12 سبتمبر 2018

على طريقِ سفر

الرياضة في مخيّمات الأردن

الرياضة في مخيّمات الأردن

في خرائط غوغل الجويّة للأردن، تظهر مساحة خضراء وسطَ بيوت مخيّم "الحصن" للاجئين الفلسطينيين، المتراصّة على مساحة تبلغ كيلومتراً مربّعاً واحداً لا غير. أُفسحت هذه المساحة الخضراء وسط كثافة المخيّم، لتفتح متنفّساً للّاعبين الصغار ولمدرّبيهم، تماماً كما فتحت الرياضة متنفّساً لأبناء المخيّم منذ "تأسيسه" عام 1968.

مثلَ سائر المخيّمات، بدأ النشاط الرياضيّ في مخيّم الحصن في مراكز الشباب الاجتماعيّة التي افتُتحت مع إنشاء المخيّمات. شملَ المجال الرياضيّ كرة القدم والكرة الطائرة وكرة السلّة، كما الملاكمة والمصارعة، ورفع الأثقال وكمال الأجسام وتنس الطاولة.

تراجعت هذه المجالات مع الوقت، ليتبقّى منها في هذه الأيّام كرة القدم والكرة الطائرة والملاكمة، وهي المجالات التي برزت فيها أندية المخيّمات بحصولها على بطولات مثل "بطولة كرة الطائرة" الأردنيّة، وتشكيل لاعبيها لغالبيّة منتخب الأردن في المنافسات العربيّة والدوليّة في المجالات الثلاث. كما تنظّم الأندية الفلسطينيّة في المخيّمات بطولات عربيّة ودوليّة، مثل "بطولة الكرمل" للكرة الطائرة بتنظيم "نادي الكرمل"، و"بطولة القائد" الدوليّة للملاكمة التي ينظّمها نادي "مخيّم البقعة".

تلاميذ كشك.. نادي الوحدات بديلاً عن منع الأحزاب

"اِبنِ ملعباً جديداً، ولن تحتاج إلى بناء سجنٍ أو مستشفى جديد" يقول خضر صوّان، أحد الإداريين القدامى لـ"نادي الوحدات" لكرة القدم. بدأت كرة القدم في "الوحدات" منذ تأسيس النادي عام 1955، وخرجت من مدارس "الأنوروا"، إذ وُجد جيل من مدرسي التربية الرياضيّة ممّن ركّزوا على هذه اللعبة. كان لمدرّسي التربية البدنيّة في مدارس "الأونروا" دورٌ هامٌّ في اكتشاف المواهب، من بينهم مصطفى شباب، ومصطفى محمد علي، وعمر سعادة، وحامد إسماعيل وغيرهم. أمّا المدرّس الأكثر تأثيراً في هذا المشهد فقد كان المدرّب المصريّ فتحي كشك، الذي أقام حينها في الأردن للتدريس في "الكليّة العربيّة"، وعمل متطوّعاً كمدربٍ لفريق كرة قدم النادي عام 1975. إذ يقول صوّان أن بصمة كشك كانت واضحة وأنّه "نقل التجربة المصريّة للوحدات في حين لم تحظ أندية المخيّمات الأخرى بمدربين عرب في تلك الأيّام".

في العام ذاته، صعد فريق الوحدات إلى الدرجة الأولى (الممتازة)، بعد أن منعته السلطات الأردنيّة من المشاركة في الدوري الأردنيّ حتّى عام 1972، ولم يكن حتى ذلك العام يشارك إلّا في بطولات المخيّمات التي تنظّمها "الأونروا". حصل الوحدات على أوّل بطولةٍ للدوريّ عام 1980 ليحصل حتّى اليوم على 16 بطولة.

بالنسبة لرئيس نادي "شباب العودة" في "مخيّم الزرقاء"، محمد مجدلاوي، فإن "الأندية الرياضيّة تضمّنت لجاناً تطوّعيّة اجتماعيّة وثقافيّة ورياضيّة، استقطبت هذه اللجان عدداً كبيراً من الشباب، قدّمت لهم المعونة والرعاية، وتحوّلت إلى حاضنة ورافد للرياضة. ملأت هذه اللجان الفراغ الذي خلّفه منع الأحزاب السياسيّة في الأردن، وذلك حتى عام 1989".

