6 ديسمبر 2019

"صوت اليهود" يتّهم الصهيونيّة

"صوت اليهود" يتّهم الصهيونيّة

"التضامن هو النسخة السّياسيّة للحبّ"، بهذه الكلمات المقتبسة عن الكاتبة والمناضلة الأميركيّة ميلاني كايي Melanie Kaye، افتتحت منظّمةُ "صوت اليهود من أجل السّلام" بيانها الصّادر مؤخراً، والذي تُعلن فيه مُعارضتها للصهيونيّة بشكلٍ رسميٍّ لا لبس فيه.

"صوت اليهود من أجل السّلام" هي منظمة يساريّة وتقدميّة أميركيّة أسَّسَتها مجموعةٌ من اليهود الأميركيّين عام 1996. خلال العقدين الأخيرين، انتقلت هذه المنظمة من هامش الحياة السّياسيّة داخل المجتمع اليهوديّ في الولايات المتحدة إلى اكتساب حضورٍ وتأثيرٍ في أوساط الأجيال الشّابة من اليهود الأميركيّين.

لم يكن بيانُ المنظمة حول الصّهيونيّة مفاجئاً لحركة الحقوق الفلسطينيّة في الولايات المتحدة، لكن خروجه في اللحظة الراهنة كان ذا أهميّةٍ بالغةٍ. ففي الولايات المتحدة، وإثر انتخاب دونالد ترمب رئيساً، وهو المعروف بدعمه المُطلق لـ"إسرائيل" وعلاقته الوطيدة جداً مع بنيامين نتنياهو، تشهد المجتمعاتُ/الجاليات اليهوديّة المختلفة نقاشاتٍ حادّةً وجادّةً حول علاقتها بـ"إسرائيل"، وتطرح أفكاراً حول ضرورة اتخاذ مواقف حاسمة من الانتهاكات التي ترتكِبُها "إسرائيل" بحقّ الشعب الفلسطينيّ.

لكنَّ هذا النقاش لا ينحصر فقط في مسألة اتخاذ مواقف من الانتهاكات الإسرائيليّة ضدّ الفلسطينيّين، بل يمتدّ إلى أوسع من ذلك ليشملَ مراجعةَ وتقييمَ الرواية الصهيونيّة والتفكير الجديّ بحلولٍ على أسس العدالة والمساواة. في هذا السّياق، جاء بيان "صوت اليهود" ليعبّر عن تبلور موقف غير مسبوق في أوساط الجاليات اليهوديّة الأميركيّة بخصوص الصّهيونيّة كفكرةٍ، وإيديولوجيا، ومشروعٍ قائمٍ على أرض فلسطين.

كما يُعبّر التغيير الأخير عن نقاشٍ داخليٍّ يهوديّ-يهوديّ، يسعى من خلاله جيلٌ جديدٌ من اليهود الأميركيّين إلى مناقشة قضايا تتعلق بهويتهم، وانتمائهم، والحديث عن معنى كون المرء يهوديّاً في زماننا هذا.

تستهل "صوت اليهود" بيانَها بالتشديد على أنّ رؤيتها مستمدة من قيم العدالة، والمساواة، والحريّة للناس كافة. واستناداً على هذه الرؤية، صرّح كاتبو البيان أنّهم يعارضون الصّهيونيّة لأنّها تُنافي هذه المُثل. في ذات السّياق، يعترفُ البيان بأنّ نقاشاتٍ كهذه حول الصّهيونيّة ومعناها وما مَثَّلَته لليهود "قد تكون مؤلمةً في كثير من الأحيان"؛ إذ أنّ تمرداً يهوديّاً من هذا النوع ضدّ الصّهيونيّة وضدّ التزام الجاليات اليهودية الأميركيّة بدعم "إسرائيل"، له تبعات كثيرة على تلك الجاليات، لما يمكن أن يؤدّي إليه من انقسامٍ واستقطابٍ وعداوةٍ فيما بينها. 

