانيات التقنية والمالية الهائلة في كلا البلدين. فتحظى الأولى بأكبر مركزٍ بحثيّ أكاديميّ على مستوى العالم، إضافة إلى مواردها الرأسمالية الأعلى في التاريخ الحديث. أمّا بريطانيا، التي تراجعت مكانتها السياسية في النصف الأخير من القرن الثاني، فما زالت تحتل المركز الثاني على مستويات البحث العلمي والتكنولوجيا، وتتمتع بواحد من أفضل الأنظمة الجامعيَّة المرتبطة بالصناعات الدوائيّة والطبية.

يمكن النظر لتلك الإمكانيات الهائلة كسبب من أسباب الفشل الفادح لحكومتي البلدين في التصدي للجائحة. الثقة الزائدة ببنية الخدمات العامة والمؤسسات العلميّة والموارد المالية أدّت لردود أفعال بطيئة وغير حاسمة من قبل حكومتي البلدين (وربما مواطنيهم أيضاً). في المقابل، وعلى سبيل المثال، اندفعت حكومات دول شرق أوروبا، تلك التي خشيت من انهيار مؤسساتها الخدماتيّة الأكثر هشاشةً، أو نضوب مواردها المحدودة نسبياً، إلى اتخاذ إجراءات مبكّرة جداً وحاسمة (ومبالغة أحياناً) لمواجهة تفشّي الوباء. يظل من المبكر جداً تحديد الأسباب التي تقف وراء تلك الحقائق الصادمة للأرقام في كلا البلدين، لكن يمكن الجزم بقليل من التردّد بأن عشرات الألوف من الضحايا كان يمكن إنقاذهم، وأن تراخي السياسيات الحكومية وتخبطها الجليّ، مدفوعةً بحسابات الاقتصاد أولاً، ساهمت بدور رئيسي في الخسائر الثقيلة بالأرواح، والتي كان يُمكن تفاديها.

"حياة السود مهمّة"... أمام الوباء أيضاً

في الخامس والعشرين من مايو/أيار، وفيما كانت معدّلات الوفيّات تهبط ببطء من قمة المنحنى، فجَّر مقتل جورج فلويد سلسلة من الاحتجاجات هي الأكبر منذ السبعينيّات. اشترك فيها عشرات وربما مئات الألوف من المتظاهرين، وتعدّى نطاقها الولايات المتّحدة، لتتحول إلى حراكٍ عابر للقارات. وشهدت المدن البريطانية الاحتجاجات الأكبر خارج الولايات المتحدة، مقترنةً بحملة غير مسبوقة في اتساعها لتخريب تماثيل شخصيات مرتبطة بتاريخ العبودية والعنصرية.

سيكون من الصعب افتراض علاقة مباشرة بين "كورونا" واحتجاجات "Black Lives Matter"، وإن كان لا يمكن نفيها تماماً. إلا أن ما يلفت الانتباه هو المقارنة بين السياقين وردود الأفعال. فكيف لمقتل فلويد أن يثير كل هذا الغضب، فيما أن سياسات مؤسسيّة، أفضت لخسارة عشرات الألوف من الأرواح تمرّ دون ردود أفعال تتناسب مع حجم الكارثة والرعونة الحكومية شبه المنهجيّ.

تبدو المقارنة مُقحَمة للوهلة الأولى. لكن إحصائيات "كورونا" تثبت بشكل جليّ علاقةً بين اللون ومعدّلات الإصابة والوفاة في كلا البلدين. فيظهر في بريطانيا، التي تتمتع قواعد بياناتها الخدمية بميزة التوصيف الإثني الدقيق وشبه الشامل، أن نسب الوفيّات بين الأقليّات تتراوح من ضعفين لثلاثة أضعاف البيض، وتزيد النسبة بين السود أكثر من غيرهم من الأقليات. كما تؤكد نسب الوفيات بين العاملين في القطاع الصحي النتيجة ذاتها. وطبقا لإحصائيات جزئية على مستوى الولايات الأميركية وبعض مدنها الأكثر تضرراً، فإن نسب الضحايا من السود مقارنة بالبيض تتراوح بين مرة ونصف وثلاثة أضعاف.

