14 مارس 2022

زمن النهر: مخّاضاتٌ ومُهرّبون

زمن النهر: مخّاضاتٌ ومُهرّبون

لا سبيلَ للوصول إلى ضفاف نهر الأردن، فبيننا وبينه أسلاكٌ و"أشياك"، وحقلٌ ملغومٌ ودروبٌ مقطوعةٌ منذ احتلال الضفّة الغربيّة عام 1967. وقد حُمتُ طَويلاً حَول شارع أريحا - بيسان المُسمّى بشارع 90، عَلَي أجدُ مَدخلاً أبلغ منه مجرى النَّهر، وأشاهد مَخَاضَاتِه ومعابِرِه فما استطعت.1المَخَاضة، وجمعها مَخَاضات، وهي موضع الخوض في الماء، وهو مكان ضحل الماء في وسط النَّهر يخوضه النَّاس مُشاةً بأقدامهم أو رُكوباً على دوابٍّهم ليعبروا للضفّة الأخرى من النَّهر، وبعض الناس يُسميه مذيقة (مذيجة).

كان عليّ أنْ أرتقيَ لرابيةٍ على مرمى حَجرٍ من نهر الشريعة، وأُطلَّ من مُرتفعها مُتأملاً مَجراه بين الكتاير العالية التي أخفت ماءَه -على قلّته- في انحدار الواد المُتّجه نحو البحر الميت.2الكتاير: ما ارتفع، وأَشرف من التلال المُقببة، وأصلها فصيح فالكَتْرُ: في لسان العرب بناءٌ مثل القُبَّة، والكَتْرَةُ: السَّنامُ، وقيل: السنام العظيم شُبّه بالقبة، وقيل: هو أَعلاه، وكذلك هو من الرأْس؛ وفي الصحاح: هو بناء مثل القبة يُشَبَّه السَّنامُ به. ومن هُنا سُمّيت التلالُ المُقبّبة على ضفتي النَّهر بالكُتر أو الكتاير أو الكتّار. لكن لا العينُ المُجرّدةُ ولا عَدسةُ الكاميرا كانت قادرةً على التقاط مجرى النَّهر أو تحديد موضع المَخَاضات، ووحدها شُجيراتٌ خضراء وانحناءةٌ بين التلال المُتعرجة دلّتني على مسار النَّهر. 

مخاضات وقوارب

على طول مجرى نهر الشريعة (الأردن) والمُمتَد بين بحيرة طبريا إلى البحر الميّت كانت هناك عشراتُ الممرّات قليلة منسوب الماء بحيث يستطيع الرجالُ خوضها مشياً بأقدامهم أو ركوباً على الدوابّ. تُعرَف هذه المَمرّات بالمَخَاضات، ويُمكن قطعُها في فصل الصيف دون أن تَبتلَّ الأقدامُ لقلّة جريان الماء في النَّهر. 

المخاضات هي بديلُ العبور عن الجسور والقناطر المبنية فوق النَّهر كجسر دامية، وجسر بنات يعقوب، وجسر الشيخ حسين، وغيرها. تكثُر هذه المَخَاضات عند منحدرات المياه السريعة أو عند السدود المترسبة من الروافد المُندفعة نحو النَّهر. غير أنَّ غالبيتَها كان يتعذر العبور منها بين الضفّتين، بل إنَّ بعضها يُصبح خطراً في فصليّ الشتاء والربيع لسرعة جريان النَّهر وارتفاع منسوب الماء فيه.

