17 فبراير 2023

الذاكرة المخسوفة.. فلسطين وزلزال سنة 1837

<strong>الذاكرة المخسوفة.. فلسطين وزلزال سنة 1837</strong>

"لم يسبق لبحر حيفا أن فقد زُرقة لونهِ وملوحة مائه إلا في يوم الزلزال"، هذا ما قصّه أهالي حيفا على صاحبة كتاب "الحياة في بيوت فلسطين" ماري روجرز يوم أن نزلت في المدينة، أثناء رحلتها إلى فلسطين ما بين سنوات 1855 - 1859.

كان ذلك سنة 1837 عندما هزّ الزلزالُ البلاد، ظلّت حيفا خاليةً من أهلها طوال ثلاثة أيام على التوالي، فمنهم من فرّ للخلاء ومنهم من لاذ بالكهوف التي كانت تنهش سفوح الكرمل. وبحسب رواية الفارين من حيفا، فإنَّ السماء قد تحوّل لونها للسواد في رابعة النهار، بينما اصطبغ البحر بلونٍ أحمرٍ غريب، لا بل تحولت "ميته لدم" يؤكد آخرون. لكن الحيفاويون جميعاً اتفقوا على أنَّ مياه البحر قد فقدت ملوحتها، وصارت عذبةً رغم عذاب قلوب الناس وفزعهم.1روجرز، ماري إليزا، الحياة في بيوت فلسطين رحلات ماري إليزا روجرز في فلسطين وداخليتها (1855-1859)، ترجمة: جمال أبو غيدا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ص 367. 

بينما أهالي مدينة عكا، لم يذكروا شيئاً عن تحوّل لون ماء البحر وملوحته. لا بل على العكس، فقد لاذ العكيون بالبحر نفسه، فمنهم من ظل في قوارب صيد السمك داخل ميناء البحر بعيداً عن أرض المدينة، في اعتقادٍ كان لديهم، بأنّ الهزة لا تعني انهيار بيوتهم فوق رؤوسهم فقط، إنما انشقاق الأرض وابتلاعها لما فوقها، فلاذوا بالبحر. وذلك أسوة بأهالي مدينة صور اللبنانية التي جاء الزلزال على معظم بيوتها، ففرّ أهلها الناجون منه إلى البحر.2العابدي، محمود، صفد في التاريخ، جمعية عمال المطابع التعاونية، عمان 1977، ص102.

وإذا كان زلزال سنة 1927 هو نكبة نابلس، فإنّ زلزال سنة 1837 هو نكبة صفد، وعُرف في الجليل باسم  "زلزال صفد". كان ذلك في أول يوم من سنة 1837، ففي ظلّ زعازع الريح وزمهريرها في الجليل هز زلزالٌ البلاد، فظلت ذِكراهُ تهزّ ذاكرة أهالي البلاد حتى القرن العشرين.

زلزال "خِربت يم" 

ظلَّ صاحب كتاب "الأرض والكتاب" الدكتور طومسون الشاهد الوحيد الذي دوّن شهادته عن أثر الزلزال في مدينة صفد، يوم أن مرّ بها بعد يومين من حدوثه. وما وصفه طومسون عمّا حل بصفد والصفديين رغم جبروت بنائها وأبنائها، يشير إلى أنّ معظم بيوت المدينة قد تداعت وسقطت على رؤوس ساكنيها، خصوصاً حارة اليهود في المدينة، التي لم يبقَ بيتٌ قائماً فيها. 3طومسون، جون، الأرض والكتاب. نقلاً عن : العابدي، محمود، صفد في التاريخ، ص 103..

ومرد حجم ذلك الدمار الذي وقع على صفد بحسب طومسون، ليس فقط لقرب المدينة من موقع الهزة التي كان مركزها في قرية الجش، إنما أيضاً للشكل الذي كان عليه معمار بيوت المدينة، المبنية على سفح جبل، "بحيث أن أسطحة البيوت السفلى، كانت ممرات وطرقات للبيوت التي هي أعلى منها، ولّما زلزلت الأرض زلزالها انهدمت البيوت العليا على البيوت التي أسفل منها فهدمتها، وهذه على التي أوطى منها. وما كاد الأحياء يصحون من هول الموقف العظيم، حتى خيّم الظلام على البلد. فالذين لم يُقتلوا حالاً ماتوا قبل إنقاذهم، والسعداء منهم أُنقِذوا تحت الردم بعد ستة أو سبعة أيام".4المرجع السابق، ص 103. 

مشهد عام لبعض منازل طبريا على أطراف البحيرة، وتظهر في الصورة بقايا سور وبناء روماني، 1862. (Getty Images).

أما طبرية، التي كانت ثاني أكبر مدينة منكوبة بعد صفد، فقد وصل عدد ضحايا الزلزال فيها إلى ما يقارب الـ600 بين قتيل وجريح. بينما الناجون من الجرحى نُقِلوا إلى حمامات طبريا، حيث ساعد الماء الكبريتي الساخن فيها على علاج المُصابين وشفائهم.5طومسون، المرجع السابق، ص 104.