ومع أنّ تلك الفوارق غير العرضية لا زالت قيد الفحص، حيث شرعت الحكومة البريطانية وهيئة الصحة الوطنية هناك في تشكيل لجان للتحقيق، فإن دراسات أوّليّة أرجعت الأسباب إلى التمييز الهيكلي. فنسبة عالية من الأقليات وبالأخص السود تعمل في الوظائف متدنية الدخول أو "الأساسية"، ومن بينها الخدمات الصحية، ولذا كانوا أكثر عرضة للإصابة. وهكذا فإن الأحياء الأفقر التي يقطنونها تعاني من نقصٍ في ظروف السّكن الصحّي والخدمات العامّة والمرافق والموارد الماليّة للسلطات المحليّة. وبالإضافة إلى ذلك فإن دراسات أوليّة تثبت أيضاً أنّ الأقليّات هي الفئات الأكثر معاناة من التبعات الاقتصاديّة والاجتماعيّة للوباء والإغلاق العام. يبدو السؤال الآن أكثر منطقية: كيف لمقتل فلويد أن يثير هذا الغضب العالمي (المستحق بالطبع) فيما لا تثير العنصرية المؤسسية التي طالت الألوف من ضحايا "كورونا" بردود فعل تذكر؟

حتّى متى سيبقى التمييز المؤسساتيّ مستتراً؟

يمكن لنا بالطبع افتراض علاقة بين الاثنين: أن الغضب المتراكم تحت ضغوط الوباء وانعدام العدالة في وقوع خسائره وجد فرصته للانفجار مع مقتل فلويد. لكنّنا نستطيع أيضاً أن نستشف ما هو أبعد من هذا، وأبعد من العنصريّة أيضاً، وما يمكن تعميمه على آليات عمل الدولة الحديثة ونقائصها الأساسية. فالجرائم المؤسسيّة ذات التأثير الواسع والطويل، على العكس من الجرائم التي تبدو فردية، تثير بالضرورة قدراً أقل من الغضب.

في مقتل فلويد، مثلاً، تبدو شخصنة الضحيّة والجناة دافع أكبر للتعاطف. فالحادثة مصوّرة، يمكن مشاهدتها مرةً بعد مرة، وللضحيّة اسمٌ ووجهٌ يمكن تأمّله وتخليده، وصوتٌ يقول "لا أستطيع التنفس". وكذا الجناة لهم أسماء أيضاً، ووجوه يبدو عليها قسوة لا مبالية. فيما يظلّ ضحايا "كورونا" مجرد أرقام، في جداول تتغيّر يوميّاً بسرعة لا يمكن ملاحقتها، نقطة ما على منحنى بيانيّ ونماذج إحصائية، بلا أسماء في أغلب الأوقات، وبلا توثيق لحظيّ لمعاناتهم، بلا صوت ولا وجوه.

ضحايا العنف والتمييز الهيكلي مستترون ومجهولون، وكذا فإنّ الظلم الواقع عليهم يبدو دائماً كعرضٍ جانبيٍّ بلا جانٍ تُمكن تسميته، ضحية غير متعمّدة لقصورٍ بيروقراطيّ، أو نتيجة خطأ إداريٍّ غير مقصود، أو سوء تقدير حكوميّ حسن النية، أو اختلال بنيويّ في توزيع ديمغرافي أو نتاج هرميّة طبيعية أو هرميّة ذات أصول تاريخية تحتاج وقتاً طويلاً لإصلاحها.

لا يعني كل هذا أن غضب "Black Lives Matter" ينصب على الهدف الخطأ، ولا أنّه يحجب العنف الأوسع أو الأكثر تجذراً ورسوخاً بشكل غير مباشر. لكن من شأن هذا الغضب أيضاً أن يعيد طرح الأسئلة عن كيفية بقاء الجرم المؤسسي مستتراً، وكيفيّة استمرار ظهوره وكأنه غير مباشر وغير متعمد وغير شخصيّ، وفي معظم الأوقات بلا حساب.