26 أكتوبر 2023

خرجوا للعلاج وعلِقوا…

خرجوا للعلاج وعلِقوا…

"راحت العيلة كلها"، جاءت الصرخة عبر سماعة الهاتف، وانقطع الاتصال سريعاً. كان خيري العمراني (57 عاماً) وحيداً آنذاك، خائر القوى بعد جلسة مُتعبة من العلاج الكيماوي. هو واحد من عشرات المرضى الغزيين العالقين في الضفة الغربية، بعيداً عن عائلاتهم التي تُقصف في قطاع غزّة منذ 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، يخافون من كل اتصال يأتي، ويخافون أكثر من انقطاعه الطويل. 

بعد ساعات من وصول الخبر الأول إلى خيري، جاءه اتصال آخر مطمئناً: "استشهد نهاد وفضل بس.. بقية العائلة نُقلت إلى المدرسة"، لم يُغير الاتصال الثاني شيئا من صدمة خيري وانهياره، الوجع ذاته، والغضب ذاته، وأكثر. يختصر خيري كل كلامه بترديد جملة واحدة: "نهاد كل حياتي"، وما يضاعف من حزنه، أنه لا وداع أخيرا يجمعه بنجليه، وأنه لن يُقبّلهما قبلته الأخيرة، ولن يقف للصلاة عليهما، كما أنه غير موجود ليشرف على دفنهما. 

سرطان الجسم ولا سرطان الاحتلال

في بداية شهر أكتوبر، وبعد معاناة وانتظار، حصل خيري المصاب بالسرطان منذ عام 2016 على تصريح علاج طويل لمدة ثلاثة أشهر متواصلة في الضفّة، ومعه نحو 45 مريضاَ يتلقون العلاج في مستشفيات رام الله، إلا أن الاحتلال، الذي يتفنن بمحاصرة غزة والتضييق على مرضاها، رفض أن يرافق خيري أحد من عائلته، وهو إجراء اتخذه أيضاً مع مرضى آخرين. 

يعاني قطاع غزة من نقص حاد في أدوية علاج السرطان والأجهزة التشخيصية اللازمة، رغم وجود نحو 9 آلاف مريض بالسرطان، بينهم 350 طفلاً، يضطرون إلى البحث عن علاج خارج القطاع، إلا أن 40% منهم ما يزال الاحتلال يرفض منحهم تحويلات طبية، تمكنهم من استكمال علاجهم بالمستشفيات الفلسطينية في الضفة والقدس، أو في المستشفيات الإسرائيلية، ما أدى إلى ارتفاع نسبة الوفيات بين مرضى السرطان، بنسبة 12.5 بالمائة من إجمالي وفيات القطاع.

خيري، أبٌ لثمانية أولاد، جاء وحيداً للعلاج دون ابن يتكئ عليه بعد جلسة العلاج الكيماوي، ومن دون زوجة بجواره تربت على كتفيه بعد كل عملية جراحية، إذ خضع حتى الآن لثلاث عمليات، غير أن خيري غيرُ آبه الآن بسوى سلامة عائلته، وأن يعود إليهم في غزة فيجدهم على قيد الحياة، يقول خيري لـ متراس: "أموت أنا ولا تصيب شوكة أبنائي أو حفيداً من أحفادي.. بدي أرجع لغزة وأشوفهم".  

عدد من مرضى غزة ومرافقيهم يجلسون في فندق "الرتنو" في رام الله، منتظرين عودتهم القريبة إلى غزة.

نزحت عائلة خيري من حي الشجاعية شرقي مدينة غزة، تحت نير القصف الإسرائيلي، وقد مُسح منزلها بالكامل وسوّته الغارات الإسرائيلية بالأرض. أما نجلاه الشهيدان نهاد (37 عاماً) وفضل (23 عاماً)، فارتقيا بقصف طال مبنى لجآ إليه في حي تل الهوى، ونجا أطفال نهاد الخمسة بعد أن جرى انتشالهم من تحت الأنقاض. يروي: "قبل أسبوع من العدوان خطبنا لفضل، وبدأنا نستعد لزفافه القريب"، يصمت للحظة، ثم يستدرك: "بعض العائلات استشهد 10 و8 من أبنائها، وهدمت بيوتهم.. كلنا مثل بعض". 

حال خيري كحال بقية المرضى الغزيين، يتلقون بين الاتصال والآخر خبر استشهاد قريب أو صديق أو جار، فتحية أبو دقة (72 عاماً)، مصابة بسرطان في النخاع منذ ستة أعوام، تروي لـ "متراس"، أن عائلة عمتها المكونة من 17 فرداً استشهدت بالكامل، تقول: "بقي من العائلة ياسر فقط، وهو أسير في السجون الإسرائيلية منذ عام 2006، سيخرج ولن يجد أماً ولا إخوة ولا أولاد إخوة". 

لفتحية ثلاثة أبناء، بيد أن الاحتلال منع إعطاءهم تصاريح لمرافقة والدتهم، وقد رافقتها قريبتها ناجية أبو دقة (66 عاماً)، وكلتاهما من بلدة عبسان، الواقعة إلى الجنوب الشرقي من مدينة خانيونس، تقول ناجية إن العائلة اضطرت للانتقال إلى بلدة بني سهيلا التابعة لخانيونس، بسبب كثافة القصف والتهديدات الإسرائيلية، وقد توزع أبناؤها وأحفادها على منازل الأقارب والأصدقاء. 

ناجية، أم لأربعة أولاد وجدة لـ 20 حفيداً، تعيش وقريبتها فتحية قلقاً يومياً، وقد فقدتا القدرة على النوم، وتحرصان على متابعة الأخبار للاطمئنان على العائلة، تقول ناجية: "اعتقدنا أن حرب 2014 كانت الأصعب، إلا أن هذه الحرب مضاعفة ومختلفة، ولكن سأذهب فوراً إذا فتحوا المعبر.. أنا لست بأفضل منهم". 

