1 فبراير 2022

حمزة العقرباوي متجوّلاً في درب السَّلطية

حمزة العقرباوي متجوّلاً في درب السَّلطية

"شُـفته طايح عصرية.. عَ دَرب السّـلطية، حلفتكم بالله يا ناس.. قالوا هذا ابن العقربانية"، هكذا كانت جدتي فاطمة أبو كبر (1923-2019)، رحمها الله، تُغنّي لصِبية العائلة، وهي تُرقِّصُهم بين يديها. تُردّدها دون أن تتوقفَ لتشرحَ لطفلٍ فضوليٍّ عن مسار ذلك الدرب، درب السَّلطية الذي يسلكه الفتيةُ في عبورهم للأغوار مع ساعات العصر.

كانت تلك الأبياتُ أول ما سمعتُه عن درب السَّلطية، ثمّ بدأت أخبارُه تَرِدُ معي في أحاديثِ الرجال الذين عبروا نهر الأردن من عقربا.1عقربا: من قرى قضاء نابلس، تبعد عن المدينة 18 كم إلى الجنوب الشرقي منها، وتمتد أراضيها شرقاً نحو الغور النابلسيّ. إلى السّلط لشراء البضائع وتهريبها للبلاد، قبل توقف هذه الظاهرة نهاية ستينيات القرن الماضي بعد الاحتلال الإسرائيليّ للضفّة الغربيّة.

الدرب السَّهل في التلال الوعِرَة

يتفق العقارِبةُ (أهالي قرية عقربا) بأنّ الطريقَ التي تبدأ من بلدتِهم وتمرُّ عبر الغور إلى نهر الأردن هي "درب السَّلطية"، أي طريق الذاهبين إلى مدينة السّلط الأردنيّة ومناطق شرق الأردن. بعد الوصول إلى نهر الأردن، وبعد قطعِهِ، تستمرُ الطريق ولكن باسمٍ آخر هو "عَرضَة عبَّاد"، وهي طريقٌ تقود السائرين فيها إلى السّلط، ومن هناك يرتحلون لشراء أو بيع بضائعهم في مختلف مدن شرق الأردن.

ولدرب السّلطية مساران في الغور يتوسطهما جبلُ قرن سَرطَبَة، وهما مساران معلومان ومعروفان بمعالمِهما ومحطاتِهما لأهل الغور وقراه. ينحدر المسارُ الأوّل جنوباً نحو فصايل مروراً بعين الحفيرة ورأس القُنطرة، فيما يتجّه الآخر شمالاً نحو الجفتلك مروراً بسهل إفْجِم وبير أبو الدرج. غير أنّ المسارين يبدأن من النقطة نفسها، وينتهيان على مخاضات نهر الأردن جنوب جسر دامية. وفي كلِّ مسارٍ منهما عينا ماء، واحدةٌ على الدرب نفسه، والثانية عين خلفيّة غير بعيدة عن مسار الدرب، ويكون بإمكان المسافرين التزوّد بالماء والاستراحة عند العرب المقيمين بجوار تلك العيون، وهي عيون مانع وعيون كرزليا.

وهذه الدرب طريقٌ تجاريٌّ قديم، خَطَّته الدوابُّ وأقدامُ المسافرين على مدار عقودٍ طويلة، وكانت سالكةً أيام هيردوس لمّا حصّن قلعةَ قرن سَرطبة في أعالي الغور. وهي ذاتها الطريق التجاريّ الحربيّ التي عُرِفَت في الفترة الرومانيّة باسم "طريق المتبوعين أو الهاربين"، وهم الخارجون عن الدولة، الذين كانت تلاحقهم لاعتقالهم أو قتلهم، فلاذوا بهذه المنطقة الموحِشَة لقطع الطريق على القوافل.2ديفيد جريسمان، "دليل إسرائيل، الموسوعة المستخدمة لمعرفة أرض إسرائيل"، المحرر أريه يتسحاك، منشورات وزارة الدفاع الإسرائيلي، ط1، 1980.  

