21 نوفمبر 2022

ذكر وأنثى و98 آخرون.. ما الذي يقوله العلم؟

ذكر وأنثى و98 آخرون.. ما الذي يقوله العلم؟

يقوم مجتمع "الميم" (LGBTQ+) - كما يسمّي نفسه - على مسلّمة تعدّد الجندر أو ما يسمى بـ"النوع الاجتماعي"، وأن ثمة طيفاً واسعاً من الهويات الجنسيّة لدى البشر، أوصلها بعضهم إلى مئة نوع! فهل لهذا التعدد أساسٌ علميّ يقوم عليه أو نظرٌ عقليٌ يسنده، أم أنّ الأمر لا يعدو أن يكون مجرد دعوى وإيمان أعمى كاعتقاد سطحيّة الأرض ووجود الأطباق الفضائية الطائرة؟ 

أما العقل فقد أحالوه إلى التقاعد منذ أن اتخذوا منهج السفسطة بِنَفيهم الحقائق الخارجيّة، وتعويلهم على الانطباعات والأوهام، فهذا رجلٌ لأنه يقول إنّه رجل، وتلك أنثى لأن خاطراً خطر لها بذلك. وقد تتغير هذه الهويّة وتتعدّد، فيُمسي الشخص أنثى ويصبح ذكراً، ويُضحي لا ذكراً ولا أنثى، وفي الحالات جميعها يجب عليك التسليم بتحقّق تلك الهويات، وتعريفه بمقتضاها، ونداؤه بألفاظ وُضِعَت لها، وإلا فأنت معتلٌّ تعاني من رُهاب "السدوميّة" و"السحاقيّة" وما إليهما. وإذن، فلا سبيل لإثبات التعدد بمنهج عقليّ أو حجة منطقيّة حتى يقرّ الطرف الآخر بوجود الحقائق في الخارج، واعتبارها.

وأما الجواب العلمي: فلا، لا وجود لأساس علمي لتعدّد الجندر، هذا هو الموجز. أما التفصيل، فهو ما فصّلت به المتخصصة في علم الجنس ديبرا سوه Debra Soh كتابها "نهاية الجندر: دحض الخرافات حول الجنس والهوية في مجتمعنا" (2020). تفتح سوه كتابها بتفنيد مقولة الطيف الجندري قائلةً:

"الجنس البيولوجي إما ذكر أو أنثى. وبعكس ما هو شائع، لا يُعرّف الجنس بالكروموسومات أو الأعضاء التناسلية أو الملامح الهرمونية، بل بالأمشاج (gametes)، وهي خلايا تناسلية ناضجة. هناك نوعان فقط من الأمشاج: أمشاج صغيرة تسمى بالحيوانات المنوية التي ينتجها الذكور، وأمشاج كبيرة تسمى بالبويضات وتنتجها الإناث. لا توجد أنواع وسيطة من الأمشاج بين البويضة والحيوانات المنوية. لذلك فإن الجنس ثنائي. وليس طيفاً".

وقد يقرأ أحدهم هذه السطور أعلاه، ويهمس داخل نفسه؛ ولكنّ سيمون دي بوفوار تقول: إنّ الأنوثة لا تولد وإنما تُشكّل [يعني من قبل المجتمع]. وهذه مقولة قد تكون شاعريّة ولها جَرْسٌ في السمع من أديبة فرنسيّة درست الفلسفة في السوربون، ومع احترامنا لشاعريّتها، فإننا نبحث عن مقولات علميّة يمكن فحصها، لا استعارات لغوية. تقول سوه مفندة استعارة دي بوفوار: 

"على غرار الجنس، فإن النوع الاجتماعي - فيما يتعلق بالهوية والتعبير - هو أمر بيولوجي. إنه ليس بنية اجتماعية، ولا ينفصل عن علم التشريح أو التوجه الجنسي... إن كلّ هذه الأشياء مرتبطة إلى حد كبير. إنّ علم الأحياء، وليس المجتمع، هو الذي يحدد نمطنا الجنسيّ، ويحدد الجنس الذي ولدنا عليه، والشركاء الذين ننجذب إليهم جنسياً".

أضف إلى هذا تصريح آخر لعالمة الأحياء والحائزة على جائزة نوبل في الطب كرستيانه نوسلاين فولهارد Christiane Nüsslein-Volhard في مقابلة نشرت في مجلة EMMA الألمانية: "ما تشعر به يمكن أن يتغير بفعل الظروف الاجتماعية والنفسية، لكن لا ينطبق هذا على الجنس البيولوجي. في أي مكان يمارس العلم فيه حقًا، فإن تلك حقيقة محسومة لا جدال فيها"، وتضيف معلقةً على إمكانيّة التحوّل من جنس إلى آخر: "هذا هراء! مجرّد تفكير رغبوي. هناك أشخاص يريدون تغيير جنسهم، لكنهم لا يستطيعون فعل ذلك.. لأن [الجنس] مدمج في كل كروموسوم في جسم الإنسان ويؤثر على نمو كل فرد منذ لحظة الحمل".

