كيف تدخل الأموال إلى قطاع غزّة؟ وكيف يتدبّر الناس، الذين فقدوا أعمالهم وممتلكاتهم، أمورَهم دون بنوك تعمل أو شركات صرافة؟ يسعى هذا التقرير إلى إلقاء الضوء على المشهد الماليّ في قطاع غزّة بعد عشرة شهور على حرب الإبادة المتواصلة، ورسم مسار الأموال من وإلى القطاع، وذلك بالاعتماد على مقابلات صحفيّة مع بعض الأهالي والمتابعين، ومن خلال ما يُنشر عبر المصادر المفتوحة ومنصات التواصل.
البنوك في مرمى النار
مع انطلاق معركة "طوفان الأقصى" كان الجهاز المصرفيّ الفلسطينيّ في قطاع غزّة في صلب قائمة الاستهداف الإسرائيليّ، إذ منعت "إسرائيل" دخولَ الأموال النقديّة إلى القطاع، وذلك ضمن سياستها لضرب البنى التحتية التي من شأنها تعزيز صمود الناس، مثل المياه والتيار الكهربائيّ. وبعد القصف الجويّ العنيف تعطّلت المرافق الحكوميّة والخاصّة والمصرفيّة؛ ولم يفتح أي من البنوك العشرة المنتشرة في غزّة فروعها، ولم يخرج الموظفون إلى أعمالهم، وتوقّف تقديمُ الخدمات.
كان تعطّل عمل البنوك وتدمير بُنيتها التحتيّة، المحطةَ الأولى من الأزمة الماليّة التي تفاقمت في قطاع غزّة مع اشتداد الحرب. ثم لاحقاً مع بدء الاجتياح البريّ في السابع والعشرين من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، استهدف جيش الاحتلال مقراتِ البنوك ومحلات الصرافة بشكلٍ مباشر، فدمّرها، وسرقها أيضاً.
على سبيل المثال، سرق جيشُ الاحتلال 200 مليون شيكل (حوالي 54 مليون دولار أميركيّ) من الفرع الرئيس لبنك فلسطين، في حي الرمال، غرب مدينة غزّة. هذا عدا عن سرقة جنود الاحتلال للأموال والمصاغ الذهبيّة من بيوت الغزّيين التي نزحوا منها، قُدّرت قيمتها حتى الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب بحوالي 25 مليون دولار، تشمل أيضاً ما صادره الجيش من النازحين مباشرةً عند تفتيشهم على طريق النزوح من الشمال إلى الجنوب. كما تعرّضت محلات الصرافة، على مدار الحرب، للقصف والتدمير، واغتيل صرّاف واحد، على الأقل، بزعم نقله أموالاً لـ"كتائب القسّام".
بانقضاء الشهر الأول من العدوان، كان قطاع غزّة قد عُزل ماليّاً عن العالم الخارجيّ، أُغلقت البنوك ومكاتب شركات الصرافة والحوالات الماليّة (مثل ويسترن يونيون) في مدينة غزّة وشمالها، فغابت السيولة الماليّة من جيوب الناس، وحتى لو توفّرت السيولة، فإنّ انقطاع الاتصالات والإنترنت، خاصّةً في محافظات الوسطى والجنوب، أدّى إلى تعطيل عمل تلك الشركات، فَلم يتمكن النّاس من استلام الحوالات الماليّة من معارفهم وأقاربهم خارج القطاع.

"تحويشة" لا تسمن ولا تغني..
يُلخّص أحد الشبان، من سكان مدينة غزّة، الإجابة على هذا السؤال بالقول: "من استطاع توفير الأموال نقداً في الأشهر الأولى، تمكّن من تدبير أموره إلى حدٍّ ما، ومن لم يستطع فقد جاع حرفيّاً ولجأ للاستدانة. وبعد شهرين أصبح الكلّ سواسية تحت طاحونة الأزمة والأوضاع".
ومع نهاية عام 2023، انحسرت إمكانية توفير الأموال لأهالي قطاع غزّة في أربعة مصادر.