آخر رُعاة الدرب

كان عليّ أن أمضي في مسار درب السَّلطية لأعرِفَه عن قُرب قبل أن أكتُبَ عنه، ولذا جَهَّزتُ خارطتي وبعضَ المعلومات التي جمعتُها وانطلقتُ نحو الغور. ولأنَّ الجولةَ لا تَتِمُّ من غير استشارةِ رجلٍ عارفٍ بتلك الدورب كان لا بُدَّ من الجلوسِ إلى الحاج نافز ناصر بني جابر - أبو ماهر (مواليد 1938) الذي عاش أكثر من 60 عاماً في الأغوار يرعى الغنم ويُربِّيها على جنبات الواد الأحمر، وقريباً من سفوح قرن سَرطبة.3أجرى الكاتب المقابلات مع السيد نافز ناصر بني جابر (أبو ماهر) مواليد 1938م، بتاريخ 15/11/2021- 28/11/2021. 

يقول أبو ماهر: "هذه الطريق هي الدرب السهل في الأرض الوعر، إذا ما طويتها بتطويك"، يريد بقوله: أنّ في تلال الغور ودروبه الوعرة انفراجات من الأرض سلهة للمشي وهي ما خُطّ عليه طريقُ درب السَّلْطية نحو النهر، وأنَّ الجاهل في الدرب قد تطويه ويموتُ فيها عطشاً.

الحاج نافز ناصر، أبو ماهر، من عقربا. عدسة: عبد الفتاح داوود.

سألتُ العجوزَ: "من أين أبدأ طريقي في الدرب؟"، فقام يُشير بيدهِ كأنّه يرسمها ويُمَهِّدُها لي: "الطريق بتّوهِش، من هان بتنزل ع سهل الطّوَيل، ومن جنب راس الطوَيل بتروح على دامية، وبتنزل لمنطقة أبو فرو، ومن نص أبو فرو بتسنِد طريق سالكة لما تصل الحفيرة، وع العين بتتريح وبتشرب ميه، وع يمينك بتطلع ع الطريق وبتمشي لما تصل راس القنطرة، شِد العزم من هناك لشرقا تا تصل الملعب 13، وبتخلي ظِل الجبل بوجهك، وبتنزل من جنوب الملعب على المسطّرة وسهل عَمرَة، وما بتوقف إلا عند بركة أبو الشيخ حسن، بعدها بتدور مع الشارع شمال، وبصير جبل القرن من غربا، وإذا قطعت الشارع بتعبر ع الكتاير (التلال غرب النهر)، وعندك المخاضات، وإذا إنتا مُش قد العوم والقلب حديد ما تفكر تقطع الميّه".4أسماء مناطق جغرافية معروفة لأهالي قرية عقربا، وفي غالبيتها خرب وسقايف وصِيَر مهجورة كانت عامرة ومأهولة قبل الاحتلال عام 1967م. 

قال الرجل ذلك ثم بدا مُتحسراً على زمن العبور بين ضفّتي النهر، حين كانت البلد كلها ترتحل إلى الغور وتقيم في السقايف والخرابيش (بيوت الشعر) على جوانب الطريق وفي تلال الغور، وإذا احتاج أحدهم غرضاً قطع النهر نحو السلط  ليشتري حاجتَه ويعود. وحين انتهى الرجل من تحسّره حملتُ نفسي وانطلقتُ أتتّبعُ الطريقَ وأبحثُ عنها مُتجنباً مناطق انتشار جيش الاحتلال حتى أجتازَ الشارع الاستيطانيّ في وسط الغور الغربيّ.

على أطراف خربة الطْوَيل، درب السلطية. عدسة: حمزة العقرباوي.

اتضّح لي أنّ الدربَ ليست سالكة اليوم. لقد تغيّرت معالمها بعد شقّ الطرق الاستيطانيّة وإقامة مناطق التدريب العسكريّ لجيش الاحتلال على رؤوس التلال في الأغوار. لكنك تستطيع أن تمضي مُتتَّبِعاً الوصفَ القديمَ ومُستأنِسَاً بكلام الذين تقطّعت كِعابُ أقدامهم في دروبها.