الصّهيونية.. تاريخ فشل في حماية اليهود

وضع البيان تعريفاً للصهيونيّة على أنّها "أيديولوجية سياسيّة من القرن التاسع عشر برزت في لحظة تم تعريف اليهود فيها بشكلٍ لا رجعة عنه بأنهم خارج أوروبا المسيحية". بهذا التعريف، أُرجِعَت الصّهيونيّة إلى جذورها الأوروبيّة كردِّ فعلٍ على تفشي العنصريّة والتعصب الأعمى والكراهية في أوروبا في القرن التاسع عشر تجاه عددٍ كبير من الأقليات، من ضمنهم، وعلى رأسهم، اليهود، وما ترتب على ذلك من مآسٍ، بدءاً بمذابح "البوغروم" في روسيا القيصريّة وانتهاءً بالمحرقة النازيّة. 

ولهذا السّبب، يخلص البيان إلى أنّ الصّهيونيّة فشلت في تحقيق تطلعات أسلاف الجيل الحالي من اليهود في تأمين الحماية من التبعات الدمويّة لمعاداة السّامية في أوروبا، بالقول: "الصّهيونيّة التي ترسخت اليوم هي حركة استعمار استيطانيّ، تؤسس لدولة فصلِ عنصريٍّ حيث تتوفر لليهود حقوق أكثر من الآخرين. تاريخنا يعلِّمنا كم هو خطير هذا الواقع".

بِعَكس الرواية الرسميّة الصهيونيّة التي تبنّتها قطاعاتٌ واسعةٌ من المجتمعات اليهوديّة من أقصى اليسار مروراً بالليبراليين وانتهاءً باليمين المتطرف، يرى كاتبو البيان أنّ تشريد الشّعب الفلسطينيّ واحتلال أرضه نتجا عن تصميمٍ وإصرارٍ مُسبقين من الصّهاينة. يقول البيان: "الصهيونية تمثِّل تراوما عميقة لأجيالٍ من الفلسطينيّين الذين أُجلُوا عن بيوتهم وأراضيهم وأهلهم"، مبرزاً التبعات التي تسبّب بها المشروع الصهيونيّ ومؤكداً على أن الوجود الفلسطينيّ بحدِّ ذاته "مقاومة"، لأنّه يتصدى لدولةٍ تأسست على قاعدة "أرض بلا شعب". 

في محتواه، يجعل البيانُ معاناةَ الفلسطينيّين النقطةَ المركزيّة للانطلاق لنقد المشروع الصهيونيّ وما ترتب عليه من كوارث. لكن بالإضافة الى ذلك، يتخطى نقدُ "صوت اليهود" للصهيونيّة جرائمَها بحقِّ الفلسطينيين، ليُشيرَ إلى أنّ الصهيونيّة قد أضرّت باليهود أيضاً: "لقد تعلّمنا من الصّهيونية أن ننظر إلى جيراننا بالشك والريبة، وجعلتنا ننسى الطرق العديدة التي بنينا فيها مجتمعاتنا وحياتنا في أماكن وجودنا المختلفة. لقد عاش الشعب اليهوديّ لفترات تاريخيّةٍ طويلةٍ في العالم العربيّ وشمال أفريقيا، حيث عاشوا وشاركوا المجتمعات، واللغات، والعادات، مع المسلمين والمسيحيين لآلاف السنوات".

حسب "صوت اليهود"، أفسدت الصّهيونيّة هذا التاريخَ الطويل من العيش المشترك عبر خلقها "هرمية عنصرية تضع في رأسها اليهود الأوروبييّن". كانت النتيجة، حسب البيان، محو هذه التجارب التاريخيّة وتدمير تلك المجتمعات والعلاقات الوطيدة مع محيطها. خلقت هذه البنية العنصريّة مساحاتٍ همّشَت اليهودَ غير الأوروبيين، وشكّكت في هوياتهم ولغاتهم وتجاربهم وتقاليدهم الشرقيّة. فالصهيونية، يقول البيان، "تمنعنا من رؤية بعضنا البعض كيهود وكبشر في إنسانيتنا الكاملة."

ثمّ يتعرض البيان إلى تفسيرات الصّهيونيّة للتاريخ وعرضها له، فالصهيونيّة "أخبرتنا أنّنا كيهود لوحدنا، ولكي نتغلب على الأذى الناتج من معاداة السامية، علينا أن نفكر في أنفسنا أننا عرضة للهجوم دائماً وأنه لا يمكننا أن نثق بالآخرين. الصّهيونية تعلّمنا الخوف وأن الردّ الأمثل في مواجهة الخوف هو بندقية أكبر، وجدار أعلى، وحاجز تفتيش أكثر إذلالاً".

