24 أبريل 2024

شوك السنوار وقُرنْفله

شوك السنوار وقُرنْفله

"هذه ليست قصتي الشخصية، وليست قصة شخص بعينه، رغم أن كل أحداثها حقيقية، كل حدث منها أو كل مجموعة أحداث تخص هذا الفلسطيني أو ذاك. الخيال في هذا العمل فقط في تحويله إلى رواية تدور حول أشخاص محددين ليتحقق لها شكل العمل الروائي وشروطه، وكل ما سوى ذلك حقيقي، عشتُه، وكثير منه سمعتُه من أفواه من عاشوه هم وأهلهم وجيرانهم على مدار عشرات السنوات على أرض فلسطين الحبيبة… أهديه إلى من تعلقت أفئدتهم بأرض الإسراء والمعراج، من المحيط إلى الخليج، بل من المحيط إلى المحيط". 

تقرأ هذه المقدمة اللافتة والمقتضبة، ثم تأخذك عيناك إلى أسفل يسار الصفحة، فتقرأ ما هو لافت أكثر، وما هو أكثر اقتضاباً: يحيى إبراهيم السنوار، سجن بئر السبع، 2004.  

كيف هُرّبت "الشوك والقرنفل"؟

كتب أبو إبراهيم السنوار طوفانه الأدبي "الشوك والقرنفل"، قبل طوفانه العسكري بنحو 19 عاماً. كان حينها في سجن بئر السبع، بينما كانت الانتفاضة الثانية مندلعة في الخارج. في هذا الوقت بالتحديد، خيّط أبو إبراهيم تاريخ القضية الفلسطينية، بمساريها؛ المقاومة والعمالة، ثمّ وقف عند انتفاضة الأقصى بنهاية مفتوحة، لكن لها احتمال واحد عنده، شهدناه بعد نحو عقدين من الزمن. 

لعل اختياره "الشوك" و"القرنفل" كاسمٍ للرواية، راجع إلى رمزية كلّ منهما، ونابع من الحسّ الأدبي الذي يستقرّ في قلب الرجل. فالسنوار وإن كان قائداً سياسياً أو عسكرياً، فهو أيضاً حاصل على شهادة البكالوريوس في اللغة العربية وآدابها من الجامعة الإسلامية في غزة. ولزهرة القرنفل الجميلة طاقة نارية تبعث على الحياة، وهي من الزهور التي اشتهرت زراعتها في قطاع غزة. وأما الشوك، فيحمل دلالة المصابرة والمجالدة على ظروف الحياة الفلسطينية الصعبة. وما بين الواقع المتمثّل بالسجن والحياة تحت الاحتلال، والمأمول الذي قد يشبه القرنفل، مسافة جاءت الرواية لتعبّر عنها وترسم ملامحها. 

لم يكن السنوار في ذلك استثناءً، فالأسير عادة يكتب ما يريد قوله من تجارب سياسية وعسكرية، مع ما يلفّها من عاطفة وتأملات، من خلال عمل أدبي، وهو ما يعرف بـ "أدب السجون". يمسك الأسير قلمه بالخفاء، ويُخفي الأوراق التي كتب عليها، كما لو كان يخفي مطارداً. ثمّ فإن صعوبة تحصيل وسائل الكتابة شيء، وحماية هذه الوسائل والمولود الذي تعدّه، من المصادرة، شيء آخر. فإذا وقعت أوراق الرواية بيد وحدات القمع الإسرائيلية، فإنها تهوي بظلمة إضافية تصاحبها سلسلة من جلسات التحقيق من إدارة السجن، وغالباً ما يكون مصيرها النهائي الإتلاف. 

