3 أبريل 2024

عن صوت القمح المكتوم في الجنوب 

عن صوت القمح المكتوم في الجنوب 

كان "داجون" واحداً من آلهة الكنعانيين، عبدوه على مدار دهرهم عند مجرى نهرهم في الساحل. وربما هو نفسه النهر المعروف بنهر "بعل داجون" أو نهر روبين، جنوبي يافا. أو ربما كان في ثقافتهم لكلِّ نهرٍ "داجونه"، الذي دجّن ماء نهره الحلو بماء البحر المالح فكانت "الميومة"، تلك الطقوس التي كانت تقام على شرف اختلاط الماءين عند مصب كلّ نهرٍ في البحر. 

وبالمناسبة، فإنّ أقرب وأقدم موقعٍٍ لغزّة المدينة من البحر في تاريخها كان على تلٍ اسمه "ميومة"، حيث كان ممرّ ماء وادي غزّة الجاري إلى البحر. لم يحمل "داجون" على أي حال صفاتٍ بحريّة، بقدر ما اعتبره الكنعانيون "مُسيّراً" للأنهار و"ميسّراً" لمجاريها، ومن هنا جاءت عبادته في المناطق الساحليّة والنهريّة معاً.

أُقيمت لـ"داجون" المعابد في مدن فلسطين الكنعانيّة القديمة، غزّة وأشدود وبيسان كذلك. وظلّ يُرمَز له على وجه العملة المعدنيّة الكنعانيّة كرجلٍ ملتحٍ ذي خصلات شعرٍ طويلة، مُمسكاً بيديه سَمكاً، نصفه العلوي بشر، بينما نصفه السُفلي سمكة، ما جعل منه إلهاً يدلّ في اسمِهِ وترميزهِ على "القمح والسمك" معاً.

وقد فسّر أهل التاريخ اسم "داجون" تفسيرين؛ الأول يجعل المعنى قريباً من معنى "القمح أو قربان القمح"، فهو إله غَلة وحصاد الكنعانيين، والثاني، يقرّبه من معنى لفظ "السمك" باللغة الساميّة، على أساس اعتبارِ البعض له إلهاً بحريّاً1ج. كونتنو، الحضارة الفينيقية، ترجمة: محمد عبد الهادي شعيرة، شركة كتب مركز الشرق الأوسط، ص 121.. وفي العبرية، ما زالت كلمة "داغان" تعني الحنطة أو الحبوب عموماً، بينما كلمة "داغ" تعني السمك. 

لم يبق من كل حكاية "داجون" الأسطوريّة في الساحل غير ما تركه ذلك الإله المتروك في اسم واحدةٍ من القرى الفلسطينيّة المنكوبة عام النكبة، هي بيت دجن. يُقال إنّ القرية قامت على أنقاض مدينة "بيت داجون الكنعانية القديمة، حيث بنا الكنعانيون أحد أكبر معابد إله الحَب "داجون" فيها2حمودة، أيمن جابر، لكي لا ننسى بيت دجن يافا، دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، ص 41. وظلَّ ذلك الموقع يحمل اسم داجونه على مدار الحِقب التاريخية إلى ما بعد الفتح العربي – الإسلامي وحتى ولادة بيت دجن العربية التي ورثت الموقع والاسم معاً في التاريخ الحديث.

ظلّت بيت دجن، قرية تطمرُ القمح وذاكرة بذرهِ وذريهِ فيها، في حكايةٍ مردها إلى زمن إله القمح، يشهد عليها جُرن القرية وساحة مطاميرها المَعلَمين الأشهر في تاريخ بيت دجن. إذ يعني "الجرن" البيادر التي كانت تتكوّم فيها غِلال حبوب الدجنيين بعد حصادها، بينما "المطامير" الساحة التي تعوّد الدجنيون على  حفر حفرة كبيرة فيها تُسمى "مطمورة" لخزن قمحهم، وكانت تُغطّى بسعف النخيل والخشب مخزناً إلى حين استخدامه3المرجع السابق، ص 152.