ظلَّت في رأسي مقولةُ الحاج أبو ماهر: "هذه الطريق هي الدربُ السهل في أرض الوعر". ولذا كان عليّ أن أَتَّبِع الأرضَ السَّهلةَ على جانب التلال الوعرة. وقد ذُهِلتُ حين سمعتُ أبياتاً للشاعر أبو عيسى العقرباوي، كان قد خطّها للأمير عبد الله الضامن5الأمير عبد الله الضامن المسعودي: أمير عشيرة المساعيد التي كانت تسكن الجفتلك ووادي الفارعة (فارعة المسعودي)، وكان الأمير عبد الله قد بنى أول قصرٍ في الأغوار، وموضعه بالقرب من سجن الجفتلك.، في أربعينات القرن الماضي قال فيها يصف الطريق:

إصحى تيجي الوعر وأرض الجهير
عا يمينـك الـسـهـل وامـشـي مـداد. 

غلال القمح وأرض الخير

على جانبي درب السّلطية في بلاد الغور كنتُ أطالع الوهاد القاحلة بلا عشبٍ أو خَضار يجذب الأغنامَ ورُعاتها، لا أثر لأحدٍ هنا طوال الطريق. ومن بعيدٍ كُنت ألمح تجمعاتِ الغَنّامة في وادي إفجم وسدّ حريز. لقد أمحلتْ البلادُ من خيراتِها لمّا رُحِّل عنها ناسُها وأصحابُها بقوّةِ السلاح بين الأعوام 1967-1975م. فلا حياةَ هنا البتّة ولا عابرين ولا مُسافرين ولا قوافل ولا فارّين أو مُلاحقين، بل ولا حتى جامعي نبات الشيح والحُمّض والعجرم ليصنعوا منه (القلو) الذي يُستخدم لصناعة الصابون البلديّ (النابلسيّ).

كانت هذه الأغوار فيما مضى بلاداً تفيضُ بالغِلال والخيرات، وَتُحَمَّلُ بركاتُها شرقاً وغرباً، ولعلَّ أعظم خيراتها كان القمح الذهبيّ النضوج، القمح الذي يُشترى أغلبُه من سوق النبي يوشع في مدينة السَّلط، قمحٌ تُزَيَّنُ أكياسُه عند التعبئة على بيادرِ الغور بحبّاتِ الدّوم لِـتُـدلِّلَ على أنّه من قمح سهل إفجم. كانت حبّاتُ الدوم هذه علامةً يُميّزُ بها التُّجارُ في يافا وقرايا البحر قمحَ غور العقاربة النّضوج.6بالاعتماد على مقابلات التاريخ الشفوي، أجراها الباحث مع كلّ من: الحاج عادل عبد العزيز أبو طربوش (1919- 2014) مقابلة بتاريخ: 14/3/2012، الحاج حسن أحمد أبو ناصر (1919 - 2013) مقابلة بتاريخ 16/3/2012. 

بيدر (مكان مخصص لجمع محصول القمح) على درب السّلطية، وهو للسيد فارس أبو صقر، عدسة: حمزة العقرباوي.

لقد ولّت أيامُ القمح والغِلال في الأغوار وما بقي منها إلا المثلُ القائل: "راح الغربال من أبو عجاج لِحقوه في العوجا"، وأبو عجاج منطقة بالقرب من الجفتلك وبينها وبين قرية العوجا تلالٌ وجبالٌ وسهولٌ كانت تُزرع بالقمح قبل الاحتلال، حتى أنَّ جاراً أعار غربالَ قمحٍ لجارِهِ على البيدر، ومن يد جارٍ لجارٍ آخر انتقل الغربال، حتى وصل إلى آخر بيدرِ قمحٍ للعقاربة بالقرب من أرض العوجا، في دلالة على اتساع الأراضي المزروعة بالقمح.

أصعدُ الطريقَ المهجورَ ولا أرى سوى بقايا البيادر القديمة وأطلال (السقايف) والآبار التي تهدّمت وخربت من طول الهُجران. وليس في الدرب سوى بقراتٍ بلديّات يُسابقن صوت الطيور نحو عين الحفيرة لِيَرِدنَ ماءَها ويشربنَ منها. ولا شيء في الدربِ الطويل سوى بيوت عَكّوب قد تفتّحت أعشابُها في أوّل طلعتها، يُزاحِمها الخردلُ الذي تملأ أعشابُه تلك الجبال، أما نبات الخُبيزة فكان رغم جفاف أوراقه أخضر في مواضع مبيت الغنم ومنازلها.

