14 أغسطس 2023

موسوعة حيفا الكرمليّة.. مدينةٌ بثلاثةِ وجوه

<strong>موسوعة حيفا الكرمليّة.. مدينةٌ بثلاثةِ وجوه</strong>

 حظيت موسوعة "يافا الجميلة" التي ألّفها علي حسن البوّاب باهتمامٍ فلسطينيّ أكثر مما حظيت به شقيقتُها موسوعة "حيفا الكرمليّة". فقد أنجز البوّاب الأولى في سنة 2002 وكانت في دائرة الاهتمام لدى الباحثين والدارسين والقرّاء الفلسطينيّين عموماً، ثمّ كانت موسوعة "حيفا الكرمليّة" في سنة 2009، والتي تبيّن لنا أنّها كانت أقلّ حظوةً واهتماماً عند القارئ الفلسطينيّ من موسوعة يافا. 

هذا ما دفعنا للكتابة عنها هنا، فحيفا الكرمليّة لا تقلّ عن يافا الجميلة موسوعيةً وأهميةً، ولا نبالغ إذا قلنا بأنَّ موسوعة حيفا الكرملية تفوق يافا الجميلة في زخم المعلومات وتنوّعها، خصوصاً أنّ حيفا كانت أكثر تنوعاً من يافا لناحية التشكيل الجغرافيّ، ما بين البحر وجبال الكرمل واتصالها بمرج ابن عامر.

مع العلم بأنّ يافا كانت مدينةً أكثر عراقةً وأصالةً لناحية دورها في التاريخ الحديث في تشكيل الهويّة الفلسطينيّة على ساحل المتوسط، مقارنةً بحيفا المدينة التي ظلّت بلدةً صغيرةً إلى أن تحوّلت إلى مدينةٍ مرفئيّة صناعيّة في عشرينيات القرن الماضي مع الاستعمار البريطانيّ للبلاد. وهذا يفسّر لنا بدوره السببَ وراء الأهمّيّة التي حظيت بها موسوعة يافا الجميلة أكثر مما حظيت به موسوعة حيفا الكرمليّة.

اقرؤوا المزيد: "يافا تصنعُ مدفعين".

جاءت الموسوعة بعنوان: "حيفا الكرمليّة: حيفا وقضاؤها 1750-1948" من جزئين. يقع الجزء الأول في قسمين، ويتضمن القسم الأول المتصل بـ"النبذة التاريخيّة" ثمانية أبواب (فصول). بينما يتضمن القسم الثاني من الجزء الأول اثني عشر باباً أو فصلاً. أما الجزء الثاني من الموسوعة، فهو أيضا من قسمين، يتضمن القسم الأول ستة عشر باباً، فيما القسم الثاني مكوّن من بابين (فصلين) مطولين.

في منهجيّة المؤلف

لم يترك البوّاب أية شاردة ولا واردة متصلة بمدينة حيفا إلا وأشار لها في أبواب جزئي موسوعته، للحدّ الذي يصعب على القارئ الإحاطة بالموسوعة لزخم المعلومات والمعطيات المذكورة فيها. والأهم أنَّ هذه الموسوعة ليست تأريخاً لحيفا المدينة، بقدر ما هي توثيقٌ لذاكرة حيفا المكان والفضاء بما يشمل قرى وخِرب ريفها على تنوّعه الجغرافيّ، والذي يتوزّع ما بين الساحل على سيف البحر، وسفوح جبال الكرمل وقممها، وكذلك القرى والخِرب التي تفترش سهولَ حيفا المتصلة بمرج ابن عامر من شرق المدينة وجنوبها. 

اقرؤوا المزيد: "العمار في خِرب فلسطين".

والجدير بالذكر هو تلك المنهجيّة العلميّة التي تميّز بها صاحبُ الموسوعة رغم أنّه ليس مؤرخاً ولا مختصّاً في البحث التاريخيّ. ومع ذلك استطاع اتباع المنهج التأريخيّ وبكل موضوعيّةٍ ممكنة، مع انحيازه التامّ لعروبة مدينته وإرثها الحضاريّ الإسلاميّ ضدّ محاولات تهويدها ثمّ صهينتها منذ مطلع القرن الماضي. 