هذه هي الحقيقة العلميّة، فما الذي يحصل للمجاهرين بها؟

كاتم العلم

من المفترض أنّ تكون الأكاديميا البيئة الآمنة التي ينبغي أن تُصدّر الحقائق للمجتمع، بعد فحصها عبر مناهجها البحثيّة وطرقها العلميّة، بيد أن سلطان جماعات "المثليّة وأخواتها" صار مؤثراً في قيامها بعملها، وصادّاً لها عن اشتغالها برسالتها. ونورد هنا بعض النماذج للتمثيل لا للحصر.

يعمل جيمس كاسبيان كمعالج نفسيّ للمتحولين جنسياً، ومع تكرّر حالات الندم والرغبة في إجراء عمليات تصحيحيّة لعكس عمليات التحوّل (يزعم كاسبيان أن خمسين متحولاً تواصلوا معه مبدين ندمهم على تحولهم)، بدا له أنه من الضروري استقصاء الأمر أكثر، وتخصيص دراسة أكاديميّة لرصد الظاهرة لتوسيع دائرة البحث بدلاً من الاكتفاء بشريحة زبائنه من المتحولين.

لماذا يندم المتحوّل بعد العملية؟ ولماذا يرغب بالرجوع إلى الهيئة التي وُلد عليها؟ قرّر كاسبيان أن يبحث هذه الأسئلة عبر تقديمه رسالة ماجستير في جامعة "باث سبا" البريطانيّة، التي وافقت عام 2015 على المقترح كموضوع بحثي. لكنّ الهيئة الأخلاقيّة لدى الجامعة رفضت قبول البحث خوفاً من مجتمع "الميم" وعنونت رفضها "بأن الموضوع يفتقد للكياسة السياسيّة".

لم يكن من أغراض البحث فرض أيَّ قيود ضد حريّة الأشخاص في التحوّل، أو التعبير عن رغباتهم الجنسيّة أياً كانت. ما كان يسعى إليه البحث هو استكشاف مسألة يقود إليها الفضولُ العلميّ البحت: ما الذي يدفع المتحوّل جنسياً أن يعبر النهر مرتين؟ يقول ميروسلاف جوريفيتش، وهو جراح متخصص في عمليات تغيير الجنس من جامعة بلغراد: "هذا موضوع جديد تماماً، وأنا واثق من أن لدينا جماعة ممن تحوّلوا ثم أبدوا ندماً. يتعين علينا البحث في هذا الأمر أكثر فأكثر بهدف واحد فقط؛ هو منع حدوث أي خطأ، ومراقبة المتقدمين قبل إجراء العمليات الجراحية لهم". 

ويقول والت هاير، وهو عميل لدى كاسبيان أجرى عمليّة تحوّل ليصبح امرأة ثم ندم وعاد بعملية أخرى إلى الذكورة: "أعتقد بأن ثمة حاجة إلى مزيد من البحث في "إبعاد" الأشخاص المتحولين جنسياً"، ويضيف: "هذه المسألة لدى المتحولين جنسياً مبنية على المشاعر. لا يوجد دليل موضوعي على الإطلاق للتحوّل... ولا يوجد دليل طبي... كما لا يوجد دليل على أن أي شخص يستفيد من الجراحة على المدى الطويل". 

بعد قرار الجامعة برفض مشروع البحث، خاصم كاسبيان الجامعة إلى محكمة العدل الملكيّة عام 2019، ولكن المحكمة رفضت النظر في القضيّة لأسباب "إجرائيّة". فلجأ إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. وأحسب أن القارئ العزيز قد حكم في القضية، وعرف مصيرها. 

في ألمانيا أيضاً، كان من المقرّر أن تُلقي الباحثة وطالبة الدكتوراه ماري لويز فولبرخت محاضرة عن علم الأحياء في الكتب المدرسيّة في "جامعة هومبولت". تستهدف المحاضرة جمهوراً من الشباب وغير المختصين، ولكن مجموعة من المتحوّلين الجنسيين، قوامها مئة شخص، حالوا دون قيام المحاضرة، وأجبروا الجامعة على إلغائها لأن المحاضِرة تعتقد "بأن ثمة جنسين للإنسان فقط، ذكر وأنثى". صرّحت بعدها فولبرخت لوسيلة إعلام: "كانت محاضرتي تهدف إلى شرح الفرق بين الجنس والنوع الاجتماعي، لأنهما في الواقع نفس الكلمة في اللغة الألمانية (Geschlecht)".