اقرؤوا المزيد: من شعب أبي طالب إلى شعب غزّة.. أين ذهبت نخوة العرب؟

ومع أنّ بيت دجن قرية ساحليّة غير مُشاطئة للبحر ولا أهلها بصيادين، إلا أنّ الملفت فيما نُقل عنهم، بأنهم عندما حفروا آبار ماء شربهم عميقاً في الأرض، زكانوا يستخرجون بذار القمح وحَسك السمك معاً، الأمر الذي كان يُشعل مخيال أهالي القرية الأسطوري، عن حكاية إله قمح سهول البلاد وسمك بحرها داجون من جديد4الزول، حسن، بيت دجن، مقابلة شفوية، موقع فلسطين في الذاكرة: ضمن مشروع تدوين الرواية الشفوية للنكبة الفلسطينية، تاريخ 14/2/2006.. وما بين يافا شمالاً وغزّة جنوباً على سوافي السهل الساحل مقابل البحر، ظلَّ داجون يقسمُ ويُطعمُ من قدور حُبوبِ قمحه وسمك ملحه على مرّ التاريخ.

مزارع فلسطيني يعمل في أرضه في قرية بيت دجن، عام 1910. (مصدر الصورة: موقع فلسطين في الذاكرة)
مزارع فلسطيني يعمل في أرضه في قرية بيت دجن، عام 1910. (مصدر الصورة: موقع فلسطين في الذاكرة)

ليس القمحُ حَباً من حُبوب الأرض، بقدر ما هو نعمة الله على عبده (هبة الله)، ومرجعاً يحلفُ الناس به، ويُعاقبون فيه، ويتصدقون به عنه، وقد غنّوا له القصائد وقصّوا عنه القصص. وقد تنوّع قمح البلاد في أسمائه وأشكاله، منه "النورسي" بحبته الطويلة، ومنه "الحوراني" ذو الحبة القصيرة، أما ذو الحبة الوسطى فكان القمح "البلدي"5دالمان، غوستاف، موسوعة العمل والعادات والتقاليد في فلسطين، ترجمة: محمد أبو زيد، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مجلد 2، ص 288.. كان قمح غزة من النوع النورسي الأفضل نوعاً والأغلى ثمناً، "كف الرحمن" يُقال له وللقمح عموماً. وأهالي ريف غزة قالوا عن القمح "البِر" وهي تسمية بدويّة بالمناسبة للقمح. بينما اللقب الأشهر في مدينة غزة للقمح كان "سِن الجمل".

تحدث أوليا جلبي في رحلته الشهيرة إلى فلسطين، عن غزّة وقمحها الذي قالوا عن حبته أنّها طويلة تميل للبياض في لونها مثل سِن الجمل، ومن هنا كان لقبه6العارف، عارف، تاريخ غزة، ص 181.. وقد نافس قمحُ غزّة الذهب في لونه وثمنه معاً، إلى حد قيل فيه بأنه "قمحٌ تفاخر على الذهب". كانت "صاع الخليل" واحدة من تقاليد الخبز العريقة المتصلة بالقمح المُقدم على شكل صدقة عن محاصيل سهول البلاد ما بين ديار الخليل وغزة وديارها جنوباً، وذلك عن روح النبي إبراهيم الخليل7المبيض، سليم عرفات، غزة وقطاعها: دراسة خلود المكان وحضارة السكان، الهيئة المصرية العامة للكتاب،ص 72..

أما "حبة البَركة" التي ما زالت تجد طريقها إلى قدور طعام مطابخنا، فقد سُميت بالبركة لأنها كانت تزرع في مارس القمح نفسه بغرض طرح البَركة فيه وفي ومحصوله، فضلاً عن حماية القمح من الزؤان (الزيوان). إن المسوح القداسية التي منحتها الشرائع والأعراف للخبز مردها إلى قداسة القمح وقدسيته أولاً.

اقرؤوا المزيد: مطبخ الشمال: الخبيزة أو السلق؟

لم يُسفر القمح عن الخبز وحده في طعام الناس، على الرغم من أساسية الخبز طعاماً، ورمزيته نعمةً. إنما ما لم يعد يعرفه معظم جيلُ اليوم، هو ذلك الأثر الذي كان للقمح في تشكيل مطبخنا الفلسطيني وتحديداً في ساحل البلاد الجنوبي. فالعصيدة والبرغل والسميد وكذلك الفِريك والجريشة كلها على اختلاف درجة جرشها مردها إلى القمح، وأقصى درجات جرش القمح دَقاً ودِقةً تجعله طحيناً ومن هنا فإنّ اسمه دقيق. 