تحوّل طال انتظاره

لم تتبلور الخلاصات التي وصلت إليها "صوت اليهود" بين ليلة وضحاها. على مدار سنواتٍ طويلةٍ، دارت نقاشاتٌ حادّة ومضنية داخل الجاليات اليهودية الأميركية بخصوص القضية الفلسطينيّة والمواقف من "إسرائيل". بالتوازي مع ذلك، ناضل الفلسطينيّون في الولايات المتحدة من أجل رفع الوعي وتغيير سياسات الحكومة الأميركيّة تجاه القضية الفلسطينيّة، ومنهم من لعب دوراً محوريّاً في المحافظة على جذوة العمل السياسيّ الفلسطينيّ في الولايات المتّحدة. ومن ضمن ما قاموا به كان إصرارهم على الانخراط في نقاشاتٍ بناءة مع اليهود المناهضين للصهيونية من الأساس أو من أبدوا استعداداً للقيام بذلك. لم تكن مهمة سهلة كما تبدو؛ فقد تعرضوا للقمع والاعتقال والتحقيق والاغتيال، ولم تفلح محاولاتُهم في استمالة قطاعاتٍ كبيرةٍ من اليساريين والليبراليين الأميركيّين، الذين يشكّل يهودُ الولايات المتحدة جزءاً هامّاً منهم، إلا خلال العقود الأخيرة.

مع توقيع اتفاقية أوسلو، تعرّض العمل السياسيّ للجاليات الفلسطينيّة في الشّتات بشكلٍ عامّ، وفي الولايات المتحدة بشكلِ خاصّ، لهزةٍ تمثّلت في تفشي شعورٍ بالإحباط بسبب انتقال مركز ثقل الحركة الوطنيّة من تنظيم الفلسطينيّين في كافة أماكن تواجدهم الى إدارة سلطة فلسطينيّة تحت الاحتلال في الضّفة والقطاع. ومع انطلاق الانتفاضة الثانية، تعافت حركة الحقوق الفلسطينيّة في الولايات المتحدة مؤقتاً، لتعاني بعد ذلك من الأجواء السّلبية لمرحلة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، والتي شهدت تضييقاً كبيراً على العمل السياسيّ العربيّ والفلسطينيّ في الولايات المتحدة.

كما عانى النشطاء الفلسطينيّون في الولايات المتحدة من التجاهل حتى من داخل حركة التضامن مع فلسطين نفسها. إذ لم يكن موقع الفلسطينيّين في مركز تلك الحركة أمراً مفهوماً ضمناً، ومعنى ذلك أنّ بروز تياراتٍ مناهضة لـ"إسرائيل" لم يكن يعني بالضرورة أن تتماهى تلك التيارات مع رؤى النشطاء الفلسطينيّين في أميركا والاستراتيجيات التي رأوا أن من شأنها أن تسهم في الإطار الأوسع لحركة التحرر الفلسطينيّ. على سبيل المثال، عانى الفلسطينيّون في أميركا الكثير في سبيل دفع المجموعات الأميركيّة المتضامنة مع فلسطين للانضواء في حملة المقاطعة BDS، أو لحملها على نبذ الرؤى السّاذجة عن حلّ الدولتين، أو إمكانية إيجاد حلّ "الصراع" عبر الحوار على المستوى الشخصيّ بين فلسطينيّين وإسرائيليّين.

اقرأ/ي المزيد: "معادلة إلهان ورشيدة.. مناهضة ترامب تساوي مناهضة الاحتلال".

الفلسطينيّون يصنعون الفارق

بعد التعافي من انتكاسة 11 سبتمبر/ أيلول والضّرر الهائل الذي أوقعته بالحركة الفلسطينيّة في الولايات المتّحدة، ضخّ النداءُ من أجل المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات - BDS الدماءَ من جديد في شرايين حركة النضال من أجل الحقوق الفلسطينيّة، واستنهض همّماً وطاقاتٍ كثيرة. كما تصاعد الزخمُ بفضل تراكم المجهودات والإسهامات الفكريّة التي مهّدت الطريق لتقديم فهمٍ مختلفٍ ومغايرٍ للسرديّة الصهيونيّة عن التاريخ والأحداث والتي سادت في الولايات المتحدة، وكذلك بفضل النضال داخل حركة الحقوق الفلسطينيّة لجعل أجندتها مستندة على رؤى وآمال الفلسطينيّين أنفسهم.

