16 أغسطس 2019

معادلة إلهان ورشيدة

مناهضة ترمب تساوي مناهضة الاحتلال 

مناهضة ترمب تساوي مناهضة الاحتلال 

لا يمكن فصل القرار الإسرائيليّ بمنع عضويّ الكونغرس، رشيدة طليب وإلهان عمر، من دخول فلسطين عن الاستقطاب الناشئ في الولايات المتّحدة بعد الانتخابات الأخيرة بين معسكرين: أحدهما محافظ يتزعّمه الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب وحزبه الجمهوريّ، وتسيطر عليه نزعاتٌ إسلاموفوبيّةٌ وعنصريّةٌ ومعادية للساميّة، ومعسكر آخر تقدميّ مناهض لترامب وسياساته وخطابه. يشكّل هذا الاستقطاب لحظةً فارقةً في تاريخ النضال من أجل الحقوق الفلسطينيّة داخل الولايات المتّحدة.

بعد الانتخابات الأخيرة، توسّع الصدع بين الحزبين -الديمقراطيّ والجمهوريّ- بشكلٍ غير مسبوق، وباتت معارضة ترامب وسياساته وخطابه العنصريّ وممارسات حكومته عاملاً موحِّداً بين أطياف واسعة من اليساريّين والتقدميّين والليبراليّين الأميركيّين. وعمليّاً، باتت سياسات ترامب تصمّم أجندةَ المعسكر المعارض؛ فلو أصدر ترامب قراراً مناهضاً للمسلمين، مثل قرار منع دخول مسلمي عدد من الدول إلى الولايات المتّحدة عام 2017، تُصبح مناهضة الإسلاموفوبيا جزءاً من برنامج مقاومة ترامب وإدارته، ولو أصدر قراراً بتصعيد سجن المهاجرين لأصبح دعمهم جزءاً من أجندة هذه المعارضة.

يأتي هذا الاستقطاب بعد عقودٍ من الإجماع بين الحزبيين الرئيسيين على تأييد "إسرائيل" ودعمها، وإنْ بوجود خلافات سطحيّة لا تؤثر على سياسات الحكومة بأي شكلٍ من الأشكال. أما اليوم، فقد أدّى دعم ترامب لـ"إسرائيل" وانحياز إدارتِه غير المسبوق لها، وهو أحد الملامح التي تميّز فترة حكمه، والمغازلة المبتذلة بينه وبين بنيامين نتنياهو، إلى تغييرٍ في شكل ومضمون هذه الخلافات. فقد أماط تحالف ترامب-نتنياهو اللثام، بالنسبة للأميركيّين، عن طبيعة النظام الإسرائيليّ العنصريّة والانتهازيّة المستعدّة للتحالف مع مثل هذه الإدارة تحقيقاً للمصالح الإسرائيليّة الضيّقة، وهو تحالف أحرج الكثير من الليبراليين والتقدميين المؤيّدين لـ"إسرائيل" أو من رأوا فيها دولةً ليبراليّةً وديمقراطيّةً تحاول النجاة في "حيٍّ خطير". 

هكذا، دَفَع تحالفُ ترامب-نتنياهو النضال في سبيل حقوق الشعب الفلسطينيّ وحريّته إلى أجندة المجموعات اليساريّة والتقدميّة المناهضة لترامب. ومثلما صارت هذه المجموعات والمنظّمات تركّز اهتمامها، ردّاً على ترامب، بمناهضة العنصريّة ومعارضة سياسات الهجرة التعسفيّة والمناداة بالعدالة الاجتماعيّة والطبقيّة ومناصرة حقوق الأقليّات والمهمّشين ومناهضة الحرب، باتت الكثير منها تتبنّى في فكرها وممارستها مناصرة حقوق الفلسطينيين أيضاً.

من قلب المعسكر التقدميّ هذا، وصلت النائبتان إلهان عمر ورشيدة طليب الى الكونغرس في الانتخابات التي نُظِّمت بعد عامين من فوز ترامب، والتي حصد فيها الحزب الديمقراطي 235 معقداً من أصل 435، متفوّقاً على الحزب الجمهوريّ. كان نجاح إلهان عمر ورشيدة طليب، ومعهما قائمة طويلة من المرشّحات والمرشّحين التقدميين، غير تقليديّ بالنسبة للسياسة الأميركيّة. ولقد وصلتا إلى الكونغرس بفضل التنظيم السياسيّ الفعّال وتحشيد المجتمعات المهمّشة وغير الراضية عن إدارة ترامب؛ جمهور الناخبين الذي صوّت لرشيدة طليب، مثلاً، جلّه من السّود من سكان الإقليم الثالث عشر في ولاية ميشيغان، ممّن يعانون تفشي الفقر والبطالة وسوء الخدمات إثر انهيار الاقتصاد الصناعيّ في تلك الولاية. أما إلهان عمر، فتمثّل منطقةً ذات أغلبية من الأميركيين البيض التقدميين في ولاية مينيسوتا، ممّن يؤيدون معظمهم حزباً يسارياً يعبّر عن مصالح العمال والفلاحين، ويصوّتون لمرشحي الحزب الديمقراطيّ في الانتخابات.