الأول: المدخرات الشخصيّة، النقديّة أو تلك المحفوظة في الحسابات البنكيّة. وفي ظلّ خروج البنوك عن الخدمة، توجّه أصحاب تلك المدخرات إلى الصرافات الآليّة -على ندرتها- لسحب المال من حساباتهم. صرف الناس تلك المدخرات في الأيام الأولى للحرب، خاصّةً في ظلّ ارتفاع جنونيّ طال كافة البضائع من طعام وشراب ووقود، وصولاً إلى المستلزمات المستجدة للحرب مثل الخيم. في الشهر الأخير على سبيل المثال، وصل سعر كيلو البطاطا في وسط القطاع، الشهر الماضي، 200 شيكل (55 دولار أميركي)، وكيلو البندورة 100 شيكل (22 دولار أميركي)، بينما لا تتوفر تسعيرة واضحة شمال القطاع نظراً لانعدام الخضروات بشكل كامل، فيما تصل قيمة شحن الجوال إلى 20 شيكلاً (6 دولارات)، وبطاقة الإنترنت إلى 10 شواكل (3 دولارات).
وليست كل المدخرات قابلة للاستخدام، وهذا جانب آخر من أزمة النقد في غزّة. أبو حسن، في الخمسينات من عمره، نزح من مخيّم جباليا بعد قصف منزله، وحمل معه 40 ألف شيكل هي "تحويشة" عمره، لكنه لا يستطيع الاستفادة منها، لأنّه أخرجها من بين أنقاض القصف فوجدها "مهترئة"، فيرفض الباعة والصرافون تبديلها ولو بمبلغ أقلّ، رغم عطش السوق للسيولة، وهو وصف أصبح شائعاً في الآونة الأخيرة.
أما المصدر الثاني، فعدا عن المدخرات، اعتمدت بعض الشرائح على رواتِبَها الشهريّة. مع توقف عمل المصالح التجاريّة والقطاع الخاصّ، وتدمير الشركات والمرافق، وانقطاع الآلاف من شباب غزّة العاملين مع جهاتٍ خارجيّة عن أعمالهم (بدأ البعض يعود لذلك)، وصعوبة تحويل الأموال من رواتب وخلافه لهم، أصبحت رواتب السلطة الفلسطينيّة ورواتب المتقاعدين الرواتب الوحيدة - تقريباً - التي تُصرف في غزّة. لكن حتى تلك الرواتب، لم تكن تُصرف بشكلٍ ثابتٍ وكامل، خاصّة في ظلّ ظروف الحرب، والأزمة الماليّة للسلطة. وفي حال صُرِفت، فإنّ معركة أخرى تبدأ هي معركة الحصول عليها، أو سحب جزءٍ منها عبر ما تبقّى من الصرافات الآلية، وهي محصورة اليوم في المحافظات الوسطى والجنوب.
الطريق الطويل إلى الصرّاف
قبل الحديث عن المصادر الأخرى من المال، لا بد من الإشارة إلى المعركة التي يخوضها الناس للوصول إلى الصرّاف. حتى شهر نيسان/ أبريل الماضي، رُصدت في كل القطاع ثلاثة صرافات آليّة من أصل 91 صرّافاً كانت تعمل قبل الحرب، وبحسب المعلومات الموجودة اليوم فعلى الأغلب أنّه لم يتبقَ إلا صرّاف واحد في المنطقة الوسطى.
لكن الوصول إلى نافذة الصرّاف الآلي، هو بحدِّ ذاته معركة أخرى لا تقل شراسةً عن باقي معارك الحياة الكثيرة تحت النار، إذ تمتد طوابير الانتظار لمئات الأمتار، وأحياناً يباتُ الناس أياماً وليالٍ بانتظار وصول دورهم، بل وأحياناً يتناوب أفراد الأسرة الواحدة لساعاتٍ طويلة.
*حتى نيسان 2024.
إذا وصلتَ إلى الصرّاف لا يعني أنّك بالضرورة ستحصل على المال، فأحياناً يتعطل الصرّاف أو يخرج عن الخدمة، وأحياناً تندلع المشاجرات في طابور الانتظار، أو ينفد المال الموجود في الأجهزة. لكن كل ما سبق يهون أمام انتشار عصابات استغلت غياب الضبط الأمنيّ لنهب الغزيين، ففرضت عليهم الأتاوات أو العمولات، مقابل السماح لهم بتحصيل أموالهم. وفي حالات أخرى، تعمل هذه العصابات على تفريغ أجهزة الصراف الآلي من الأموال، وتصرف المبالغ للناس بشكلٍ نقديّ بعد اقتطاع الأتاوات منها.
يقول هشام (30 عاماً)، إنه دفع 300 شيكل كي تسمح له إحدى العصابات المسيطرة على صرّاف آلي في سوق النصيرات، سحب راتب والده التقاعديّ. حصل ذلك بعد أن تناوب مع والده وأشقائه على طابور الانتظار أمام الصرّاف الوحيد الذي يعمل في الوسطى لـ11 يوماً.