لذا، تُهرّب الرواية في عملية تحرير شاقّة. ويجري تهريبها بعدة وسائل، أبرزها الكبسولات، التي يبتلعها الأسير المنويّ الإفراج عنه قريباً، بعد أن تفرّغ الرواية -بخطّ شديد الصغر- على ورقٍ خاص يطوى داخلها، وهي بحجم كبسولة الدواء. وقد يترافق مع ذلك، نقل الرواية شفهياً بواسطة الهواتف المهرّبة، لتكتمل عملية تحرر النص الذي يسبق كاتبه.

الكبسولات التي يستخدمها الأسرى في تهريب ما يكتبونه داخل سجون الاحتلال من كتب وروايات، وأحياناً رسائل سرية لذويهم أو فصائلهم.

من سقفٍ يدلِف

أما الذين هرّبهم السنوار من بئر السبع، فهم عائلة من مخيم الشاطئ في قطاع غزة، بطلها فتى يُدعى إبراهيم الصالح. 

تبدأ الرواية، بمشهد العائلة تعيش في المخيم ظروفاً خشنة، فنتيجة لليلةٍ ماطرة من عام 1967، يتسرب الماء من سقف الغرفة القرميدي التي تقطن فيها العائلة، فيسارع الوالدان -في كلّ مرة تمطر فيها- إلى وضع الأواني لتجتمع فيها قطرات الماء. في مثل هذه الظروف، يولد إبراهيم الذي سرعان ما يستشهد والده خلال حرب النكسة. لاحقاً، تتزوّج والدته، التي تتركه وهو طفل للعيش مع عائلة عمه. 

وفي تدرجٍ سريع للأحداث، تسرد الرواية أولى مشاهد سيطرة "إسرائيل" على قطاع غزة، وما رافقها من عملية كي للوعي، مارسها الاحتلال على الفلسطينيين بفتح خطوط تشغيل لهم في المستوطنات والداخل المحتل. غير أن التطوّر في الرواية، يبدأ من اللحظة التي يشبّ فيها إبراهيم، الذي تعلّم في مدارس "وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين - الأونروا"، إذ يتعلّق قلبه بالمسجد كمكانٍ لتشكيل الشخصية. 

ينشط إبراهيم في الحركة الإسلامية، كما ويشارك في انتفاضة الحجارة عام 1987، ثمّ لاحقاً يشهد وشخوص الرواية، المرحلة التي جرت فيها تصفية الانتفاضة والتنازل عن منجزاتها، بتوقيع "اتفاق أوسلو" وقدوم السلطة الفلسطينية عام 1994، وما رافقها من سجال طويل حول "عملية السلام مع إسرائيل"، وصولاً إلى تفجّر أحداث الرواية في انتفاضة الأقصى عام 2000، والتي انخرط فيها إبراهيم عسكرياً إلى أن استُشهد.

هكذا، جعل أبو إبراهيم السنوار، الذي ولد بداية الستينيّات، بطلَ الرواية فتىً ولد في الفترة ذاتها. وفي الوقت نفسه، حمّل البطل اسمَ نجله إبراهيم، ربّما في كناية على دور الجيل القادم في استكمال طريق المقاومة.

بين إبراهيم ويحيى 

في الرواية، ينقل يحيى السنوار رؤيته ورؤية حركته "حماس" في المقاومة، من اتخاذ المواقف في الحياة اليومية وحتى "طريق الرشّاش" كما أسماه عبد العزيز الرنتيسي، عبر شخصيّة بطل الرواية إبراهيم الصالح. إبراهيم ذلك الشاب الذي رفض بشكل  قاطع العمل في الداخل المحتل، في حين كان هذا النوع من العمل هو الأكثر شيوعاً عند الفلسطينيين، تحديداً في سنوات السبعينات ومطلع الثمانينات. وكانت هذه المواجهة لأساليب التعايش والسلام الاقتصادي مع الاحتلال، بالرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة لإبراهيم. 