وفي حين اختلف المغاربة والمشارقة العرب فيما بينهم على أصل طبخة "المفتول"، اتفقوا في الأخير على أن مبعث المفتول هو القمح، وليس لأحدٍ غيره فضلٌ فيه. للمفتول تسمياتٌ متعددة منها "المرمعون" و"المغربية" و"الكِسا بر"، غير أنّ أهل الجنوب من بيت دجن إلى غزّة ظلّوا يُطلقوا عليه تسمية الـ"مفتول"، لأنه مشتق من فتل أو لف البرغل بالطحين إلى أن يصير مفتولاً على شكل حباتٍ صغيرة بيضاء اللون، ما يعني أنّه لفٌ للقمح بالقمح. ولذلك أطلقَ عليه أهلُ بيت درّاس، القرية المهجرة مما بات يُعرف بغلاف غزة من شماله الشرقيّ، "كِسا بِر" لأنّهم كسوا البرغل أي البِر بالطحين. (هامش: عمرو، محمد ياسر، قرية بيت دراس، موسوعة القرى الفلسطينية، ص 16.)

تسلّل المفتول إلى مخيال أهالي غزّة وريفها، عبر الأمثال والغناء والقصص والحكايا، وقد تناقلت الحكايات الشعبية أنّ المفتول هو طبق النبي سليمان، إذ أعده له الجنّ ذات ليلة حاف فيه الأرق سليمان النبي كما يُقال8راجع: العقرباوي، حمزة، المفتول: طبخة النبي سليمان، مقالة منشورة على موقع ألترا فلسطين، تاريخ 11/2/2017.

غير أن سياق طبخ المفتول في غزّة وريفها اتخذ مسوحاً اجتماعيّة ذات طقوسٍ رمزيّة، اتصلت بأواصر تراحم الناس وأواصر الدم واللحم ووشائج الرحم في الملمات والمآتم أكثر مما في الأفراح والولائم.

امرأة فلسطينية في أحد حقول القمح على مشارف مدينة غزة في 23 مايو/أيار 2001. (تصوير: سكوت نيلسون/ وكالة فرانس برس)

كان من عادة أهالي ريف غزة في قُراهم قبل أن يُقتلعوا منها عام النكبة، أن يتكافلوا فيما بينهم في الموت والويلات عبر ما يسّر الله والقمح من قدور المفتول في عادةٍ أطلقوا عليها اسم "الخاروجة"، إذ يتكافل أهالي القرية في حالة وفاة أحدهم بإعداد طعامٍ جماعيّ يقدّموه لذوي المتوفى على مدار ثلاثة أيام العزاء أو في آخر يوم9راجع: حبيب الله، علي، المفتول طبق الشهداء قصته وطقوسه في مطبخنا، ضمن: برنامج بودكاست بعنوان: مطبخ تحت الحرب والحصار، موقع عرب 48، ج3. تاريخ 27/3/2024.. إذ لم يكن من طعامٍ يليق بمشهد الحزن والمواساة مثلما كان يليق المفتول. 

لاحقاً مع تحويل أهالي قرى ريف غزة إلى لاجئين في مخيمات هذه الأخيرة، تحول المفتول إلى "طبق الرحمة" على الشهداء، في ظل سيرة شريان الدم المفتوح في غزّة على مدار أكثر من سبعين عاماً، إذ يُقدّم المفتول عن روح الشهيد مطبوخاً ومقروءاً عليه في آخر يوم عزائه أو في يوم أربعينية الشهيد.

حين سرت الهدنة الوحيدة أثناء حرب الإبادة الحالية الدائرة على قطاع غزة في يوم 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2023 الماضي، دعا بعض نازحي شمال غزة في رفح جميع من يعرفونهم على قدورِ طعام أعدوها احتفاءً بذلك. كان الطعام المُعد يومها هو ذلك الذي تعوّد أهالي غزّة الترحم على بعضهم أو التراحم فيما بينهم من خلاله، "المفتول".