1 ديسمبر 2025

حكاية الرجل المَكيث: محمد الضيف

حكاية الرجل المَكيث: محمد الضيف

إن كنتَ تقرأ هذه الكلمات، فقد قادك العنوان الغريب إلى معرفة صاحب القصة، وربما تجاوزتَ العنوان، ولفتك اسم "الضيف"، فنقرت على الرابط رغبةً في معرفة المزيد عن رجلٍ أمضى جُلّ عمره في الظل، وتركَ دوياً ما زال يطنُّ في آذان كل سكّان المنطقة.

هناك طريقتان لحكاية قصة "أبي خالد"؛ موجزة ومسهبة.

ذلك فتى خرج في عام 1987 يرمي الحصى على جيبات الاحتلال ودباباته في الانتفاضة الأولى مع "أطفال الحجارة"، حين لم يكن للمقاومة غير الحجارة، وبعد 35 عاماً، عبرَ مع رجاله إلى الضفة الأخرى من السياج، واستُشهد في الميدان تاركًا جيشًا كسر به دولة نووية، ومنظومة أمنية صمدت لأجهزة الاستخبارات الأولى في العالم، وركن تصنيع يصنع من الرصاصة إلى الصاروخ، وجنودًا يدخلون في كل فنٍّ من فنون الحرب، هذا كله وقد كان مطارداً مستتراً مع استمرار الرصد، وتتابع الطلب، وإحكام الحصار في مساحة لا تتجاوز 365 كيلومتراً مربعاً، هذا موجز سيرته.

وإذا أردت الإسهاب، فدونك الرواية1كتب الباحث هذا المقال بالاعتماد على مقابلات أجراها مع عدد من مقاومي كتائب الشهيد عز الدين القسام، وآخرين من حركة حماس كانوا مقربين خلال فترات زمنية عديدة من الشهيد محمد الضيف. ونتحفظ على ذكر أسمائهم بناءً على طلبهم وحفاظاً على خصوصيتهم. ..

فخّ الحاخام 

تذرع سيارة نقل حمراء من طراز "فوكس فاغن" الطريق المؤدي إلى مطار بن غوريون، وتنطلق منها أصوات المذياع بلغة عبرية، يجلس خلف المقود شابٌّ يرتدي قميصاً عليه علم "إسرائيل"، وبجواره "حاخام" يعتمر "الكيباه" (قلنسوة تشبه قرص البانكيك يضعها المتدينون اليهود على رؤوسهم)، وخلفهما يقعد رجلان كأنهما نسخة مكررة منهما؛ يلبس أحدهما قميصاً موشوماً بعلم "إسرائيل" ويرتدي جاره لِباس رجال الدين.

على حافة الطريق، يقف مجنّدٌ إسرائيلي يبحث عن توصيلة مجانيّة، أبطأ السائق رغبةً في حمله، فصدرت من الحاخام الوقور نبرة متذمرة: "لا نريده، لا يحمل سلاحاً!".

تجاهل السائق تعليق الحاخام وتوقف، سأل الجندي: "إلى أين أنت ذاهب؟" "إلى كيبوتس قريب، في هذا الاتجاه"، "المعذرة، نحن نتجه في الطريق المعاكسة"، قال السائق والسيارة تتحرك عائدةً للطريق مرة أخرى، فتنهد الحاخام تنهيدة مستريح.

توقف السائق لدى مفترق الطرق المؤدية إلى تل أبيب، وأخذ طريقاً إلى منطقة "ياهود" الصناعية، هناك، لمح سيارة "سوبارو" تقف على الشارع المقابل، وينزل منها مجندٌ يحملُ سلاحه، زاد السائق السرعة، والتف بطريقة خاطفة مالت معها قبعات الركّاب، ونسخة التوراة الموضوعة على لوحة القيادة، لينتقل إلى المسار الذي يقف فيه الجنديّ، أطلق له منبّه السيارة، فرفع الجنديّ يده ملوحاً: خذوني معكم..

لم يقف السائق بجانبه مباشرة، بل تجاوزه بنحو عشرين متراً ثم توقف، ركض الجنديّ بحماسة وحقيبته ترتجُّ على ظهره، فرحاً بحصوله على توصيلة من دون أن ينتظر طويلاً عطف العابرين.

"إلى أين أنت ذاهب؟" قال السائق وهو يُرخي نافذة "الحاخام"، وصوت الموسيقى العبرية التقليدية يتسرّب مع صوته خارج السيارة، "إلى الرملة، هل أنت متجه إليها؟" لم يكد السائق يُتم إجابته بنعم، حتى فتحَ الجنديّ الباب، ووضع قدمه ليصعد، حرصًا على المشوار المجانيّ.

اقرؤوا المزيد: من "السوبارو" إلى الدفع الرباعي.. موجز تاريخ الخطف

استوى جالساً بجوار الراكبين اللذين أضفيا جوّ الكنيس على السيارة بهيئتهما وكلامهما الهامس وأصوات الأغاني الحسيديّة المنبعثة من المذياع، حاول التحدث مع أحدهما فلم يلتفت إليه أو يجبه بشيء، فأدار وجهه ليرى الشمس تغيب خلف التلال التي انتزعوها من العرب قبل بضعة عقود.

كان الجو كئيباً في الداخل، تناقصت سرعة السيارة بعد دخولها في أزمة زحام على الطريق المؤدية إلى المطار، والمذياع لا يكف عن البث بصوت مرتفع كأنه عربة إذاعة متنقلة، وضع الجنديّ بندقيته على فخذيه، وراح يفكر في ما ينتظره في هذه الإجازة بعد فترة خدمته في جنوب لبنان، كانت بندقيته خالية من مخزن الرصاص؛ ففي ذلك الوقت كانت السلطات الإسرائيلية تمنع جنودها من حمل سلاح مذخّر في حدود الأراضي المحتلة عام 1948.

استفاق من أفكاره على وقع تسارع السيارة واضطرابها على الطريق السريع، بعد أن تجاوزت أزمة السير متجهة إلى القدس وقد أحاطت بهم الأحراش على حافتَي الطريق.

عبر المرآة المثبّتة في مقدمة السيارة، نظر السائق إلى الركّاب نظرة آمرة، فوثب الشاب الذي يحمل على صدره علم إسرائيل على الجندي، ووضع رقبته تحت ذراعه، صارخًا: "الله أكبر!"، بصوت انخلع له قلب الجنديّ المدرّب، الذي استطاع بسرعة أن يلقّم بندقيته وهو يقاوم قبضة "حسن"..

"اقتله يا صلاح!"، صاح حسن، وهو يعصر بكل قوته رقبة الجنديّ، بزميله الذي انضمّ إليه في الإطباق على الفريسة التي راحت تحاول توجيه فوّهة البندقية نحو أحد الشابين.

صاح السائق: "لا تقتلوه، نريده حياً!" هناك فقط، قفز الحاخام الذي بجانبه بخفة، والتقط المسدس المثبّت على خاصرة صلاح المنشغل في العراك، وأهوى بكل قوته بكعب المسدس على رأس الجندي الثائر، خمدَت حركته وبردت ناره والدم يسيل على وجهه، في نفس اللحظة، مدّ عبد الكريم (الحاخام سابقاً) يده الأخرى ساحباً مخزن الرصاص من البندقية، عندما أدرك حسن وصلاح أن الخطر قد حُيّد، امتدت أيديهما إلى فمه حتى لا يصرخ، وحشوَاه بقطعة قماش.

تحولت ثورة الجنديّ إلى بكاء وتوسّل: "لا تقتلوني! أرجوكم لا تقتلوني"، كانت غمغماته تخرج مفهومة من خلف كرة القماش وأيديهم التي صارت كمامة على فمه.

"إذا أردت ألا تموت، فاسمع ما أقوله لك"، قال السائق بلغة عبرية واضحة، "نحن كتائب القسّام، الذراع العسكري لحماس، أسرناك حتى نطلق بك سراح شيخنا أحمد ياسين وإخوتنا من الأسرى في سجونكم"، "يعني لا تريدون قتلي؟!" أجاب بصوت بدأ ينقشع عنه الهلع، "نريدك حياً، ليس من مصلحتنا قتلك!"، "أعدك ألا تسمع صوتي وألا أفعل شيئاً، أنا لم أعتدِ على أي فلسطيني ولم أعمل ضد الانتفاضة، فأنا أخدم في فرقة جولاني في جنوب لبنان".

كان الجميع يفهم العبرية عدا صلاح الذي جاء من غزة، فسألهم: "ماذا يقول؟" قال عبد الكريم: "يريد أن يتنصل من دمائنا وكأن اللبنانيين ليسوا منا!" سأله حسن: "من أين أنت؟" "من القدس"، انفجر الشباب بالضحك: "أوف.. طلع بلدياتنا!"

عادت السيارة إلى التباطؤ بعد اقترابها من حاجز أمني، كانت دقائق مرعبة، تحركت فيها القلوب بالدعوات، وبعد سكون دام لدقيقتين، انطلقت الأصوات بالحمدلة من الركاب الأربعة، تلفّت الجنديّ بعينين ملؤهما الأسئلة، فقال السائق: "الحمد لله، تجاوزنا معبر إيرز!"، انفجر الجنديّ بالبكاء: "أرجوكم لا تأخذوني لغزة، لا تأخذوني لغزة! أتوسل إليكم.. لا أريد الذهاب إلى الجحيم".

تلاحظ الأربعة بأعينهم وابتسموا ابتسامة رضا؛ لقد ابتلعت الضحية طُعم التمويه.

الشبح يطلّ للمرة الأولى

حين توقفت السيارة في التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر 1994، لم يعرف الجنديّ أنهم كانوا في بير نبالا شمال غرب القدس، في اليوم التالي أرسلت الخلية شريط تسجيل للجندي وهو في قبضتها، برفقة أوراقه العسكرية، إلى العقل المدبر لهذه العملية في غزة، الذي جنّدهم باحترافية حيث انتخبهم من مناطق مختلفة تضمن لهم حرية التنقّل والتمويه؛ فمنهم مقدسي وخليلي وضفاوي وغزيّ.

في اليوم التالي، ظهر رجل يتخفى خلف لثام بالكوفية الفلسطينية ويرتدي قميصاً أخضر، ويمسك بورقة يقرأ منها بيان العملية:

"تعلن كتائب عز الدين القسام مسؤوليتها عن أسر الجندي الإسرائيلي ناحشون مردخاي [فاكسمان]، ونطالب بالإفراج الفوري والسريع عن زعيم حركة المقاومة الإسلامية حماس، الشيخ أحمد ياسين.."

وهدد الملثم الحكومة الإسرائيلية بأن أي محاولة للتلاعب أو الالتفاف على المطالب، ستؤدي إلى تصفية الأسير.

حين بثّ الإعلام العبري المقطع، رأى الإسرائيليون لأول مرة الرجل الأخطر في تاريخهم، والذي سيؤرق دولة الاحتلال على امتداد ثلاثة عقود؛ لقد رأوا صورة "الشبح" الذي سيطول ليلهم معه، أو رأوا عينيه على الأقل.

الظهور الأول للشهيد محمد الضيف إثر عملية اختطاف كتائب القسام الجندي الإسرائيلي نخشون فاكسمان.

كان ذلك محمد بن دياب بن إبراهيم المصري، المعروف "بالضيف"، قائد كتائب القسّام.

قدم الضيف وقتها قائمة بالأسرى المطلوب من سلطات الاحتلال الإفراج عنهم مقابل فاكسمان، وفيهم 50 أسيراً من حماس، و25 من حركة الجهاد، و50 أسيراً من فتح من أصحاب الأحكام العالية، و20 أسيراً من الجبهة الشعبية، وعشرة أفراد من الجبهة الديمقراطية، و20 شخصاً من حزب الله، وجميع المعتقلات الفلسطينيات.

بادرت حكومة رابين بإغلاق قطاع غزة، معتقدة أن فاكسمان محتجزٌ فيها بدلالة ظهور الضيف في التسجيل، وطلبت من السلطة الفلسطينية أن تستفرغ طاقتها للوصول إلى الجندي الأسير، لم تتأخر السلطة في التعاون، ولكنها بعد فحص دقيق أرسلت خطاباً إلى مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي فحواه: "لم نجد أثراً للأسير في المناطق التي نسيطر عليها، ابحثوا في مناطق سيطرتكم!".

تمكّن "الشاباك" من القبض على جهاد يغمور، سائق السيارة التي استخدمت في العملية، بعد تتبع معلومات السيارة الحمراء المستأجرة، ثم وصلوا إلى زكريا نجيب، صاحب البيت الذي اتخذته الخلية مأوى، وتحت التعذيب الشديد، توصلوا إلى مكان الاحتجاز في قرية بير نبالا شمال غرب القدس، على بعد عشر دقائق فقط من منزل فاكسمان في حي راموت بالقدس.

نثر رابين كنانَته، واستدعى وزير داخليته إيهود باراك، الذي كان قائداً سابقاً لــ "سايريت ماتكال"، وحدة النخبة في الجيش الإسرائيلي التي نفذت عملية إنقاذ الرهائن في عنتيبي عام 1976 (والتي قُتل فيها يونتان نتنياهو، الشقيق الأكبر لبنيامين نتنياهو).

طُرحت عدة حلول تقتضي تبادل أسرى، وتقديم الشيخ أحمد ياسين وصلاح شحادة لاسترجاع فاكسمان، لكن رابين، خوفًا على صورته التي ترسخت "نعومتها" بعد اتفاق أوسلو أمام المجتمع الإسرائيلي، قرر أن يتخذ القرار الأخطر: تحرير الأسير بعملية عسكرية غير مكترثٍ بإمكانية تعريض حياة الجندي للخطر، فالقاعدة الأمنية لدى الاحتلال تقول إن التعامل مع الموتى أسهل دائماً من التعامل مع الأسرى.

تعهّد له باراك بأنه قادرٌ على استنقاذه، كما استُنقذ الرهائن في عملية أوغندا.

ليلة بير نبالا

"سيدي، نحن في ميدان العملية، هل من تعليمات جديدة؟!" قال قائد العملية، نير بوراز، لإيهود باراك عبر جهاز الاتصال، بعد أن تسللت قوتان في سيارات تجارية إلى محيط المنزل، "نفِّذ"، جاء صوت باراك في السماعة المثبتة في أذن الجندي الذي يحمل 30 كيلوغراماً من التجهيزات على جسده.

أحاطت القوات بالمنزل، وتسللت مجموعة المتفجرات لتعليق عبوة ناسفة على الباب الحديديّ للبيت، كان المخطط أن يقذف الانفجارُ البابَ إلى الداخل، وفي اللحظة ذاتها تنهمر القوات من ثلاث جهات لاقتحام الدار، مستفيدة من عنصر المفاجأة ضد شباب الخلية الذين لم يتجاوز أكبرهم 22 ربيعاً، ولم يتلقوا تدريباً عسكرياً يمكّنهم من مواجهة قوة بلغت الذروة في التجهيز.

أخذ بوراز يعقد أصابعه الثلاثة واحداً تلو الآخر ليعطي إشارة بدء العملية، وذهنه يفكر في المجد الذي سيناله من رئيس الوزراء بعد نجاحه، ثلاثة من "الهواة" يقفون بينه وبين ترقيته رتبة أو رتبتين، وما إن قبض الإصبع الثالث، حتى ثارت كومة غبار وانطلقَ يتقدم مجموعة من رجاله باتجاه الباب، ولكنهم تجمدوا في أماكنهم حين سمعوا من فريق المتفجرات أن الباب لم يزل صامداً، لم يعلموا أن الخلية كانت قد احتاطت في تحصين البيت، ووضعت باباً من الفولاذ لا يمكن اختراقه بسهولة.

