6 يوليو 2019

"الغسيل الورديّ"

حين تغدو "إسرائيل" مُنقذاً

حين تغدو "إسرائيل" مُنقذاً

تستخدم "إسرائيل" ورقة "حقوق المثليين" دبلوماسيّاً ودوليّاً للدعاية لنفسها. في نظرةٍ سريعةٍ على مختلف منصات الإعلام والخطاب الإسرائيليّ أو العالميّ فيما يخصّ الموضوع، نجد أمثلةً كثيرةً تعكس المساعي المستمرة لعرض دولة الاستعمار على أنها الجنّة الوحيدة في المنطقة للأشخاص الكويريين1"كوير"(Queer) هو مصطلح يضمّ مختلف التوجّهات الجنسيّة والجندريّة المُتعدّدة، كما يشكّل اليوم توجّهاً سياسيّاً يُشير إلى نُشطاء يُخالفون السلطة والمنظومة الاجتماعيّة السائدة.. مثلاً، في خطاب رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو عام 2011 أمام الكونجرس الأميركيّ، حرص على ذلك الترويج فقال: "في منطقة يتم بها رجم النساء، وشنق المثليين، وإعدام المسيحيين، تقف إسرائيل؛ إسرائيل المختلفة".

اتّصالاً بمحاولات نقل الصّورة الورديّة عن "إسرائيل" أعلاه، عيّن نتنياهو في حكومته في 5 يونيو/ حزيران من هذا العام، وزيراً للقضاء مثليّ الجنس؛ أمير أوحاناه، وهو خبرٌ ضجّت به العديد من وسائل الإعلام. جاء هذا التعيين متزامناً مع الاحتفالات التي تُنظم خلال شهر يونيو/ حزيران من كلّ عام، باعتباره "شهراً للفخر" يحتفي فيه أشخاص يعيشون توجهات جنسيّة وجندريّة مختلفة. هذه الأجواء الاحتفاليّة والألوان البرّاقة، كثيراً ما تُخبّئ خلفها سياساتٍ قامعةً تستغل هذا الحدث في مختلف دول العالم، تحديداً في كيان الاستعمار الإسرائيلي، كفرصة مثاليّة للـ"غسيل الورديّ".

ما هو الغسيل الورديّ؟

إذا حاولنا تقديم تعريفٍ موجزٍ لمفهوم الغسيل الورديّ Pinkwashing، فإنّه ببساطة السياسات التي تنتهجها أنظمة ودول بتوظيف واستغلال قضايا التعددية الجنسيّة والجندريّة، والأهمّ من ذلك استغلال الأشخاص الذين يعيشون هذه التجارب من مثليات/ين ومتحولات/ين وغيرها من التجارب، في العملية السياسيّة، مثل التغطية على جرائمها أو طبيعتها العنيفة واللاشرعية، أو حتى في مسائل مثل الانتخابات، والتدخل في شؤون الدول الأخرى، وغيرها. تُمارس الغسيل الورديّ كياناتٌ استعماريّةٌ وإمبرياليّةٌ وقمعيّةٌ مُختلفة؛ أبرزها في أيامنا هذه الولايات المتحدة الأميركيّة، ورأس حربتها في منطقتنا العربيّة "إسرائيل".

نشأ مصطلح الغسيلُ الورديّ في بداياته، في منتصف الثمانينيّات في الولايات المتحدّة، لوصف الشّركات الرأسماليّة التي تدّعي دعم النساء المصابات بسرطان الثّدي فيما تقوم حقيقةً باستغلالهن وتوظيف معاناتهن لتحقيق الأرباح. لاحقاً، توسع المصطلح ليصف السّياسات المتمثلة باستخدام الكيانات السّياسية قضيّة الأشخاص الكويريّين من أجل التغطية على السّياسات الإمبرياليّة والاستعماريّة الأخرى التي تنتهجها. جاء ذلك التوّسع في استخدام المصطلح على غرار مصطلحات أخرى وُلِدَت من رحم النشاط السّياسيّ في قضايا أخرى، مثل: "الغسيل الأخضر" (Green Washing)، الذي يشير إلى سياسات الشركات الرأسماليّة التي تدّعي أنها صديقة للبيئة بهدف زيادة أرباحها. 2Sarah Schulman, Israel- Palestine and the Queer International (Durham, NC: Duke University Press, 2012): 135.

استُخدِم مصطلح الغسيل الورديّ لوصف سياسات "إسرائيل" مع بداية الألفية الثانيّة، أيّ بالتزامن مع الانتفاضة الثانيّة، ونشوء حركة المقاطعة BDS، إضافةً إلى نشوء مجموعاتٍ فلسطينيّةٍ كويريّةٍ للإجابة على الأسئلة التي تتعلق بالعمل المجتمعيّ حول قضايا التعدديّة الجنسيّة والجندريّة في سياق استعماريّ.