والذي نقصده بالمنهجيّة العلميّة هو حرص المؤلف ومثابرته على اقتفاء المصادر والمراجع التاريخيّة على تنوّعها، خصوصاً في الباب الأول الذي تضمّن نبذةً مطوّلةً عن تاريخ حيفا منذ قديم الأزمنة، إذ داوم البوّاب على اعتماد مصادر تاريخيّة مختلفة تناسب كل مرحلة من مراحل تاريخ المدينة، ومن أهمّها المصادر العربيّة والإسلاميّة على اختلافها، إضافةً إلى كتب الرحلات الأجنبيّة ومذكرات الرحالة الأجانب الذين زاروا حيفا عبر تاريخها القديم والحديث، مما وفّر معلوماتٍ قيّمة بعضها لم يأتِ على ذكرها أيُّ باحثٍ أو مؤرِّخٍ أرّخ لمدينة حيفا وقضائها من قبل. 

أحد الأسواق في مدينة حيفا، في الفترة ما بين (1920-1930). (Getty Images).
أحد الأسواق في مدينة حيفا، في الفترة ما بين (1920-1930). (Getty Images).

ما بين حيفا العتيقة والقديمة 

إنّ أوّل ما يلفت نظر القارئ عند قراءته موسوعة "حيفا الكرمليّة" هو الشكل الذي صارت عليه حيفا بعد النكبة في مخيّلتنا نحن الفلسطينيين، علماً بأنّ الموسوعة تؤرِّخ للمدينة وقضائها قبل النكبة. والمقصود هو أنّ الموسوعة تقدّم سرداً تاريخيّاً لتاريخ المدينة وإرثها الذي جرى إسقاطه حديثاً من ذاكرة المدينة بعد تهويدها منذ قبل نكبة 1948 ثم احتلالها وصهينتها بعد ذلك التاريخ. 

على سبيل المثال لنأخذ الفرق بين حيفا العتيقة وحيفا القديمة. للوهلة الأولى يبدو لنا أنّ حيفا القديمة هي نفسها حيفا العتيقة، لكن على حسن البوّاب يُنبّهنا في موسوعته إلى غير ذلك دون أن يقول ذلك مباشرةً. إنّ "حيفا القديمة" هو تعبير نطلقه اليوم نحن الفلسطينيون على موقع حيفا العربيّة ما قبل النكبة، وتحديداً حيفا التي بناها ظاهر العمر في أواسط القرن الثامن عشر (1761م). وقد جاءت جرافات الصهاينة على قسمٍ كبيرٍ من معالم وأحياء حيفا تلك، والباقي منها هو ما نُطلَق عليه اليوم حيفا القديمة، غير أنّ ظاهر العمر أطلق عليها عند بنائها اسم "العمارة" أي العمارة الجديدة أو حيفا الجديدة، فما نعرفه نحن اليوم بحيفا القديمة كانت بمثابة حيفا الجديدة (العمارة) عند بنائها. 

أما تسمية العمارة أي حيفا الجديدة فقد أطلقها عليها ظاهر العمر لأنها حلّت بديلاً عن حيفا العتيقة التي كانت في غير موقع حيفا الحديثة، فقد أمر ظاهر العمر جنوده بهدم حيفا العتيقة سنة 1761م التي كانت أكثر شاطئية وقرباً من البحر وبعداً عن جبل الكرمل في حينه. كانت حيفا العتيقة تقوم على موقع "تل السمك" وبسبب هجمات قراصنة مالطة المتكررة على ساحل البلاد وحيفا خصوصاً، وَجَد ظاهر العمر أنّ الحل الأمنيّ الأنسب هو في هدمها وإعادة بنائها بعيداً عن الشاطئ عند سفح جبل الكرمل. 

بقايا فسيفساء في موقع كنيسة من القرن السادس الميلادي، في موقع تل السمك في حيفا. (Shutterstock).
بقايا فسيفساء في موقع كنيسة من القرن السادس الميلادي، في موقع تل السمك في حيفا. (Shutterstock).

ومما يذكره البوّاب بحسب المصادر بأن ظاهر العمر فعل ذلك دون علم سكان حيفا العتيقة حتى، كما لم يُشع خبر هدمه حيفا العتيقة كي لا يتمكن أعداؤه من إمكانية التمسك بالمكان المهجور. كما بعثر جنود ظاهر حجارة البيوت المهدمة في مرفأ المدينة القديم بغرض تعطيله ولئلا يعود القراصنة إليه مجدداً. إضافةً إلى أنَّ ظاهر العمر أراد بحيفا الجديدة "العمارة" في موقعها الجديد ما بين البحر والجبل أن تكون خطَّ دفاعٍ أوّل عن عكا عاصمته من جهتها الجنوبيّة.