كما كان ابن "الجامعة الإسلامية" وأحد أبرز وجوه العمل الطلابي فيها، يحيى السنوار، معنيّاً بأن يكون بطله إبراهيم طالباً في الجامعة ذاتها، إذ آثرها على الدراسة في أي جامعةٍ أخرى، محليّة كانت أم أجنبية. وتعتبر الجامعة الإسلامية من أوائل الجامعات، التي شكّل فيها الإسلاميون الثقلَ الأكبر، ومارسوا فيها نشاطهم الطلابي والنقابي، والتعبئة الجماهيرية في مواجهة الاحتلال، وقد شهدت منذ تأسيسها وإلى اليوم، استهدافات مباشرة ومكثّفة من الاحتلال. 

يقول ابن عمّ إبراهيم، راوي قصّته: "عادت أمي تضغط على إبراهيم ليخرج إلى الأردن، حيث يقدم أوراقه للسفارة السعودية أو أي سفارة عربية خليجية أخرى، حيث الأرجح أنه سيتم قبوله للوظيفة هناك، فيأخذ زوجته ويخرج للعمل بعيداً عن المشاكل والمخاطر التي تكمن له في كل زقاق في غزة، فكان يبتسم ويرد عليها أن ذلك مستحيل، فلن يغادر غزة ولو عاش فيها على الخبز وحده".

الشوك ثمّ الشوك.. ثمّ القرنفل

يتحدث السنوار في شقّ من الرواية، عن بعض تفاصيل عمل "جهاز مجد"، الذي ركّز جهده في ملاحقة العملاء وتصفيتهم في قطاع غزة. وفي هذه الجزئية تحديداً، يوثّق السنوار شيئاً من تجربته الشخصية بطريقةٍ غير مباشرة، كونه أحد مؤسسي هذا الجهاز.

وبالعموم، فقد تنوّع مسرح أحداث الرواية على امتداد الوطن السليب، من قطاع غزة وحتى الضفة الغربية، تحديداً مدينتي القدس والخليل، إذ شكّلت الأخيرة بواكير العمل العسكري لـ "كتائب عز الدين القسام" مطلع التسعينات.

هذا عن المكان، أما عن الزمن، فيمكن قراءة الرواية بتوزيعها على ثلاث حقب زمنية متسلسلة. الأولى؛ زمن نكسة عام 1967 وما تلاها وترتّب عليها من أحداث، إلى قُبيل اندلاع انتفاضة الحجارة عام 1987، وهي المرحلة التي تدرّج فيها البطل من الطفولة إلى الصبا فالشباب، وخلالها تشكّل وعيه الوطني الإسلامي مقابل عملية كي الوعي التي كان يشنّها الاحتلال على سكان قطاع غزة، عبر إغراقهم بالمخدرات والمفسدات والإختراق من الداخل عن طريق العملاء. 

والحقبة الثانية هي مرحلة الانتفاضة الأولى إلى توقيع "اتفاق أوسلو" وتأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994، وسيطرتها على قطاع غزة. وفي هذه الحقبة برع الكاتب بتصوير أحداث الانتفاضة ومجرياتها وانطلاق حركة حماس، وبواكير علمها العسكري، ثم توقيع أوسلو وانقسام الشارع الفلسطيني بين مؤيدٍ ومعارض للاتفاقية. 

أما الحقبة الثالثة، التي تقف الرواية عندها، فهي انفجار الانتفاضة الثانية (الأقصى) عام 2000. يصور السنوار هذه المرحلة وكأنها مرحلة نفض الغبار والانفجار في وجه الاحتلال، فيبرز خلالها إبراهيم بطل الرواية كقائدٍ عسكريٍّ مُبتكراً أساليب جديدة في القتال، أهمّها عملية التصنيع العسكري. ثمّ تكلّل هذه الرحلة الطويلة في الرواية بالشهادة، في نهايةٍ مفتوحة تترك للقارئ أن يحلّق بخياله، انطلاقاً من واقع المقاومة اليوم وما آلت إليه.. وقد آلت اليوم إلى "طوفان الأقصى".