"فجروه مرة أخرى، لا يمكن أن نتراجع الآن!" طنَّت صرخة بوراز في آذان الجنود، وفي أذن باراك وأعضاء الحكومة الذين يتابعون العملية من كثب، خلال ثوانٍ، عاودوا التفخيخ والتفجير، فانفتح الباب، اقتحم بوراز مع مجموعته، مالئين ممر الدار بأنوار بنادق الليزر، لم يُقابلوا بوابل من الرصاص كما توقعوا من الخلية التي أربكها التفجير، فأغراهم ذلك بالتوغّل باتجاه الغرفة التي أخبرهم جهاد بوجود الأسير فيها، كان بوراز يتقدمهم ويعطي التعليمات لجميع الوحدات، وفجأة غاب صوته، تحسس كل عنصر سماعته بحثاً عن خطأ تقني، ثم عاد الصوت بارتطام شديد على الأرض.

كان عبد الكريم، المتمترس في نهاية الممر انتظاراً لهم، قد أرسل رصاصةً واحدة بعد أن تعوّد الاقتصاد في الذخيرة في كل تدريباته القسّامية، لشحّ السلاح الذي تعاني منه المقاومة، اخترقت الرصاصة رأس بوراز وقضت عليه.

صورة من شريط فيديو نشرته خلية في كتائب القسام بعد اختطاف الجندي الإسرائيلي نخشون فاكسمان في تشرين الأول/ أكتوبر 1994، واحتجزته في شقة في قرية بير نبالا قرب القدس المحتلة.
صورة من شريط فيديو نشرته خلية في كتائب القسام بعد اختطاف الجندي الإسرائيلي نخشون فاكسمان في تشرين الأول/ أكتوبر 1994، واحتجزته في شقة في قرية بير نبالا قرب القدس المحتلة.

"الله أكبر!"، جلجلت الكلمة في آذان حسن وصلاح اللذين انسحبا إلى غرفة الأسير في وضعية دفاعية، وتسربت عبر جهاز القائد القتيل إلى آذان الوحدات ومكتب رئيس الوزراء، ثم انهمر شلال من الرصاص باتجاه نهاية الممر.

"ما الذي حصل؟" رفع حسن صوته مخاطباً عبد الكريم، "ألم أقل لكم إني أفضل من يتولى استقبال الضيوف! أصبتُ اثنين من القتلة! والبقية تأتيكم، لن يصلوا إليكم حتى يتخلصوا مني أولاً!"، رد عبد الكريم، مذكراً إياهم بالخلاف الذي خاضوه وهم يضعون خطتهم الدفاعية، حين أصرّ أن يكون خط الدفاع الأول.

تعالت الكثافة النارية لتغطية سحب جثة القائد، ثم اقتحمت وحدة أخرى البيت من نافذة المطبخ، تخلّى عبد الكريم عن سياسة الاقتصاد في الذخيرة، وأخذ يوزع رصاصه على القادمين إليه من كل اتجاه، حتى غاب صوته وهو يقول لأصحابه: "الموعد الجنة يا شباب!".

"ما الذي حدث؟ كيف انسحبتم دون تحرير الجندي؟" صاح باراك في سماعة عوفر ديكل، منسق الشاباك المشرف على العملية، أجاب ديكل "لقد وقعنا في كمين يا سيدي، كانوا ينتظرون قدومنا، والمعلومات التي ذكرها لنا المخرّب عن الغرفة التي فيها نحشون كاذبة!" أجاب ديكل، "أكملوا المهمة واستخدموا كل الوسائل لإنهاء العملية بأقل الأضرار"، قال باراك الذي دخل في نوبة غضب.

"حسن تيسير النتشة، وصلاح الدين جاد الله، نحن نعلم أنكما في الداخل، هل الرهينة ما تزال حيّة؟ ما رأيكما بالتفاوض؟ يمكننا الوصول إلى حل مناسب"، نادى ديكل عبر مكبر الصوت، "انتهى وقت التفاوض"، رد حسن، "البيت محاصر، لا يوجد طريق للنجاة، صاحبكم عبد الكريم قُتل، يمكنكما الخروج أحياء، إذا استسلمتما وأخرجتما الرهينة!"، "اخرس! كتائب القسام لا تستسلم!" قال صلاح، وأطلق رصاصةً، بينما دحرج حسن قنبلة يدوية إلى الخارج، محددين لغة التفاوض الوحيدة، "قنبلة.. قنبلة!"، ركض الجنود مبتعدين، فدوى صوتٌ هائل داخل البيت.

مجلة "البيادر السياسي"، صفحة 5، عدد 587، 22 تشرين الأول/ أكتوبر 1994.
مجلة "البيادر السياسي"، صفحة 5، عدد 587، 22 تشرين الأول/ أكتوبر 1994.

تبادل صلاح وحسن النظرات، ثم قالا لنحشون: "أردنا لك الحياة، وأرادت لك حكومتك الموت"، "ماذا تريدان؟ حسنا دعونا..."، سأل ديكل، فقاطعه صوت رصاصتين داخل الغرفة، "ماذا فعلتم أيها المجانين؟!"، "تعال وخذه جثة، بعد أن أبيتم أن تستعيدوه حياً".

"عبد الكريم ينتظرنا"، قال حسن لصلاح وهو يعانقه، ثم رددا: "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، عليها نحيا ونموت"، أسندا ظهرَيهما إلى الجدار، وأيديهما على الزناد، منتظرين اقتحام قوات العدو للغرفة.

لم تكن عملية التحرير الفاشلة التي حصلت في 14 تشرين الأول/ أكتوبر حدثاً عابراً لدى دولة الاحتلال، بل كانت فضيحة حكومية نُقلت مباشرةً على التلفزة الإسرائيلية، واكبت عدسات التصوير الأخبارَ أولاً بأول ترقباً لأنباء سعيدة لم تأتِ قط.

حين جلست الأجهزة الإسرائيلية لتقييم النتائج الكارثية للعملية، بدءاً من هويات المنفّذين، إلى تجهيزاتهم، وطريقة تنفيذهم، وتمويههم، وخطتهم الدفاعية، وجدوا سابقةً لم يعهدوها، للمرة الأولى، تنفذ المقاومة عملية بهذا التنسيق العالي بين خلاياها، وتتحسب لكل مفاجأة، صحيح أن قوات الاحتلال قتلت أفراد الخلية الثلاثة، ولكنها خسرت الجنديّ الأسير، وفقدت جنديين من قوة النخبة بنيران المقاومين، أحدهما قائد العملية.

ومع ذلك كله، ظل العقل المدبر ذو اللثام في غزة، الذي ظهر في التسجيل، بعيداً عن قبضتهم، لقد فرضَ القائد الجديد لكتائب القسام، محمد الضيف، نمطاً جديداً في مواجهة الاحتلال، نمطاً صعباً ومخيفاً.

لم يتوقف الضيف عن مشروع تخليص الشيخ ياسين ورفاقه، ولكنه علّق المشروع لفترة معيّنة، كان عليه في مطلع عام 1996 أن يثأر لرفيق الكفاح، ويفرض معادلة جديدة لتعامل الاحتلال مع المقاومة.

المُطارِد

"والله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به" عمر بن الخطاب

قبل أن يصبح "الضيف"، كان محمد دياب إبراهيم المصري. وُلد عام 1965 في مخيم خان يونس، لأسرة لاجئة اقتُلعت جذورها عام 1948 من قرية القبيبة غرب الرملة على أيدي العصابات الصهيونية، كانت طفولته نسخة مكثفة من تجربة اللجوء الفلسطيني، فيها فقر مدقع، وأب يعمل ولا يكفي كدّه لإعالة أطفاله، فخرجوا للعمل حين كان من المفترض أن يكتفوا باللعب، في طفولته لم تكن هنالك طفولة.

أجبره الفقر على العمل مبكراً، شأنه شأن آلاف الأطفال في المخيم، عمل في ورش صغيرة، وأنشأ مزرعة دجاج متواضعة، وحصل على رخصة قيادة ليعمل سائقاً، محاولاً مساعدة أسرته على البقاء، لم يكن في نشأته ما يُنبئ بأنه سيصبح "الشبح"، فلولا سر أودعه الله فيه لكان مجرد رقم آخر في إحصائيات اللاجئين.

جاء التحول في الجامعة الإسلامية بغزة، هناك، التحق بكلية العلوم، وبينما كان يدرس البيولوجيا والكيمياء، كان يلتهم فكر جماعة الإخوان المسلمين، برز "أبو خالد" في صفوف "الكتلة الإسلامية"، لكن ليس قائداً عسكرياً، بل رجلَ دعوة ومسرح ونشاط طلابي.

اقرؤوا المزيد: سيرة صاحب الظل الجليل: محمد الضيف

كان، كما يصفه عارفوه في تلك الفترة، شعلة في النشاط الاجتماعي، يشارك في "يوم الحصيدة" لمساعدة المزارعين، وينظم العمل الإغاثي، والمفارقة الأبرز، أنه كان يمتلك ميلاً فنياً؛ أسس "لجنة الفن" في الكتلة، وكان يكتب ويمثل في المسرحيات التي تقدمها الحركة في احتفالاتها، كان ذلك الشاب، الذي سيصبح كابوس المخابرات الإسرائيلية يقف على خشبة المسرح لترفيه الجمهور، في مسرحية "المهرّج" التي كتبها محمد الماغوط، سيطل الفتى على الجمهور بشخصية اسمها "أبو خالد" وبعد المسرحية سيخلع زيّ الشخصية ويَعلَقُ فيه اسمها.

وعندما اندلعت الانتفاضة الأولى عام 1987 المعروفة بسلاحها الأشهر "الحجارة"، انصهر الطالب الجامعي والفنان الهاوي في بوتقة حماس الوليدة، لتبدأ الأسطورة.

سيبدأ الضيف عمله العسكري ضد من يجنّدهم المحتلّ لوأد فكرة المقاومة، فقد كان العملاء سلاحاً فاتكاً لكل محاولة لإحياء روح الكفاح المسلح، "البدايات كانت في الأساس عمليات غير موجهة ضد جيش الاحتلال، بدأت الكتائب بالعمل ضد العملاء في معظم العمليات" قال أبو خالد حاكياً بدايات التحاقه بالعمل العسكري، ويضيف مؤرخاً لبداية الكتائب "هناك عملية بمثابة الانطلاقة للعمل العسكري كانت في الأول من كانون الثاني/ يناير 1992 ضد حاخام كفار داروم، اسمه أعتقد كان درانشيشتان، وتم إطلاق النار عليه من مسدس لم يكن عندهم غيره".

لو كنت فلسطينياً وأرسلتك أمك إلى السوق مع قائمة طلبات للبيت برفقة يحيى عياش ومحمد الضيف في التسعينيات، ستعود أنتَ بأغراض والدتك، وسيعود محمد ويحيى بخطة لعملية عسكرية ومواد أوليّة لتنفيذها، وقد يقنعانك بأن تكون أنت الاستشهاديّ الذي سينفذها، بعد إيصالك أغراض "الحجة" طبعاً.

كان هذا الفارق بين إرادات الناس في فلسطين المحتلة؛ آمنت طائفة بالمقاومة قبل أن تمتلك أسبابها.

يقول لي فواز، وهو قيادي مخضرم في القسام عاصر تلك الحقبة، متحدثاً عن بدايات العمل المسلح: "لم يكن لدينا سلاح"، سألته: "وبِمَ كنتم تقاومون؟"، "كانت قطعة السلاح الواحدة تطوف على عدة خلايا، لتنفيذ عمليات ضد قوات الاحتلال"، كانت الإرادة أكبر من الوسائل.

كانت الإرادة أكبر من الوسائل، وبذلك بدأت واستمرت المقاومة.

كان يحيى عياش "المهندس" علامة فارقة في تعويض النقص الحاد للوسائل في أيدي المقاومة، شعر الضيف منذ البداية بأهمية عياش لتطوير العمل المسلح، فانتقل إلى الضفة وعاش معه متنقلاً بين المخابئ، ومتعلماً على يديه صناعة عبوات العمل الفدائي والسيارات المفخخة.

وعندما اشتدت مطاردته عام 1994، تولّى الضيف نقلَه سراً إلى غزّة عبر شبكة تهريب داخلية؛ حمايةً للخبرة وتوسيعاً لنطاق العمليات.

شكّل الرفيقان بواكير العقيدة القتالية لكتائب عزّ الدين القسّام في التسعينيات، كان عيّاش مرجعاً في هندسة المتفجّرات، بينما تصاعد نجم الضيف قائداً عملياتياً يمسك بخيوط التنفيذ والتخطيط.

تقول السيدة أم البراء، زوجة يحيى عياش: "تنقلنا في غزة من الشمال إلى الجنوب خلال ما يزيد على العام، وكان أبو خالد الضيف دائماً بصحبة يحيى، هذان الاثنان إذا حلا في مكان لبثا فيه طويلًا، لصبرهما وقدرتهما على تحمل مطاردة الاحتلال والسلطة التي كانت تلاحقهما في كل مكان، كانا يخططان معا للرد على الاحتلال، وكان ردهما دوماً مميزاً".

في أحد الأيام، فوجئ "أبو أحمد" وهو يرتب بضاعته في دكانه الصغير في غزة، بدخول "أبي خالد" ويحيى عياش وآخرين وهم يلهثون هرباً من الطلب، قال أبو خالد: "الاحتلال يطاردنا ونريد مكاناً نختبئ فيه"، أغلق "أبو أحمد" باب المحل، ثم تسلل إلى داره ليستشير زوجته في زوّاره المطاردين، فقرار بهذا الخطورة لا يمكن أن يستقل به من دون علم أهل الدار، لارتفاع كُلفته؛ فقد يدفع حياته ثمناً له وتفقد زوجته الدار التي تُهدم غالباً، تحكي "أم أحمد" قصة إيوائهم لأبي خالد ورفاقه، وتروي ما قالته لزوجها: "اللي إنت فيه أنا فيه يا بو أحمد... راح أحكي للجيران إن هدول إخوتي جايين عندنا يومين، أو أصحابك، أو ضيوف، وكل فترة بنقول حجة!"، ونجت المجموعة.

مع الوقت، اتخذ الزوجان قراراً ببناء غرفة ودورة مياه على سطح المنزل، بجوار غرفة كانا يُربيان فيها الأرانب وبعض الطيور، لتكون غرفةً مخصصة لأبي خالد ورفاقه، تقول أم أحمد: "وقد اتخذوها مقراً لقيادة عملياتهم في فترة الملاحقة المزدوجة من السلطة والاحتلال".

في تلك الغرفة، سيحيك أبو خالد خيوط الثأر المقدس؛ الحدث الذي سيهزّ دولة الاحتلال كما لم تهتز من قبل.

"أتمنى أن يكون جميع شباب اليوم بأخلاقه"، تتذكر "أم أحمد" ضيفهم أبا خالد، وتضيف: "كان مخلصاً بعمله، طيب القلب، رجل من زمن الصحابة، لم يكن قائداً متعالياً على جنده، تجده خفيفًا مرحًا مع الصغير، جاداً وقت العمل، حليماً، كان قرآناً يمشي على الأرض، لا يرد طلباً لأي شخص حتى لو من ماله الخاص".

يروي القيادي في كتائب القسام يسري، والذي رافقه لسنوات طويلة: "كنا نتحرك ليلاً ونتنقل على أقدامنا بين الأماكن، ثم صرنا نتنقل على الدراجات الهوائية، كان أبو خالد مطارداً قديماً فكان يعرف غزة شبراً شبراً، وكنت دائماً أستغرب من معرفته بالزواريب والمناطق المزدحمة والضيقة ونحن نتحرّك معه".

