تصل إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة هذه الأيّام "نخبةٌ" من الفلسطينيّين للمشاركة في مؤتمرٍ تعقِدُه المنظّمة الصّهيونيّة الأميركيّة "J Street" نهاية الشهر الجاري. ضمن هذه "النخبة" شخصيّات من السّلطة الفلسطينيّة ومن القائمة المشتركة في الأراضي المحتلة عام 1948، ستُشارك إلى جانب مجرمي حرب على طراز رئيس الوزراء الإسرائيليّ السّابق إبان الانتفاضة الثانية، إيهود باراك، والقائد السّابق لجهاز الأمن العام - الـ"شاباك"، عامي آيالون، وغيرهم. مرةً تلو الأخرى، عاماً بعد عام، تعطي هذه الشخصيّات الفلسطينيّة دعماً وشرعيّةً لمنظّمة صهيونيّة عنصريّة تمارس دوراً جسيماً في ضرب حركة النضال الفلسطينيّة في الولايات المتّحدة.
هذا العام تحديداً، تأتي مشاركة الشخصيّات الفلسطينيّة على الرغم من معارضة النشطاء الفلسطينيين في الولايات المتّحدة، وصدور بيانٍ موقّع من "فلسطينيون في الولايات المتّحدة ينتظرون العودة إلى وطنهم الحر"، يستنكر المشاركة في المؤتمر ويفصّل السياسات الصهيونيّة التي تتبنّاها منظّمة J Street، وعداءها لحركة التضامن الفلسطينيّة. ويأتي هذا البيان، إضافةً إلى بيانٍ آخر أصدرته حركة المقاطعة BDS، وذلك بعد سنوات طويلة تفادت خلالها الحركات الفلسطينيّة الفاعلة في الولايات المتّحدة الدخول في مواجهةٍ مباشرةٍ مع هذه المنظّمة.
منظّمة "جي ستريت" J Street هي واحدة من أبرز المنظّمات الصهيونيّة خارج "إسرائيل"، وشعارها هو: "البيت السّياسيّ لمؤيّدي إسرائيل، مؤيّدي السّلام الأميركيين"، وتعرّف نفسها على أنّها "تنظّم وتحشد الأميركيين المؤيّدين لـ"إسرائيل"، مؤيّدي السلام، في أميركا مّمن يريدون أن تكون "إسرائيل" آمنةً وديمقراطيّةً، ووطناً قوميّاً للشعب اليهوديّ". كما أنّها "تعمل في السياسة الأميركية وداخل الجالية اليهودية [في سبيل] المناصرة من أجل سياسات تعزز المصالح الأميركية والإسرائيلية المشتركة، والقيم اليهودية والديموقراطية، بما يقود إلى حلّ الدولتين للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني"، وفق تعبيرها.
في السنوات الأخيرة، ومع اشتداد واتّساع الحركة الفلسطينيّة في الولايات المتّحدة، خاصةً مع انتخاب ترمب رئيساً وتوطّد العلاقات النضاليّة بين الفلسطينيّين وشرائح أميركيّة مستضعفة، ومع ظهور شخصيّات سياسيّة أميركيّة مناهضة للصهيونيّة، واصلت هذه المنظّمة لعب دورٍ صهيونيٍّ يسعى لتحجيم الحركة الفلسطينيّة وتهميشها، ويحاول إنقاذ الصهيونيّة من النقد المتصاعد لها وإنقاذ "إسرائيل" من تصاعد حملات المقاطعة، مثل تبنّي الحركة النضاليّة السوداء "Black Lives Matter" لنداء مقاطعة "إسرائيل"، أو بيان منظّمة "أصوات يهوديّة من أجل السلام" الذي يعلن مناهضة الصهيونيّة.
حركة تؤكّد "تنوّر" الصهيونيّة
تأسست "جي ستريت" في نوفمبر/ تشرين الثاني 2007، ويرى أعضاؤها وأنصارها أنّها البديل للجنة العلاقات العامة الأميركية الإسرائيلية - "إيباك" AIPAC، والتي يُشار لها في الصحافة العربيّة عادةً بمُسمّى "اللوبي الصهيونيّ". خلال العقود الماضية، اتجهت "إيباك" نحو تبنّي سياسات يمينيّة في الولايات المتّحدة، بموازاة دعم الأحزاب الحاكمة في "إسرائيل". جاء ذلك مع بروز مجموعات ضغط صهيونيّة غير يهودية مثل "مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل" CUFI، وهي لوبي أسّسه مسيحيون إنجيليون أميركيون يؤيدون "إسرائيل" لأسباب دينيّة (ويمثلون شريحة تشكّل 81% من قاعدة ترمب الانتخابيّة) وهي التي لعبت دوراً في دفع ترمب لنقل السفارة الأميركية إلى القدس.
اقرأ/ي المزيد: السّفارة الأميركية.. نقل على "عجل".