وقد ابتدع أهلُ الغور وعابرو النَّهر طُرقاً وأساليبَ كثيرةً لاجتياز المَخَاضات ونقل البضائع، خُصوصاً مع قلّة الجسور أو عند خرابِها وتهدّمها، إذ كان النّاسُ يعبرون إلى المخاضات من بين الشجر الكثيف الذي يُحيطُ بمجرى النَّهر والمعروف بـ"الزور"3الزّور: يسمى الجزء الضيق على جانبي النَّهر والذي تملؤه الأشجارُ الكثيفة في محيط نهر الاردن بـ"الزور"، ولكل زور اسم مثل: زور الخشيبة، زور الشطية، زور الكتباني، زور علان، زور الحميري، زور أبو رفعة. أطلس فلسطين 1917-1966، د. سليمان أبو ستة ص 354-355+ 340.، ويُغامرون بقطع المَخَاضات مشياً على أقدامهم، أو سباحةً. وأحياناً كان يُربط حبلٌ بين الأشجار على طرفي النَّهر، فيمشي النّاسُ مُمسكين به، وبعضهم كان يتعلق بذنب الدابّة ويُمسك بها جيداً كي لا تسحبَهُ مياه النَّهر. وآخرون كانوا يُجهِّزون قِرَباً كبيرة من جلود الحيوانات، ثم ينفخونها، ويربطون البضائع بها لسحبها بالحبل للطرف الآخر من النَّهر.4بالاعتماد على المقابلات الشفوية مع أ.عاهد صالح عبد القادر ناصر (1948-2019)، بتاريخ 2/1/2008، وقد روى ذلك في معرض رواية تجربته في التهريب مع عمّه المرحوم فواز عبد القادر ناصر خلال سنوات 1965-1969. 

بل إنَّ بعضَ البدو كان قد تخصَّص في تقطيع الناس النَّهر، وقد أقاموا بجوار النَّهر لأداء هذه المهمة، وخصوصاً تقطيع القوافل والمسافرين أو تجار الغنم الذين يحتاجون لمن يُعينُهم على حَملها والعبور بها من المَخَاضات مقابل أجرةٍ مُتفقٍ عليها. وكان كذلك لكلِّ قبيلةٍ منطقةُ نفوذٍ على ضفاف النَّهر مُتفق عليها.5بالاعتماد على المقابلات الشفويّة مع الحاج عبد الكريم عبد الحافظ الرحايلة (1937 -2009)، بتاريخ 17/1/2010، ومع الحاج جميل هلال لافي (1929- 2015)، بتاريخ 5/4/2010. 

ومن طرق العبور الأخرى القواربُ الصغيرة التي كانت تُصنَعُ من الخشب وتُسمَّى محليّاً باسم "فلوكة". كانت هذه القوارب تحتاج إلى رخصةٍ رسميّةٍ للعمل حتى لا تتِمُ مُصادرتها، وتُسمّى في السجلات باسم قوارب مُرور شَطّية. 

قارب في نهر الأردن، 1925. (Sepia Times/Universal Images Group)

وقد طالعتُ في سجلات بلدية نابلس وثائقَ وطلباتٍ كثيرة تقدّم بها تُجّارٌ ومزارعون  للحصول على رخصة امتلاك قارب أو فلوكة في نهر الأردن لنقل الخضار والحبوب التي يَصعُبُ نَقلها عبر المَخَاضات، وذلك في نهاية عشرينات القرن الماضي. بل إنَّ بعض الوثائق أشارت لامتلاك البلدية لقارب (قايق) في النَّهر، وكانت البلدية تُشرفُ عليه وتتابع صيانتَه، وتأتي بِمَهرةٍ من مدينة يافا لأجل هذه المهمّة، وكانت أحياناً تُضمِّنه مُقابل مبلغٍ ماليٍّ مقطوع.6سجلات مكتبة بلدية نابلس (مرفق صورة إحدى هذه السجلات).

وكانوا ينقلون عبر قوارب النَّهر الرّكابَ والبضائعَ من قمحٍ وخضارٍ وعنبٍ وزبيبٍ كما تُشير السجلات والوثائق. ومن لا يُريد العبور عبر الفلوكة فعليه أن يقطع المخاضات ويعبر من أقلِّها جرياناً للماء.

اقرؤوا المزيد: "حمزة العقرباوي متجوّلاً في درب السّلطية".

 وخلال سنوات العمل في مهنة التهريب، اتفق المُهَرِّبون على تحديد مواقعَ ونقاطٍ لِتجمُعِهم والتقائِهم وخصوصاً ليلاً، فكان من أشهر هذه المواقع للمُهرِّبين العقاربة (من قرية عقربا) عين كُرزليا شمال قرن سرطبة، وحجر المخروق على مفرق الجفتلك، وبركة أبو الشيخ حسن في منطقة المُسطرة، وكلُّها غرب نهر الأردن في الطريق المعروف بدرب السَّلطية. أما شرق النَّهر فكان اجتماعهم الأساسي تحت شجرة سِدر مُعمِّرة في منطقة "غور كِبِد"، وقد عرفت باسم:  سِدرِة غور كِبِدْ.