اقرؤوا المزيد: أُحاصِرُ شَبَحاً يُحاصِرُني.. حكاياتٌ عن المطاردة والاختفاء

وحتى بعد أن أصبح القائد العام، ظل الحس الأمني هو الغالب، يقول جابر (أحد مرافقيه): "في تنقله كان يتخفى بلبس الطاقية بأشكال متعددة، وأحياناً يلبس حطة وعقال مع عباية شيخ عربي، وطبعاً تحتها يكون لابس بنطال وقميص، كانت أغلب تحركاته في الليل، وكنا نحرص على توفر مواقف داخلية (كراجات) للبيوت الآمنة التي يتنقل بينها، حتى لا يلاحظ أحد نزوله من السيارة".

انتقلت أم البراء من الضفة إلى غزة لتعيش مع زوجها عيّاش، بعد أن صارت عودته إلى الضفة مستحيلة، أول مرة رأت فيها الضيف، كانت بصحبة زوجها في حي التفاح بغزة، وبعد اللقاء، قالت لعياش: "لقد حفظت ملامحه جيداً، أتدري لماذا؟ لأقول عندما يُستشهد إني ملأت عيني من ذلك البطل الذي أرعب الاحتلال لسنوات"، وقتها ضحك يحيى وقال: "اللهم ارزقنا الشهادة معاً".

في الأسبوع الأول من كانون الثاني/ يناير 1996، استُجيبت دعوة عياش، نجح العميل الإسرائيلي كمال حماد في تمرير هاتف مفخخ لابن أخته أسامة، الذي كان صديقاً لعيّاش، استخدم عيّاش الهاتف بعد محاولات امتدت لستة أشهر لإيصاله إليه، وحين كانت مروحية "الأباتشي" تحلّق في سماء غزة منتظرة التعرف على صوت عياش لتفجير الهاتف، تبيّن لهم أن الهاتف لم ينفجر لمشكلة في التصنيع، سحب العميل الهاتف وأرسله إلى تل أبيب لمعالجة الخلل، ثم عاد في الخامس من كانون الثاني/ يناير إلى غزة، ويومها، استخدم عياش الهاتف مرة أخرى، وأخيرة، وارتقى شهيداً.

 آلاف الفلسطينيين يشاركون في جنازة الشهيد يحيى عياش. (المصدر: رويترز)
آلاف الفلسطينيين يشاركون في جنازة الشهيد يحيى عياش. (المصدر: رويترز)

تقول أم البراء: "كانت شهادة عياش الأكثر إيلاماً للضيف"، لكن الضيف لم يحضر جنازته وتأبينه، بل انكفأ لتأليف تأبينٍ آخر، سيرثيه بقصيدة حديديّة بعنوان "عياش 250"؛ الصاروخ الذي يغطي مداه كل الجغرافيا الفلسطينية، وقصفت به الكتائب النقب جنوباً وصفد شمالاً في عام 2021.

كانت "إسرائيل" تنظر إلى المقاومة كخلايا فوضوية عدمية؛ "فراش يتساقط في النار بحثاً عن الضوء"، وسينقرض مع الوقت، وكان رحبعام زئيفي قد قال: "الفلسطينيون كالقمل؛ علينا أن نتخلّص منهم كما نتخلّص من القمل".

رأى الضيف أن الوقت قد حان ليفرض صيغة جديدة على الاحتلال، يعرف من خلالها الإسرائيلي أنه لم يعد يتعامل مع حالة فوضى، وإنما مع منظومة تستطيع أن ترفع قواعد الاشتباك استجابة لتصعيده، يقول  الأسير حسن سلامة في مقابلة مع صحفية محلية: "كان الهدف رفع الكلفة على دولة الاحتلال وأجهزتها الأمنية حتى لا يفكروا لاحقاً باستهداف رموزنا".

أطلعه الضيف على خطة الانتقام التي ينبغي أن تردع الإسرائيليين عن استهداف القيادات العسكرية، سلّم الضيفُ حسن سلامة، الذي لم يكن قد تجاوز الستة والعشرين ربيعاً وقتها، 1555 دولاراً، كان الضيف قد استلفها بصفته الشخصية (وهو ما يعادل راتب ثلاثة موظفين حكوميين في السلطة وقتها)، ورسم له الخطة التي ينبغي أن يسير عليها، وسلمه الأحزمة الناسفة المعدة للعمليات الفدائية.

يقول لي الدكتور غانم، وهو عضو بارز في المكتب السياسي لحماس: "استدعى ياسر عرفات أبا خالد، وكان ذلك اللقاء الوحيد بينهما، قال أبو عمار: أعرف أنكم تخططون للرد، لكن أريد أن أعرف كم عملية تخططون لها، كانت محاولاته تشبه محاولات طفل في فتح خزنة بنك مصفحة، لم يكن أبو خالد يعطي أي معلومات، وحين أصرّ عرفات على أن يقتصروا على عدد معين من العمليات، قال له أبو خالد: لقد خرج الشباب وانقطع التواصل، ولم يعد يمكن تغيير الخطة".

أرسل الضيف جماعة من المجاهدين لتهيئة مكانٍ مناسب لسلامة للالتقاء بخلية القدس، التي جنّدها الضيف وأشرف على تدريبها سابقاً في غزة، ثم عادت إلى القدس تنتظر تعليماته، يقول بلال شلش، المؤرخ الفلسطيني والمحاضر في جامعة بيرزيت: "إحدى مزايا أبي خالد في قيادة العمل العسكري كانت قدرته في التجنيد وصناعة خلايا ميتة، يمكنه استخدامها حين تحين الفرصة".

بقي سلامة عشرة أيام في المخبأ المعد في أحد البساتين، ليس له طعام سوى البرتقال الذي يثمر على أشجاره، ثم توجّه إلى القدس.

ثأر المهندس.. الثأر المقدس

في 25 شباط/ فبراير 1996، اجتمع حسن سلامة في أحد البيوت المؤمّنة في أبو ديس شرق القدس، بمجدي أبو وردة وإبراهيم السراحنة، أعادوا خطوات التنفيذ وتفعيل الأحزمة الناسفة للمرة الأخيرة قبل الانطلاق، وقبل أن يتجه كلٌ إلى وجهته، التقطوا صورة توثيقية كما يقتضي بروتوكول القسام مع الاستشهاديين.

توجه أبو وردة نحو محطة الحافلات المركزية غرب القدس تحت غطاء صحفي، واتجه السراحنة إلى عسقلان بالصفة ذاتها.

بعد خمسين يوماً من استشهاد يحيى عياش، صعد أبو وردة إلى الحافلة رقم 108 في قلب القدس وهو يحمل 13 كيلوغراماً من المتفجرات المخلوطة بالمسامير لتعظيم الأضرار، وهي مواد صنعها عيّاش بيديه، وفي السادسة والنصف صباحاً، امتلأت الحافلة بالمجندين والمستوطنين، تحركت شفتا مجدي بكلمات عربية بدت غريبة وسط الهدير العبري الذي يحيط به، ثم ضغط على زر التفجير، وهو على بعد 3 كيلومترات فقط من مقر إقامة رئيس الوزراء الإسرائيلي شمعون بيريز.

تحول الصندوق الحديدي الذي ينقل الناس إلى كتلة من اللهب، تناثرت الأشلاء في شارع يافا بالقدس وعلقت بعضها فوق الأشجار، في المبنى المتاخم، جلست سيدة مسنة بقرب نافذتها في الطابق الخامس تراقب المارة، وحين وصلت إليها وسائل الإعلام قالت لهم: "سمعت صوت الانفجار، ثم امتلأ أنفي بروائح الشواء البشري"، لقد سقط 24 قتيلاً، منهم 13 جندياً، و50 جريحاً.

بعد نصف ساعة، لم يكد رئيس الوزراء الإسرائيلي بيريز ومجلسه الأمني يستوعبان هول الحادثة، حتى وقف إبراهيم السراحنة في محطة لانتظار الجنود على مفترق طرق جنوب عسقلان، المدينة التي وُلد فيها آفي ديختر، مسؤول "الشاباك" الذي أشرف على اغتيال عياش، انتظر السراحنة اجتماع أكبر قدر من الجنود، لكنه لاحظ أن بعضهم يستقل سيارات خاصة ولا ينتظر الحافلة، فخشي أن تقلّ "الغَلّة"، تمتم بكلمات، وأدخل يده في جيب سترته، فدوّى صوت الانفجار.

يقول مستوطن جاء ليقلّ أخاه من المحطة: "اصطدم جسد مجنّدة بسيارتي، ورأيت رأسها يطير في اتجاه آخر"، أسفرت العملية عن مقتل جنديين وإصابة 28 آخرين.

يقول الأسير حسن سلامة، شارحاً تفاصيل الخطة التي وضعها الضيف لتحقيق الردع وتكافؤ الرعب: "كان بإمكاننا أن ننفذ العمليات في يوم واحد، لكن قررنا تقسيطها لهم".

جُنَّ جنون بيريز، الذي بدأ يلعن الساعة التي أخذ فيها قرار اغتيال عياش، وخصص قدراً من الشتائم لياسر عرفات، قبل شهر من الحادثة، في 24 كانون الثاني/ يناير، اجتمع بيريز بعرفات في غزة وحاول إقناعه باعتقال الضيف، يتذكر بيريز ذلك اللقاء قائلاً: "جلسنا معاً، وأكلتُ من يده - تلك التي بها الأكزيما - وهذا يتطلب شجاعة، قدمت له معلومات عن "رؤوس حماس" في أراضيه، كان يعلم جيداً أنها دقيقة، لكنه كذب عليّ في وجهي دون أن يطرف له جفن"، ثم أمره: "اعتقلوا محمد الضيف فوراً!".

نظر عرفات إليه بعينين مفتوحتين في حيرة، وقال بالعربية: "محمد.. شو؟"، يعلّق بيريز: "كانت لديه ذاكرة خارقة، كان يتذكر جميع الأسماء، وجميع أعياد الميلاد، وجميع الأحداث التاريخية"، ولكنه تظاهر بأنه لا يعرف محمد الضيف.

أصدرت القسام، إمعاناً في الوفاء لمهندسها، بياناً باسم "خلايا يحيى عياش"، جاء فيه: "إن هذه العملية نجاح عسكري واستخباراتي، ورد على قتل المهندس، ونعتبرها ضربة موجهة للمسؤولين عن اتخاذ قرار استهداف عياش".

في تلك الأثناء، كان أبو خالد في غزة يغسل يديه بعد أن تناول طبقاً من البامية، إحدى أكلاته المفضّلة، كما أخبرني جلال، وهو رفيق له عمل معه لعشرين سنة، عقَدَ الضيف إصبعه الثاني، وقال: "هذه الثانية!".

في الثالث من آذار/ مارس 1996، عَقَدَ أبو خالد إصبعه الثالث في غزة، وفي الضفة، عانق رائد شغنوبي حسن سلامة، الذي أوصله بسيارة إلى محطة الحافلات في قلب القدس بعد أن سلّمه "أمانة الضيف"، قبل أن يبتعد سلامة، شدّ رائد على يد أبي العبد (الاسم الحركي لحسن سلامة) وسأله أن يعرف اسمه الحقيقي قبل أن يودع الحياة، ابتسم حسن الذي كان في غاية الانضباط الأمني الذي تعلمه من أبي خالد وقال له: سلم لنا على يحيى عياش وأبلغ رسولنا صلى الله عليه وسلم منا السلام".

حين اخضرّت الإشارة المحاذية للمحطة، وتأكد رائد من ابتعاد السيارة التي تقل سلامة، استقل الحافلة التي لن تصل إلى وجهتها، يقول سلامة: "إمعاناً في التحدي والإرغام، قررنا أن تكون العملية الثالثة في نفس خط الباص 18 الذي كانت فيه العملية الأولى"، بعد استواء شغنوبي في مقعده داخل الحافلة التي امتلأت على آخرها، سمع الركاب من المستوطنين والمجندين صوت تكبير، أعقبه صوت انفجار هائل، نثر الحافلة في دائرة قطرها خمسين متراً، أسفرت العملية عن مقتل 19 إسرائيلياً، منهم 3 جنود، وجرح 10 آخرين.

لقد وصلت رسالة الضيف إلى المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بوضوح: استهداف قياديّ في القسّام له كلفة باهظة، وتخلصهم من عيّاش لم يقضِ على خبرته في التصنيع، التي أعلن الضيف عن "استدامتها" بعملياته الثلاث، ظلت توقيعات عيّاش الناريّة بالأحزمة الناسفة تصل إلى العمق الإسرائيلي حتى بعد استشهاده.

والقدرات الاستخبارية التي يفخر بها "الشاباك" ستقابلها عمليات اختراق لن يقدروا على منعها، في ذلك العام، صدر تقرير داخلي لجهاز الاستخبارات، أرجعَ الفشل في التصدي للعمليات إلى "المعلومة الاستخبارية الضعيفة عن شبكة خلايا الضيف"، وصرّح رئيس بلدية تل أبيب في ذلك الوقت، روني ميلو، قائلاً: "تل أبيب تحوّلت إلى خط جبهة".

ارتفعت الكلفة على صاحب القرار السياسيّ الذي سمح باستهداف عيّاش، فبعد العمليات، أصبح 71٪ من المستوطنين يصفون أمنهم الشخصي بالـ "متدني للغاية" في الدولة التي تقوم على وعد تأمينهم، حسب إحصاء أجرته صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، وانتابت المجتمع الإسرائيلي حالة من توهّم الخطر الدائم.

وضَاقتِ الأرضُ حتّى صَارَ هَارِبُهُمْ إِذَا رَأَى غَيْرَ شَيْءٍ ظَنَّهُ رَجُلَا

وقد وثّق مركز "CBS" الإسرائيلي زيادة بلاغات الاشتباه بقنبلة بنسبة 430٪ في الأشهر التي تلت العمليات، وهجر ما يزيد على 50% ممن اعتادوا استقلال الحافلات في إسرائيل ركوبها، حسب مسح أعدته وزارة المواصلات.

وأحال الضيفُ شمعون بيريز، عرّاب المشروع النووي الإسرائيلي، إلى التقاعد المبكر، وأنهى مسيرته السياسية، قال بيريز: "لقد دمرني الإرهاب، وقضى عليّ، وأزاحني عن السلطة"، كان بيريز متقدماً بعشرين نقطة في استطلاعات الرأي على منافسه المتشدد بنيامين نتنياهو، بعد العمليات، قلص نتنياهو الفجوة بشكل كبير، وفي 29 أيار/ مايو، فاز نتنياهو بفارق 1% من الأصوات.

من انطلق لم يقف

"ذلك رجل منذ انطلق لم يقف" الجاحظ (يصف الحسن البصري)

بعد الهجوم الرابع في 4 آذار/ مارس 1996، الذي نفّذه رامز عبيد من الجهاد الإسلامي في مركز "ديزنغوف" للتسوق وسط تل أبيب، وأوقع 13 قتيلاً و120 جريحاً، قررت السلطة الفلسطينية، بتنسيق مباشر مع "إسرائيل" والولايات المتحدة، الحسم مع المقاومة.

سلّم جون تينيت، نائب مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA)، قائمة بأسماء مطلوبة بتهمة "الإرهاب"، على رأسها اسم محمد الضيف، لقد قدم الأمريكيون والإسرائيليون اختباراً لعرفات لفرض سيطرته على المناطق التي سلمته إياها "إسرائيل"، بين وَعْد الدولة والمقاومة، اختار عرفات وَعْد الدولة.

