14 مايو 2023

سرقاتٌ لا تخطر بالبال: سجّاد وفساتين وأطقم فناجين

سرقاتٌ لا تخطر بالبال: سجّاد وفساتين وأطقم فناجين

سُرقت الأرض وهُجّر الإنسان وسُلبت الآمال وصُودِر المستقبل، فهل اكتفت الحركة الصهيونية بذلك مع الفلسطينيين؟ ببساطة لا، لقد نهبت عشرات آلاف المحلات التجارية والمصانع والسيارات والثلاجات (ومحتوياتها) والسجاجيد، وطاولات الطعام، وأدوات المطبخ، وأطقم النوم، والتحف، والآلات الموسيقية، والمكتبات الشخصية، والمجوهرات النسائية وحتى الصوابين.

سبق أن كتب مؤرخون عن سرقة الصهاينة للمكتبات والمخطوطات التاريخية والأرشيفات والصور العائلية وعرضها في "المكتبة الوطنية الإسرائيلية" تحت خانة "ممتلكات متروكة"، مثل كتاب غيش عَميت "بطاقة مُلكية: تاريخ من النهب والصون والاستيلاء في المكتبة الوطنية الإسرائيلية". لكن لم يسبق لباحث أن روى حكاية نهب الممتلكات الشخصية، كالتي ذكرناها أعلاه، سوى المؤرخ آدم راز في كتابه "نهب الممتلكات العربية في حرب 1948" الصادر حديثاً.1صدر الكتاب عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار" بترجمة أمير مخول، 2023. 

دخل راز عشرين أرشيفاً ليتمكن من سرد قصة نهب الصهاينة للممتلكات الشخصيّة للفلسطينيين خلال حرب النكبة (1947-1949)، لكن مراده من هذا العمل البحثي لم يكن التأريخ ولا كشف الحقائق الماضية، بل صوغ إدعاء سياسيّ واجتماعيّ عن المجتمع الإسرائيلي بقراءةٍ صهيونيّة غير نقديّة. فما نسميه نحن بالنكبة، بالنسبة لراز "حرب استقلال". 

غلاف الكتاب بإصدار مركز مدار.

سوف نتطرّق إلى هذه الجزئية، ولكن بعد استعراض مضامين الكتاب الذي يضم فصلين أساسيين: الأول؛ سجل سرقات المدن الفلسطينية وفق التسلسل الزمني، أي من أول مدينة احتُلّت؛ من طبريا وحتى بئر السبع، مع قسم عام وصغير للمساجد والكنائس وآخر للقرى. أما الثاني؛ فهو باب السجال والمحاججة السياسية والاجتماعية عن آثار تلك السرقات على المجتمع الإسرائيلي (المُتشكل لاحقاً)، وعن انحياز راز لآراء وزير شؤون الأقليات في حينه، بيخور شالوم شطريت، ضدّ سياسات السلطة الحاكمة لبن غوريون، الذي قال صراحاً في تموز/ يوليو 1948 في اجتماع حزب "مباي": "اتضح أن معظم اليهود لصوص.. أقول هذا عن قصد وببساطة، لأنه للأسف يعبر عن الحقيقة".

"أجواء من الفجور"!

بعد أسبوعين من سقوط حيفا، أي في العاشر من أيّار/ مايو عام 1948، قدّمت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي لحكومة الييشوف مذكرةً حول وضع المدينة بعد احتلالها قالت فيها: "لقد أُفرغت الغالبية الساحقة من منازل السكان العرب من كل شيءٍ ذي قيمة، كما نُهبت البضائع من المحلات، وانتزعت المكائن من المصانع والمعامل"، وبحسب لجنة الحزب فإنّ "كل شيء جرى تحت مرأى سلطات الهاغاناه". وبعد خمسة أشهر، ضُبطت سيارتان محملتان "بكميات كبيرة من الجلود والأحذية والبطانيات والسكر"، لأنه لم يكن لدى أفراد العصابات ترخيص بإخراج البضائع من المدينة، وفي واقع الأمر حتى رجال الشرطة هؤلاء نهبوا المنهوب!

أما المدينة الثالثة التي يروي حكايتها آدم راز فهي القدس، حيث العائلات البرجوازية. بحسب أحد قادة العصابات التي حاربت في القدس موشيه سالومو، فإن ثراء القطمون هو ما دفع اليهود المدنيين والعسكريين على السواء إلى النهب، فقال: "من الصعب تخيل مقدار الثروة في كل واحد من هذه البيوت الكثيرة جداً". وذكر أحد اليهود "الساكنين" في القدس، أن اليهود نهبوا بشكل منهجي، "وراكموا غنائم النهب في أكوام وواصلوا السطو مثل الفئران المخدرة"، لقد كانت "أجواء من الفجور" هذا ما ذكره أحد عناصر العصابات.