ملهاة الأبحاث

يدفعنا ذلك إلى طرح أسئلة من نوع: ما الذي سيحصل للنزاهة العلمية والمناهج البحثيّة في ظل هذا التضييق على الحياد العلمي، وبسط مصفاة الرقيب لنخل كل ما لا يناسب أمزجة الجماعات الفكريّة المتسلّطة؟ وإن كان كذلك، فما هي المقولات البديلة التي سيُروّج لها؟ وهل ستضطر الأكاديما إلى مواكبة المقولات الغالبة، والسير في موكب الموضات "الفكريّة" رفقة الكلمات "الطنانة" مثل "عدم المساواة" و"أقليّة مضطهدة" و"النسويّة" و"الأنماط الجنسيّة"؟

دونك نموذج كاشف يساعدك على تخيّل مآلات هذا التطرّف الفكري. 

مع تجنّب الأكاديميين لمجالات بحثية معينة نتيجةً للضغوط الفكريّة، فإنّ "المعرفة" التي تُنتج حالياً هي في معظمها معرفة "موجّهة"، تُرسّخ خلاصاتٍ متحيّزة وغير منطقية. لم يعد مجال الدراسات الإنسانيّة يقوم على البحث عن الحقائق، بقدر بحثه عن تعزيز الموضات الفكريّة ودعم محكيّات ثقافيّة معيّنة. وأصبحت مجالات مثل: "الدراسات الثقافية" و"دراسات الهوية" و"النظرية النقدية" نِقاط بيع بالتجزئة لمخازن الفكر الغالبة. 

عام 2017، قام بيتر بوغوسيون (أستاذ فلسفة) وجيمس ليندسي (أستاذ رياضيات) وهيلين بلكروز (أستاذة في النقد الثقافي) بتجربة جريئة لاختبار "مصداقية" المجلات العلميّة في المجالات المذكورة أعلاه. قرّر الثلاثيّ أن يقدموا أبحاثاً بأسماء وهميّة، تحتوي على مقولات غير أخلاقيّة وفاحشة وسفسطيّة لا يمكن قياسها ولا فحصها علمياً. ثم احتالوا لإثباتها بطريقة الكتابة الأكاديميّة، وتزيين مقولاتها بمزاج المظلوميّة، وإرسالها إلى المجلات العلميّة المحكمة الرائدة في مجالها. ووضعوا لأنفسهم ثلاث قواعد أساسيّة: أولها التركيز على المجلات المحكمّة، وثانيها عدم الدفع مقابل نشر أي ورقة بحثيّة، وثالثها إذا ارتاب أحد المحكّمين أو المحرّرين في البحث وسأل عن حقيقته فسوف يقرّون بكونه خدعة. 

استمرّت التجربة لعام واحد، كتب فيها الفريق عشرين ورقةً هرطقيّة، وكانت النتائج مذهلة:

حازت جميع الأوراق أعلاه على القبول والنشر، وحازت ورقة "حدائق الكلاب وثقافة الاغتصاب" على شهادة تقدير من مجلة "الجندر، والمكان، والثقافة" وهي مجلة رائدة في النسوية. في المحصّلة، قُبلت سبعة أبحاث، نُشرت منها أربعة، وثلاثة تنتظر النشر، وسبعة كانت لا تزال تحت المراجعة والتحكيم (اثنان كانا يُحضّران للقبول والنشر) حين أعلن الفريق توقفه عن العمل والكشف عن مشروعه. حصل الفريق على أربع دعوات لتحكيم أبحاث أكاديميّة نظراً "لتفوقه العلمي الذي أظهره في أبحاثه"!

بعد اطلاعه على التجربة التي خاضها الفريق، غرّد الأستاذ في علم النفس ستيفن بينكر قائلاً: "هل توجد أي فكرة غريبة لدرجة ألا تنشر في مجلات نظرية النقد والهوية وما بعد الحداثة؟".

من المدهش حقاً، كيف تتحول مقولة فكريّة رخوة مثل "تعدّد الطيف الجندري" لا تثبُت لدى الحجاج المنطقي والفحص العلمي، إلى أداة قمع وترهيب. لقد أصبحت أعلامهم معانقة لأعلام أقوى حكومات العالم عبر التاريخ، لتجتمع لدى هذه الفكرة من أسباب القوّة ما لم يتوفّر لغيرها، من سلطان الشهوات ونصرة القوّات.