الكرة الطائرة.. رياضة في الضّيق

منذ نشوء "مخيّم الحصن"، مُورست لعبة الكرة الطائرة بشكلٍ غير تنافسيّ داخل المخيّم، وذلك حتى انضمام "نادي الكرمل" للكرة الطائرة إلى الاتحاد الأردنيّ للّعبة عام 1974. بعد عامين، وصل النادي للتنافس في الدرجة الأولى، وذلك بعد خوضه للمباريات التصنيفيّة. بحسب رئيس "نادي الكرمل"، راكان محمود، فإن تركيز المخيّمات على لعبة الكرة الطائرة يعود إلى أنّ "هذه اللعبة لا تحتاج مساحات شاسعة ليمارسها اللاعبون مقارنةً بمساحات كرة القدم مثلاً. بسبب عدم توفّر هذه المساحات في المخيّمات، يتوجّه الشباب للاهتمام بالكرة الطائرة". بحسب قوانين اللعبتين، يبلغ طول ملعب الكرة الطائرة 18 متراً وعرضه 9 أمتار، فيما يبلغ طول ملعب كرة القدم بين 100 و110 متراً، وعرضه من 65 إلى 75 متراً.

لم يُغادر فريق الكرة الطائرة لـ"نادي الكرمل" الدرجة الأولى منذ انضم للاتّحاد الأردنيّ رغم أنّه لم يمتلك صالة رياضيّة للتدريب قبل عام 2012. نافس النادي خلال هذه السنوات على البطولة، وحلَّ وصيفاً في مرّاتٍ كثيرة، وفي المركز الثالث والرابع في أغلب مشاركاته. غير أنَّ الفريق بين الأعوام 1972 و1989 رفد المنتخب الأردنيّ، وأنديةً أخرى بلاعبين استثنائيين، لعل أبرزهم "صقر الطائرة الأردنيّة" اللاعب محمود صقر، الذي لعب 120 مباراة مع المنتخب الأردنيّ. كما فاز النادي ببطولة الدوري عاميّ 2012 و2013 إضافةً إلى كأس "السوبر" موسم 2013/2014.

في آخر منافسةٍ على بطولة الدوري الأردنيّ للكرة الطائرة 2018، جمع مربّع الذهب فريق الوحدات الذي حاز على البطولة (للمرّة الـ14)، وفي المركز الثالث حلّ نادي العودة (مخيم الزرقاء، وفي رصيده 4 بطولات)، ويليه في المركز الرابع نادي الكرمل (مخيم الحصن، بطولتان). هذا العام، لم يُحالف الحظّ نادي شباب الحسين الذي يمثل مخيّم الحسين (وفي رصيده 14 لقباً). كما لم يُحالف الحظّ نادي البقعة بالفوز ولو ببطولة واحدةٍ في تاريخه، رغم حلوله في المركز الثاني أكثر من 10 مرّات. حسناً، لم تكن لعبة الطائرة المفضلة لشباب مخيّم البقعة، إنما كانت "لعبة الجوع".

الملاكمة.. أبطال الجوع

لم يخرج لقب الملاكمة في الأردن من مخيّم البقعة منذ تأسيس الاتّحاد الأردنيّ للملاكمة عام 1971. علماً بأنّ لعبة الملاكمة بدأت في المخيّم عام 1968، أي قبل تأسيس الاتّحاد الأردنيّ بثلاث سنوات. أسّس مجال الملاكمة في مخيّم البقعة باجس سعادة، وبرز الجيل الأوّل من ملاكمي المخيّم بشكلٍ استثنائيّ في بطولات مراكز الشباب الاجتماعيّة في مخيّمات الأردن والضفة الغربيّة. حافظ هذا الجيل على اللعبة وقدّم كل ما يملك من خبرات ومؤهّلات، على قِلّتها، للجيل الثاني تطوعاً وبلا مقابل. ورغم هذه الإنجازات، إلا أن نادي الملاكمة في المخيّم لا زال يفتقر حتّى اليوم إلى صالة تدريبٍ ثابتة.

عمر خميس، رئيس نادي البقعة وأحد ملاكمي الجيل الأوّل، والذي شارك في عدد من بطولات الملاكمة ومنها بطولة 1975، يربط بين تطوّر اللعبة في المخيّم والظروف الاقتصاديّة التي عاشها الفلسطينيّون فيه: "ليست الملاكمة في كيفيّة تسديد اللكمات للخصم، لكنها قبل ذلك في كيفيّة الحفاظ على الوزن، وكيف تجتهد لإنقاصه عند الحاجة، وفي أقل مدّة زمنيّة ممكنة". تبلغ أوزان الملاكمة  في القانون الدوليّ للّعبة 12 وزناً، ويتم وزن الملاكم في كلِّ يوم لعب، ليؤكد بذلك بأن وزنه الفعلي لم يَزِد عن الحدّ المطلوب لفئته.