اقرؤوا المزيد: القطمون بعد النكبة.. حكاية بيت الكرمي

وعن يافا كتب الصحفي اليهودي البريطاني جون كيمحي وفق راز، أن السبّاقين إلى أعمال السطو في هذه المدينة بالجملة كانوا من عصابة "الإيتسل"، إذ نهبوا في البداية الفساتين والمجوهرات لصديقاتهم الصبايا، ولكن سرعان ما توقفوا عن انتقاء أغراض محددة، وأصبحوا ينهبون كل ما كان بالإمكان إخراجه من المدينة، من الأثاث والسجاد وحتى اللوحات الفنية والأدوات المنزلية. وذكر قائلاً: "ما شهدناه كان فشّة خلق وجدت تعبيراً عنها في أعمال الدمار والتخريب، كتلك الأكثر قبحاً التي مورست في طبريا وحيفا والقدس، لتعود وتتكرر في يافا المستسلمة، فكل شيء لم يتمكنوا من أخذه، جرى تحطيمه إلى شظايا؛ النوافذ والبيانو والزينة والثريات، حُطمت بالكامل خلال موجة عبث ودمار. ليلحق بهم جنود الهاغاناه والبلماح إذ انضموا إلى أعمال النهب والتخريب المنفلتة".

أما في مدينة صفد التي احتلت في الأول من أيّار/ مايو، أخذ الجنود بنهب فناجين القهوة، وحتى المكسرات والفستق الحلبي، والسجائر، وأجهزة الراديو، والمعدات، والأدوية في الصيدليات، والملابس. وقد كتبت إحدى عناصر الكتيبة الثالثة في عصابة "البلماح"، بكل وضاعة، رسالة إلى والديها قائلة: "أحضرت بعض الأغراض الجميلة من صفد، فوجدت لي ولسارة فستانين عربيين مطرزين بشكل فائق الجمال، ربما سوف يلائمان لنا. كما أحضرت ملاعق ومناديل وأساور وخرزاً وطاولة دمشقية، وطقم فناجين قهوة رائعاً مصنوعاً من الفضة، وفوق هذا كله فقد أحضرت بالأمس سجادة فارسية كبيرة جداً وجميلة وجديدة تماماً. لم أرَ مثل هذا الرونق من قبل، مثل هذا الصالون بإمكانه التنافس مع أفضل صالونات أغنياء تل أبيب. على فكرة، هذه الورقة هي أيضاً تعود للعرب".

حيفا 1948 (أرشيف جيش الاحتلال)

يذكر آدم راز أن هناك صعوبة في تتبع عمليات نهب اليهود للقرى مقارنةً بالمدن، وهي مسألة تتعلق بعدم التصريح عنها في الوثائق العسكرية الرسمية، ولكن في المدن يتصادف إلى جانب الوثائق أن يكون فيها صحافيون ومثقفون ومواطنون عاديون. ومع هذا وُثِّق عدد لا يستهان به من جرائم السرقة والنهب في القرى، وهي كافية للقول بأنهم لصوص بالدم. ففي قريتي البعينة وعرابة في سهل البطوف، استولت العصابات (يسميها راز جيشاً، وكأنها مؤسسة نظامية لدولة وطنيةّ) على كل قطعان الماشية، فقد كان عدد رؤوس الغنم فيهما 2500 رأس ماعز و100 بقرة، رغم أنهما قريتان فقيرتان جداً ولا يعتاش أهلها سوى على هذه الماشية، وذلك كما ورد في شكوى قدّمها الفلسطيني علي طلال عبد المعطي للحاكم العسكري. أما قرية بيريا قرب صفد، والأشدّ فقراً، فلم تسلم من النهب، إذ كتب ابن القرية مصطفى بن محمد سلام إلى وزير الأقليات شطريت، قائلاً: "حتى ألواح القرميد والأبواب نُزعت ونُهبت".

حتّى المساجد والكنائس..

يفرد راز مساحة خاصة لنهب دور العبادة، فإلى جانب نهب المنازل والمتاجر الخاصة في المدن والقرى، تعرضت الكنائس للنهب والدمار الواسع، إذ رفعت تقارير إلى وزارة الأقليات حول عدة حالات تدنيس كنائس في حيفا، حُطّمت  خلالها الأبواب والنوافذ وسُرقت الكثير من المحتويات، بما في ذلك لوازم الصلاة. ففي الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية نُهب كل ما طالته الأيدي، من بدلات رجال الدين والأثاث والمصابيح والصليب الفضي وكأس التقديس الفضية وغيرها. وإضافة إلى ما سبق، عُثر على نعشين أو خزانتين مسروقتين في منازل مهاجرين يهود جدد، تعود ملكيتها إلى الكنيسة الكاثوليكية في حي محطة الكرمل. ولم يختلف حال الكنيسة الكاثوليكية في حي وادي الجمال عن ذلك، بل كان مصيرها مشابهاً. كما نُهبت المخطوطات الأصلية للديانة البهائية، وجد بعضها لاحقاً في دكان في المدينة.