تسبّبت يمينيّة "إيباك" المتزايدة، كما صعود نجم CUFI في خلق أزمة لدى الصهاينة "الليبراليّين". هنا، جاءت "جي ستريت" لتكون بمثابة بيتهم السياسيّ الجديد، والإطار الذي من خلاله ينظّمون أنفسهم وطاقاتهم السياسيّة والماديّة لخدمة "إسرائيل" ومصالحها، وفق رؤيتهم للصهيونيّة، عبر تبني لغةٍ وخطابٍ "ديمقراطيّ" و"مؤيّد للسلام".
مع توسّع الحركة الفلسطينيّة في الولايات المتّحدة، ومع تنامي الوعي عموماً حول أهميّة نبذ العنصريّة والعداء للعرب والمسلمين، ومع تصاعد تحالف ترمب-نتنياهو، لم يعد سهلاً أمام الصهاينة الليبراليين المواءمة بين صهيونيّتهم (العدوانيّة والاستعماريّة والعنصريّة حتماً) في المسألة الفلسطينيّة، وبين مواقفهم الديمقراطيّة في الشؤون الأميركيّة. أمّا "جي ستريت" فهي حركة تؤكّد على أن مواءمة الصّهيونية والليبرالية ممكنة.
الفلسطينيّون غطاءً لدعم "إسرائيل"
تضطلع "جي ستريت" بعملها كمجموعة ضغط عبر كونها واحدة من لجان العمل السياسيّ PAC الناشطة في واشنطن العاصمة، والتي تعمل على جمع تمويل لحملات مرشحي الانتخابات التشريعيّة الأميركيّة. في 2018، أعلنت "جي ستريت" أنّها دعمت 128 مرشحاً فازوا في الانتخابات التشريعيّة الأميركيّة، وقامت بتوزيع 5 مليون دولار على شكل دعمٍ لحملاتهم الانتخابيّة، مما يجعلها "أكبر PAC داعم لإسرائيل". يمنحها ذلك قوةً وتأثيراً جديّاً في السياسة الأميركيّة تسخّره لصالح "إسرائيل"، مثل دعمها لاستمرار الدعم الماليّ الأميركيّ السنويّ لـ"إسرائيل" بقيمة 3.8 مليار دولار لشراء الأسلحة. أما علاقة المنظّمة المُدعاة بالفلسطينيّين، فليست إلا غطاءً سياسيّاً يُكسبها شرعيّةً أمام السّياسيين الأميركيين، بل ويجعلها تقدّم نفسها باعتبارها "حريصةً على تمثيل مطالب الفلسطينيّين".
هكذا مثلاً، تقدّم "جي ستريت" حلّ الدولتين في صُلب أجندتها للمناصرة في الولايات المتحدة. وهكذا أيضاً تُقدّم موقفها الرافض لحقّ اللاجئين بالعودة. يتمثل موقفُ المنظمة في أنّها "تؤمن أنه يمكن حلّ القضية عبر منح الفلسطينيّين الحقّ في العيش في دولة فلسطين [على حدود 67]، ومنح التعويض الماليّ لمن لا يرغب منهم بالعودة". بالنسبة لـ"جي ستريت" فإنّ "حل الدولتين لن يشتمل على العودة الكاملة للاجئين الفلسطينيين إلى إسرائيل". في مساعي تسويق أجندتها، تستشهد "جي ستريت" مثلاً بمقولة الرئيس محمود عباس عام 2012: "من حقّي أن أرى صفد، وليس من حقي أن أعيش فيها. أؤمن أنّ الضّفة الغربيّة وقطاع غزّة هي فلسطين، وأنّ الأجزاء الأخرى هي إسرائيل".
الصهاينة يقرّرون: من هو الفلسطينيّ؟
ترى "جي ستريت" أنّ "إسرائيل" يمكن أن تكون يهوديةً وديموقراطيةً، وتؤكد ضرورة أن تبقى "إسرائيل" دولة ذات أغلبية سكانيّة يهوديّة، أي أنّها تتبنى الخطاب الصّهيونيّ الكلاسيكيّ المؤمن بـ"التفوق" الديموغرافيّ لصالح أغلبية يهودية في "إسرائيل". في الولايات المتحدة التي لا زالت الأقليات فيها، وعلى رأسها الأقلية السوداء، تعاني من عنصرية وإرث إجراميّ يعود لزمن الاستعباد، ولكن لو صرح سياسيّ أبيض يعرّف نفسَه على أنّه ليبرالي بأنّه يؤيد "التفوق" الديموغرافيّ الأبيض على حساب الأميركيين السود والأفارقة، لانتهت وظيفته السياسيّة ولجرى نبذُه اجتماعيّاً، ليس من الليبراليين فقط، بل من المحافظين كذلك. ولكن عندما يتعلق الأمر بفلسطين، يجعل الصهاينة الليبراليون من المقبول الحديث عن الفلسطينيين باعتبارهم "تهديداً ديموغرافيّاً"، بلغةٍ عنصرية، تخفي في طياتها كمّاً كبيراً من العنف الذي تمارسه "إسرائيل" منذ نشأتها لكي تحافظ على "تفوق" اليهود الديموغرافي في الأراضي التي تحتلها.
