18 فبراير 2025

خلية جابر.. التسلل الأول الذي أرق "إسرائيل"

خلية جابر.. التسلل الأول الذي أرق "إسرائيل"

لم تنل نكبة عام 1948 من غزة، التي ظلت مدينة عربية وباتت تحت إدارة الحكم المصري، لكن غزة كانت أكثر من طاولتها النكبة، خاصة بعد أن اقتُلعت قرى ومضارب ريفها من حولها إليها على شكل مخيمات خنقت المدينة إلى حد ابتلاعها. فالمدينة تعرضت لهجمة ديمغرافية غير مسبوقة في تاريخ المنطقة، إذ حلَّ نحو 220 ألف نازح، مقتلعين من بيوتهم وحقولهم ومراعيهم على مدينة لم يكن يتجاوز تعداد سكانها 80 ألف نفرٍ في حينه. ولا نظن أن مدينة فلسطينية من مدن الضفة الغربية، ولا عربية من دول التماس مع فلسطين، قد عرفت ما عرفته غزة. 

لم يفقد الغزيون مدينتهم، لكنهم فقدوا أراضيهم التي تملّكوها في شرق وشمال خط الهدنة من ريف المدينة المغتصب، مما أفقد كثيرين منهم موارد رزقهم ومصادره، الأمر الذي بحسب عبد الرحمن عوض الله في مذكراته "من فيض الذاكرة" جعل حال بعض سكان المدينة الأصليين، سواءً مع حال معظم اللاجئين إليها. 

اقرؤوا المزيد: غزة ما قبل هاشم: من إرث أسمائها تحت سمائها

إن الاقتلاع والتشريد، وما ترتب عليهما من فاقة وتجويع، هما ما دفعا إلى ما عُرف بالـ "تسلل"، أول ممارسة للعودة سبقت تبلور الوعي باللجوء وخطاب حق العودة منذ صيف سنة النكبة نفسها. في حين اعتبرت الدولة العبرية الناشئة على أنقاض ديار المتسللين - "مستننيم" بالعبرية - إلى ديارهم، ظاهرة أمنية استدعت منظومة من الحيطة والضبط الحدوديين إلى يوم الصهاينة هذا. 

كان التسلل في أصله وتحديداً من غزة إلى ريفها المسلوب، محنة اللاجئ الفلسطيني وحنينه لمحصول قمحه المنهوب، إلى الحقول في البداية، ثم إلى صوامع الحَب ومطامير القمح المطمور أمام عتبات البيوت المهجرة. في رحلة ظلت ليلية التوقيت، محفوفة بالرصاص مقابل القمح، رسم فيها المتسللون خرائط للعودة، سار عليها الفدائيون لاحقاً في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. وكان أول من نبّه من غزة إلى مطابقة ممارسة التسلل بفعل الفداء هو "جابر النبّاهين".

أبعد من القمح

تعود عائلة النباهين في أصولها إلى أحفاد بني نبهان من بطون طي، الذين نزلوا ديار السبع وجنوب غزة في ظل الحكم العثماني للبلاد. وظلَّ ضريح الشيخ نبهان قائماً مقامه إلى الجنوب مما عُرف بالـ "داروم" حتى ما قبل الحرب الأخيرة، وهو ضريح يضم رفات نبهان، شيخ من شيوخ النبّاهين، وبجواره كانت تقع مدرسة "الحناجرة"، وهذه الأخيرة قبيلة ظلَّ النباهون يعودون إليها بنسبهم. والشهيد خالد النبهان الذي اشتهر في حرب الإبادة الحالية الدائرة على القطاع بمقولة "روح الروح" لحفيدته في يوم استشهادها يعود في نسبه إلى عشيرة النبّاهين نفسها، التي كان جابر المتسلل أول وأشهر اسم من بين أبنائها يلمع فوق رمال غزة وتحت سمائها ما بعد نكبة العشيرة باقتلاعها من مضاربها وأراضيها ما بين غزة وديار السبع عام 1948. 

في مخيم البريج، المقام في مطلع خمسينيات القرن الماضي على أراض تعود ملكيتها لقبيلة الحناجرة في جنوب غزة، حطت عصا نزوح بعض أبناء النبّاهين. ومن مخيم البريج، ثابر جابر مثل آلاف النازحين الفلسطينيين المقتلعين من قرى ومضارب ريف غزة على التسلل ليلاً عبر السياج الفاصل الذي أقامه الصهاينة ما بين غزة وريفها المُحتل، من أجل جمع ما تيسر له من سنابل محصول قمح تركه أهله في أرضه، بعد أن حالت أحداث صيف نكبة 48 دون لمها وحزمها إلى البيادر كما كانوا يفعلون في كل عام. لم يقتصر التسلل على عام النكبة، بل استمر لأعوامٍ إضافية حتى عقد الخمسينيات، إذ داوم بعض اللاجئين في قطاع غزة على التسلل إلى أراضيهم من أجل فلاحتها من جديد. 

اقرؤوا المزيد: عن صوت القمح المكتوم في الجنوب 

وبحسب شهادة الطبيب المصري أحمد شوقي الفنجري في مذكراته "إسرائيل كما عرفتها"، الذي وصل من مصر إلى غزة التي غدت قطاعاً مصرياً في نفس يوم قصف الصهاينة لبيت جابر النبّاهين وقتلهم أفراد أسرته في مخيم البريج في كانون الثاني عام 1953، فإن جابر كان قد امتهن رعي الغنم قبل النكبة. وفي أحداث النكبة "انتزع اليهود أرضه وسرقوا أغنامه وطردوه إلى خارج الحدود حيث أصبح يعيش في خيمة ممزقة تحت رحمة وصدقات هيئة الأمم المتحدة ووكالة غوث اللاجئين"، حسبما يقول الطبيب الفنجري. 