اقرؤوا المزيد: قائمة من "متراس".. في سبيل تكوين صورة عن النكبة

أما المساجد، فالأفضل أن نأخذ ما كتبه مسؤول الدائرة الدينية يعقوب يهوشواع عن مسجد سكسك في مدينة يافا، فوصفه شامل عن كل ما وقع بالمساجد الأخرى في باقي المدن، فكتب يقول: "مررت بمسجد سكسك، ورأيت فتى يهودياً يقتلع ما تبقى من بلاطات أخيرة من الدرجات... وقد دُنّس بشكل مشين، وفُكّكت الأبواب ومصاريع النوافذ، ومن الأرضية سرقوا بلاطها، وانتزعوا العوارض الخشبية التي تكسو السقف. ومن بين جميع ممتلكات المسجد، لم يتبق سوى عوارض السقف - والتي ستختفي أيضاً في الأيام القليلة المقبلة. وقد استحال المسجد إلى خراب، ليصبح اليوم، ومن نواح عدة، أشبه بمسجد حسن بيك". أما في قريتي عاقر في قضاء الرملة، وهي قرية كاتب هذه السطور، وصف أحدهم مسجد القرية بعد جولة فيها بالقول: "صفحات القرآن مبعثرة وتتطاير في الباحة، اقتُلعت المصاطب، وحتى المقصورة الداخلية في المسجد التي تستخدم كزاوية لصلاة الدراويش قد دنست، والكتابة على واجهة المسجد انتزعت من مكانها".

آثار الدمار في كنيسة يوحنا المعدان في قرية المنصورة المهجّرة، شمال شرق عكا. (موقع: فلسطين في الذاكرة),
آثار الدمار في كنيسة يوحنا المعدان في قرية المنصورة المهجّرة، شمال شرق عكا. (موقع: فلسطين في الذاكرة),

استثناء الناصرة وطغيان بن غوريون

يزعم راز في كتابه، أنَّ النهب الفردي الذي أصبح جماعيّاً بين عموم اليهود المدنيين والعسكريين، جعلهم شركاء في خطوة سياسية أرادتها قيادة الحركة الصهيونية وعلى رأسها ديفيد بو غوريون، تتلخّص في السعي إلى إفراغ البلاد من الفلسطينيين عبر تدمير اقتصادهم ومنازلهم وممتلكاتهم وعدم فتح المجال لإمكانية عودة من فروا من الحرب. بحسب راز، فإن عودة الفلسطينيين تستلزم من الذين نهبوا وأثثوا منازلهم من ممتلكات العرب إعادة هذه الممتلكات إلى أصحابها، وبالتالي أصبحت عودة العرب متنافية مع مصلحته الاقتصادية الشخصية، وبالضبط هذه هي النقطة التي ترتبط فيها المصلحة الشخصية العينية مع التوجه السياسي العام، الذي يرفض إمكانية عودة الفلسطينيين من خلال جعل كل المجتمع الصهيوني موّحداً في الجريمة والذنب.

يفرد راز قسماً خاصاً لمدينة الناصرة، التي لم تتعرض لأي عملية نهب دوناً عن كل المدن الفلسطينية، بأمر من بن غوريون نفسه، الذي أبلغ قيادة الأركان بأن وضع الناصرة سيكون مختلفاً عن المدن الأخرى، فكتب إلى يغئال يدين: "إذا كانت الناصرة على وشك احتلالها، يجب عليك مسبقاً، إعداد قوة خاصة ومخلصة ومنضبطة تمنع أي جندي يهودي آخر، من أي موطئ قدم له في مدينة الناصرة، وتحول دون أي إمكانية للسطو وتدنيس الأديرة والكنائس"، وذلك مردّه إلى خشية بن غوريون من استفزاز الدول الأوروبية المسيحية المساندة للكنائس.

