7 ديسمبر 2021

"صوتُ المواطن" الذي تحجبه الإعلاناتُ في إذاعاتِ الضفة

"صوتُ المواطن" الذي تحجبه الإعلاناتُ في إذاعاتِ الضفة

تبثّ في الضفّة الغربيّة اليوم أكثرُ من 50 إذاعة مرخّصة، غالبيّتها العظمى بملكيّةٍ خاصّةٍ، وتعتمد على الإعلانات والرعايات لتمويل نفسها، ما جعلها في أزمةٍ ماليّةٍ متزايدة منذ هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي وازدياد الإقبال على إعلانات غوغل وفيسبوك وإنستغرام في النصف الثاني من العقد الأخير.

وبينما شهدت الإذاعاتُ هجرةَ عددٍ كبيرٍ من صغار المعلنين الذين فضّلوا سوق الإعلان الرقميّ، لم توقف الشركات الكبرى مثل البنوك وشركات الاتصالات والتأمين إعلاناتها الإذاعيّة، وصارت تتقاسم بينها رعاية أكثر البرامج استماعاً، مستفيدةً من انخفاض تكلفة إعلانات الراديو بالنسبة إلى أرباحها وموازناتها الضخمة. 

بالتالي صارت الإذاعات الخاصّة تعتمد بشكلٍ كبيرٍ في تمويلها على عائدات إعلانات الشركات الكبرى، وتحوّل شكلُ العلاقة بين الطرفين من علاقةٍ نديّة بين بائعٍ (الإذاعة) وشارٍ (المعلنين) إلى علاقةٍ مؤهلةٍ للاستغلال والهيمنة، بعد أن أدركت كبرى الشركات حاجةَ الإذاعات لها.

إنّ المستمعَ اليوم للراديو في الضفّة الغربيّة يشعرُ بالحضور الكثيف لشركات الاتصالات تحديداً على الأثير، فكلّ إعلانٍ لـ"جوّال" مثلاً يقابله إعلانٌ لـ"أوريدو"، وهنا يصبح المحتوى الصحفيّ لهذه الإذاعات مهدداً، فحيثما يسيطر رأسُ المال تتقيد حريّةُ الصحافة، وتُصبِحُ محددةً بسقفٍ يُعجب المعلن. هذا التقييد يبدو أوضح حين ينحصر التمويل بمصادر قليلة وذات نفوذٍ على أرض الواقع، مثل شركات الاتصالات التي قامت ضدّها في السنوات الثلاث الماضية احتجاجاتٌ شعبيّة، ويمكن من خلالها رؤية الأثر السلبيّ الذي يحدثه الإعلان حين يطغى على الإعلام.

الإعلان سوط الرقابة 

يمكن تقسيم المحتوى الإذاعيّ الفلسطينيّ اليوم إلى ثلاثة أقسام: إخباريّ، ومجتمعيّ، وترفيهيّ، ويُصبغ القسمان الأخيران بصبغة "العلاقات العامّة" خاصّة في البرامج المرعيّة، فكجزء من شروط الرعاية، توفّر الإذاعات مساحةً للممول ويُمنح مسؤولو العلاقات العامة ومدراء الشركات فرصةً لترويج شركاتهم والإعلان عن حملاتهم و"تسهيلاتهم"، دون أيّ نقدٍ أو مساءلة، ويمنحهم المذيعُ "كلَّ الوقت"، بينما يتجاهل تعليقاتٍ للمستمعين تطالب بسؤال الممول عن انتهاكاتِه بحقِّهم.

يتعارض هذا السلوكُ مع القوانين ومواثيق الشرف الإعلاميّة التي تؤكد على ضرورة فصل الإعلان عن المحتوى الصحفيّ، إذ يُحدد نظام ترخيص الإذاعات الذي أصدرته السّلطة الفلسطينيّة عام 2018 شروطَ الإعلان بأن لا يتجاوز 8 دقائق خلال ساعةٍ من البثّ الإذاعيّ، وأن يتم الإشارة بوضوحٍ قبل الإعلان أو الفقرة الترويجيّة وبعدها إلى كونها محتوى إعلانيّاً.