شنت أجهزة الأمن الوقائي في الضفة بقيادة جبريل الرجوب، وفي غزة بقيادة محمد دحلان، حملات اعتقالات واسعة شملت كل من له صلة بالمقاومة، واستجوبتهم بأقسى أساليب التعذيب، وثقت منظمة "هيومن رايتس ووتش" اعتقال مئات العناصر في حملات جماعية صاحبتها انتهاكات وإجراءات محاكم استثنائية، لم تقتصر الملاحقة على المنتمين للعمل العسكري، بل امتدت الحملة الأمنية لتستهدف صفوف الطلبة وأنصار الفصائل الإسلامية وما يتصل بها من مؤسسات وروافد اجتماعية.

نجحت السلطة في تفكيك حواضن التنظيم، وكشفت نقاط الإيواء وأماكن تخزين السلاح.

يخبرني أبو عمران وهو قياديّ سابق في الجناح العسكري لحماس مبتسمًا "في تلك المرحلة أيقنّا بنهاية حماس والمقاومة"، اعتقلت السلطة كل القيادات، وظلت الكوادر التي نجت من الحملة القاسية تراقب من بعيد، حتى إن بعض الذين كانوا يمارسون العمل العسكري في الكتائب، التحقوا بوظائف في السلطة طلباً لتأمين سبب من أسباب العيش بعد انسداد الأفق أمامهم.

يقول لي شريف، وهو عضو سابق في قسم التصنيع العسكري بالقسام: "تقاسمتنا أجهزة الأمن التابعة للسلطة، عمل بعضنا مع أمين الهندي في الاستخبارات العامة، وآخرون في قوات الأمن الوطني، أما أنا فعملت في الاستخبارات العسكرية مع موسى عرفات، كانت الأجهزة تتنافس علينا للاستفادة من خبراتنا في التصنيع العسكري، بقي الضيف من القليل النادر الذين رفضوا العمل مع السلطة".

لم تكن كل الأجهزة الأمنية على درجة واحدة في موقفها من المقاومة، بيد أن جهاز الأمن الوقائي بإدارة محمد دحلان كان الأشد تطرفاً، وخطراً، وحرصاً على الوصول إلى الضيف.

عندما توقفت سيارة المقدم عبد المنعم أبو سردانة، ضابط الأمن الخاص، أمام بيته المطل على شارع عمر المختار بغزة، كان بانتظاره ثلاثة مسلحين يحاولون اختطافه، وحين تعذر عليهم ذلك لتدخل سائقه بالسلاح، أطلقوا الرصاص عليه ولاذوا بالفرار، أُسعِفَ أبو سردانة إلى مستشفى الشفاء.

حين زاره ياسر عرفات، أخذ أبو سردانة يقسم له أن دحلان، مدير الأمن الوقائي، هو من يقف وراء هذه العملية، "ولماذا يستهدفك دحلان؟" سأله عرفات، "لا أستطيع أن أقول السبب إلا على انفراد"، طلب عرفات من مرافقيه الانتظار في الخارج، وما إن أُغلق الباب، واقترب عرفات من المصاب الممدد على سريره، حتى همس له:

"طلب دحلان مني مراراً إرشاده لمكان اختباء محمد الضيف، لكني رفضت، وقلتُ له لن أبوح بمخبأ الضيف إلا لعرفات، أو بطلب موقّع منه، لأنني أعرف أن الخبر سرعان ما سيصل إلى الإسرائيليين، بعدها جاءني مبعوث خاص من دحلان وعرض عليّ نصف مليون دولار مقابل المعلومة، وبعد رفضي، خرج المبعوث غاضباً وهو يردد: "بكرة بتشوف!"،  وبعدها بيومين حصلت الحادثة".

هكذا نقلت صحيفة "المجد" الأردنية القصة عن أبي سردانة، انتفخ عرفات غضباً وثار وأرعد وأزبد وهدد، ثم لم يفعل شيئاً، كان عرفات يحاول أن يبني دولته على حبل مشدود بين المقاومة ووعود الاحتلال، ويظن أنه يستطيع أن يستخرج وَعْدَ الثاني بعصا الأول، حتى انقطع به الحبل وسقط في المقاطعة محاصراً.

توقفت عمليات الاستشهاديين نحواً من عام، وكادت جذوة العمل العسكري للمقاومة أن تنطفئ وسط عاصفة التعاون الأمني، لولا أن حَدِبَ عليها أبو خالد وبقية باقية من المطاردين، راح أبو خالد، بخبرة التخفّي التي اكتسبها منذ مطلع التسعينيات، يعيد تنظيم الصف الناجي من الأسر، ويطرق أبواب الأعضاء السابقين: "بدنا نرجع نشتغل".

صُفقت كثير من الأبواب في وجهه، وقيل عنه "مجنون"، يروي لي شريف قائلاً: "في ذلك الوقت دقّ أبو خالد بابي وقال لي: أريد أن أعيد العمل في التصنيع العسكري"، كان السلاح دوماً أولى أولويات القائد.

في تلك الأثناء، جمّد نتنياهو مشروع أوسلو واكتفى بمراقبة كفاءة السلطة في قمع المقاومة.

في الضفة، كانت خلايا القسام تعمل في بيئة أفضل، شنّت خلية صوريف هجوماً جديداً في قلب تل أبيب، عندما فجّر استشهادي نفسه في مقهى على الرصيف، ليس بعيداً عن منزل ديفيد بن غوريون، كان من المفترض أن يتم تفجير الحقيبة عن بعد، ولكن لجِدّة التقنيّة ولقلة التدريب، انفجرت قبل الوقت المحدد واستشهد المنفّذ، وقُتل ثلاثة أشخاص وأصيب ثمانية وأربعون، في أعقاب هذا الهجوم، استطاعت أجهزة الأمن الإسرائيلية أن تصل إلى الخلية بسبب كثافة المعلومات التي حصلت عليها من هويّة المنفِّذ،  ظل نتنياهو ملتزماً بسياسة عدم التصعيد، وبالرغم من اقتراحات مساعديه اتخاذ إجراء عسكري في المناطق الفلسطينية، امتنع عن إصدار أي أوامر باستخدام القوة، ظناً منه أن تلك العملية كانت ركلة من جسد المقاومة التي بدأت تحتضر، خاصة بعد الوصول إلى أعضاء الخليّة وأسرهم.

الضغط العسكري الذي حررّ الشيخ ياسين

في 30 تموز/ يوليو 1997، خطط الضيف لعملية نوعية أظهرت تطور تفكيره الأمني والعسكري، في ظهيرة ذلك اليوم، دخل رجلان يرتديان بدلات سوداء أنيقة وقمصاناً بيضاء وربطات عنق إلى سوق "محانيه يهودا" المزدحم في القدس، كانا يحملان حقائب ثقيلة، كل واحدة محشوة بثلاثة وثلاثين رطلاً من المتفجرات والمسامير والبراغي.

توقف كل منهما على مسافة 150 قدماً من الآخر، تمامًا كما درّبهما الضيف، ثم فجّرا نفسيهما وسط الحشود، فقتلا 16 شخصاً وأصابا 178.

كانت بصمة الضيف هذه المرة لا تتلخص في القنبلة وحدها، بل في طبقات "الحرمان المعلوماتي" التي فرضها على "الشاباك"، بعد أن درس ثغرات العملية السابقة التي أودت بخلية صوريف؛ أمر الضيف المنفذين بقص كل الملصقات من ملابسهما حتى لا يُتتبّعا إلى متجر معين، وأن يمسكا القنابل بإحكام شديد لتدمير أكبر قدر ممكن من جسديهما ووجهيهما، وطلب من عائلتيهما عدم نصب خيام العزاء كما هو معتاد، كل ذلك لمنع "الشاباك" من كشف هوياتهم وشبكة اتصالاتهم.

وجد نتنياهو، الذي كان يُطلق عليه "مستر سيكيورتي" (سيد الأمن)، نفسه في مأزق حقيقي، لم يفهم المعادلة؛ ظن أن المقاومة ردة فعل، وأن السبيل الأفضل للقضاء عليها هو خنقها، دون استثارتها بعمليات اغتيال.

وصل رئيس الوزراء الجديد إلى السلطة على وعود الأمن، والآن يجد نفسه عاجزاً أمام ضربات الضيف، كان الضغط الشعبي والسياسي هائلاً، وكان عليه أن يثبت أنه مختلف عن سلفه بيريز.

بعد عشرة أيام من تفجير السوق، دعا نتنياهو لاجتماع عاجل لأجهزة الأمن وأعلن بوضوح: "سنغير طريقة تعاملنا مع حماس، لقد انتهى وقت ضبط النفس"، طلب من "الموساد" قائمة بأهداف للاغتيال، في اليوم التالي، جاءه رئيس الموساد، داني ياتوم، ومعه رئيس "قيسارية" (وحدة الاغتيالات الخاصة) موشيه بن دافيد، بقائمة لأهداف من حماس في الخليج والأردن وأوروبا، من بينهم محمود المبحوح القيادي القسّامي، والذي تتهمه دولة الاحتلال بخطف وقتل جنديين في الانتفاضة الأولى، رفض نتنياهو توصية الموساد، قائلاً: "أحضروا لي الأسماك الكبيرة، أريد قادة لا رجال أعمال، أريد قيادتهم في الأردن!".

شكل أمر نتنياهو مشكلة صعبة لــ "الموساد"، فأعضاء المكتب السياسي لحماس كانوا في الأردن، وهي دولة وقعت معها "إسرائيل" معاهدة سلام قبل ثلاث سنوات، ولم يكن من الواضح أن الملك حسين سيمنح هذا الإذن، حين عرضوا عليه صعوبات خياره، قال نتنياهو: "لتكن عملية صامتة لا يحس بها الأردن".

قدم "الموساد" أربعة أسماء من قادة حماس المقيمين في الأردن، ابتهج نتنياهو. كان الأول، موسى أبو مرزوق، يحمل الأوراق الأمريكية، فاستُثني، تلاه خالد مشعل، نائبه، ثم المتحدث باسم حماس محمد نزال، وأخيراً إبراهيم غوشة.

وجّه نتنياهو، بمنتهى الحماسة، مدير الموساد باغتيال مشعل، حاول ياتوم مرة أخرى إقناع نتنياهو بالتحرك أولاً ضد أعضاء حماس في أوروبا، ولكن بلا جدوى.

كان الضغط الذي مارسه الضيف بعمليته قد دفع نتنياهو لاتخاذ قرار متهور، لم يفكر في عواقبه.

في 25 أيلول/ سبتمبر 1997، نفذ عملاء "الموساد" محاولة اغتيال خالد مشعل باستخدام سمّ خاص، كانت الخطة أن يتوجّه عميلان محترفان إلى مشعل، فيفتح أحدهما علبة "كوكاكولا" مرجوجة لتشتيت انتباهه، بينما يرشّ الآخر السم على أذنه، بدت الفكرة عبقرية، لكنها فشلت فشلاً ذريعاً، نبّه الحارس الشخصيّ لمشعل مديره من اقتراب الغرباء، فانكشف غطاء العملية التي كانت تقوم على ألا يشعر مشعل بالاستهداف، لتبدو وفاته طبيعية.

وجد الحارس الثاني لمشعل، محمد أبو سيف (الذي تخرّج من معسكرات المجاهدين في أفغانستان وأتقن الفنون القتالية)، نفسه وجهاً لوجه مع عضوي "الموساد"، بعد أن اشتبك معهما، فرا من أمامه وركبا سيارتهما، فدوّن أبو سيف رقم اللوحة على يده، حين رأى السائق الإسرائيلي ما فعله أبو سيف، قرر العملاء التخلص من السيارة بعد أن حصرهم زحام شوارع عمّان.

وما إن ترجلا، حتى وجدا أبا سيف العنيد لا يزال يطاردهما، التحم بهما ثانيةً، فقررا توحيد جهودهما وأضجعاه أرضاً، فالتأم الناس حولهم، ووقعوا في قبضة الشرطة، بينما لجأ ستة عملاء آخرين إلى السفارة الإسرائيلية إثر فشل المهمة.

أمر نتنياهو رئيس الموساد، داني ياتوم، بالسفر فوراً إلى عمّان وإبلاغ الملك حسين بما حدث، كان عليه أن يفعل "كل ما هو ضروري" لضمان إطلاق سراح العميلين، وقال نتنياهو لياتوم: "وإذا كان من الضروري إنقاذ حياة مشعل، فليفعلوا ذلك".

قابل ياتوم الملك الذي كان يتميّز غيظاً، يذكر ياتوم تفاصيل لقائه بالملك ورئيس مخابراته سميح البطيخي، حيث لامه رئيس المخابرات قائلاً: "لماذا فعلتم هذا؟ كان من الممكن تخطيط العملية معاً"، حسب رواية ياتوم للصحفي الإسرائيلي رونين برغمن.

وضع الملك حسين، الذي شعر بالخيانة لانتهاك سيادة بلاده، شروطاً قاسية لإطلاق سراح العملاء: إنقاذ حياة مشعل أولاً، ثم دفع ثمن باهظ للإفراج عن بقية الفريق المتحصن في السفارة.

أثمر الضغط الذي مارسه محمد الضيف، فالعمليات التي نفذها لم تدفع نتنياهو للرد فحسب، بل دفعته للرد بطريقة متهورة أوقعته في فخ دبلوماسي، وجد نتنياهو نفسه في موقف لا يُحسد عليه: إما أن يترك عملاءه في الأسر، وهو أمر غير وارد في العقيدة الإسرائيلية، أو أن يدفع ثمناً باهظاً.

أرسل نتنياهو إفرايم هاليفي، الضابط المخضرم في الموساد ومهندس الاتفاق بين الأردن وإسرائيل، بعد لقائه الملك حسين، قال هاليفي لنتنياهو وياتوم إنه من أجل إطلاق سراح العملاء الستة، سيتعيّن على الإسرائيليين دفع "فدية حقيقية" تتيح للملك الدفاع علنًا عن قراره، وكان اقتراحه أن يُطلَق سراح مؤسس حماس، الشيخ أحمد ياسين، من السجن، حيث كان يقضي حكماً بالمؤبد.

قوبل الاقتراح بــ "معارضة شاملة، من نتنياهو وصولاً إلى آخر عناصر المجلس الأمني"، على حد وصف هاليفي، لقد عانى الإسرائيليون من عمليات صُمِّمت جميعها لإجبارهم على إطلاق سراح ياسين، والآن يُتوقع منهم ببساطة أن يستجيبوا لطلب الملك حسين؟

شاور نتنياهو فريقه الأمني، فأجمعوا على الرفض، قال له مستشاره في شؤون حماس، ميخا كوبي: "لا تُصغِ إلى تهديدات حسين.. إذا أطلقت سراح ياسين، الذي ينبغي أن يتعفّن في السجن حتى يوم موته، فسيعود إلى غزة ويُعيد بناء حماس لتصبح أسوأ مما عرفناه حتى الآن".

في النهاية، تم توقيع الاتفاق: أُطلق سراح ياسين وعدد كبير من الأسرى الآخرين، مقابل السماح لعملاء الموساد بالعودة إلى "إسرائيل".

أراد نتنياهو إضعاف حماس، لكن بسبب البيئة الضاغطة التي خلقها الضيف، اتخذ قراراً أدى إلى الإفراج عن مؤسسها وزعيمها الروحي، قال الشيخ ياسين، الذي خرج في جولة لحشد الدعم لحماس: "هناك مواجهة كبيرة قادمة مع إسرائيل".