اقرؤوا المزيد: احتلال غزّة الأوّل.. مقاومة ومجازر

إلى جانب إشراك المجتمع الإسرائيلي في الجريمة، حوّل بن غوريون هذه المسألة لورقة ضدّ معارضيه في حزب العمل بشكل عام وضدّ البلماح بشكلٍ خاص، إذ واصل بعد سنوات من الحرب الربط بين نهب الممتلكات وحركة العمل. ففي جلسة بتاريخ 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 1956، أي بعد احتلال قطاع غزّة، وعندما أشار اللواء حاييم الاسكوف إلى نهب الإسرائيليين لغزّة، ردّ عليه بن غوريون: "أذكر أن الأمر كان مختلفاً في العام 1948، عندها انضمت جميع الكيبوتسات للنهب". بحسب راز فإنّ بن غوريون أراد إلقاء التهم على خصومه في حركة الاستيطان العمالية، وحركات الشبيبة الزرقاء (التابعة لحركة العمل)، إذ سعى إلى تفكيكها وتأسيس حركة شبيبة واحدة تابعة لمكتب رئيس الحكومة. 

عناصر من وحدات "الهاغاناه" الصهيونية في حيفا عشية احتلالها عام 1948، وتبدو بأيديهم وعلى أجسادهم بعض ما سرقوه من بيوت العرب. (أرشيف جيش الاحتلال).
عناصر من وحدات "الهاغاناه" الصهيونية في حيفا عشية احتلالها عام 1948، وتبدو بأيديهم وعلى أجسادهم بعض ما سرقوه من بيوت العرب. (أرشيف جيش الاحتلال).

ليست المسألة في سرقة الثلاجة

كتاب آدم راز إضافة مهمة وجديدة لتاريخ النكبة من الناحية الأكاديمية، كُتبَ بأسلوب ممتع وشيق لا يعفي كاتبها الصهيوني من السقطات والمغالطات التاريخية والمنطقية، أولها أن راز يسمّي الحرب منذ نهاية عام 1947 وحتى 15 أيار/ مايو من عام 1948 حرباً أهلية، وهو بهذا يفترض أن المعركة دارت بين هويتين إثنيتين أو طائفتين متشكلتين بالأساس في أمة قومية واحدة، ومتنازعتين حول حقوق قانونية وسياسية واجتماعية. أما ثانياً، اعتباره أن السرقة وعمليات النهب التي مارسها اليهود بعمومهم لعبت دوراً في احتقان الصراع بين "الجيران الفلسطينيين واليهود"، وأنه كان من الأجدى أن يُظهِرَ اليهود أخلاقياتٍ سلوكية أفضل تجاه العرب، وعلى حدّ قول يوسف شبرينتساك، أول رئيس للكنيست، فإن "أخلاقنا الصهيونية هي الامتحان لصدق نوايانا تجاه الأقلية العربية الباقية" (في فلسطين)، وكأنه يقول إن عدم القيام بفعل النهب كان يمكن أن يشكّل جسراً للوطن العربي للتطبيع، ولكن سوء سمعة اليهود عند العرب الباقين هو ما أضر هذه العملية. 

غريبٌ هذا الاعتقاد، على الرغم من أن راز ألف كتابه في أيام "الكورونا"؛ أي بعد تطبيع العلاقات الخليجية-الإسرائيلية. ما نقصده هو أنه حتى بعد 70 عاماً عاد اليهود لسرقة فنادق الإمارات والبحرين، ما يعني أن النهب إرث صهيوني. بالإضافة إلى ما سبق، رفع راز من قدر الممتلكات الشخصية وأهميتها عند الفلسطينيين على أهمية الأرض المنهوبة والمجازر المرتكبة، وهو بهذا كأنه يقول إنّ الفلسطينيين شعب وضيع تهمّه الثلاجة وبلاط المنزل أكثر من سرقة أرضه وأحلامه.

يقع راز في التناقض الذي يقع فيه جلُّ الأيديولوجيين الغائيين، وهو الادعاء أنّ الصهيونية ليست حركة نهب، بل النهب هنا فردي-جماعي مُسيّس. وهو بالضبط يشبه القول إنّ المشكلة في التطبيق لا في النظرية، مع أنّ النظرية هنا، أي الصهيونية، حركة نهبيّة بامتياز، فهي التي جاءت بأساطيرها اليهو-مسيحية لإثبات حقّها بالأرض المقدسة، إلا أنّ راز يرى أنَّ سرقة فلسطين جزءٌ من كرامة اليهودي، وأنّ سرقة ممتلكات المنازل فعلٌ مُعيب بحق الصهيونية. يدفع هذا للتساؤل عن ماهيّة الحدّ الفاصل عند الصهيوني بين سرقة الممتلكات الشخصيّة وسرقة الأرض وتشريد أصحابها، إذ في أيّ منطق يكون الفعل الأوّل خطأً وإهانة فيما يكون الثاني جزءاً من الكرامة؟!