من خيمة بدوية متأصلة في مضرب أرضها ومفتوحة مضافتها على أصول كرم الضيافة العربية، إلى خيمة ممزقة من خيام التشرد واللجوء تحت رحمة معونات وكالة الغوث، ظلَّ يعزُ على جابر غُلب نزعه من أرضه وقطيعه وسلبه دياره التي ظلت على مرأى منه كلما مد بصره عبر الأسلاك الشائكة صباحا. آثر جابر مخاطر تسلل طول الليل على طابور صباح المعونات الطويل، الأمر الذي جعل منه أخطر متسلل إلى دياره أقضّ مضاجع اليهود، إذ بات تسلل جابر بالنسبة إليه جبراً لخاطره وخاطر دياره المسلوبة، فيه ما هو أبعد من القمح. 

خرائط دروب الفدائيين

صمم الصهاينة على قتل جابر، وذلك بعد أن نفدت كل وسائل ردعه عن تسلله، فنصبوا له الكمائن في غير مكان، وزرعوا في طريقه الألغام حتى في عرائش العنب. غير أن جابر النبّاهين ظلَّ عند اسمه متنبهاً بحكم فراسته البدوية، لكل ما كان يُدبره الصهاينة له إلى حدٍّ كان يفكك فيه الألغام ليُعيد زرعها في طريقهم. 

ومما يروى أن جابر، كان يفكك ألغام الصهاينة المزروعة على طول خط الأسلاك الشائكة، ويعود بها إلى خيمته في مخيم البريج ليصنع منها هدايا زينة للأطفال أو منافض للسجائر، ويقول الطبيب الفنجري في مذكراته، إنه ظل يحتفظ بمنفضة سجائر حملها معه من غزة إلى مصر، كان قد أهداه إياها جابر النبّاهين نفسه. لم يكن جابر يرى نفسه إلا مجرد متسلل متحايل على جيش الاحتلال وأسلاكه، إلى أن قرر الصهاينة قتله في خيمته التي قصفوها في ليلة ماطرة من شتاء كانون الثاني/ يناير عام 1953، جاءت قذيفة الاحتلال على زوجة جابر وأطفاله الثلاثة، وقتلتهم جميعاً في خيمتهم، لكن جابر لم يكن فيها ليلتها.

كان قصف خيمة جابر وقتل عائلته نقطة تحول، حولت النبّاهين من متسلل إلى فدائي يبحث عن متسللين مثله ليكونوا فدائيين معه، وقد شكّل جابر النبّاهين أول خلية فدائية في جنوب قطاع غزة عام 1953 عُرفت بـ "خلية جابر". هاجمت خلية جابر معسكرات جيش الاحتلال ومستوطنات الصهاينة المحيطة بجنوب قطاع غزة، إلى حد لم يعد يجرؤ معه المستوطنون على النوم ليلاً. كانت خلية جابر تنشط في عملها الفدائي ليلاً، بينما غزة المدينة والمخيمات كان يحجُ أهلها نهاراً إلى شارع عمر المختار، ليضج الشارع احتجاجاً على مخططات ترحيل لاجئي غزة إلى صحراء سيناء، وقد أشار الشاعر الغزي معين بسيسو إلى تلك الأيام في مذكراته "دفاتر فلسطين". 

اقرؤوا المزيد: عسقلان: بلد المرابطين

خصص الصهاينة قوة عسكرية، مهمتها تعقب خلية جابر جنوبي القطاع، وقد اشتبكت مع الخلية في غير وقعة، وذلك إلى أن أوقع الصهاينة بجابر وخليته في شتاء عام 1954، بعد أن مكّن طين القطاع الموحل الصهاينة من تعقب أثر جابر وخليته، فدارت معركة جرى فيها اشتباك أسفر عن استشهاد جابر الذي لم يترك رفاقه الفدائيون أرض المعركة قبل حمل جثمانه معهم إلى مخيم البريج في القطاع. 

يقول أحمد شوقي الفنجري مستحضراً في مذكراته ذاكرة ذلك اليوم الغزي: "يومئذ رأيت أعظم جنازة عملت لشهيد... فقد ودعته غزة كلها على وقع طلقات البنادق وزغاريد البدو نساءً ورجالاً... حتى أمه كانت هي الأخرى تزغرد لأن ولدها مات ميتة الرجال والأبطال… والشهداء".

تظلُّ حكاية جابر النباهين وخليته على ضياعها من ذاكرة غزة والفلسطينيين عموماً، تنبهنا كيف تسلل العمل الفدائي الفلسطيني في قطاع غزة مما يُعرف بعالم "التسلل". التسلل الذي أنجبت مسالك رحلة طلب القمح فيه ليلاً خرائط دروب الفدائيين. ما زال الغزيون قادرين على التسلل من فوق رمل القطاع وتحته، تحايلاً وتمرداً على حصارهم، في محاولة ما انفكت عن إجبار العالم وتنبيهه إلى إرادة بدأها جابر النبّاهين. 



19 سبتمبر 2022
الإكراه على دين الليبراليّة

في أحد كتبه الشيّقة؛ "نقد الحقوق"، يُشير الفيلسوف الألماني كريستوفر مينكه إلى تناقض الليبرالية الجوهريّ، فهي إذ تستمدّ قيمتها الأساسية…