أثبت الضيف أنه قائد من طراز فريد، قادر على تحويل العمل العسكري إلى أداة ضغط سياسي، وردود فعل العدو المتهورة إلى مكاسب استراتيجية.

كان لتحرير الشيخ ثمرة عسكريّة جناها الضيف؛ فوحده الشيخ من يستطيع أن يسقي بذور التضحية في قلوب شعب محاصر، قررت طائفة منه أن المواجهة لم تعد مجدية، وحده الشيخ كان قادراً على إخراج كوادر بشرية تؤمن بجدوى الجهاد في وضع قد تنعدم فيه الأسباب الماديّة، كان الشيخ يفتل حبال الغيب الممتدة إلى السماء بدروسه وخطبه، فتمتدُّ إليها الأيدي المؤمنة، فإذا هزوها صاروا جنودًا يتولى الراسخون في العمل المسلح تجهيزهم.

كان الدافع الدينيّ ركيزة أساسية في العقيدة العسكريّة لدى الضيف، قال لي علي أبو الحسن وهو مسؤول رفيع في كتائب القسام: "كانت وصيته الدائمة لنا ولأولاده هي حفظ القرآن وفهمه للعمل به، وكان يدعم "دائرة التعبئة والتوجيه" في القسام، التي ترفع منسوب الإيمان عند المجاهدين، وكان يرعى جوائزها ومكافآتها، وقت الصلوات عنده خط أحمر، ومحافظ على ورده القرآني، وبعد إصابته [في عينه] صار يستمع للقرآن أكثر عبر الراديو، ولا يسمع الموسيقى". 

يروي أبو حاتم أن الضيف أثر الصحوة الدينيّة التي تحولت إلى جدوى عسكرية بعد تحرير الشيخ ياسين قال: "ببركة الجهاد وببركة دماء الشهداء، زادت الصحوة الإسلامية ورجوع الناس إلى ربهم، فالمساجد بفضل الله مُلئت بالمصلين خاصة من جيل الشباب... حتى إنك إذا استمعت إلى وصية استشهاديّ وإلى شعاره لا تميز كثيراً أنه من حماس أو من فتح أو من أي فصيل آخر... أصبحت الشهادة هي حلم الفتيان والشباب، حيث أصبحت لدينا مشكلة في استيعاب الاستشهاديين وإقناعهم بالانتظار".

كان الضيف رجلاً مخبتاً، عميق التديّن "كان القرآن على لسانه في كل حال، وسمعته كثيراً يردد: كل ما أرجوه أن أكون في منزلة من قال الله فيهم (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز)"، يحكي لي بلال ريان الذي تجمعه علاقة قرابة بالضيف.

وبعد ثلاثة أعوام من عودة الياسين، انطلقت الانتفاضة الكبرى التي فجّرتها زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي أرئيل شارون للمسجد الأقصى.

الرجل المَكِيث

"لما استُخلِف عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وجّه أَبَا عُبَيْد الثقفي إِلَى العراق... وبعث معه سَلِيط بن عمرو الأنصاري وقال له: لولا عَجَلة فيك لولّيتك، ولكن الحربَ لا يصلح لها إلا الرجل المَكِيث، الذي يعرفُ الفرصةَ والكفّ". (فتوح البلدان، للبلاذري)

خلال الانتفاضة الثانية، شلّت العمليات الاستشهادية قدرة الحكومة الإسرائيلية على التفكير، فذهبوا يبحثون عن صقل مفهوم الردع في بركة من الدم الفلسطيني، جمع شارون مجلسه، وقال لهم: "هل تعرفون ماذا تعني كلمة قتلى بالعربية؟ أريد قتلى!"، وخرج وزير حربه شاؤول موفاز ليقول: "أريد عشرة قتلى فلسطينيين كل يوم!".

في تلك الأجواء رأت جماعة أحرقتها تجربة الانتفاضة الأولى وما تلاها من ملاحقات واعتقالات قاسية، أن ما يجري ليس سوى هَبّة عابرة سيستغلّها ياسر عرفات لتحسين موقعه التفاوضي أمام الإسرائيليين، وأنّ الانخراط فيها يعني تكرار مأساة أوسلو حيث تدفع المقاومة فاتورة الدم، وتنفرد السلطة بحصاد المغنم، أما الضيف الذي خرجَ لتوّه من سجون السلطة بعد أن نجح في إقناع سجّانه بخيار الكفاح، ففتح له باب الزنزانة، ثم أصبح فيما بعد قائداً في صفوف القسّام، فرأى أن إمكانية استفادة عرفات من الانتفاضة لا ينبغي أن تضيّع على المقاومة المصالح الكبرى التي تتيحها تلك الفرصة.

آخر ظهور لقائد هيئة أركان كتائب القسام، الشهيد محمد الضيف خلال مقطع مصورة كشفت عنه كتائب القسام في برنامج "ما خفي أعظم" الذي تبثه قناة الجزيرة.
آخر ظهور لقائد هيئة أركان كتائب القسام، الشهيد محمد الضيف خلال مقطع مصورة كشفت عنه كتائب القسام في برنامج "ما خفي أعظم" الذي تبثه قناة الجزيرة.

لم تكن الانتفاضة بيئة عشوائية عند الضيف، بل كانت فرصة لإنضاج مشروع مستدام، راح يدرس خياراته بصبرٍ، يرتِّب تنظيم العمل المسلّح كهيكلٍ مرن لا يتأثّر بفقد مجموعاته، ويستثمر الفوضى التي تولّدها الاحتجاجات مساحةً للتوسع والتجريب.

كان الضيف، الرجل المطارد، يعتمد على الراديو مصدراً أساسياً للمعلومات "كان يستمع يومياً إلى نشرة أخبار الساعة السابعة صباحًا من الإذاعة الإسرائيلية بالعربية"، قال لي جابر. 

أراد الضيف معرفة عدوه بكل طريقة ممكنة، ولم يكن في حسابه حسم المعركة بالضربة القاضية، بل كانت استراتيجيته جعل ضريبة الاحتلال باهظة، وتسجيل نقاط انتصار مرحلية على طريق التحرير، أدرك الضيف فارق القوّة الهائل، وترسَّخ لديه أن المعركة لا تُحسم إلا بالمطاولة ورفع الكلفة والتطوير المستمر.

في الوقت الذي ظنّت فيه حكومة شارون أن المواجهة قائمة على تحييد خطر الاستشهاديين، عمل هو على تحويلها إلى حرب طويلة الأمد تُدار بالحيلة والصبر، حوّل المظاهرات إلى عملياتٍ منظّمة، وأعاد تشغيل فرق القنص والعبوات، وأشرف بنفسه على تطوير التصنيع العسكري الذي أنتج صواريخ "القسام" بالتعاون مع عدنان الغول ونضال فرحات، وأسّس منظومة الردّ النوعي: كلّ اغتيال لقائدٍ تقابله عمليةٌ مدوّية في عمق "إسرائيل".

كان شارون يردد: "نتساريم هي تل أبيب"، وكان لسان حال أبي خالد: "سنرى!".

في الوقت الذي ظن فيه شارون أنه أحاط بالضيف ورجاله في غزة، كان أبو خالد يعمل على تحريك الخلايا النائمة التي زرعها في عمق الأراضي المحتلة، وكانت آخرها انكشافاً خلية الطيبة التي استشهد 5 منها إبان الاستعداد لتنفيذ عمليات نوعية داخل الخط الأخضر في آذار/ مارس 2000.

المحاولة الأولى

"الضيف والغول يعقدون اجتماعاً في حي البريج الآن"، أبلغ أحد العملاء مجنده الذي يمنحه بضعة دولارات كل شهر، لم يصدق ضابط "الشاباك" سمعه؛ عدنان الغول، رائد التصنيع العسكري، والعقل الاستراتيجي للكتائب في مكان واحد، كان الرجلان يشرفان على ورشات التصنيع التي نقلت هبّة الانتفاضة إلى عمل نوعيّ.

حلقت طائرتان من طراز "أباتشي" متتبّعتَين إشارة العميل، الذي قدم لهم أوصاف السيارة التي تُقل القائدَين، شعر الرجلان، اللذان حنكَتهما سنوات المطاردة، بأن ثمة نمطاً في تتبع السيارة، فقررا التوقف في نقطة عمياء، وهناك التحق بهما بلال الغول، نجل عدنان، فانتقلا إلى سيارة بلال، وتحول بلال إلى السيارة الموشومة.

لم يتردد بلال في أن يراهن بحياته لينقذ والده وقائده، وهو يتخذ مقعده خلف المقود في السيارة المرصودة، ولمزيد من التضليل، التحق به أخ ثانٍ كي لا تشعر الاستخبارات الميدانية بتغير في عدد الركاب.

اقتربت طائرتا "الأباتشي" وأطلقت إحداهما الصاروخ الأول، فوقع قريباً، نزل بلال وأشار إلى والده وقائده في السيارة الثانية التي تبعد بضع مئات من الأمتار، بأن يغادراها ويختفيا بين المباني.

اقرؤوا المزيد: السابقون السابقون.. عن الأوائل من كلّ فعل

كان بلال يلوح ويقفز منبهاً لهما، بينما توجهت الطائرة الثانية إلى السيارة الأخرى، خرج الضيف والغول وابتعدا ركضاً، ثم حملتهما موجة انفجار باصطدام صاروخ بسيارتهما التي صارت على بعد 5 أمتار فقط، كان الغول ينظر وراءه بعاطفة الأب وهو ينفض الغبار عن نفسه، إلى السيارة التي تُقل ابنه، حيث تحولت إلى كتلة من اللهب، وتلاشى ظل ابنه بعد أن مزّقه صاروخ ثانٍ.

أصبح الرجلان في مرمى الرشاشات الآلية من الطائرة، حين رأى المارة المشهد، فهموا أن قيادة المقاومة تحت الاستهداف، وبنقيض الحاسة البشرية في طلب النجاة، هُرع الناس إلى موطن الخطر ليستروا الناجين، ويحجبوا الرؤية عن الطيران، وحين تبينوا شبح الضيف، "التفوا بسيدهم كالشهب بالبدر، أو كالجندِ بالعلم"، وابتعد الطيران محسوراً.

يقول لي المهندس فيصل أبو سارية، عضو مجلس التصنيع العسكري الذي عمل مع الضيف عن قرب: "أقبل أبو خالد في أواخر 2002 على تشكيل مجلس التصنيع العسكري، وكان منذ انطلاقته حريصاً على تزويده بالخبرات المهاريّة والنظريّة".

لم تصرف حالة الهياج الثورية في الانتفاضة الثانية أبا خالد عن النظر الاستراتيجي وتدابير الاستدامة، ويضيف المصدر: "قسّم أبو خالد المجلس إلى ست دوائر: دائرة الصواريخ، دائرة الدروع، دائرة العبوات/ القنابل، دائرة التطوير، دائرة الإنتاج، ودائرة الهندسة".

في الوقت الذي كان فيه نائباً للقائد العام صلاح شحادة، لم يكتفِ الضيف بإدارة عملية التصنيع، بل كان يعمل بيده، نتيجة الخبرة التي حصّلها من دراسة العلوم وصحبة المطاردين ذوي الخبرات الفنيّة، مثل يحيى عياش وسعد العرابيد وعدنان الغول.

يواصل المهندس أبو سارية شهادته بالقول "كان أبو خالد بصيراً بصناعة المتفجرات، خرجتُ به فجراً - حيث كان لا يتنقل في النهار - لأوصله إلى أحد المشاغل، وتركته بصُحبة الشهيد يوسف أبو هين الذي ارتقى في 2003 للعمل على تطوير بعض المتفجرات، حين عدتُ إليهم بعد صلاة المغرب، ركب معي أبو خالد الذي تركته ولونه أسمر، فعاد ولونه أخضر من أثر الغازات التي يعملون بها".

استطاع ذلك الرجل "الملوّن" بأثر الغازات والمواد الكيميائية، أن ينتقل بالعملية التصنيعية خلال عشر سنوات من تركيب مكونات جاهزة، إلى تأسيس خطوط إنتاج شملت سلسلة تصنيع متكاملة: من تصميم القوالب، إلى تركيبها على المكابس، إلى إنتاج قطع وصواعق وتروس ومكونات إلكترونية وميكانيكية صغيرة، تُركّب لتشكيل قنابل وعبوات وقاذفات وصواريخ، انتهاءً إلى تكوين منظومة متكاملة للعمل الميداني.

كان هوس العمل يطغى على أي اعتبار آخر، "طلبت منه مرة أن نخرج في زيارة عائلية، فوافق، ولما جلسنا، بدأ يتحدث عن العمل، فاعترضت وقلت هذا وقت راحة فقال لي: إحنا كل حياتنا جهاد بجهاد، هات خلينا نشوف إيش عملت"، يقول لي يسري قيادي سابق في القسّام ويضيف: "لم تكن تعنيه الحياة الاجتماعية إلا بقدر ما تسهم في تطوير العمل. حتى في اليوم الذي جاءني فيه مهنئاً على حصولي على شهادة الماجستير، فتح موضوع العمل مباشرة، كنا نعكف على العمل ونبيت في المكان يومين وثلاثة، نأكل ونشرب وننام بين أدوات العمل، وهذا قبل 2007".

وفي الصورة التي نشرها جيش الاحتلال في أثناء الطوفان بعد وصوله إلى أجهزة تابعة للمقاومة، والتي تظهر الضيف في رحلة برية يحتسي الشاي ويحمل في يديه حزمة من الدولارات، قال لي أسامة وهو عضو سابق في الكتائب، أذكر تلك الرحلة جيداً، "كانت رحلة خلوية في خان يونس، تجمع أعضاء التصنيع العسكري إضافة إلى ضيوف مثل محمد السنوار ورافع سلامة، كانت الخطة أننا سنخرج للتنزه، لكن أبو خالد لا يعرف شيئاً اسمه رحلة؛ كل الأمور عنده شغل، حوّل اللقاء إلى اجتماع عمل، وأخذ يسأل كل عضو عن آخر مستجدات عمله، وفي نهاية اللقاء، أخرج من جيبه الدولارات، وسأل عن احتياجات أقسامنا، ووزع الفلوس، وقتها تناول الأخ الكاميرا وقال ضاحكاً: خلونا نوثّق اللحظة وهو بيعطيكم المصاري!".

الشهيدان: القائد هيئة أركان كتائب القسام، الشهيد محمد الضيف، وقائد لواء خانيونس الشهيد رافع سلامة في آخر ظهور لهما في مقطع مصورة كشفت عنه كتائب القسام في برنامج "ما خفي أعظم" الذي تبثه قناة الجزيرة.
الشهيدان: القائد هيئة أركان كتائب القسام، الشهيد محمد الضيف، وقائد لواء خانيونس الشهيد رافع سلامة في آخر ظهور لهما في مقطع مصورة كشفت عنه كتائب القسام في برنامج "ما خفي أعظم" الذي تبثه قناة الجزيرة.

يخبرني غالب، وهو مسؤول في قسم التطوير: "كان يقود التصنيع بنفسه، ويدخل مع كل عضو في أدق التفاصيل حتى يسألهم عن "البرغي والزنبرك"، وينزل على المشاغل ويسأل: ليش هذي معمولة هيك؟ وليش ما عملتو هيك؟".

ويضيف: "حتى موضوع الإلكترونيات، الذي لم يكن متخصصاً فيه كما في الميكانيك والمتفجرات، كان يُصغي باهتمام ويحفظ ما يُقال ويفهمه، ثم يشارك في اقتراح حلول للإشكاليات".