لغرض كتابة هذا المقال، تحدثنا مع عدة صحافيين، وجميعهم اشتركوا بالقول إنَّ عملَهم الإذاعيّ يحكمه إدراكٌ ضمنيٌّ بعدم إمكانيّة تغطية الشركات التي تموّلهم بصورةٍ سلبيّة، حتى لو لم يتلقوا تعميماً رسميّاً بذلك، فهو إدراكٌ يفرضه الحضورُ الفاقع للممول في معظم البرامج. وهو كذلك إدراكٌ يُنقل من موظفٍ لآخر تلقائياً، مثل حالة متدربٍ في إحدى الإذاعات، عندما كان يفكّر بإعداد تقريرٍ إذاعيّ يتناول الحراك الشعبيّ ضدّ سياسة شركة الاتصالات الفلسطينيّة في موضوع خطّ النفاذ، لكنه أحجم و"حرّم" بعد أن نصحه مدرّبوه بعدم طرح فكرته على الإدارة لأنّها "سترفضه".

يُعزى هذا الإدراك إلى مستويين من الرقابة؛ الأوّل يفرضه سلوكُ الشركات الراعية والمُعلِنَة، التي تتابع محتوى الإذاعات التي تموّلها (وفي بعض الأحيان محتوى المذيعين) وتحاول التدخل بما يقولونه حولها، كما حدث مع موظفٍ في إحدى الإذاعات استدعته الإدارة بعد شكوى مباشرةٍ ضدّه من الشركة المعلنة لكتابته على صفحته الخاصة على فيسبوك منشوراً ينتقدها. المستوى الثاني يتمثل في بعض مدراء الإذاعات، الذين يُحذّرون العاملين لديهم من المسّ ببعض الشركات، حتى لو لم تكن ضمن قائمة المعلنين، لأنّ هذه الشركات قد تطرُق بابَهم يوماً للإعلان لديهم، ولا يريدون إغضابها.

 تضارب مصالح... إن لم تستحِ!

 تربط بعض الإذاعات والمذيعين علاقةٌ عميقةٌ مع شركات الاتصالات تعتمد على المستوى الشخصيّ في العلاقات. على سبيل المثال لا الحصر، فإنّ المدير العام ورئيس التحرير في إذاعة 24FM، ومقدّم أحد أكثر البرامج الصباحيّة استماعاً في الضفّة (برنامج صوت البلد) الصحفيّ إيهاب الجريري، يعمل الوقت ذاته مستشاراً إعلامياً لرجل الأعمال بشّار المصري الذي يرأس شركة "باديكو القابضة" وهي الشركة الأمّ لـ"مجموعة الاتصالات الفلسطينيّة بالتل". أما إذاعة "فجر إف إم" في طولكرم، وهي من أكثر الإذاعات استماعاً في الضفّة كذلك، فيديرها أحمد السرغلي، الذي يعمل في الوقت ذاته رئيساً لدائرة التسويق في شركة الاتصالات. أما إذاعة "صوت النجاح"، فرغم كونها إذاعةً غير خاصّة تتبع لجامعة النجاح، إلّا أنّ علاقتها مع شركات الاتصالات تمتد حتى أعلى هيئةٍ إداريّةٍ فيها: رئيس أمناء جامعة النجاح صبيح المصري، وهو صاحب أكبر حصة في شركة الاتصالات الفلسطينية (بالتل).

 أمّا على المستوى الربحيّ، فهناك شكلان أساسيّان لـ"استثمار" شركات الاتصالات في الإذاعات، الأوّل عبر الرعاية الرسميّة لأحد البرامج، إذ يتم ذلك من خلال عقدٍ سنويّ توقّعه الشركة مع الإذاعة، وتعطيها مقابله مبلغاً ثابتاً يصل آلاف الدولارات. تستهدف الشركات البرامج الأكثر رواجاً في رعايتها، مثل برنامجيّ (المجلّة المنوعة) على إذاعة أجيال و(مع الناس) على إذاعة راية الذيْن ترعاهما حصريّاً شركةُ الاتصالات الفلسطينيّة (بالتل)، وبرنامج (صوت البلد) على إذاعة 24FM برعاية بالتل وفرعيها جوّال وحضارة، وبرنامج (عالم الصباح) على إذاعة طريق المحبّة الذي ترعاه جوّال وبرنامج (شدّ حيلك يا وطن) على إذاعة وطن، وترعاه شركة حضارة. وعدا عن كونها الأكثر استماعاً، يجمع هذه البرامج أنّها مساحةٌ للمواطن كما يفترض، وتقوم شهرتها على تلقّي شكاوى الناس ونقلها للمسؤولين.