نَتّجرُ للحياة ونُغامر لنعيش

لقد قُدَّ الناس في المشاريق من صخور جبالهم الغورية الصلبة، وجُبِلَت طينتُهم من الوهاد الوعرة في الغور الحامي، وصَنعَت منهم الحياةُ القاسية رجالاً لهم صَبرٌ على الشّدة وَجَلد، حتى ضُرِب المثل بهم: "رؤوسهم أقسى من الصَخر الصِن"، وأنهم "في العِناد لا يُغلبون".7مشاريق من مشرق الشمس، وقيل لوقوعها شرق الخط الذي يصل نابلس بالقدس. وتشكل أطرافها الغربية جزءاً من مرتفعات الجبال الوسطى في فلسطين، في حين تُطل أطرافها الشرقية على الأغوار "شفا الغور"، ومن قراها: عقربا، يانون، مجدل بني فضل، اوصرين، دوما، بيتا، قصره، جوريش، قبلان، تلفيت، قريوت، جالود، عورتا،..الخ. لذا تَجِدهم في جبال الغور رُعاة غنم، وفي السهل فلاحي قمح وحنطة، وفي السوق تُجاراً وباعة، وفي النَّهر مُهربين وسَبّاحَة. 

يقول العقاربةُ الذين أصبح التهريبُ عبر نهر الأردن شَغلتهم الشاغلة لأكثر من 50 عاماً، بأنَّهم خاضوا بأقدامهم النَّهر وعبروا بين ضَفتيه مُغامرين يَجرّون دوابهم المُحمَّلة بأثقال بضائعهم طلباً للحياة، وسعياً خلف لُقمتها الهنيّة، وإن كانت لُقمتهم تلك في آخر عهدها قد غُمّست بالدم، وأنه ما دفعهم على المُرّ إلا الأمرّ منه.

دواب تعبر المخاضات عبر نهر الأردن.

وأصلُ كار التهريب في عقربا ومهنته ابتُدع لمّا فرض الاحتلالُ البريطانيُّ ضرائب مرتفعة على كثيرٍ من البضائع، وسَنّ قوانين تتعلق باستيراد وبيع المنتجات، فصارت الأسعارُ في أسواق نابلس والقدس مُرتفعةً عما تُباع به في الأردن مثلاً. دفعت تلك الحال الكثير من الفلسطينيّين للتوجه لشرق الأردن لشراء البضائع التي يحتاجونها، وذلك قبل ترسيم الحدود وفرض الرسوم والجمارك.8بالاعتماد على المقابلة الشفوية مع: نافز ناصر بني جابر (ابو ماهر) مواليد 1938، بتاريخ 15/11/2021، 28/11/2021). 

ولِأنَّ تجارة هذه البضائع كانت تتم بعيداً عن عين الدولة وجماركها، كان على المُهرِّبين العبور عبر مخاضات نهر الأردن لا عن الجسور والمعابر الرسميّة، الأمر الذي احتاج معرفةً بدروب النَّهر والأغوار. ولأجل ذلك كان غالبية المُهرِّبين من البدو أو الفلاحين الذين يقطنون بالغور على مقربةٍ من النَّهر.   

كانت عمليةُ التّهريب تتم بشكلٍ جماعيّ، وتحتاج إلى رَفَق، ومن النادر أن تتم بشكلٍ فرديّ لخطورة الطريق، وظُلمتها في الليل، وللحاجة دائماً لمن يُعين على ردّ الأحمال ورفعها على الدواب في حال سقطت.