بمرور الوقت، كان الضيف يميل إلى المزاوجة بين الخبرة الفنيّة والمعرفة النظريّة، فعمل على استقطاب علماء ومهندسين من الخارج، أمثال المهندس جمعة الطحلة (الذي سيسهم لاحقاً في تأسيس وحدة "سلاح السايبر" القسامية) والدكتور جمال الزبدة، الذي كان قد درس في أمريكا وعمل في "ناسا"، فجاء بمعرفة نظرية هائلة أسهمت في إحداث قفزات في تصنيع الصواريخ.

يقول لي نائل، وهو مسؤول في التصنيع العسكري، يروي قصة لقائهما: "كان لقاء أبو خالد بالدكتور جمال الزبدة رحمهما الله في داري، ودعاه إلى العمل معنا في 2004، عندما كنا في المشغل، أصرّ الدكتور على تقبيل يديّ، شعرت بحرج، ولكنه قال لي: أُقبّل يدك لأني حين كنت في عمرك، كنت منشغلاً بالتنزه والسينما.. وأنت هنا بين الحديد والبارود! لقد فاتني كثير من عمري".

كان الزبدة مقيماً في الولايات المتحدة حين رأى رجلاً فلسطينياً يتكلم في قناة إخبارية عام 1992 بلغة إنجليزية فصيحة، ويدافع عن حق عودة المبعدين في مرج الزهور (الذين كان ناطقاً باسمهم)، قال الدكتور الزبدة لأحد أعضاء القسام: "قلتُ لنفسي، لماذا أنا هنا؟ ما الذي أفعله بالتجارة والعمل في هذه البلاد وأرضي تنتظرني؟ لماذا لستُ مثل هؤلاء الأبطال؟ قررت وقتها العودة والتدريس في الجامعة الإسلامية بغزة".

اقرؤوا المزيد: مرج الزهور: تجربة المخيّم الذي فُكّت خيامه

يضيف نائل: "كنا مرة نعمل في المشغل، وكان الدكتور الزبدة يتابع عملي باهتمام بالغ ويشيد بمهاراتي الفنيّة، ثم قال بحماسة كبيرة 'أبصم بالعشرة' - وفرد يده على الطاولة - أننا نكمل بعضنا؛ أنا في الجانب النظري وأنتم بالعملي".

سمح هذا المزيج بتجاوز حل المشكلات التقنية، إلى تطوير الصواريخ والوقود البديل وزيادة مدى القذف، أثمرت سياسة استقطاب الطاقات الأكاديمية وتحويلها إلى بنية صناعية محلية.

يقول المهندس فيصل: "بعد الانسحاب الإسرائيلي عام 2005، كانت الصواريخ الأولوية القصوى عند أبي خالد، لأن تنفيذ ضربات في العمق الإسرائيلي صار أكثر فاعلية مقارنة بمحاولات الاختراق الفردية".

في مراحلها الأولى، كانت صواريخ القسام محدودة المدى (لا تتجاوز 18 كم)، مع انضمام عناصر ذات خبرة، خاصة مساهمات الدكتور الزبدة، شرع الفريق في تجارب لتطوير محركات ومواد دافعة بديلة، ما سمح تدريجيًا بزيادة العيارات وتمديد مدى الرمي، وكان للضيف أثر في تسريع هذه التجارب وتمهيد الأساس التقني الذي مكّن لاحقًا من رفع فاعلية القدرات الصاروخية المحلية.

المحاولة الثانية 

"بعد خروجنا من واجب اجتماعي، تخلله حديث عن العمل في ملف التصنيع، طلب مني أبو خالد أن أوصله إلى لقاء آخر مع مجموعة من جنود القسّام"، هكذا يروي لي القائد الميداني يسري، وهو قيادي في كتائب القسّام كان ينقل أبا خالد بسيارته إلى موعده، في حي الشيخ رضوان، كانت تنتظر أبو خالد سيارة "مرسيدس" زيتية اللون اعتاد التنقل فيها.

كانت الاستخبارات الإسرائيلية قد تمكنت عبر عميل لها من تثبيت هاتف خلوي بداخل المركبة، وفق ما كشفه لاحقاً ضابط "الشاباك" يسرائيل حسون، يخبرني مروان (وهو مصدر أمني وقيادي مطلع على التحقيقات): "حددوا السيارة، وفي أحد المعابر أنزلوا السائق بحجة تفتيشها ثم أعادوه إليها، بعد أن زرعوا الهاتف فيها".

حين توجّه الضيف إلى السيارة، كان المفترض أن يقعد في المقعد الأمامي، لكنه فتح الباب الخلفي وجلس وراء القساميين عيسى بركة وعبد الرحمن حمدان.

في الساعة 2:20 من 26 أيلول/ سبتمبر 2002، تعقّبت مروحية "أباتشي" السيارة إلى حيّ الشيخ رضوان، أطلقت المروحية صاروخ "هيل فاير" أصاب مقدمة السيارة، ثم تبعه صاروخ ثانٍ، في تلك الأجزاء من الثانية، كان أبو خالد قد فتح الباب وتدحرج إلى الشارع قبل وصول الصاروخ الثاني.

حين خبا اللهب، اقترب الناس من السيارة، فلم يجدوا فيها إلا بقايا الجثث، وصلت المعلومات الأولية إلى القيادة الجنوبية لجيش الاحتلال: "لقد قُتل الضيف!" كانت الفرحة عارمة في المجلس الأمني المصغّر؛ لقد تخلصت "إسرائيل" من العقل العملياتي الذي يحرك الاستشهاديين.

بعد ساعات، خرج الدكتور عبد العزيز الرنتيسي ليطمئن الأمة بأن الضيف بخير، حُمل الضيف، الذي أصيب إصابة بالغة في عموده الفقري، إلى مكان آمن بدلاً من مستشفى الشفاء، وأشرف على رعايته الرنتيسي، الذي كان طبيباً.

أدى الاستهداف إلى استشهاد مرافقي الضيف، عيسى بركة وعبد الرحمن حمدان، وإصابة نحو 40 مدنياً.

حتى بعد أن تسلم الضيف منصب القيادة (بعد استشهاد صلاح شحادة)، لم يترك إدارة مجلس التصنيع، لكن لاحقاً، ولضرورات صحية وأمنيّة، ترك التصنيع في 2015 وتفرغ لتنظيم العمل الميداني، كتقسيم الألوية وإنشاء هيئة الأركان واستحداث وحدات جديدة.

اقرؤوا المزيد: أبو أنس الغندور: الرجل الذي لم يُسقط لواء الشمال من يده

لأغراض أمنيّة، كان الضيف يسمّي دوائر العمل حوله بأسماء حركية، "أطلق لقب "التِستري" على باسم عيسى (قائد لواء غزة لاحقاً) لحمله دائماً مفك التجريب (التِستر) الكهربائي في جيبه، يقول لي مجاهد وهو مسؤول رفيع في القسّام: "وأطلق على أخينا وليد شمالي "الكوخ" بسبب صورة لكوخ على جدار مضافته... كثير من الناس لا يعرفون أن أبا بلال شمالي هو الكوخ"، ويواصل ضاحكاً: "وبهذا الحس الأمني انتشرت ألقاب مضحكة، مثل "البربيش"، وواحد ثانٍ كان اسمه "السخان"". ويضيف المسؤول الرفيع مستغرقاً في الضحك: "حين ذهبت للخطبة لزواجي الثاني، سأل والد زوجتي عني أبا أنس الغندور، لكنه أعطاه اسمي الحقيقي، فقال له أبو أنس: أنا لا أعرف أحداً بهذا الاسم! لم تكن بداية جيدة، حيث ينكر وجهاء المجتمع معرفتهم بك، كان أبو أنس يعرفني بلقبي الحركي ولا يعرف اسمي الكامل".

المحاولة الثالثة: قطف شقائق النعمان 

لماذا يقتل المرء نفسه، كانت مسألة يصعب فهمها على من يودّون "لو يُعمّر أحدهم ألف سنة"، ولا يجد لها العقل الصهيوني سوى تفسير عدمي، بينما كانت تمثل لدى الفلسطينيين غاية الإيجابية، حيث تقتضي منطقهم أن الأرض التي يأتي إليها المهاجر الأشكنازي خوفًا من الاضطهاد، يبذل الفلسطيني روحه للحفاظ عليها.

لهذا بلغت العمليات الاستشهادية ذروتها في 2002، مع عودة الضيف إلى قمرة القيادة إثر استشهاد القائد العام صلاح شحادة، كان استهداف شحادة سابقة إجرامية، حين ألقت "إسرائيل" قنبلة تزن طنًا على حي سكني ( الدرج).

اقرؤوا المزيد: أبرز محطّات الانتفاضة الثانية.. خطّ زمني

لم يأتِ ذلك من فراغ، اتخذت القيادة الإسرائيلية قرار القوة المفرطة تحت ضغطٍ مزدوج، الأول تصاعد عمليات القسام الاستشهادية في العُمق، وثانياً اتساع الحراك الشعبي، جاء القرار طلباً لاستعادة الردع، لكن النتيجة كانت إدانة دولية واعترافاً ضمنياً بأن ضغط المقاومة بات يدفعها إلى خيارات عالية الكلفة.

تحت هذا الضغط، اتخذ شارون ومجلسه في أوائل 2003 قرار عملية "قطف شقائق النعمان" (Operation Picking Anemones). رأت الخطة أن مكافحة العمليات الاستشهادية لا تتم إلا بطريقة هرميّة تستهدف القادة "المنظّرين" ليجف المنبع، أو كما وصف الأمر عاموس جلعاد، مدير الشؤون السياسية - العسكرية في وزارة جيش الاحتلال الإسرائيلي: "الجميع يعلم أن قصة السبع والسبعين حورية في الجنة خيار لا يمكن إثباته، والقادة ببساطة غير مستعدين ليجرّبوا ذلك بأنفسهم".

وضعت العملية أهدافاً سياسية ودعوية، مثل الشيخ إبراهيم المقادمة والدكتور الرنتيسي، مع استثناء أولي للشيخ أحمد ياسين، خشية أن يؤدي قتله إلى هياج أوسع.

رأى عامي أيالون، سلف آفي ديختر في إدارة "الشاباك"، سطحية هذه المعالجة، وجادل بأن "المنظّمات الجهادية مبنية كمصفوفة، حتى لو كان لها رأس، فهو رأس أيديولوجي لا يسيطر بالضرورة على الرأس التشغيلي"، لكن حكومة شارون لَجَّت في مخططها.

ترسّخت الاغتيالات الموجهة، بعد المقادمة، استُهدف الرنتيسي وأصيب، ثم في 21 آب/ أغسطس، قُتل إسماعيل أبو شنب، أحد مؤسسي الحركة وأحد أبرز المتحدثين باسمها، قرب مبنى الأمم المتحدة التي ندد أمينها العام كوفي عنان بالضربة.

اقرؤوا المزيد: تفخيخٌ وتسميم.. هل الاغتيال أداة فعّالة لـ "إسرائيل"؟

بعد وقتٍ قصير من اغتيال أبو شنب، أمر الشيخ ياسين كل قيادة الحركة، العسكرية والسياسية، أن تجتمع في 6 أيلول/ سبتمبر في منزل الدكتور مروان أبو رأس، رجل الدين البارز في غزة، كانت تلك مخاطرة استثنائية؛ اجتماع كل رجاله الكبار في مكانٍ واحد ووقتٍ واحد، مما خلق هدفاً هائلاً للاحتلال.

سال لعاب آفي ديختر، مدير "الشاباك"، الذي أُبلِغ عن الاجتماع وحضور الضيف من مصادر بشرية، رأى في ذلك فرصة لا تُعوّض، قال: "لم تقترف حماس مثل هذا الخطأ الاستراتيجي من قبل".

كان من المفترض أن يبدأ الاجتماع عند الرابعة عصراً، بحلول 3:40 مساءً، كانت طائرتا F-16، محمّلتان بقنابل تزن طناً، تتجوّلان فوق المتوسط، حَسَبَ سلاح الجو فإن قنبلة بهذا الحجم لا بدّ منها لتدمير منزل أبو رأس المكوّن من ثلاثة طوابق.

عند 3:45، استدعى رئيس الأركان موشيه يعلون محلّلي العمليات، سأل يعلون: ما تقديركم للضرر الجانبي؟ لم ينسَ أعضاء المجلس الأمني أصداء مجزرة شحادة، فتخوّف أكثرهم، دوف فايسغلاس، مدير مكتب شارون: "ما يلحقنا من الضرر في السمعة من مقتل سبعة أو ثمانية مدنيين يفوق منافع القضاء على مقاوم واحد"، قال يعلون: "سيدي رئيس الوزراء، أوصي بإلغاء الضربة... نحتاج إلى شرعية، وهنا نعرض أنفسنا لضربة مدمرة".

حاجج ديختر بأن "إسرائيل" ستفوت فرصةً تاريخية لإلحاق ضربة قاضية بـ"فريق الأحلام" هذا، تجاهله شارون وألغى الضربة.

بقي ديختر في غرفة الحرب، غاضباً، تصفّح المعلومات الاستخباراتية مرة أخرى، ثم توقّف عند حلّ، "الديوان" (غرفة الجلوس) كان في الطابق العلوي، حيث سُحِبَت الستائر، فظن أن الاجتماع سيجري هناك.

استدعى ديختر المحلّلين وسأل إن كانت هناك وسيلة لتدمير ذلك الجزء فقط من المنزل، جاء الجواب بالإيجاب: إذا أُطلِقَ صاروخ صغير برأس حربي يزن ربع طن عبر النافذة، فسيضمن تدمير كل من في الغرفة.

عاد ديختر وجرى اتصال هاتفيّ مجدّد، استمع شارون ووافق على العملية الجديدة، راقبت ثلاث طائرات من دون طيار وصول المشاركين، ثبت أن معلومات "الشاباك" دقيقة - كلّ القادة كانوا هناك: ياسين على كرسيه المتحرّك، وأحمد الجعبري، ومحمد الضيف.

في الساعة 4:35، أطلق طيار مقاتلة F-16 صاروخاً عبر النافذة في الطابق الثالث، أبلغ الطيار قائلاً "ألفا" (إصابة مباشرة)، اندلع الجزء العلوي من المبنى، وطار الحطام، لكن لا أثر لأي أشلاء، فوجئ ديختر بخروج فوج من السيارات من البيت، أراد إرسال الطائرات لتفجير كلّ السيارات، لكن وزير الدفاع موفاز رفض، مكتفياً بخيبة واحدة.

كان استهداف الطابق الثالث قراراً أحمق، وفيه فقر معلوماتي، كانت الستارة المسدلة في الطابق الثالث تمويهاً أمنياً، يخبرني رامي، وهو مسؤول قسامي: "الشيخ الياسين مقعد، والقائد الضيف لم يتعافَ تماماً من إصابته الماضية، فلم يكن منطقياً عقد اجتماع في الطابق الثالث، لكن الله ادخرهما لمهمة ما".

لقد عُقد الاجتماع في الطابق الأرضي.

الرد: صرفند ومقهى هيلل

بعد ثلاثة أيام من الضربة على منزل أبو رأس، وقُبيل السادسة مساءً، أرسل الضيف محمد الأشقر إلى تجمعٍ لمئات الجنود الإسرائيليين كانوا ينتظرون خارج قاعدة "صرفند" (تسريفين)، قبل وصول الحافلة، وجد الأشقر سيارة شرطة تقترب، فتلفّت حوله، وقنع بما قسم الله له من جنود، وضغط على زر الحزام الناسف، قُتل تسعة جنود، وجُرح ثمانية عشر آخرون.