لقد أنجزت "إسرائيل" التفوق الديموغرافيّ الحالي عبر تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيّين، وتحويل من تبقى منهم إلى "أقليات" عاشت تحت حكم عسكريّ استمر لعشرين عاماً، ثمّ تحولوا بالتدريج الى "مواطني درجة ثالثة". لاستمرار "إسرائيل"، باعتبارها دولةً ذات أغلبية ديموغرافية يهودية، ثمنٌ مؤلم يدفعه الفلسطينيون في مخيمات اللجوء كلّ يوم؛ ثمنُ حرمان الفلسطينيّ من العودة إلى مدينته وقريته وأرضه، التي حفظت كرامته قروناً، قبل أن يُطرد منها عنوة.
يتغاضى هؤلاء الليبراليون، وهم أكثر من ينظّر عن أهمية تمثيل آمال الناس وطموحاتهم بشكل ديمقراطيّ، عن أن من قَبِلَ بحلّ الدولتين من الفلسطينيين هم قيادة لا تتمتع بالحد الأدنى من الشرعية حتى وإن تمكنت من السيطرة على قسم من الشعب الفلسطينيّ في الضّفة أو غزّة. كما يتغاضى هؤلاء عن أن من يشتري بضاعة حلّ الدولتين من الفلسطينيين ويتاجر بها لا يمثلون أكثر من نصف الشعب الفلسطيني في الشتات.
رغم هذا، تتمسّك "جي ستريت"، وهي تسوّق لنفسها كصاحبة علاقة وتواصل مع الفلسطينيين، تتمسك بالقيادة الفلسطينيّة التي تتمتّع برضى أميركيّ وإسرائيليّ، وتضرب بعرض الحائط كافّة الأصوات الفلسطينيّة التي تقوم في الولايات المتّحدة، والتي يقودها لاجئون فلسطينيّون ينحدرون من عائلات هجّرتها "إسرائيل" من وطنها، في مقابل مهاجمة الأدوات والأساليب النضاليّة التي تختارها الحركة الفلسطينيّة في أميركا.
ضرب المقاطعة
مثلًا، فإن إحدى الانتقادات الجديّة التي يوجهها الفلسطينيون وكثير من حلفائهم في الولايات المتحدة لـ"جي ستريت" يتعلق بالإستراتيجية والأدوات. فبينما ثمة شبه إجماع فلسطينيّ في الولايات المتحدة على تبني حركة المقاطعة BDS كأداة للضغط على "إسرائيل"، ترفض "جي ستريت" الانخراط في حركة المقاطعة، وقد سحبت دعمها من نائبة الكونغرس الوحيدة من أصول فلسطينية، رشيدة طليب، التي أيدّت حركة المقاطعة، وعارضت استمرار الدعم الماليّ لـ"إسرائيل، وأيدت حلّ دولةٍ واحدة في فلسطين التاريخية عوضاً عن حل الدولتين. عمليّاً، يملي صهاينة "جي ستريت" شكل التضامن مع الشعب الفلسطينيّ وهويّة قيادته، ويصب ذلك نهايةً في هدف المنظّمة المعلن: دعم "إسرائيل".
تنكر "جي ستريت" هذا، وتتعامل، هي وغيرها من منظمات الصهيونية الليبرالية، مع الفلسطينيين من منطلقات استشراقيّة تشوبها العنصرية. تتعامل "جي ستريت" مع الفلسطينيين بوصفهم قبيلة، أو مجموعة من القبائل، يكفي أن يُجلب مختارها ليوقع ويفاوض بالنيابة عنها، ويُسوّق ذلك على أنه "باسم الفلسطينيّين"، دون أن يتكلف أحدٌ عبء التفكير فيما إذا كان هذا المختار يمثل بالفعل مواقف شعبه وتطلعاته.
في مقابل ذلك، تستمر "جي ستريت" والتي تأسست قبل 11 عاماً، في العمل على تهميش وطمس آراء ومواقف وتطلعات الفلسطينيّين في الولايات المتحدة، وهم الذين ناضلوا لعقود في وجه التهميش والإقصاء من الحياة السياسية الأميركية، وفي وجه التجاهل الذي تعرضوا له هم وسائر الجاليات الفلسطينيّة بعد كارثة أوسلو. أما الشخصيّات الفلسطينيّة المصرّة على مواصلة المشاركة والتعاون مع "جي ستريت"، فإنّها عدا عن تعاملها مع منظمة صهيونيّة، فإنها كذلك تساهم في ضرب النضال الفلسطينيّ في الولايات المتّحدة.