وقد سعى بعض مهرة التُجّار والمُهرِّبين العقاربة للشراء والاتجار بالبضائع من سوريا والعراق لا من شرق الأردن فحسب، إذ كانوا يشترون الغنمَ من الشَّام والعجوة من العراق، ويأتون بها إلى فلسطين لُتباع في القدس ونابلس بدرجة أولى.9بالاعتماد على المقابلات الشفوية مع: الحاج عادل عبد العزيز أبو طربوش (1919- 2014) وكان صاحب دكان قديم يبيع هذه البضائع، بتاريخ 14/3/2012، ومع الحاج حسن أحمد أبو ناصر (1919- 2013)، بتاريخ 16/3/2012، ومع الحاج عبد الحميد محمد أبو طربوش (1928-2020)، بتاريخ 1/10/2016.) ومما سَجَّلَتْه الرواياتُ الشفويّة أنَّ الفلاحين من قرى نابلس كانوا يحملون ثمارهم من عنبٍ وتينٍ ونحوه، ويقطعون بها مخاضات النَّهر لبيعها عند البدو شرق الأردن، وأنَّ قرية عقربا كانت تُحمّل 150 بغلاً من العنب لشرق الأردن حتى سُمّيت (عقربا العنب). الأمر الذي يُشير إلى أنَّ التجارة قديماً كانت بين الضفتين مُشرعة الأبواب بلا قيود أو ضرائب كما أصبحت عليه أيام الاحتلال.10عقربا العنب: روى لي الأستاذ محمد خضر ديرية (1948) أنه سمع من والده وكبار السن بأن تلال وجبال عقربا كانت سابقاً مغروسة بأشجار العنب، وأنه كان يُباع أكثره في الأردن، ولكثرة ما كانت تنتج البلدة من العنب سُمّيت: عقربا العنب. 

طريق الموت  

كان التهريب عملاً خطراً ليس لأنه مُلاحقٌ من "الدولة" فحسب، بل لأنَّ عبور النَّهر والمشي بجانب المخاضات خطرٌ في كثيرٍ من الأحيان، فقد تُهاجِمُك الحيواناتُ الضارية والأفاعي والهوام، وطوال الوقت عليك أن تتقي القارص والبرغش وذباب النَّهر شديد الازعاج صيفاً. وقد تخدعك المياهُ وتُغرقك، وذاكرة العقاربة حافلةٌ بحكايا الذين سحبتهم المياهُ أثناء قطعهم المَخَاضات، ولعلَّ آخرهم كان الحاج أسعد بني منيه رحمه الله، وذلك في خمسينات القرن الماضي، ولما عاد جثمانه للقرية جلست النسوة باكيات، وتقول نائحتهن:

يا عيني لِـدّي قِـبـله .. عا درب السلطيه
ما أدري أسعد معاهم .. وإلا أخذته الميه

ونسمع في واحدةٍ من قصائد عازف الربابة الشاعر الضرير أبو عيسى العقرباوي رحمه الله وصفاً لما حدث معه حين سحبه النَّهر عام 1947 أثناء عبوره كتاير أم خشيبة نحو المخاضة، وكان راكباً على فرس ومعه مرافق اسمه أحمد، وأنّ فرسه لم تتركه حتى فزع ثلاثة رجال من عرب عباد فأنقذوه، ومن القصيدة قوله:11قصيدة الموت للشاعر أبو عيسى العقرباوي تُقال باللهجة البدوية معزوفة على الربابة، ولذا قد يجد القارئ بعض الصعوبة في ألفاظها، ومن معاني الكلمات: البحر = نهر الأردن، المذيجة = المكان الضيق وهي المخاضة، صلفين بهوش اللقاء= أشداء في لحظة لقاء الخصوم.

 دَشيت من فوق الكحيله في البحر .. زيدوح حايـر صادفنه رياحي
عند المذيجه شفت انا الموت الحمر .. ريفيجي شاف الموت فط وراحي
ظليت انا وحمراي في وسط البحر .. قلت المنايا قربن واشحاحي
والحمد لله يوم أتاني بالفرج .. جابتني الحمرا بلا  سباحي
جوني ثلاثه من النشامى يركظوا .. أمن بسيطه وصرت انا مرتاحي
عيال من عباد اجوني ينتخوا .. صلفين بهوش اللقا وسلاحي   

كما نجد أخباراً عند رحالة وعابرين مرّوا بنهر الأردن ولاقوا ما لاقوا قبل اجتياز المخاضات، ومن ذلك ما كتبه روبنسون ليز في رحلته عام 1890م: "لقد ضعنا حقاً، واتجهنا نحو النَّهر وقلوبنا تتفطر حزناً وأسى،  لقد سلكنا أي طريق ولو صغير نراه أمامنا، إلى أن ضعنا تحت أشجار الغابة (الزور) التي تحيط بجنبات مجرى النَّهر.. كانت فرسي في المقدمة فإذا بها تغوص في وحل حافة النَّهر إلى ما فوق ركبتيها، بدأ جوادي يغوص ويغوص في الوحل، وهو يُحاول جاهداً في إخراج أيٍ من حوافره ليجد موطئاً جافاً من حوله، ولكن الأرض ناعمة وهشّة.. ومرّت ساعتنا من الإرهاق والازعاج، ونحن بين الأمل لسلامة رواحلنا واليأس بضياعها، ثم مضت بسلام واستطعنا في نهاية المطاف جرّها من المخاضة..".12ما وراء الأردن حياة ومغامرات- روبنسون ليز (تعريب: د. احمد عويدي العبادي) الأهلية للنشر والتوزيع عمان  ط1  2005، ص 95-96.)