تلقّى شارون الخبر وهو في نيودلهي، وفي غيابه، فوّض وزير الخارجية سيلفان شالوم باتخاذ "الإجراءات الضرورية"، عند العاشرة مساءً، سأل شالوم ممثلي "الشاباك": من في حماس يمكننا قتله فوراً؟ قال أحد الضباط: لدينا مراقبة جيدة على محمود الزهار... ربما يمكننا تصفيته، لكن ستكون لذلك تبعات فيما يتعلق بالمساس بشخصيات غير عسكرية.

عند الساعة 11:20 مساءً، دخل المساعدون قاعة الاجتماع بوجوهٍ متجهّمة: فدائي آخر فجّر نفسه في مقهى "هيلل" بالقدس، سبعة قتلى، وسبعة وخمسون جريحاً.

صار الزهار رجلاً محكوماً عليه بالموت، أيقظوا شارون في الهند، فوافق فوراً على ضرب منزل الزهار.

في الجو المشحون عقب هجومين دمويين، لم يُعطَ الأمر اهتماماً يُذكر، في الصباح، التقطت أجهزة التنصت مكالمة للزهار من مكتبه في الطابق الثاني، كانت مقابلة مع القسم العربي في BBC، خشي شالوم أن يُسمَع دويّ الضربة على البث المباشر، فأمر بتأجيل الضربة حتى انتهاء المقابلة.

أُطلقت ثلاثة صواريخ دمّرت المنزل، فقتلت ابنه خالد وحارساً شخصياً، وأصابت زوجته إصابات بالغة، لكن الزهار نفسه لم يُصب إلا بخدوش طفيفة، فقد كان في الحديقة، يحتسي قهوة ويتحدث عبر هاتف لاسلكي.

لقد تعلم الفريق السياسي مهارات الخداع، وصاروا يشاركون قيادات القسّام في التلاعب بأجهزة الأمن الإسرائيلية.

لم تنجح سياسة "قطف شقائق النعمان" في تقويض المقاومة، فقتل الأزهار لا يوقف الربيع، في عام 2005، عندما وقّع شارون على الانسحاب من غزة، كان يدافع عن 8,500 مستوطن بنحو 3,000 جندي، وهي تكلفة عجز الاحتلال عن تجاوزها ومصدر خطر محتمل عجز عن تحييده.

اقرؤوا المزيد: "القضاء على حماس".. هل يقدر الاحتلال على ذلك؟

ظنّ شارون أنّه يُقفل الدائرة، فإذا به يفتحها من جديد على حدودٍ أطول، وصواريخ أبعد، وقائدٍ اسمه الضيف يملك اليوم مسرحاً كاملاً بلا جندي إسرائيلي واحد على الأرض، بهذا المعنى، لم تُهزَم «شقائق النعمان» فحسب، بل تحوّلت إلى حقلٍ بريٍّ خارج السيطرة، تثمر فيه كلّ موسمٍ أجيالٌ جديدة.

حين يغادر المحتل أرضك، ستكون أول خاطرة لك هي كيف تمنع عودته باجتياح بري، والجواب العسكري هو سلاح مضاد للدروع.

يقول القائد الميداني يسري: "كان العمل على تطوير سلاح الدروع يحتل مرتبة ثانية عند أبي خالد بعد الانسحاب، في الحقيقة، بدأنا العمل على تطوير "الياسين" في 2003 في ورشةٍ صغيرة لأبي صهيب الحداد، كان يصنع فيها المصاعد، اشترينا مخرطة وأخفيناها خلف قاطع في مؤخرة الورشة، وبدأنا العمل".

اقرؤوا المزيد: رحلة الـ33 عاماً.. سيرة عسكرية لبدايات "حماس"

كان الهدف منع اختراق الوحدات المعادية، يواصل يسري شهادته المذهلة: "كانت طريقتنا بدائية جدًا، أحضر أبو خالد كتاباً سميناً باللغة الإنجليزية فيه صور ورسومات لسلاح الدروع، فكنا ندرس الصور التي لا تصحبها أي كتابات شارحة، ونحاول تحليلها وتخمين قياساتها وهندستها، كنا نعمل معًا من التصميم إلى التجميع إلى التجريب".

"كنا نخرج لأماكن خالية ونجرب ونسجّل الإشكاليات، ونعود للبيت المكون من غرفتين الذي استأجرته وانتقلنا إليه مع زوجتينا، لنحاول إيجاد حلول"، ظل الضيف ورفيقه يسري يتنقلان كل ثلاثة أشهر إلى بيت جديد، للضرورة الأمنية.

على امتداد المشروع، كانت الإرادة أكبر من الوسيلة، فقاذف "الياسين" الذي يواجه "الميركافا" اليوم، بدأ من محاولات تشبه تركيب الأحاجي المصوّرة، ولعل أطرف قصص استفراغ المُتاح، محاولة الشهيد سعد العرابيد استخلاص مادة "اليوريا" من فضلات الأرانب، للاستفادة منها في صناعة المتفجرات.

يضيف يوسف: "استطاع أخونا يوسف أبو هين أن يشتري قاذف "لاو"، وأحضره لنا لتفكيكه، لكني اكتشفت أنه كان قاذفًا "مشرّكاً" (مفخخاً)، فتخلصنا منه قبل أن ينفجر، حاكينا قاذف اللاو، لكننا صممنا قذيفة أكبر (100 ملم)".

"لكن واجهتنا إشكالية الوقود الصلب للمحرك، في ذلك الوقت (قبل 2012)، كنا نستخدم النترات والسكر، وهو خليط غير آمن، في الصواريخ، لم تكن هذه مشكلة، لأنه يُطلق عن بعد، لكن سلاح الدروع يُحمل على الكتف، وكان الخليط محتملا أن ينفجر، كما أنه ينفث اللهب حول القذيفة، وهذا قد يؤذي الرامي".

"بالفعل، انفجر نموذج "البنا 1" (النموذج الأولي) بأحد الإخوة، وربنا سلمه، فاتخذ قرار بإيقاف تصنيع سلاح الدروع بهذا الشكل"، ويختم يسري بالقول: "لاحقاً، استطعنا حل إشكالية الوقود، وتجاوزنا الصعوبات المتعلقة بالتصويب، وهو الآن "الياسين 105" الذي تراه في الميدان".

الأرض تتواطأ مع أهلها 

حين تضيقُ الوسيلة، تتّسعُ الحيلة، لم يكن سلاحُ الاستشهاديّين خياراً أوّلِياً عند الكتائب، بل اضطراراً لجماعةٍ شحَّ في يدها السلاح، فتدريبُ كوادر على عمليةٍ واحدة تنتهي بحياتهم ليس مساراً مستداماً، وبينما انشغل شارون بامتصاص هذه الصدمات، كان الضيف يوسّع الحيلةَ ويرفع كلفة الاحتلال.

حين تفوّق عليهم في الميدان بسلاحه، مالت الأرضُ إلى أصحابها ومنحتهم ممراً خفياً إلى قلب مواقع العدو، الفكرةُ خرجت أولاً من خبرات أهل جنوب غزة في خان يونس ورفح، الذين عرفوا نمطَ أنفاق التهريب، ثم أمسك الضيف بالخيط وحوّله إلى استراتيجية عسكرية.

في صيف 2001، شعرت أرض رفح بحركة في أحشائها، يقول لي القائد الميداني يسري: "السلاح الفعال والأجدى الذي أدى إلى انسحاب القوات الإسرائيلية من غزة كان الأنفاق، وكان الفضل يعود في البداية إلى أخينا محمد السنوار ومحمد أبو شمالة"، رأى قادة العمل العسكري في جنوب غزة فرصة في "تثوير" أنفاق التهريب، يتذكر أبو شمالة أول عملية: "كان الأعداء محصنين في حصونهم المنيعة... تعسر علينا الوصول إليهم من فوق الأرض، فحفرنا لهم من تحتهم".

استغرق حفر النفق أسابيع، مئة وخمسون متراً من الظلام والاختناق، في 26 أيلول/ سبتمبر 2001، وصلوا إلى وجهتهم، تحت موقع "ترميد" العسكري، زرعوا النفق بـ 200 كيلوغرام من المتفجرات، الحفرة التي خلّفها الانفجار كانت عميقة لدرجة أن الجنرالات الإسرائيليين لم يصدقوا ما رأوه، جاء في تقرير عسكري إسرائيلي: "لم يلاحظ أحد عمليات الحفر، ولم يشعر جندي بما يدور تحته".

استأجر الجيش الإسرائيلي، لأول مرة، شركة أمريكية خاصة للبحث عن الأنفاق، كتب المحلل عاموس هارئيل في "هآرتس": "الجيش لا يملك حلاً سحرياً... لا يملك وسائل تكنولوجية قادرة على رصد ما يجري تحت الأرض".

وضع الضيف إصبعه على عصب الاحتلال، وبدأ يضغط، توالت الضربات عبر الأنفاق، وبلغت الذروة في كانون الأول/ ديسمبر 2004 بعمليةٍ مشتركة دمّرت موقعاً قرب رفح وقتلت خمسة جنود، بين 2001 - 2004، دفعت عمليات الأنفاق "إسرائيل" إلى إعادة حساباتها، وصولاً إلى الانسحاب من غزة عام 2005، علّق أبو خالد على الانسحاب: "أنا في تصوري، هذا هو بداية النصر".

لم يخترع الضيف الأنفاق، لكنه نظّمها ورفعها إلى مقام السلاح الاستراتيجي، يقول القائد يسري: "بعد 2008، بدأ الاهتمام يتحول من استخدام الأنفاق وسيلةً تكتيكية إلى اعتبارها سلاحاً استراتيجياً يدور على ثلاثة أنواع: أنفاق إمداد، أنفاق دفاعية، وأنفاق هجومية".

خلال سنوات الانتفاضة، حاولت "إسرائيل" اغتيال الضيف خمس مرات، حسب شهادته، في 12 تموز/ يوليو 2006 (خلال حرب لبنان الثانية)، شنّت الطائرات الإسرائيلية غارة على منزل الدكتور نبيل أبو سلميّة في حي الشيخ رضوان، فدمّرت المبنى بالكامل وقتلت تسعة من أفراد العائلة، كان الضيف مجتمعاً في المنزل.

يقول لي جابر، أحد مرافقي الضيف لسنوات طويلة: "في وقتها، كُسر عموده الفقري ووُضع له بلاتين، ظل لعامين على الكرسي المتحرك، ثم بعد أن استقر عموده الفقري مع كثير من العلاج الطبيعي، بدأ يخطو ويحاول الاستغناء عن الكرسي، فبدأ يمشي على "الـووكر" (المشاية) ثم بالاستناد إلى الحائط".

ويضيف: "إلى عام 2022، لم يكن هناك مكان نجتمع فيه إلا وفيه سرير، لأنه لم يكن يستطيع أن يجلس فترات طويلة".

يروي جابر عن تلك الفترة الصعبة: "في الفترة الأولى كانت نفسيته متعبة، كسر الظهر ليس سهلًا، خاصة أنه كان يتناول أدوية مسكنة قوية، كانت آلاماً رهيبة، وصلت الحال به إلى الاعتماد الكلي على هذه الأدوية، فإذا لم يأخذها في وقتها يعاني من ألم فظيع لا يُحتمل، كان يستخدم دواء "الترامادول"، ومع الوقت بدأ يأخذ نفسه بالعزيمة وترك المسكنات".

"كانوا ينقلونه على الكرسي المتحرك ويجتمع بنا وهو قعيد، أو يصل فيكون السرير جاهزاً فيتمدد عليه ونجتمع حوله، لكنه سبحان الله، كان دائماً راضياً بقضاء الله وصابراً... كان كالجبل الأشم في صبره وتحمله لهذا الألم الذي كان يلازمه باستمرار".

غزة من دون المحتل.. "خمسة بلدي"! 

حين تعجز عن القضاء على عنصر متمرّد، فلا بدّ أن تعمل على احتوائه في البيئة التي تسيطر عليها، هذا ما فعله أستاذك في المدرسة يوما ما، وما يفعله مديرك في العمل وما تفعله الحكومات والمجتمع الدولي، لنعطِ السياسيّ فرصته مع المنظمة التي لم يقدر الجيش على تفكيكها بأدواته الخشنة، هكذا فكّرت القوى السياسيّة.

بعد الانسحاب، انقسمت الآراء داخل "حماس" حول المشاركة في انتخابات المجلس التشريعي، رآها بعضهم تفريطاً، ورآها آخرون فرصة لتقديم غطاء للمقاومة، وإليهم مالت الكفة، يقول لي رامي، المسؤول المطلع في حماس: "كان أبو خالد مع المشاركة"، ويضيف أحد أقرباء الضيف: "ما لا يعرفه الناس عن القائد الضيف أن أفقه السياسيّ واسع، وكان منفتحاً على كل خيار يتيح للفلسطينيين حياة عادلة وكريمة".

بعد قرار حماس المشاركة ردد أصحاب السلطة الفلسطينية وقتها مقولة "على حماس أن تموتَ أو تموت، إذا فازت في الانتخابات ماتت، وإن خسرتها ماتت" قال لي مسؤول عسكري في القسام.
اقرؤوا المزيد: موجز سيرة "حماس".. من بدايات الدعوة إلى مأزق السّلطة

حققت الحركة انتصاراً انتخابياً مفاجئاً، يقول رائد، وهو مسؤول عسكري في كتائب القسام: "أصيبت قيادة السلطة بصدمة هائلة، اكتشفوا أننا لم نمت، لم يريدوا أن يقتنعوا بالنتيجة، وتعنتت الأجهزة الأمنية"، جلس محمد دحلان وسط جماعته بعد لقاء بوفد من الحركة وقال: "أنا راح أستلمهم خمسة بلدي... وحياة أبوكم اللي في فتح اللّي بيقول بدو يدخل في الحكومة معهم راح أقل قيمته". كان الهدف حصر الحركة للاعتراف بـ "إسرائيل" أو التخلي عن المقاومة.

في 9 حزيران/ يونيو 2006، كان أبو خالد يعدّ جدولاً لمباريات كأس العالم لكرة القدم، الذي كان مشغوفاً بمتابعته، حسبما يخبرني رفيق عمره يسري: "كان منذ شبابه يلبس ملابسه على بنطال رياضيّ، فإذا مرّ بأحد ملاعب غزة علّق ملابس الدراسة على الشجرة ونزل يمارس مهاراته". ويستدرك: "هو في الأساس رياضي وعنده رشاقة عالية، لا أذكر يوماً في البدايات إلا وهو يرتدي حذاءً رياضياً، كان يلبس بنطال التدريب الرياضي تحت بنطاله العادي". 

 يقول لي: "أنا تعودت في الجامعة، أحب الرياضة"، كان يذهب للمدرسة أو الجامعة، فإذا وجد أولاداً يلعبون الكرة، خلع بنطاله وعلّقه على الشجرة ونزل يلعب معهم"، ويضيف يسري أنه كان "قريباً من الكبار والصغار، يستطيع أن يتواصل مع الجميع، حين كان يلقى الوالدة، يختلق معها حديثاً يؤنسها به، ويستغرقان في الحديث".

كان الضيف يتهيأ لشهر من متابعة المباريات، فالهدنة مستمرّة منذ الانسحاب، في المساء، نفذ جيش الاحتلال مجزرة قتلت عائلة "أبو غالية" على شاطئ غزة، التقطت الكاميرات صورة الطفلة "هدى" وهي تتنقل بين جثث عائلتها،

في الوقت الذي كان فيه المحللون يتحدثون عن إكراهات "الشرعية" التي تواجه حماس، كان أبو خالد يفكر في تثبيت خيار المقاومة مساراً لا يقبل التنازل، انطلقت الصواريخ على سديروت وعسقلان، ثم سكتت المقاومة، ظنَّ الاحتلال أن المقاومة قد قدمت ردها الرمزيّ ورفعت العتب، وعادت لمشكلاتها الداخلية.