 مواقفهنّ: إصغاء لتحوّلات في الرأي العام الأمريكيّ

لخّص وصول رشيدة طليب وإلهان عمر للكونغرس جانباً مهماً من اللحظة السياسيّة الراهنة في الولايات المتحدة؛ إذ عكس هذا الإنجاز تنامي الاهتمام بالسياسة لدى شرائح مهمّشة، وتوّسع انخراطها في العملية السياسيّة كردِّ فعل على صعود ترامب، ومن أجل الدفع بأجندة تقدميّة تكون قضايا العدالة الاجتماعيّة والعرقيّة والطبقيّة في صلب اهتمامها. 

في نفس الوقت، لم تتوانى النائبتان عن إعلاء صوتهما نصرةً لحقوق الفلسطينيين عبر معارضة القوانين التي تجرِّم حملة المقاطعة BDS، أو بإدانة "إسرائيل" ومجموعات الضغط السياسيّ الداعمة لها علانية. لم يكن من الممكن لطليب وعمر أن تحملا على عاتقهما مواقف راديكالية -بالنسبة للسائد في الولايات المتحدة- تجاه القضية الفلسطينيّة لولا إدراكهما للتغيير الحاصل على مستوى الجمهور والرأي العام في الولايات المتحدة.

 خلال الشهور الماضية، تعرّضت إلهان عمر الى سلسلة هجمات شرسة بسبب انتقادها للجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (AIPAC)، وهي المنظّمة التي تلعب دور اللوبي الصهيونيّ في الضغط على الإدارات الأميركية المتعاقبة وعلى أعضاء الكونغرس لتبني مواقف مؤيدة لـ"إسرائيل"، والتي تضمن استمرار الدعم الماليّ والعسكريّ لدولة الاحتلال. اتُهمت إلهان كذلك بمعاداة السّامية، وتعرّضت لانتقاداتٍ حادّةٍ من قيادة الحزب الديموقراطيّ، ناهيك عن التهديدات التي تلّقتها من اليمين المتطرف الأميركي. 

في نفس الوقت، وقف كثير من التقدميين واليساريين في أميركا دعماً لإلهان وأعلنوا تأييدهم لها، بمن فيهم بيرني ساندرز، عضو مجلس الشيوخ الأميركيّ والساعي للحصول على ترشيح الحزب الديمقراطيّ لانتخابات الرئاسة المقبلة. حيث أكد ساندرز على أن انتقاد "إسرائيل" ليس معاداة للسامية، واصفاً نتنياهو بالعنصري، وداعياً لإنهاء الاحتلال.

 المجتمع المدنيّ الأميركيّ بالغ الكبر والتعقيد، والسّياسة الخارجيّة للبلاد قابلة للتغيير بفضل "مساهمات متراكمة من قطاعات اجتماعيّة عريضة، مثل وسائل الإعلام، والكنائس، والجامعات، والكونغرس، والنقابات، ودوائر المال والأعمال، ومجموعات الضغط الخ..."، وما يحصل في واشنطن اليوم، من تحوّل غير مسبوق تمثّله إلهان عمر ورشيدة طليب، هو نتيجة مساهمات متراكمة وعمل استمر على مدار عقود، نظّمه وقاده فلسطينيون أميركيون وحلفاء لهم من عناصر فاعلة في المجتمع الأميركي، دفعها واقعُها للتضامن مع الفلسطينيين.

 ما الذي تخسره "إسرائيل" مقابل غزل ترامب-نتنياهو؟

تدرك "إسرائيل" اليوم أنها بدأت تخسر تأييد قطاعات اجتماعيّة واسعة كانت إما على الحياد وإما أيّدتها في الماضي، ومن ضمن هذه القطاعات الكثير من اليهود الأميركيين. فقد أضحى تأييد "إسرائيل" من عدمه أحد أبرز القضايا الشاغلة للمجتمعات اليهودية الأميركية اليوم، وبرزت مجموعات مثل "أصوات يهودية من أجل السلام" التي أعلنت صراحة إدانتها للصهيونية وتنادي بمقاطعة "إسرائيل"، ومجموعة If Not Now الليبرالية التي تركّز على دفع السياسيين الأميركيين لإعلان مناهضتهم للاحتلال.