وبالعودة إلى أبواب الحصول على المال، فإنّ المصدر الثالث هو تلقي مساعداتٍ ماليّةٍ من المنظّمات الإغاثيّة الدوليّة، مثل "الأونروا" و"اليونسيف" و"الإغاثة الكاثوليكية" وغيرها، التي وفّرت ذلك بشكلٍ متقطّع ضمن الفئات المُحدّدة مسبقاً - قبل الحرب - من محتاجين وأيتام ومن يندرج اسمه ضمن قوائم "الشؤون الاجتماعية". توزّع هذه المساعدات على العائلات في مخيّمات النزوح، وهي مبالغ لا تكاد تسدّ احتياجات مستحقيها لبضعة أيام، خاصّةً في ظلّ ارتفاع الأسعار وندرة البضائع.
يقول أبو العبد (55 عاماً)، وهو نازح من مدينة غزّة إلى مخيّم النصيرات، إنّه تسلّم من إحدى المنظمات الإغاثية مساعدةً نقديّة بقيمة 100 دولار أميركي، لكنها لم تكفِ سوى لشراء كيلو واحد من الأرز، وعلبة صلصة بندورة، وبضع حبات من الخضار، وذلك لأسرته التي تتألف من ستّة أفراد.
المصدر الرابع، وهو تحويل الأموال من الأقارب والأصدقاء في الخارج. وفي ظلّ مشاكل السيولة والصرّافات، ابتكر الناس طريقاً بديلة لإيصال الأموال، كبديلٍ تقنيّ وماديّ عن الشركات العالميّة التي تهاوت خدماتها تباعاً منذ الشهر الأول.
أن ترسل المال إلى أهلك ولو فقدت ربعه أو أكثر في الطريق!
من إحدى هذه الطرق، الاستعانة برصيد الجوال، إذ يحصل أبو سهيل (36 عاماً)، النازح من غزّة إلى الوسطى، على مساعدة ماليّة من أصدقائه خارج فلسطين، يطلب منهم تحويلها عبر مواقع الإنترنت على شكل رصيدٍ إلى رقم الجوّال الخاصّ به. وبما أنّه لا يحتاج كل المبلغ لإجراء المكالمات، وإنّما يحتاج نقداً بين يديه ليشتري احتياجاته، فإنّه يقوم بتحويل جزء من هذا الرصيد إلى أرقام آخرين من النازحين حوله، والذين بدورهم يدفعون له قيمة ذلك الرصيد نقداً.
بينما لجأ معين (30 عاماً) إلى أصحاب آلات الدفع الإلكترونية، أي الدفع بالفيزا. يدفع معين لصاحب الآلة مبلغاً محدداً، ويحصل منه في المقابل على المبلغ نقداً، ولكن، بعد أن يقتطع منه العمولة المتفق عليها. ويشير معين أنها ارتفعت من 5% إلى 30% بعد تفاقم أزمة السيولة النقديّة.
واستفاد آخرون من خدمات الإنترنت التي توفّرها البنوك على تطبيقات الهواتف. إذ يحوّل أحدهم، من خلال الدخول إلى حسابه الشخصيّ في تطبيق البنك، مبلغاً ماليّاً ما إلى من يملك المال نقداً، سواءً من معارف أو تُجّار أو أصحاب محلات صرافة، وبالمقابل يصرف له هؤلاء المبلغّ نقداً، بعد أن تُقتطع منه قيمة العمولة المتفق عليها. للتوضيح: باستخدام التطبيق، يُحوّل فلان مبلغ 100 شيكل مثلاً من حسابه البنكيّ إلى الحساب البنكيّ لشخص آخر، مقابل عمولة بنسبة 5%، فيعطيه الأخير 95 شيكلاً نقداً، بعمولة 5 شيكل. ولو حوّل له ألف شيكل، تصبح العمولة 50 شيكلاً، وهكذا.
أما إحدى الطرق المنتشرة، فتتعلق بكيفية تحويل المال من جنوب القطاع إلى شماله، أو من خارج القطاع إلى إحدى محافظاته. لتوضيح الطريقة: أحمد يُريد تحويل المال من جنوب قطاع غزّة لأقاربه في الشمال، فيتعرّف على سعيد الذي لديه أموال في شمال القطاع ويحتاج للحصول عليها. يُسلّم أحمد المال لسعيد، بينما يتواصل سعيد مع شخص من طرفه في الشمال، يحتفظ بذلك المال، ويُسلّمه لأقارب أحمد. وهكذا يحصل أقارب أحمد على المال، وأيضاً يحصل سعيد على ماله.