بالتالي، فإنّ حيفا العتيقة هي حيفا البحر - الشاطئية، بينما العمارة هي حيفا الجبل - الكرمليّة، والتي صارت في ذاكرتنا اليوم تُعرف بـ"القديمة". وحيفا اليوم هي امتداد لحيفا ظاهر العمر "العمارة"، لأنّ حيفا العمارة كانت قطعاً مع حيفا العتيقة، ليس على المستوى الجغرافيّ فحسب، إنما هي قطيعة على كافة المستويات، السكانيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والمعماريّة كذلك. تماماً كما هي حيفا ما بعد النكبة التي تمثّل قطيعةً عمّا قبلها، على مستوياتٍ مختلفة.

اقرؤوا المزيد: "سرقات لا تخطر بالبال: سجاد وفساتين وأطقم فناجين".

لم ترجع حيفا لتكون شاطئيةً إلا مع عشرينيات القرن العشرين، وذلك مع الاستعمار البريطاني للبلاد، إذ كانت إعادة بناء مرفأ حيفا وتطويره إلى ميناءٍ بمثابة إحياءٍ لحيفا الشاطئية. ما يعني أنّ إعادة تقريب حيفا من البحر بعد الحرب العالميّة الأولى اتخذ شكلاً صناعيّاً، إذ بنى الإنجليز معظم منشآت المدينة الصناعيّة على شاطئ المدينة، وكان لذلك كبيرُ أثرٍ في إعادة تشكيل البُنية السكانيّة -الاجتماعيّة لحيفا الحديثة، سواءً فيما يتعلق بالمدينة التي صارت مدينةً عُماليّة، أو فيما يتعلق بازدياد وتيرة الهجرة اليهوديّة – الصهيونيّة للمدينة، إذ تحوّلت حيفا إلى مدينةٍ بأكثريّة سكانيّة يهوديّة منذ ما قبل النكبة.

 

 
 
 
 
 
View this post on Instagram
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

A post shared by متراس - Metras (@metraswebsite)

ذاكرة ما بين السهل والجبل والبحر

ربما هذا التقسيم لتاريخ وذاكرة حيفا هو الأنسب بالنسبة لنا، من أجل التعريف بالمدينة وفق أبواب موسوعة علي حسن البوّاب، خصوصاً وأنَّ الحديث فيما أوردته الموسوعة  لا يتسع له مقال في بضعة مئات من الكلمات. 

إنَّ تاريخ حيفا السهليّة في الموسوعة هو ذلك التاريخ المتضمن لحيفا بوصفها امتداداً لمرج ابن عامر أكثر مما كانت فيه امتداداً للبحر. وذلك في الفترتين المملوكيّة والعثمانيّة للمدينة، أي ما بين القرن الرابع عشر والثامن عشر للميلاد، إذ كانت حيفا تتبع في حينهِ للواءِ اللّجون في مرج ابن عامر، وبالتالي كانت وليدةَ أحداث المرج، خصوصاً في ظلِّ سيطرة الأُسرة الحارثية وأميرها أحمد بن طرباي الحارثي (1571- 1647) على مرج ابن عامر واللجون. 

اقرؤوا المزيد: "شعب الله" في حيفا.

أما عن الوجه الجبليّ للمدينة، فهو ذلك المتضمن لتاريخها كحيفا العمارة بعد إعادة بنائِها وإرجاعها لسفحِ الكرمل أيام ظاهر العمر، دون أن تقطع حيفا الجبل علاقتَها بمرج ابن عامر، سهلها الذي تنداح منه غرباً بوصفه امتداداً جغرافيّاً ومورداً زراعيّاً اقتصاديّاً ورافداً سكانيّاً، إذ كانت حركة الهجرة والنزوح العربيّتين الدائمتين من داخل قرى المرج شرقاً إليها غرباً، وهي حركة مستمرة منذ ثلاثة قرون إلى يومنا هذا. 

أحد البيوت الفلسطينية المهجّرة والمسلوبة في حي وادي الصليب، في حيفا. (Shutterstock).