قديماً، وقبل أن يُهجّر النّاسُ من الغور ويُحرموا منه بفعل الاحتلال، كانت النسوة الساكنات في السقايف على جنبات درب السَّلطية يضرعن إلى الله صائحات إذا تأخّر المطر وأمحلت الأرض، يضرعن إذا أبصرن المسافرين عابري الدرب بخيولهم العطشى وهي ضامرة البطن من قحل السنين7وفقاً لمقابلة شفوية مع  فاطمة عبد الرحمن أبو كبر (1923-2019)، أجريت بتاريخ 15/7/2009.:

يا إم الغيث غيثينا .. خلي المطر ييجينا
يبل إثويب راعينا
يا إم الغيث غيثينا .. خلي العِشيبه تنبت
ترعاها شلايانا
وفلاحنا يسقي خيله .. على درب السلطية

سقيفة المرحوم لطفي أبو صقر، في منطقة المسَطّرة. عدسة: عبد الفتاح داوود.

دَرب المَوسمين والمُرتَحَلين

لفلاحي الغور وبدوهِ مواسم ومواقيت تُحدِّد فِلاحتهم ومراعيهم، وكذا أماكن نصب خيامهم ومنازلهم، وكانوا على ذلك إلى أن  فتّت الاحتلالُ الأرض وغيّر من علاقتنا معها، وتسبّب بتهجير نُزلاء الغور ومنعهم من التنقل والرعي فيه.

كان النّاسُ في مشاريق نابلس وشفا الغور كقرى: عقربا، ومجدل بني فاضي، ودوما، ويانون يرتحلون من قراهم إلى الغور للتعزيب والإقامة مع بدء هطول الأمطار في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني أو بداية ديسمبر/ كانون الأول. يتشاركون الحياة والمرعى بأرضهم مع جيرانهم من بدو الأغوار كعرب المساعيد والصعابنة والحناحنة وخزاعة والكعابنة، وغيرهم من البدو المُقيمين بالغور أو النازلين فيه مُؤقتاً. 

خلال تلك الفترة يفلح كل أولئك الغور ويزرعون أرضه بالقمح والشعير. ويبقون هناك مع دوابهم وأغنامهم وأبقارهم حتى فصل الربيع. ويهرع إليهم في تلك الأوقات فلاحون وغنّامة من قرى مختلفة في الضفّة الغربيّة، يأتون إلى مراعي غور العقاربة مقابل تقديم شاةٍ لأصحاب أراضي الغور بين فصايل والجفتلك8"عقربا بوابة الشرق"، بحث غير منشور لحمزة أسامة العقرباوي، 2011..

ومن الأغوار تُحمل الأجبان والألبان والجميد، وخيرات الغور وَخُضرَتُه، وَيُنطَلَقُ بها صُعوداً نحو الجبال شرقاً وغرباً عبر درب السلطية قاصدين مدينتي نابلس والسّلط. وقد كانت نسوة الغور تُنشد فرحاً بخطو العائدين عبر درب السّلطية لمضاربهم ومنازلهم، وقد اشتروا بثمن ما باعوا ما يحتاجون من بضائع وكسوة لأفراح ستهلّ مع أوّل صيف:

والله لأزرع درب السلطية ليمونِ              عشَان محمّد سَبع البَرِّ مزيون
والله لأزرع درب السلطية رِيحَانِ              عشَان محمّد سَبع البَرِّ فَرحانِ

وإذا أذِن الصيفُ بأول طلعته وحمي الغور ارتحل أهلُ تلك القرى لمنازلهم في شفا الغور، وعادوا لقراهم في السفوح الشرقية لجبّال نابلس، وذلك في موسم حصاد القمح في الجبال، فيكونَ عند عودتهم أولَ مواسم الأرض في انتظارهم. ثم تتابع مواسم الشجر والثمار مروراً بموسم القيظ ثم الزيتون.

مقطع من درب السّلطية. عدسة: حمزة العقرباوي.

وفي فصل الصيف أيضاً يرتحل إلى مشارف الغور البدو من عرب الصعابنة والمساعيد والحناحنة وخزاعة..إلخ، وينزلون في السهول والفجاج الواسعة ويحلون ضيوفاً على أهل قرى الجبل عموماً وعلى عقربا خُصوصاً، حتى أنهم كانوا يَعدّون أنفسهم من حمائل عقربا، وكانت مضاربهم ومنازلهم الصيفيّة ثابتة الموضع، ولمشايخهم صدر المجالس في مضافات القرية.9كان الأمير علان الضامن رحمه الله قد صاهر أهالي عقربا وتزوّج من فوزية المالك بنت شيخ عقربا، كما أنّ عرب المساعيد والصعابنة دخلوا مع العقاربة في حلفٍ بينهم (فزعة الغور)، وذلك لحماية المراعي ومنع الغريب من النزول بها إلا بإذنهم. 