وتروي ناجية أن نجل شقيقها استشهد في اليوم الأول: "ابن أخي مقاوم يشرفنا استشهاده، فقد استشهد خلال اقتحام المستوطنات، وبرّد نارنا"، وأضافت: "خوفنا ووجعنا على الذين يستشهدون تحت القصف.. رأيت قبورا جماعية بدؤوا حفرها، ففقدت أعصابي على أولادي وعائلتي". 

ليس معهم ما يكفي..

يقيم المرضى ومرافقوهم في فندق "الرتنو" في رام الله، إذ تغطي السلطة عادة مبيتهم فيه لأيام قليلة ومحدودة إلى حين انتهاء علاجهم وعودتهم إلى غزة، ولكن هذه المرة، لا يعلم المرضى ومرافقوهم متى ستكون هذه العودة التي باتت مجهولة تماماً إلى حين انتهاء العدوان على القطاع، والسماح لهم بعبور الحاجز. 

لم يحمل المرضى ومرافقوهم إلى الضفة ما يكفي من الملابس والمال، لظنّهم أنّها فترة محدودة يعودون بعدها إلى غزة، وهو ما استوجب بدء حملات تطوّع لمساندتهم من قبل متبرعين ومؤسسات مجتمعية، إذ لم توفر لهم السلطة سوى المبيت والعلاج. نجلاء زيتون من جمعية المرأة العاملة، قالت لـ "متراس": "كثير من المتطوعين لبوا نداء مساندة المرضى وعائلاتهم وجاؤوا وقدموا الملابس والأدوية، ونظموا أنشطة مساندة نفسية لهم". 

وأشارت إلى أن "الرتنو" يحوي نحو 80 فرداً بين مريض ومرافق، وهو ما يستلزم دعما ومساندة تكون مستمرة وأكثر تنظيماً، وتتضمن توفير مبالغ مالية تمكنهم من التنقل وشراء مستلزماتهم الخاصة. 

ليس معك إلا حدود المستشفى!

رحّل جيش الاحتلال مريضين غزيين اثنين (على الأقل) من القدس إلى رام الله، وذلك قبل أن ينهيا علاجهما المقرر والمتوفر في مستشفيات القدس فقط، جميع حملة التصاريح مُعرّضون لذلك، خاصّة أولئك المرضى الذين يشترط عليهم تصريحهم عدم مغادرة مبنى المستشفى، غير أنّ الاضطرار قد يدفع ببعضهم إلى الخروج لتدبّر بعض الحاجات الأساسيّة من محيط المستشفى، وهو ما حصل مع عبد الله صالح أبو غوطة (24 عاماً).

في السادس من أكتوبر، وصل عبد الله إلى مستشفى "المقاصد" في القدس، وهناك قرر الأطباء إجراء عملية جراحية له في الثامن من الشهر نفسه، وذلك لاستئصال ورم في الأمعاء، يبين عبد الله لـ "متراس"، أن الاحتلال رفض 16 طلباً تقدم به أفراد عائلته لمرافقته في رحلة علاجه، وهو ما دفعه لتدبير أموره بنفسه.

عبد الله أبو غوطة في فندق "الرتنو"، يتابع أخبار غزة عبر هاتفه، وينتظر اتصالاً من عائلته للاطمئنان عليها.

صباح السبت السابع من أكتوبر، ذهب إلى بقالة قريبة من المستشفى لشراء بعض الحاجات الضرورية، قبل عمليته الجراحية، ولم يكن يعلم بأن المقاومة اقتحمت مستوطنات "غلاف غزة"، يقول عبد الله: "كانت أعداد من المستوطنين قد توافدوا إلى محيط المستشفى، أوقفني أحدهم وبدأ التحقيق معي، ولما علم أني من غزة بدأ يضربني، كما ضربوا امرأة من غزة أيضاً". 

لاحقاً، حضرت الشرطة الإسرائيلية إلى المكان، واعتقلت عبد الله ونقلته إلى أحد مراكز التحقيق في المدينة، يضيف عبد الله: "كلبشوني وغطوا على عينيّ، واعتدوا علي بالضرب داخل المركز.. ظللت مقيداً حتى اليوم التالي، ثمّ أفرجوا عني عند حاجز قلنديا". 

وها هو يمرّ أسبوعان على وجوده في الضفة، دون أن يتلقّى عبد الله أي علاج، في حين ينتظر أن يجد علاجه في أحد مستشفيات الضفة.

وعبد الله من مدينة دير البلح، قصف طيران الاحتلال المبنى الذي تسكن به عائلته، والمكونة من 62 فرداً، لذا تشتتت العائلة بين مدارس النزوح ومنازل الأقارب، كما ارتقى نحو 30 شهيداً من أقاربه وأصدقائه، يقول: "الآن أمنيتي الوحيدة أن أعود إلى غزة وأموت مع عائلتي". 

أمنية عبد الله هي أمنية المرضى العالقين جميعهم، الذين يقتلهم القلق على عائلاتهم مرات ومرات، وحالهم كحال الشاعر الذي قال: "أيّها الراكبُ الميمّم أرضي.. أقرِ من بعضي السلام لبعضي.. إنّ جسمي كما علمتَ بأرضٍ.. وفؤادي ومالكيه بأرضِ"، غير أنّ أجسادهم المُحاصرة مريضة عليلة، ومن يقطن في قلوبهم بعيداً عن أعينهم، تسقط عليه أطنان من المتفجّرات.