لوحة تجسد عبور مخّاضات نهر الأردن.

للشجعان فقط! البارود والدخان

كانت أغلب تجارة المُهربات توفر ما يحتاجه السوق المحليّ من بضائع، وخصوصاً الأقمشة والعجوة والشاي والسكر. لكنها شملت كذلك السّلاح والدخان.

في العام 1925 سنَّت سلطات الاحتلال البريطانيّ في فلسطين قانوناً عُرِف باسم "قانون التبغ". حدّد ذلك القانون شروطَ زراعة التبغ ونقلِه والاتجار به، وأبرزها الحصول على تصريح وإذن رسميّ، مما يعني تجريم أيّ تجارةٍ بالدخان لا تمرّ بالطرق الرسميّة عبر المعابر ودوائر الجمارك. ثمّ صدر قانون التبغ "الهيشي" عام 1933، والذي منع زراعته في كلِّ فلسطين إلا في منطقة بئر السبع. ثمّ جُدّدت هذه القوانين مرةً أخرى في الفترة الأردنيّة عام 1952.

منذ العام 1925 وحتى نهاية الستينيات تقريباً، كان تهريب الدخان أكثر ما يدرّ ربحاً على صاحبه ومُهرّبه. وكان المُهرِّبون يحرصون على أن يكون مع كل تجرة يذهبون بها بعض الدخان والهيشي (الدخان المحليّ)، ليُعدّل ميزانَ الربح مُقارنةً بحجم المخاطر التي تكتنفُ رحلةَ التهريب.13بالاعتماد على مقابلة شفوية مع أ.عاهد صالح عبد القادر ناصر (1948-2019)، بتاريخ 2/1/2008.

اقرؤوا المزيد: "المبرقع اليمانيّ.. ثورةٌ انطلقت من جبال الغور".

أما تجارة السّلاح فكانت تخصصاً لذوي القلوب الشجاعة من المُهرِّبين من أبناء عقربا وبدو الغور. كان هؤلاء يُدركون أنَّ الموتَ شنقاً ينتظرهم في حال وقعوا في قبضة الاحتلال البريطانيّ، أو الموت رمياً بالرصاص على ضفاف النَّهر في حال وقعوا في قبضة الاحتلال الإسرائيليّ بعد الـ1967. 14بالاعتماد على مقابلة شفوية مع:  نافز ناصر بني جابر (مصدر سابق). 

وفي فترة الاحتلال البريطانيّ نُقِلَت الأسلحةُ عبر هؤلاء المُهرّبين من سوريا والأردن إلى فلسطين، وبيعت للثوار خلال سنوات الثورة 1936-1939، وبعض تلك الأسلحة استخدمه المتطوعون في حرب 47-48، ثم عبرت الأسلحة براحتها خلال حكم الأردن للضفّة الغربيّة.15عملت مجموعة من شباب عقربا في الثلاثينات في تجارة السلاح من سوريا وشرق الأردن، وكان منهم الشيخ سعادة حسن ذيب رحمه الله، وقد وثّقت ذلك في كتابي "إطلالة المنبر: سيرة الشيخ سعادة حسن ذيب"، الصادر عن مطبعة الأيام عام 2014.

أما بعد حرب 1967، فيقول كبار السن في عقربا إنّ شباناً جمعوا أسلحةً من معسكرات الجيش العربيّ الأردنيّ في الغور، إذ تعمّد بعضُ الجنود ترك سلاحهم عند معارفهم من أهل قرى مشاريق نابلس، وآخرون اضطروا للتخلي عنها قبل عبور النهر تجنباً لاطلاق النار عليهم من قبل جيش الاحتلال. وخلال الأشهر الأولى من احتلال الضفّة أَقبَل المُهرِّبون على بيع هذه الأسلحة ونقلها للأردن، وذلك بعد أن بدأ الاحتلال بجمعها واعتقال من يجدون عنده أيّة قطعة.