بطولاتٌ ودماء لا تحجبها الحدود

تنتسب بعضُ حمائل عقربا وعائلاتها لمدينة السّلط، ولعل أشهرها حمولة بني جابر، التي تُعدُّ واحدةً من الحمائل السبعة الأساسية في عقربا.10للمزيد من المعلومات طالع: مصطفى محمود عايد، عقربا بين الماضي. والحاضر، بلدية عقربا 2005 وبنو جابر عائلة سَلطيّة حلّت في عقربا مع ثلاث عائلاتٍ أخرى قبل مئات السنين، كما يقول معمّرو القرية. كما أنَّ كُثراً من عائلات قرى مشاريق نابلس تربطهم بمدينة السلط صلاتُ قرابةٍ ونسب، ومرد ذلك عائدٌ للجوار بين نابلس والسلط وتقابلهما على ضفّتي النهر، ولما بين المدينتين من روابط الإخاء والدم، فالمدينتان توأم في تركيبتهما وعمارتهما وعائلاتهما، ولذا كان العقرباوي إذ حلّ بالسلط نزل عند تجارها مُرحَبَاً به، فهو آتٍ من نابلس شقيقة مدينتهم وشبيهتها. كما أنَّ السّلط فتحت ذراعيها تاريخيّاً لأبناء نابلس مدينةً وريفاً، فنزلوا بها وأقاموا، وتقول إحدى الحكايات بأنّ النوابلسة أتوا بحجارة بعض قصورهم ودورهم التي بنوها في السلط من مدينة نابلس وذلك عبر نهر الأردن.

وإلى وقت قريب كان كبار السن في عقربا يضربون المثل بالرجل الذي يتنقل من مكان إلى آخر، ولا يستقر في أحدهما بالشيخ مفلح بن فلاح الحمزة - رحمه الله-، وهو شيخ عقربا الذي ارتحل في نهاية العهد العثمانيّ إلى مدينة السلط، تاركاً المشيخة التي ورثها أباً عن جد، فعاش مُتنقلاً بين البلدين إلى أن توفي في السلط. ولم يكن الشيخ مفلح الحمزة الوحيد من عقربا الذي فعل ذلك، إذ سبقه آخرون ولحق به كُثر من عقربا فأقاموا في السلط ولا يزال نسلهم مُنتسب لهذه المدينة العريقة.

الطريق من منطقة الملعب إلى فصايل، وهي جزء من درب السلطية.

وكان للسلطيين حضورهم في تاريخ النضال الفلسطينيّ كما في ثورة فلسطين الكبرى 1936-1939، هذه الثورة التي سارع فصيلُ السّلط للالتحاق بها. إذ نزل فصيل السلط في عقربا وأقام في غورها طوال معارك الثورة وذلك برفقة عبد الله البيروتي وخميس العقرباوي، وشهدوا معركة بيت فوريك التي وقعت بتاريخ 14-15/11/1938م، واستشهد يومها قائد فصيل السلط البطل أحمد النجداوي والشهيد جمال جقّة السلطي، بجانب الشهيد الشيخ أبو عبدالله عبدالفتاح السيلاوي أحد أهم قادة الثورة في فلسطين.

ولم تغب السلط عن حضورها في فلسطين، بل ظلت أبوابها مُشرعةً لأبناء الضفة الغربية ينزلون بها أهلاً وتجّاراً وزوّاراً وبينهما من الود ما لا تحجبه الحدود.

محطّات على الدرب

لا تموت الحكايات التي تروى، ولا تُنسى معالم الدرب حتى وإن تغيّرت المسالكُ بفعل الاحتلال وطول الهجران، فالأرض وحكاياها والدرب ومعالمها لا تزال حاضرةً في ذاكرة مُلّاكها وعُشّاقها وإن حُرموا منها. ومن ذلك ما كنتُ سمِعتُه طوال سنوات عن محطّاتٍ ومعالم بارزةٍ على طول الدرب من عقربا إلى نهر الأردن.