أما حيفا بعلاقتها بالبحر، فهي حيفا الكرملية نسبةً للكرمل الذي أعطى للمدينة ميزةً تمايزت فيها حيفا عن مدينة أخرى ساحليّة على المتوسط في فلسطين، وذلك منذ بنائها على سفحه، وينطبق ذلك على الوجه البحريّ لحيفا قديماً منذ أن كانت حيفا العتيقة في موقع تل السمك عند الشاطئ، وحديثاً مع إعادة بعث مرفئها ميناءً، الأمر الذي جعلها مدينةً صناعيّة عُمّاليّة في القرن العشرين، فضلاً عن النشاط البحريّ مثل الملاحة والصيد والسباحة وغيرها.

لذا فإنّ موسوعة حيفا الكرمليّة تناولت تاريخ حيفا في كافة مناحي الحياة من خلال هذه الوجوه الثلاث للمدينة، فعلى سبيل المثال، حين يتناول البوّاب الزراعةَ في حيفا، فإنّه يتناول النشاط الزراعي في وجوه حيفا الثلاث، والتي تمثل مراحل زمنيّة ثلاثة من تاريخها، وهذا ينسحب على كافة القطاعات: الصناعة والعمارة والسياحة والصيد. 

وحتى ريف حيفا، فإنّ له ثلاثة وجوه تماماً مثلما هي المدينة، فقد تناول صاحب الموسوعة تاريخ قرى المرج الشماليّة التي تعتبر جزءاً من قضاء حيفا بتشكيلها السكانيّ المتنوّع من فلاحين وبدوٍ وتركمان، وكذلك قرى جبل الكرمل الدارسة والباقية منها قبل النكبة، وبالأخصّ القرى الدرزيّة والأحمديّة (الكبابير)، ثمّ القرى الشاطئية على البحر عبر تاريخ المدينة مثل قيسارية والطنطورة وهكذا. 

صيادون على شاطئ حيفا (1920) (Getty Images).
صيادون على شاطئ حيفا (1920) (Getty Images).

قاموس المدينة

واحدة من أهم خصائص هذا العمل الموسوعيّ عن حيفا هو انتباه المؤلف لمسألة قاموس أسماء المواقع والأماكن في حيفا ومحيطها وتحولات هذا القاموس بتحولات الزمن. فقد أورد البوّاب أسماء شوارع وطرقات المدينة الداخليّة والخارجيّة التي جرت عبرنتُها وتهويدها، أوردها بالعربيّة قبل تهويدها. وأكثر من ذلك فإنَّ المؤلف قد أشار لأسماء المواقع بحسب ما ورد في الوثائق والسجلات الرسميّة، وفي الوقت نفسه أشار إليها بحسب التسميات المحليّة أو مسمياتها الشعبيّة بلغة أهالي المدينة وريفها. 

على سبيل المثال، أشارت السجلات العثمانيّة إلى المُعتدين على حيفا العتيقة عبر البحر باسم "فرسان مالطة"، بينما التسمية التي كانت متداولة لهم عند أهالي المدينة هي "قرصان البحر". أو "برج الزوراء" التاريخي عند شاطئ البحر الذي أشارت الوثائق له بهذه التسمية، بينما سمّاه البحّارون وأهالي المدينة اسم "برج العجوز"، وهكذا ينسحب الأمر على العشرات من أسماء الطرقات والمعالم والمواقع.

في الأخير، فإنّ الموسوعة تحدثت عن حيفا المدينة والريف، الجغرافيا والتاريخ، الجبل والسهل والبحر، الحجر والبشر على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم على مدار الفترة الزمنيّة التي تستهدفها الموسوعة، الزراعة والصناعة المهن والحرف ومظاهر الترف، الإدارة والتجارة والعمارة، السياسة والحكم، الثورة والتمرد، وجوه المدينة وأعيانها وعائلاتها التاريخية والوافدة إليها، الغناء والمطبخ والعادات والتقاليد وتحولاتها واختلافاتها ما بين حارة وأخرى أو طائفة وأخرى أو قرية وأخرى. لم يترك البوّاب باباً يمكن الدخول منه لمعرفة تاريخ المدينة في موسوعته إلا وقد طرقه بقلمه لندخل منه ونتعرف معه على حيفا الكرمليّة.