وهي تقريباً الطريقة التي تعمل أيضاً من خارج حدود القطاع، وقد أصبح هناك سماسرة ومكاتب صرافة مختصون في هذا العمل، خصوصاً في تركيا. وقد شهد عملهم تصاعداً كبيراً، وقد انتشرت هذه الطريقة في أوساط المغتربين من أبناء غزّة، وعجّت رسائل "الواتساب" بعبارات مثل: "متوفر 200 دولار في جباليا، متاح التسليم في الوسطى والجنوب بعمولات مخفضة"، وغير ذلك.
يشرح سمير (37 عاماً) الذي يعيش في اسطنبول آلية عمل هذه المكاتب، فقد لجأ لإحداها بعد أن قرأ إعلاناً على مجموعة للتغطية الإخباريّة على "واتساب"، وتواصل معها لتسليم مبلغ 300$ لعائلته في خانيونس جنوب قطاع غزّة. اتفق سمير مع المكتب على تسليم المبلغ لعائلته بالشيكل، وبسعر صرف 328 شيكلاً لكل 100 دولار، علماً أن سعر صرف الدولار الرسميّ بلغ حينها 371 شيكلاً، بمعنى أنّ تصريف 1000 دولار مثلاً يتم مقابل 3280 شيكلاً، بدلاً من 3710 شواكل، بهامش خسارة 420 شيكلاً، أي ما يزيد عن 100 دولار.
يُشير سمير إلى انعدام الوسائل البديلة، ويقول إنّ تطورات الأوضاع الميدانية على الأرض كانت تشكل عامل ضغط عليه وعلى الآلاف غيره من المغتربين، للقبول بهذه النسب المجحفة.
من المسؤول؟
مع اقتراب العدوان الإسرائيلي من إتمام عامه الأول، تتشعب آثار ومظاهر الأزمة الماليّة في قطاع غزّة؛ أزمة صنعها وأدارها وسعى إلى تفاقمها الاحتلال. في مقابل ذلك، وفي ظلّ الظروف الأمنيّة الصعبة، حاولت الأجهزة الأمنيّة في غزّة والجهاز الإداريّ لحركة "حماس" الانتشار في الشوارع والأسواق لفرض الأمن، ومحاولة محاربة الفوضى وحماية قوافل المساعدات، لكن كثيرين من رجال الشرطة دفعوا حياتهم ثمناً لذلك، إذ تعرضوا لعمليات اغتيال ممنهجة بشكلٍ متواصل.
كما أنّ دوريّات الشرطة التي حاولت الانتشار في محيط البنوك والصرافات الآلية تعرّضت للقصف الجويّ المباشر، كما حصل في مخيم النصيرات على سبيل المثال. وفي ظل هذه الضربات المتتالية، بات جليّاً أنّ القدرات الأمنيّة في غزّة، انحسرت وتراجعت بشكلٍ كبيرٍ أمام ضراوة العدوان، وهو ما أدّى إلى تفاقم ظاهرة العصابات وحالات النهب، كما ظهر مؤخراً في مقطع فيديو كان يُطلق فيه أفراد عصابة النار على فرع لبنك فلسطين في رفح.
أما البنوك، فقد وقفت وإداراتها عاجزة عن التصرف أمام عمليات المداهمة والتدمير وقرصنة الأموال، أما السلطة الفلسطينية، بما فيها سلطة النقد، فلم تتحرك وظلّت مشلولة أو عاجزة ربما عن إيجاد الحلول، حتى أيار/ مايو الماضي، حين اتخذت أول سلطة النقد خطوة لها في هذا الإطار، إذ أعلنت عن طرح آلية للدفع الإلكترونيّ في غزّة، يمكن استخدامها في ظلّ انقطاع الإنترنت أو عدم توافر أجهزة جوال حديثة.
هكذا أصبح المال "سلعة" عزيزة في غزّة، إذ بات توفيره معركة يومية يُطحن الناس في محاولة الفوز فيها، خاصّة مع استغلال بعض الفئات، من لصوص ومجرمين وشركات ذلك لجني الأرباح بالاعتماد على العمولات المرتفعة، وفي الاستهداف المتكرر للأجهزة الشرطية، فيما يبدو الأمل بسماح الاحتلال بدخول بعض السيولة بعيداً جداً.
*الأسماء الواردة في المقال مستعارة حفاظاً على خصوصية وأمن أصحابها.