يقول خميس: "لعبة الملاكمة لعبة الجوع، يُحافظ اللاعب على وزنه ليلتزم بفئات الأوزان. يتطلّب الأمر من بعض اللاعبين خفض أوزانهم ليلعبوا في بطولات لأوزان محدّدة، ويجعلهم هذا مضطرّين للامتناع عن الأكل يومين أو أكثر، أو الاكتفاء بالمأكولات الخفيفة والـ"شوربات". لذا، فإنّ هذه لعبة الفقراء والكادحين، الأقدر على الصبر وتحمّل هذه التجهيزات البدنيّة، وليست لعبة المرفّهين".

كذلك، يربط خميس بين الملاكمة والتشغيل: "دخل الملاكمة شباب من المخيّم بهدف الحصول على وظيفة في قوّات الدرك أو في "أمانة عمّان". من يبرع في الملاكمة يجري توظيفه في هذه الأجهزة ليمثّلها في رياضة الملاكمة". بحسب خميس، فإن عدداً من ملاكمي مخيّم البقعة الحاصلين على تصنيفٍ دوليّ ومشاركات في الألعاب الأولمبيّة وبطولات عربيّة، يعملون في مجال النظافة في "أمانة عمّان"، أو في مهنٍ أخرى برواتب لا تتعدّى 500 دولار شهرياً.

في هذا السياق، فإن أبرز القصص التي ارتبطت بملاكمي مخيّم البقعة هي قصّة محمّد أبو خديجة. وكان أبو خديجة، وهو بطل الأردن في الملاكمة من 1987 حتّى 2003، قد اضطرّ للعمل حارساً ليلياً في واحدة من حانات عمّان، ليؤمّن قوت عائلته. وكان ذلك بالموازاة مع تجهيزه للألعاب الأولمبيّة في أثينا عام 2004. في إحدى الليالي، وإثر شجارٍ نشب بين بعض روّاد الحانة وأبو خديجة، قتل أبو خديجة الشابين زايد عبد الله عثمان، ورواحة أبو خنية بعد اعتدائهما عليه بالطعن. أطلقت المحكمة سراح أبو خديجة بعد عام ونيّف، بعد أن عُدّلت تهمته إلى جُنحة القتل القصد المقرون بالعذر المخفّف.

أخيراً، خلال كتابة هذه المادّة لم يعرف الكثير من اللاعبين أو لم يجد الكثير من اللاعبين أو المهتمين بالشأن الرياضيّ تفسيراتٍ منطقيّة لحفاظ بعض أنديّة المخميّات على تطورها في رياضة محدّدة دون غيرها من الرياضات. مثل سرّ الحفاظ على روح البطل عند ملاكمي البقعة، إذ تحسّن مثلاً وضع الرياضيين الماديّ ولو بشكل نسبيّ، ولم يعد الجوع وتحمله إكسيراً لتفوّق هؤلاء الملاكمين. لم تعد خطط المدرب المصريّ كشك تُطبّق أو تُمارس في نادي الوحدات حديثاً مع دخول التجارة إلى الرياضة واللعب على طريقة المحترفين، وجلب لاعبين من خارج المخيّم ومن خارج البلد مقابل أموال طائلة.

مثل الرياضة، كان اللاوعيّ وعدم وجود تفسيرات منطقيّة تقود تفاصيل الكثير من حياة اللاجئين، يروي أحد أعضاء نادي الكرمل هذه الفكرة عن لاوعيّ اللاجئ: بنظرة بسيطة على توزيع المخيمّات جغرافيّاً في الأردنّ سنجد التالي: كل مخيّم أنشئ على طريق سفرٍ: سكّة حديد قطار (مخيّم الزرقاء) أو بجانب طريق دوليّ (مخيّم الحصن) أو بجانب مطار (مخيّم ماركا). لاوعيٌّ يُخبر أنَّ الإقامة كانت مؤقتة، لذا وُجد المخيّم بجانب طريقٍ للسفر.