ليس الغسيل الورديّ استراتيجيّةً دعائيّةً خارجيّةً لتبييض صورة الاستعمار أمام المجتمع والقانون الدوليّ فحسب، وإنّما هو أيضاً أداة اقتصاديّة تدرّ أرباحاً كبيرة على كيان الاستعمار، وآلية محو وإقصاء منتظمة يمارسها الاستعمار علينا كفلسطينيّين. إلى جانب ذلك، تستغل دولة الاستعمار هذه الصّورة الورديّة المفترضة لتُقدِّم نفسها كوجهة جاذبة لأشخاص يبحثون عمّا بات يُعرَف بـ"السياحة المثلية". الحديث هنا تحديداً عن تل أبيب التي تستقبل في شهر يونيو/حزيران من كلّ عام ما يُقارب مئة ألف سائح، يأتون للمشاركة في ما يُسمّى "فعاليات أسبوع الفخر"، الذي تندرج في إطاره مسيرة الفخر المثليّة الكبيرة، وفعاليات مختلفة مثل مهرجان تل أبيب الدوليّ للأفلام المثليّة. كما ضمّت هذه الفعاليات لهذا العام استضافة "مسابقة الأغنية الأوروبيّة"، التي شكّلت دافعاً إضافيّاً لقضاء عطلة مثليّة لبعض السيّاح في "إسرائيل".

من قامع إلى "منقذ"!

عادةً ما يتمّ التركيز على المستويين؛ الدعائيّ والاقتصاديّ، في السّياسات التي تتّبعها "إسرائيل" في غسيلها الورديّ، غافلين عن الجوهر الأساسيّ لهذه السياسات، ألا وهو كونها سياسات عنف وإقصاء للفلسطينيين الذين يعيشون توجهاتٍ جنسيّة وجندريّة مختلفة، باعتبارها امتداداً طبيعياً لمنظومة الاستعمار الاستيطاني التي نعيشها. 

تُمارَس هذه السياسات في إحدى أشكالها، كمغذّي يُساهم في تعزيز أجهزة القمع، وإعادة إنتاج العنف داخل المجتمع الفلسطينيّ، أو حتّى في إعادة إنتاجها للخطاب الذكوريّ. مثلاً، يكتب أفيخاي أدرعي على تويتر عن النساء اللواتي يُشاركن في رمي الحجارة، التالي: "المرأة الصّالحة هي المرأة الشّريفة الّتي تهمّها مصلحة بيتها وأولادها فتكون قدوةً حسنةً لهم. أمّا المرأة الطالحة، وعديمة الشّرف فلا يهمّها ذلك، فتتصرّف بهمجيّة لا تمتّ للأنوثة بصِلة غير مهتمة لنظرة المجتمع المُستحقِرة لها".

من هنا، تستفيد "إسرائيل" من الخطاب الذي يبثّه النظام الأبويّ والذّكوريّ في المجتمع الفلسطيني، بوصفه أحد الأجهزة التي تُعزّز العنف داخل المجتمع، حيث يولّد هرميّةً وتفوّقاً لنوعٍ اجتماعيٍّ معيّن، أو لميلٍ جنسيٍّ على حساب آخر. كما يرفع من مكانة الرجولة أو الذكورة كقيمة عليا، ويقصي كل ما يقع خارجها من تصنيفات. يتجسّد هذا العنف الذكوريّ بأشكال عدّة، إحداها قتل النساء، ومحو التجارب الجنسيّة والجندريّة المختلفة في المجتمع.

بعد أنّ تغذّي "إسرائيل" وتدعم العنف داخل المجتمع الفلسطينيّ، على مستوى الممارسات السياسيّة والخطابيّة، تعرض نفسها كبديل عن المجتمع الفلسطينيّ. وبالتالي تغدو "إسرائيل" في هذه الحالة هي الملاذ الآمن والوحيد للأشخاص الكويريين من مجتمعهم الفلسطينيّ. خلال ذلك تستغل "إسرائيل" القضايا الكويريّة لتمرير سياساتها الإسرائيلية، مثل دعمها مجموعات تعايشية بين كويريين إسرائيليين وآخرين فلسطينيين.

عند استدخال هذه الثنائية؛ الفلسطيني "المتخلّف" في مقابل الإسرائيلي "المتقدّم" و"المنقذ"، في المجتمع الفلسطيني، فإنّ المسارين المُمكنين في هذه الحالة يُصبحان: إما الأسرلة والهروب من الذات الفلسطينيّة "العنيفة"، أو إعادة إنتاج المباني الذكوريّة العنيفة المذكورة سابقاً، وهو ما يبقينا في حلقة مفرغة.

هكذا تنشأ ردّة فعل، تتمثّل في شعور الفلسطينيين الذين يعيشون توجّهاتٍ جنسيّة وجندريّة مختلفة، بالعزلة والاغتراب عن مجتمعهم الفلسطيني. هنا بالتحديد تتجلّى سياسات الغسيل الورديّ حين يكوّن الفلسطينيون الكويريون مشاعر اغتراب تخلق ردّة فعل عكسيّة، تؤدي لكره مجتمعاتهم. ضمن هذا كلّه، تتغيّر العلاقة ما بين الفلسطينيّ الكويري و"إسرائيل"، ويجري عليها تحوير واضح، من كون الأخيرة استعمار يُمارس عنفاً، إلى كونها مُنقذاً للضحيّة من مجتمعها الفلسطيني. 

يُنشر هذا المقال ضمن تعاون بين متراس  ومؤسسة القوس للتعددية الجنسية والجندرية.