جعل تضافرُ هذه العوامل ولادةَ مجموعاتٍ يهوديّةٍ أميركيّةٍ معاديةٍ للصهيونيّة أمراً مُمكناً، وجعل من الممكن أكثر أن تتطرق هذه المجموعات إلى قضايا كانت تُعدُّ من المحرّمات في أوساط الجاليات اليهوديّة الأميركيّة. لاحقاً، كان انتخاب دونالد ترمب بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير. بعد أن عيّن في إدارته مسؤولين ذوي ميول نازيّة، ومثّل صعوده انتصاراً لليمين المتطرّف المؤمن بالتفوّق الأبيض، تأجج الشرخ داخل المجتمعات اليهوديّة الأمريكيّة وظهر إلى العلن، ولم يعد الفصل ممكناً بين الموقف المؤيّد لـ"إسرائيل"، والذي تبنّاه ترامب، وبين سائر المواقف العنصريّة التي يمثّلها.

لا تتجاهل "إسرائيل" هذه التغييرات الحاصلة، إذ تسعى لتجريم معاداة الصهيونيّة وربطها بمعاداة السّامية، والمفارقة هنا أنّ هذا التجريم يمتد ليشمل يهوداً، كأعضاء "صوت اليهود" أو آخرين، ممن اتخذوا مواقف من هذا النوع. لذا يمكن بسهولة العثور على "صوت اليهود" وغيرها من المنظمات التي يقودها أو يشارك في قيادتها يهودٌ على قائمة "الأنشطة المناهضة لإسرائيل" التي وضعتها "رابطة مكافحة التشهير"، وهي منظمة صهيونيّة تسعى لفضح من تصنفهم كـ"معادين للسامية" ومناهضين لـ"إسرائيل" من أفراد ومؤسسات في الولايات المتحدة. ويمكن العثور على أسماء ناشطيها على قواعد بيانات مثل "كناري ميشن" التي تشهّر بالنشطاء المناصرين لفلسطين في الولايات المتحدة، وهي نفس قواعد البيانات التي تستخدمها وزارة الشؤون الإستراتيجية الإسرائيليّة لمنع دخول هؤلاء النشطاء إلى "إسرائيل".

لا يزال الطريق أمام حسم النقاش حول فلسطين داخل المجتمعات اليهوديّة الأميركيّة طويلاً، إلا أنّ ما تحقق بفضل سنوات من العمل الشّاق يستحق الوقوف عنده، ويستحق التأملَ في أهمية بناء الجسور بين الناس على أسس القيم المشتركة، ليس فقط على المستويات الدبلوماسيّة أو من خلال مشاريع المجتمع المدنيّ الممولة.

تغيير قلوب وعقول الناس قد يأخذ وقتاً، ولكن ثماره تكون أكثر قوة وصلابة. في جزء من المجتمعات اليهوديّة الأمريكيّة اليوم، تُوضع "إسرائيل" والصهيونيّة في قفص الاتهام. وما كان هذا ليحصل قبل عشر أو حتى خمس سنوات، لولا نضال الفلسطينيّين وبناء الجسور القيميّة والنضاليّة مع المجتمعات المضطهدة في الولايات المتّحدة. هل سيثمر هذا النقاش عن تغييرٍ جذريٍّ في مواقف يهود الولايات المتحدة، ومن ثمّ يتبعه تغييرٌ في سياسات الإدارات الأميركيّة القادمة؟ وهل يُترجم إلى ضغطٍ يغيّر الواقع في فلسطين؟ هل بروز هذه التناقضات داخل المجتمعات اليهوديّة أمرٌ مؤقت بسبب مرحلة ترمب، أم هل ستستمر في حال جاءت إدارة من الحزب الديموقراطيّ تتبنى مواقف الليبراليين الصّهاينة وأجنداتِهم؟

الوقت كفيل بأن نرى الإجابات، والعمل الجادّ كفيل بأن نجعلها إجابات لصالح فلسطين.