في كتابه "تاريخ الناصرة" يقول القس أسعد منصور بأنّ ضرر الزلزال على الناصرة كان أقلّ رغم انهيار بعضٍ من واجهات الأديرة فيها. لكن لم يبق بيت قائم في قرية المشهد الواقعة على أمد أربعة أميال شمالي الناصرة. وما بين الناصرة والمشهد، قرية الرينة التي بعد أن هز الزلال معظم بيوتها، فرّ بعض من أهلها إلى "مزبلة" - مكب النفايات - القرية. وبعد ساعات من مكوثهم هناك، انشقت الأرض وابتلعتهم.6منصور، القس أسعد، المرجع السابق، ص 118. وعلى ما يتذكره القس، فإنّ التعبير الاجتماعي الذي ظل يتداوله أهالي الناصرة وقراها عن الهزة هو "خربت يم" أو "سنة ما خربت يم"، بمعنى "خربت كلياً".7المرجع السابق، ص 118.

الجش وجيشان الذاكرة

رغم أنّ زلزال سنة 1837 قد هزّ البلاد في ظلّ الحكم المصريّ وظُلمهِ، خصوصاً بعد قمعه ثورة أهالي جبال فلسطين عليه في سنة 1834، إلا أنّ ذاكرة الرعب عن تلك السنين ظلّت متصلة بالـ"هزة". ففي قرية الجشّ، التي كانت من أكثر قرى البلاد قرباً من بؤرة الزلزال ومركزه، ظلّت ذاكرة أهلها مرعوبة حتى آخر مُعمِّرٍ عاش يوم الهزّة فيها. بحسب الرواية التي تناقلها الجشيون عن أجدادهم، فقد ظن أهالي القرية حين اهتزت الأرض من تحتهم وتداعت بيوتهم من فوقهم، بأنّه يوم الهول وأن القيامة قد قامت8خلايلي، خليل، تاريخ جسكالا، دراسة جغرافية تاريخية بشرية اجتماعية وفلكلورية، الحلبي للصناعة والطباعة، دمشق 2001، ص 139.  

ما يزالُ يُطلق الباقون من أهالي الجش إلى يومنا على أحد مواقع القرية من شرقها اسم "المخسوفة"، وذلك منذ أن خسف الزلزال ذلك الموقع.9العباسي، مصطفى، الجش تاريخ قرية جليلية، طبع تحت رعاية مجلس الجش المحلي، 2010، ص 97. كما أنّ البركة التي تُسمّى "بركة الجش" لم تكن موجودة قبل الزلزال، فهي ناتجةٌ بحسب ما يذكر صاحب كتاب تاريخ جسكالا عن "فراغٍ من جراء بركان انفجر في نفس يوم الزلزال على مقربة كيلو مترين إلى الجنوب الشرقي من القرية تاركاً مكانه بركة كبيرة صارت تُعرف ببركة الجش".10خلايلي، خليل، المرجع السابق، ص 140. 

غير أنَّ فاجعة الجشّ الحقيقية كانت في كنيسة القرية التي تداعت على من فيها من مسيحييها بعد أن لاذوا بها حين أحسّوا بالهزة. مات كل من كان داخل كنيسة الجشّ، ولم ينجُ من الكارثة غير كاهنها وطفل من عائلة شقيّر الجشية، لأنّ أمّه كانت قد وضعته في جرن المعمودية في أحد جدران الكنيسة.11العباسي، مصطفى، المرجع السابق، ص 98. ينقل المؤرخ الفلسطيني مصطفى العباسي عن المعمّر يوسف شكري جبران "أبو رفعت" نقلاً عمّن سبقه من المعمّرين أنّ ضحايا الكنيسة قد دُفنوا داخل إحدى المُغر، في قبرٍ جماعيّ في السفح الغربيّ للقرية على مقربةٍ من بيوت آل نجم.12المرجع السابق، ص100. 

لاجئون من النساء والأطفال والرجال بالقرب من شجرة اتخذوها مأوىْ مؤقتاً، بالقرب من أريحا، وذلك بعد الزلزال الذي ضرب فلسطين عام 1927. (Getty Images).

لقد فرّ مسيحيو الجش من اهتزاز بيوتهم وتداعيها إلى كنيستهم أملاً في النجاة، دون أن يعرفوا أنّ في ملاذهم كان حتفهم. فيما يذكر طومسون بأنّ قرية رميش اللبنانية التي مرّ بها في اليوم التالي على الزلزال في طريقه من لبنان إلى الجليل، قد نجا أهلها بعد أن لاذوا بكنيسة قريتهم التي كان سقفها منخفضاً. بينما كنيسة الجش كان سقفها مرتفعاً يقول طومسون، ممّا تسبّب بموت من فيها حين سقط على رؤوسهم. 

خوّت قرية الجشّ بعد الزلزال على عروشها، بعد أن هَجَرَ الناجون جِشّهم، أما عن عدد الضحايا القتلى، فكان بالعشرات. إلا أن لنجاة كاهن الجٍشّ ومعه طفل صغير، وحيدين من بين ضحايا الكنيسة، دلالة رمزية ظلت تَجيشُ في ذاكرة الجشيين. فنجاة الكاهن تعني نجاة لذاكرة القرية عن الحدث، بينما رمزية نجاة الأمل في حياة متجددة لأهالي القرية تكثفت بنجاة طفل كنيستهم. 

لم يبق من أثر زلزال سنة 1837 غير خسوفٍ من ذاكرةٍ خسفها فعل دوران الزمن وزلزاله. ونقش باقٍ إلى يومنا هذا، منقوش في لوح حجريّ على أحد جدران كنيسة القرية، التي اُعيد بناؤها بعد الزلزال بعام. يؤرخ نص النقش للذاكرة المخسوفة بأبياتٍ من الشعر يقول مطلعها: 

تجدد بناء هذا المقام 
بعد الخراب والانهدام
من زلزلة قد أزعجت 
كل البرايا والأنام....