اقرؤوا المزيد: "لماذا ينادي الغزيّون بإسقاط جوال؟".

أمّا الشكل الثاني فهو الإعلانات التي يتم الاتفاق شهريّاً على كمّها ونوعها، وتُحسب تكلفتها بالقطعة، فكلّ إعلانٍ يبثّ له تسعيرةٌ ثابتة (30 شيكلاً في المتوسط)، ما يعني مبلغاً يتجاوز ألفي دولارٍ شهريّاً من معلنٍ واحدٍ فقط. هذا النوع من الإعلانات يتيح لأصحاب الإذاعات اللعب على وتر التنافس بين شركات الاتصالات لزيادة إعلاناتها لديهم، فعندما تقرّر الشركة "س" زيادة إعلاناتها تتخذ الشركة "ص" الخطوة ذاتها، حتى وصل الحال أن تنشر إحدى الإذاعات 120 إعلاناً في اليوم لشركتين فقط (60 لجوّال و60 لأوريدو) وذلك طيلة 3 أسابيع، وأن تصمّ آذانها عن شكاوى المستمعين الذين أزعجتهم الكثرة المفرطة في الإعلانات. 

إسكات الناس 

يحدث "تواطؤ" الإذاعات مع رأس المال ضدّ الناس حين تدير ظهرها لاحتجاجاتهم وتغيب أصواتهم المنتقدة، وحين يتخلّى المذيع عن دوره الصحفيّ، ولا يتحرّى حقيقة تأثير هذه الشركات على السوق الفلسطينيّة وما تُتهم به من استغلالٍ وانتهاكات، وحين تتحوّل برامج الناس لمنبر ترويجٍ وثناءٍ وتبييضٍ لصورة هذه الشركات وإظهارها بقالب الشركات "الوطنية" التي تتحلى بمسؤليةٍ اجتماعيّة. 

اقرؤوا المزيد: "الإغراق في الديون..سياسات الإقراض في الضفّة".

منذ عام 2018، ظهرت حراكاتٌ في الضفّة والقطاع ضدّ شركات الاتصالات، مثل حراك "يسقط خطّ النفاذ" الذي يطالب بإلغاء إلزاميّة شراء خدمة هاتفٍ أرضيّ للحصول على خدمة ADSL ودفع ثمنها مبلغاً مرتفعاً شهريّاً، رغم توقف كثيرٍ من العائلات عن استخدام خطّ الهاتف وعدم حاجتها له. وحراك "بكفّي يا شركات الاتصالات" الذي يطالب شركات الإنترنت بتحسين جودة خدماتها وتخفيض أسعارها والالتزام بالاتفاقات الموقعة مع المستهلك. وخلال 3 أعوام، لم تتم تغطية هذه الحراكات من قبل أيّ إذاعة كما ينبغي، رغم حجم التفاعل الكبير معها فلسطينيّاً، مثلما أوضح جهاد عبدو، أبرز نشطاء حراك "بكفّي يا شركات الاتصالات" لمتراس.

معظم الإذاعات امتنعت عن تغطية الحراكات تماماً، واكتفت بالاحتفاء بإجراءٍ شكلّيٍ لم يطبق، أعلنت فيه وزارة الاتصالات تحرّكها بناءً على مطلب الحراكات. إذاعاتٌ أخرى تناولت الحراكات بخجلٍ وعلى عجالة وبحياديّة، فكان يوضع المواطن مقابل مستغلّه، والمذيع بينهما واقفٌ على الحياد.