"الطريق بتّوهش" هكذا يقولون، ومردّ ذلك أنّها كانت تمرُّ من بقاعٍ معروفةٍ ومعمورة، ولم تكن خاليةً من الناس البتّة، وعلى طول الدرب تجد معالم مميزةً تجعلك مستأنساً بالمسير، لأنك كلما مرّرت بها تذكرت الحكاية التي ترتبط بها.

الطريق من قرن سَرطبة إلى عقربا عبر درب السّلطية. عدسة: حمزة العقرباوي.

ومن ذلك حجر الحَنَاحنة في الرُبع الأول من مسيرك شرق عقربا، وهو حجرٌ كبير منسوب لعرب الحناحنة الذين كانوا ينزلون عقربا صيفاً، حجر له رنين وصدى إذا دققت عليه ولطمته بقوة، حتى زعموا بأن بداخله خبيئة من قديم العصور. ثم تمرُّ في الربع الثاني بحجر السّبع خوات، وهو حجر يقف بشكلٍ طوليّ على مُرتفعٍ يُطل على الدرب، تزعم الحكاية أن مرور سبع أخوات بالدرب كفيل بأن يحركه ليسقط عليهن.

وكلما تقدمت بالدرب هلّت عليك الحكاياتُ وتزاحمت "الخراريف" تسرد لك خبر الزير سالم وحكايته مع الأسد في عين الحفيرة، أو حكاية أبو زيد الهلالي والأمير مرعي عند بير أبو الدرج. وغيرها من القصص الأسطوريّة والخرافيّة والمعالم الواقعية التي جعلت من درب السّلطية طريق الونس والحكايات وجميل الذكريات. 

العبور الأخير

مع وقوع الضفّة الغربيّة في قبضة الاحتلال الإسرائيلي في حزيران 1967، بدأ الاحتلال بمنع ظاهرة التسلل عبر النهر، ثم عمل على إخلاء الأغوار بين نهر الأردن ومشارف بلدة عقربا من التجمعات الرعويّة، وكثّف من دورياتهِ التي استخدمت النّارَ لقتل المارّين والمسافرين عبر الطريق الجبليّ، وكذلك العابرين من وإلى النهر. ومن بين المُلاحقين بنيران الاحتلال كان الفدائيون الذين عبروا النهر لتنفيذ عمليات في الأرض المحتلة، وكذلك المهرِّبون الذين يتّجرون بالبضائع لتوفير قوت عيالهم.11كُثُرٌ تحدثوا عن ظاهرة التسلل وعبور النهر، ولعل واحدة من أهم الأعمال المكتوبة تجربة وسيرة موسى الشيخ أبو كبر : (الشمس تولد من الجبل).

الكتاير (وهي التلال الصغيرة) في آخر درب السلطية غرب نهر الأردن.

خلال السنوات الأولى للاحتلال استشهد مئات الفلسطينيين على الضفّة الغربيّة من النهر وبين التلال والكتاير في الغور. وذلك قبل أن يزرع  الاحتلالُ الطريق بالألغام ويُقيم سياجاً فاصلاً يعزل الحدود كاملةً، ثم يُخلي التجمعات الرعويّة في محيط درب السّلطية. وبذلك انقطعت الدرب وخلت من العابرين نحو مدينة السلط.

خمسون عاماً مضت على توقف عجلة الحياة في درب السَلطية، وانقطاع مسير الناس من نابلس إلى مدينة السلط، تلك الطريق التي كانت ضاجةً بالحياة المحملة بالخيرات والغلات بين ضفتي النهر. خمسون عاماً جعلت من السلط بعيدةً عن نابلس، حتى أنّني أَقِفُ في وسط الطريق على مقربةٍ من النهر ويخيلُ إليّ أن الوصول الى السلط  مشياً على الأقدام ضرب من الخيال أو حلمٌ نرجو أن نفيق على تحققه.



19 أغسطس 2019
السياسة من وجهة نظر السرعة

في كتابه "السرعة والسياسة".يخبرنا بول فيريليو Paul Virilio القصة التاليّة: عام 1934 أعلن هتلر الشروع في تصنيع سيارة فولكسفاكن ،…