 كما انضم عدد كبير من الكنائس الأميركية للـBDS، بالإضافة إلى بروز عشرات المنظّمات الطلابيّة في الجامعات الأميركيّة والتي تعمل لأجل رفع الوعي والضغط على الجامعات لسحب استثماراتها من الشركات المتواطئة مع الاحتلال. علاوة على ذلك، ازداد وعي الأميركيين عموماً بانتهاكات حقوق الإنسان التي تقوم بها "إسرائيل" بفضل انتشار الاعلام الاجتماعي، وهو ما أثّر بالتالي على وسائل الاعلام الرئيسية المنحازة لـ"إسرائيل"، وأجبرها في أحيانٍ كثير على نشر أخبار حول ما يحدث في فلسطين.

بفضل هذه التراكمات، استطاعت عضو الكونغرس عن ولاية مينيسوتا بيتي ماكولم إعادة طرح أول مشروع قانون مؤيد لحقوق الفلسطينيين في تاريخ التشريع الأميركي. وهو مشروع قانون يسعى لحظر توظيف الدعم المالي الأميركي لـ"إسرائيل" في اعتقال وتعذيب وإساءة معاملة الأطفال الفلسطينيين. ومع أن مشروع القانون لم يحظَ بتأييد أغلبية أعضاء الكونغرس عند طرحه للمرة الأولى عام 2017، إلا أنه مثّل سابقة تاريخية وأفسح المجال أمام مناصري القضية الفلسطينية لاقتحام الساحة التشريعية الأميركية، ورفع وعي ممثليهم المنتخبين والضغط عليهم لتغيير طرق تعاطيهم مع القضية الفلسطينية. وقد أعيد طرح مشروع القانون هذا العام للمرة الثانية، ولعبت كل من عمر وطليب دوراً قيادياً في دعوة زملائهما للتوقيع عليه.

بيض الملك في سلّة واحدة

في هذا السياق المعروض أعلاه يأتي منع عمر وطليب من زيارة فلسطين، وهذه ليست المرة الأولى التي تمنع فيها "إسرائيل" أعضاء كونغرس أميركيين من زيارة مناطق فلسطينيّة. فقد منعت أعضاء الكونغرس مارك بوكان، ودان كيلدي، وهانك جونسون من دخول قطاع غزة المحاصر في نيسان 2018، على الرغم من مناشدة الأعضاء الثلاثة للحكومة الإسرائيلية السماح لهم بالدخول. وهذا كلّه جزء من محاولات "إسرائيل" البائسة لإخفاء الحقيقة عن الرأي العام الأمريكيّ.

ثمة خليط من الغرور الأعمى وضيق الأفق وجنون العظمة وراء قرار نتنياهو بمنع عمر وطليب من دخول فلسطين. فنتنياهو الذي يرى نفسه "ملك إسرائيل"، كما كتبت مجلّة "TIME"، اتّخذ قراراً دبلوماسيّاً فجّاً بوضع كل بيضه في سلّة ترامب، متحالفاً مع قطاعات اجتماعيّة وسياسيّة محافظة، ومتطرّفة، ورجعيّة في الولايات المتحدة، كالمسيحيين الإنجيليين والجمهور المؤيد لترامب. كل ذلك في محاولة لتأمين غطاء ودعم سياسيين يسمحان له بفرض الوقائع على أرض فلسطين كما يشاء، وأن يمضي في سياساته العنصرية والاستيطانية دون أيّ محاسبة.

 ما يتجاهله نتنياهو أن ثمة تغير ما يحصل في الولايات المتحدة، وأن ثمة معسكر تقدميّ ذو مواقف ممتازة تجاه القضية الفلسطينيّة وحقوق الشعب الفلسطيني. ومن المؤلم تعرّض إلهان عمر لكافّة أصناف التهديد والإساءة والتقييد بسبب موقفها الداعم لحقوق الفلسطينيين، والمؤلم أكثر منع رشيدة طليب، فلسطينيّة الأصل، من حقّها في دخول وطنها... ورغم ذلك؛ ثمّة فرصة غير مسبوقة لرفع وعي قطاعات واسعة في الولايات المتحدة، وربط "إسرائيل" -كنظام استعماريّ عنصري يقوم على الاستعلاء والعنصريّة- بما يمثّله ترامب من عنصرية واستعلاء أبيض وعنجهيّة. إنها لحظة اختبار ستضع كثيرين في الولايات المتحدة أمام مفترق طرق: لا يُمكن ادعاء مناهضة ترامب وتأييد "إسرائيل" في الوقت ذاته.