 

وعلى الأثير، يُكال المديح للشركات وممثليها، وتُعرّف إذاعة أجيال معن ملحم مثلاً، المدير العام لشركة "بالتل"، وهو ضيفٌ كثير الحضور في كبريات الإذاعات المحليّة، على أنّه "صديقٌ قديمٌ للإذاعة". وبينما يسوق ملحم حججاً واهية تتهم المستهلكين بالمسؤولية عن تردي جودة الخدمة التي تقدمها "بالتل"، لأنّ "كلّ فرد بالعيلة حامل آيفونه وشابك إنترنت"، كانت المذيعة تهزّ رأسها تأييداً وتلقّن ملحم كلاماً يدافع به عن استغلال شركته. وعلى إذاعة أخرى بينما كان ملحم يروّج لخطِّ التمكين بادعاء خدمة الفقراء، طالب أكثرُ من معلق في التعليقات على البث المباشر أن تسأل المذيعةُ ملحم عن خطّ النفاذ ولماذا يتم خصم كل هذا المبلغ منهم، لكنَّ مطالباتهم تم تجاهلها تماماً.

وبينما يحتلّ أثيرَ الإذاعات مسؤولو الشركات، تعمل الإذاعات على إظهار شكاوى المواطنين كحالاتٍ خاصّة يتم نقلها "تحت الهوا" لشركات الاتصالات مباشرةً، وذلك بدل السماح ببثها على الأثير وإظهارها في سياق شكوى عامّة يشترك بها معظم الناس.

ختاماً، حين يغيب الحكم

بين الإذاعات وشركات الاتصالات في فلسطين حَكَمٌ مُعطّل هو وزارة الاتصالات التي تتولى إصدار التراخيص للإذاعات، وتقع على عاتقها مسؤولية مراقبة شركات الاتصالات. لكنّ هذا الحكم يغيب عن المشهد ولا يقوم بضبط العلاقة بين المُعلنين والإذاعات كما حددها القانون وأصول العمل الصحفيّ. وحين يشترك أصحابُ شركات الاتصالات وبعض أصحاب الإذاعات بالهمّ الربحيّ والرغبة بزيادة العائدات، تتحوّل الإذاعة من سلطة رابعة إلى منابر إعلانيّة يحاول مسؤولو العلاقات العامة في شركات الاتصالات التحكم بمحتواها، ويكون الخاسر الأكبر هو الناس الذين سلبوا مساحةً كان يُفترض بها أن تنقل صوتهم. 

كيف يمكن تحرير الإعلام من الارتهان لرأس المال؟ هذا هو أوّل سؤالٍ تفكّر به المجتمعاتُ التي يهمها الحفاظ على قدرٍ من الاستقلاليّة والنزاهة في مؤسساتها الصحفيّة، وطالما التوجّه السائد في الضفّة هو افتتاح الإذاعات لغرض الربح لا الصحافة، فإنّ علاقة الراديو مع شركات الاتصالات ورأس المال عموماً ستبقى كما هي. والمؤسف أنّ ما يجري على الإذاعات يجري أيضاً على بقيّة الوسائل الإعلاميّة حتى الرقميّ منها، وإن كان بشكلٍ أقلّ فجاجة. فوزارة الإعلام مغيّبة ولا يبدو أنّ هناك من يكترث حتى بتعيين وزيرٍ لها! ليترك المجال مفتوحاً أمام رأس المال ليمارس ما يناسبه من صنوف تطويع المحتوى الصحفيّ الفلسطيني وتشكيله بما يناسب أهداف أصحابه، وهو ما يعني مصادرة الرقابة الصحفيّة وتغييب الناس عن واقع الانتهاكات بحقهم، ومصادرة قدرتهم على الاحتجاج ضدّها.

 

*يُنشر هذا المقال ضمن برنامج زمالة الكاتبات والصحافيات الذي بدأه "متراس" في يناير/ كانون الثاني 2021.



25 فبراير 2021
حياةٌ في شارع الشهداء..

دقائق قليلة وتصل حافلة "شركة الباصات الوطنيّة"، خطّ الخليل-القدس، إلى المحطة المركزيّة في أشدّ شوارع الخليل اكتظاظاً... شارع الشهداء. تقلّ…