فلسطينيون في طريقهم للأردن يعبرون النهر من فوق جسر اللبني المدمر، خلال أيام حرب عام 1967.  (Photo by Terry Fincher/Getty Images)

حمل الرجال بنادقَهم بمختلف أنواعها، تلك البواريد التي مثّلت لهم رمزَ الرجولة والشجاعة وقطعوا بها النَّهر وباعوها، خشية أن يعثر عليها الاحتلال ويُصادرها. وكان على بعضهم أن يدفع ثمناً باهظاً لإنكاره كل الأدلة التي قُدِّمت لإدانته بامتلاك السلاح، فبعض من اعتقلوا على هذه الخلفية من عقربا خرجوا من السجون مرضى أو على حافة الموت،  نتيجة ما تعرّضوا له من ضربٍ وتعذيب.

لكنَّ الحادثة الأكثر ألماً في عقربا كانت استشهاد الحاج يوسف إبراهيم الجبالي (1926-1968) في سجن نابلس المركزيّ في أبريل/نيسان عام 1968، إذ اعتقله جيش الاحتلال للاشتباه بعلاقته بتهريب مجموعةٍ فدائيّةٍ عبرت نهرَ الأردن، وذلك لما عثروا على بطاقة إحصاء له في مسار الدوريّة المُفترض. يومها سيق الجبالي إلى السجن وبقي فيه إلى أن خرج مقتولاً على يد المُحقِّقين.

وللعمل الفدائيّ قصة..

قصة يوسف الجبالي رحمه الله فتحت البابَ لأبحث عن دور المُهرّبين في العمل الفدائيّ، ليتبيّنَ لي بأن دوريات الأرض المحتلة التي عبرت النَّهر بين 1967-1970م كانت تحتاج إلى أدلاء عارفين بالنَّهر وبدروب الغور. وكان الأنسب لهذه المُهمة والأقدر عليها مُهربو البضائع من قرى مشاريق نابلس، الأمر الذي أحسنت الثورة توظيفه واستغلاله.16بالاعتماد على مقابلة شفوية مع العميد موسى الشيخ أحمد أبو كبر (1947- 2020)، بتاريخ 8/8/2009، وقد اعتقل أثناء مشاركته في دوريّة فدائيّة في الغور عام 1968. 

مجموعة من مقاتلي حركة "فتح" على الطرف الشرقي من نهر الأردن، 1970. (Photo by Fred Ihrt/LightRocket via Getty Images)

وخلال عمليات التهريب للبضائع أو للفدائيين فقدت قرى المشاريق العشرات من أبنائها، إذ قتلهم جيشُ الاحتلال على ضفاف النَّهر وبين الكتاير الغربيّة، وكذا في دروب الغور ومنها درب السلطية. بل وقتل الاحتلال كلَّ من أبصره يقطع النَّهر عائداً إلى أهله قبل أن يُحكِم إغلاق الحدود بالأسلاك والأشياك عام 1970.

بعد سنواتٍ معدودة من احتلال الضفّة الغربيّة انتهى زمن التهريب فعليّاً، وصار العبور منه أكثر صعوبةً أو استحالة، بل إن الوصول لضفاف النَّهر ومجراه صار حِكراً على المُحتل. لكن ذلك لم يخلو من أخبارٍ هنا وهناك لمن حاولوا الهرب عبر النهر، ففي السبعينيات وبداية التسعينيات نجا بعض المطاردين الذين استطاعوا قطع المخاضات واجتياز النهر ونجوا من قبضة الاحتلال. منهم المناضل أبو علاء منصور الذي وثّق تجربته باجتياز نهر الاردن عام 1973 في كتابه "على ضفاف النَّهر"، الصادر عن دار الشروق عام 2014. 

كما أنّ هناك تجربة مهمة لأحد خلايا حركة "حماس" في مشاريق نابلس حيث تمكن المطاردون مهدي خاطر من عقربا، ونديم دوابشة من دوما،  من عبور نهر الأردن ومغادرة فلسطين. ولعل حادثة تسلل الأردنيين خليفة العنوز ومصعب الدعجة خلال معركة "سيف القدس" في مايو/ أيار 2021 أحدث قصص الفدائيين العابرين النهر إلى فلسطين.