ولكن أبا خالد كان له تدبيرٌ آخر، لم يخطر لهم على بال.

اجتمع أبو خالد مع رائد العطار ومحمد أبو شمالة، قادة الكتائب في جنوب القطاع، ووضعوا خطة الرد الرادع، بالتنسيق مع ألوية الناصر صلاح الدين وجيش الإسلام، لعشرة أيام، خضعت فرقة من النخبة العسكرية لتدريبات مكثفة للإغارة على برج مراقبة للاحتلال في "كرم أبو سالم".

في تمام الساعة 5:15 فجر 25 حزيران/ يونيو 2006، بعد 15 يوماً من مجزرة الشاطئ، دخل سبعة من رجال المقاومة في نفقٍ كانت الكتائب قد بدأت حفره منذ 2004 وأنجزته بعد عام، وتركه الضيف كأصلٍ من أصول المقاومة يمكن استثماره لاحقاً، زحف الجنود 450 متراً، وحين وصلوا إلى فوهة النفق، خرجوا خلف خطوط العدو.

أعطوا الإشارة للقيادة، فبدأت قذائف الهاون والـ "آر بي جي" تنهال على الموقع العسكري لتشتيت الانتباه، انقسم المقاتلون إلى ثلاث مجموعات: توجهت إحداها للميركافا، والثانية لناقلة جند فارغة للتمويه، والثالثة نحو برج المراقبة.

خلال ثماني دقائق، تمكنت الفرقة من قتل قائد الدبابة (الملازم حنان باراك) والرامي (الجندي بافل سلوتسكر)، وأسر الجندي جلعاد شاليط بعد إصابته بجروح طفيفة، عادوا به أسيراً، لم يكن الجنديّ النحيل يعلم بعبوره إلى غزة أنه سيبقى فيها لسنوات.

يتذكر طارق عز الدين، القيادي في الجهاد الإسلامي والذي كان وقتها أسيراً، مشاعر الأسرى حين وصلهم خبر العملية: "تحولت سجون الاحتلال من مأتم إلى قاعة أفراح، كان الجميع يصرخون: أصبحنا أحراراً"، (خرج عز الدين في صفقة "وفاء الأحرار" عام 2011، وفي 9 أيار/ مايو 2023 استُشهد إثر هجوم إسرائيلي على منزله في غزة).

وقّع الضيف هذه العملية باسم "الوهم المتبدد"؛ لنفي ما كان يخطط له أعداء المقاومة باحتوائها، أو ما قد يَحُوك في نفوس بعض سياسييها من أن الانحراف عن خط المقاومة ممكن.

رد الاحتلال بعملية "أمطار الصيف" لاستعادة الأسير أو قتله، واستهدف فيها الموارد الحيوية، لكن "أمطار الصيف" انحسرت ولم ينبت شاليط، ظل مدفوناً حيث زرعته المقاومة.

من المخرطة إلى وحدة الظل.. القائد يتعلّم

لم يدرس الضيف في كليات عسكريّة، وإن كان قرأ عشرات الكتب من مقرراتها في ليالي عزلته، كان جهادُ الرجل مدرسته، ودوراتُه التخصصية هي يوميّاته في مسيرة الإعداد، كل ما كان يتسلّح به هو ذهنٌ وقّاد، وشهادة جامعيّة في العلوم، ووضوح دائم للهدف، ورغبة هائلة في التعلّم.

يقول لي القائد الميداني يسري "في 2003، جاءني أبو خالد وقال لي: أريد منك أن تعلمني العمل على المخرطة، أخذته وذهبنا لورشة لأبي صهيب عز الدين الحداد وشرعنا في العمل".

وامتلك الضيف ذاكرة هائلة، يتذكر يسري الذي عمل معه على امتداد عشرين سنة: "كان يحفظ آلاف الأرقام عن ظهر قلب، لأنه لم يكن يمتلك هاتفاً، كان يمسك بالهاتف الأرضي وينقرُ عليه أرقام من يحتاج التواصل معهم من القيادة أو المجندين أو الأقسام، لم أره يومًا ينقل من ورقة أو دفتر هاتف". 

يروي جابر (مرافقه المقرب) عن حساسيته الأمنية: "حسم أبو خالد موضوع الجوالات، لم يكن يتعامل بها أبداً، حتى الساعات كان يرتاب منها، كل ساعاتنا كانت "كاسيو" رقمية (قالها ضاحكاً)، مرة استشهد أحد الإخوة الذين كانوا معتقلين معه، فجاءني ولده وطلب شيئاً من ريحة أبو خالد، خلع أبو خالد ساعته الكاسيو المهترئة، وقال لي: خذ هذه وغير جلدتها وأهدها له".

ووصل الأمر بحسب جابر إلى تفاصيل شديدة الدقة: "زوجته كانت منقبة، ثم أمرها بترك النقاب لاعتبارات أمنية، كان يسكن في بناية، وزوجته تتردد عليه، كونها منقبة، رفعت المباحث التابعة للسلطة تقريراً أن "هذه الشقة يدخلها شباب وقد يتخفون في ملابس المنقبات"، فصارت لافتة للنظر، فكان قراره أمنياً بحتاً".

الشهيد محمد الضيف محاطاً بعناصر القسام خلال مقابلته الصحفية الوحيدة مع برنامج "في ضيافة البندقية" عام 2005.
الشهيد محمد الضيف محاطاً بعناصر القسام خلال مقابلته الصحفية الوحيدة مع برنامج "في ضيافة البندقية" عام 2005.

كان العمل المتواصل في الميدان والتجاوب مع ظروفه البيئة الأخصب لتطوير العمل"الميدان الجهادي يفرض عليكَ تطويراً مستمراً"، قال لي باسم نعيم، عضو المجلس السياسي في حماس: "بعد أسر شاليط، بدأ الإخوة في الجناح العسكري يفكرون في إنشاء منظومة اتصالات داخلية لتأمين الأسير، وبسبب محاولات إخفائه في الأنفاق، وُلدت فكرة الأنفاق التأمينية والغرف الآمنة تحت الأرض، التي ستكون مقرات للتخطيط والاجتماعات القيادية لاحقًا، ونشأت "وحدة الظل" المتخصصة في إخفاء الأسرى"، والتي ظلت تعمل في السر. " كانت وحدة الظل معجزة قسامية فمنذ تأسيسها في 2006 إلى الإعلان الأول عن وجودها في 2015، والذي جاء بعد استشهاد آخر أعضائها عبد الرحمن المباشر في ذلك العام، قبل هذا التاريخ لم يكن يعرف أحد بوجود الوحدة، وهو ما شكل مفاجأة حتى لدولة الاحتلال" قال لي مسؤول أمني.

لعبت شبكة الاتصالات الخاصة، التي أشرف على تطويرها الشهيدان ظافر الشوا وحازم الخطيب (وكانا على تواصل مباشر مع القائد الضيف) دوراً حاسماً في المواجهات، كما أحبط هذا الفريق محاولة قوات "سايريت متكال" التسلل إلى عمق القطاع في خانيونس، فكُشفت المجموعة وقُتل أحد ضباطها. وبحسب عمار، وهو مسؤول عسكري في القسام، كان أبوخالد "من النوع اللي ما بيعرفش يقعد إلا إذا الظروف الأمنية أجبرته على الاختفاء"، فقد كان مولعاً بمتابعة العمل، حتى إذا اقتضت الضرورة الأمنية عدم تحركه، استخدم الشبكة الداخلية للاتصالات، "يتواصل مع كل القطاعات، ويعقد اجتماعاته على التلفون".

بعد عملية "طوفان الأقصى"، وجدت "وحدة الظل"، التي أُسست في 2006 بأوامر مباشرة من الضيف، نفسها وجهاً لوجه مع شبكة تعاون استخباراتي دولية، تولّت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية العمل الميداني، وقدمت الولايات المتحدة (عبر CIA وقيادة العمليات الخاصة JSOC) دعماً استخبارياً، ونفذ جهاز الاستخبارات السرية البريطاني MI6 أكثر من 500 طلعة استطلاع، على امتداد عامين، تمكنت "وحدة الظل" من الصمود وفرض حرمان معلوماتي على هذا التحالف، في قطعة ساحلية لا تتجاوز 365 كيلومترًا مربعًا.

الحسم: "لازم نأدبهم!" 

تحت الاحتقان السياسي وتفاقم تعنّت أجهزة السلطة مع الحكومة المنتخبة، نضج "الحسم" في 2007، يخبرني زياد، القيادي في الجناح العسكري إن "الحادثة المحورية كانت إيقاف موكب أخونا أبو العبد هنية، ثمّ إهانته لفظياً على حاجز جهاز الأمن الوقائي... قرر أبو العبد بحكمته الانسحاب لتفادي المواجهة، لكن تعنّت السلطة ووقاحة عناصر الأمن جعلت المسألة تتجاوز حدود التحمُّل، عقد أبو خالد اجتماعاً للمجلس العسكري، وقال: لازم نأدبهم!".

أمر الضيف فرقة النخبة بتولي المواجهة، وفوّض أحمد الجعبري، الذي كان الأقرب إلى الميدان، ما حصل كان صدمة كبرى؛ انهيار معنوي وميداني بين أجهزة الأمن أدى إلى استسلام وهروب أعداد كبيرة من عناصرها.

في اليوم التالي، استيقظ أبو خالد الضيف في مزاج جيّد، على الإفطار، شاهد مقاطع من مسلسله المفضل "مرايا" لياسر العظمة، ثم نزل ليجد واقعاً ميدانياً جديداً.

بعد "الحسم"، كرّس الضيف صورة القائد الصارم الذي يرفض المحسوبيات، يروي لي مجاهد، المسؤول الرفيع في الكتائب أن الضيف "لم يكن يحب الوساطات، أذكر أن أمه وأباه لم يحجّا، سألته: لماذا لم تدفع للحكومة ليحجّ الوالد والوالدة؟ فقال: وأنا مالي؟... كان يبتعد عن أي شيء يخص عائلته حتى لا يُقال إنهم جماعة الضيف".

ويضيف مجاهد واقعتين أشد صرامة: "أحد أقاربه في خانيونس صارت بينه وبين شخص مشكلة، فـ "طخ" الرجل في قدميه، واعتقلته الشرطة، فطلبت العائلة من "الحاج" (الضيف) التدخل، فقال: لا، خليه يظل محبوس وينحكم ويقضي مدته، عشان يتعلم، وعشان ما يفكرش حد إنه فوق القانون".

"وفي واقعة أخرى، شاب من القسام أطلق النار على شخص "منحرف"، حين انكشف الأمر، تم اعتقاله من الشرطة ورفض الضيف التدخل، مع أن عائلة الشاب ناشدته، قال لهم: هذا حق ناس، حلّوا معهم وادفعوا له دية".

بمغادرة السلطة، خرجت المقاومة من حالة العزلة إلى حالة إدارةٍ ميدانية أكثر تماسكاً، تولّت شخصيات من خلفية مقاومة مواقع تنفيذية في الحكومة المنتخبة، بما أتاح مناخاً مناسباً لمتطلبات الأمن ومقتضيات العمل العسكري، قال لي مسؤول رفيع في الداخلية آنذاك، يصف تلك المرحلة بالقول "إن مهمته كانت تهيئة البيئة والخدمات والإمكانات التي تضمن حماية المجتمع وتعزيز صموده".

تلك البيئة الآمنة المحصنة ضد استخبارات الاحتلال، أتاحت للمقاومة أسباب العمل على مشاريع استراتيجية كالتصنيع والأنفاق، لقد فسح قرار "الحسم" لأبي خالد بيئة مناسبة لمراكمة عمل مؤسسي منظم، بدلاً من شبكات مشتتة.

قناديل غزّة

أرادت "تل أبيب" هدوءاً مشروطاً بتجريد غزّة من أنفاسها عبر الحصار، فرفعت كلفة الحياة اليومية على المدنيين، ظنًّا أن المجتمع سينفض عن حكومة المقاومة، بينما قرر أبو خالد أنه لن يبيعهم "هدوءاً" مقابل بطاقات التموين؛ فلم يعد حسابه يتضمن البقاء على قيد الحياة فحسب، بل تأمين بيئة قادرة على تنمية العمل، وإن كانت "إسرائيل" تراهن على تكدير حياة الغزيين، فلنرَ كيف تصبر حكومتهم على تكديرنا لحياة المستوطنين في الغلاف، هكذا فكّر الضيف.

"ما لنا نخنقهم ولا يموتون"، خاطرة عبرت بذهن إيهود أولمرت، كانت المقاومة في غزة تشبه قناديل بحرها؛ في كل صيف، يقذف بحر غزة بتلك القناديل التي تستنشق الهواء من دون جهاز تنفسّي، إذا ضغطت على ما تظنه رقبة القنديل، فلن يضره خنقك له، لكنه يعرّض يدك للسعة حارقة.

معركة الفرقان: توسيع بقعة الزيت

بدأت حكومة أولمرت (في كانون الأول/ ديسمبر 2008) ضرباتها الجوية المكثفة على أهداف رسمتها طيلة شهور الهدنة، مستهدفةً مقارّ الشرطة والمرافق المدنية، "كان العدو يهدف لتدمير منظومة القيادة والسيطرة، إذ كان المخطط قتل ما لا يقل عن 3 آلاف عنصر وقائد من كتائب القسام والحكومة" قال لي مسؤول أمنيّ في كتائب القسّام، كانت الكتائب قد أنهت عاماً من التطوير، فدخلت المعركة بوتيرة مختلفة. 

ما كان يُشرف عليه أبو خالد في تلك المشاغل والورشات، كان يفوق تصوّر القريبين، فكيف بالبعيدين؟ حتى بعض العاملين في المقاومة في الخارج لم يستوعبوا حجم المعجزة التصنيعيّة التي كانت تتكوّن في جوف القطاع المحاصر.

يقول ياسر، الذي كان مسؤولاً عن الاتصال بين الداخل والخارج في ملفّ التصنيع العسكري: "أذكر جيداً كيف أرسلت إلى الإخوة في الخارج أطلب دعماً تفصيلياً في مشروع الذخيرة، فجاءني الرد ببرودٍ بيروقراطي: يا أخي، ما تتحدث عنه عمل تقوم به دول، أنتم في غزة لا تستطيعون ذلك".

يتابع ياسر: "أثارني هذا الكلام، فكتبت لهم: يبدو أن الصورة عندكم غير واضحة؛ هذه غزة، وهنا نصنع الرصاصة والقذيفة والصاروخ، لم يقتنعوا، فقرّر ضابط الاتصال من الخارج أن يأتي بنفسه ليرى، حين وصل، سأل عن صاحب الرسالة، فدلّوه عليّ، نظر إليّ وسأل: أأنتَ فلان؟! نعم، أجبته، ثم دعوته إلى البيت، وبعد واجب الضيافة، أخرجت له بعض منتجاتنا، قلت: "تفضل، هذا ما نصنعه"، أريته الطلقات التي ختمنا قاعدتها باسم القسام لعام 2005، ووضعت بين يديه قطع السلاح التي خرجت من خطوط إنتاجنا الأولى، أمسكها بدهشةٍ، ثم انحنى عليها يقبّلها قائلاً: "هذا تصنيع دولي! هذا تصنيع دولي!"، ابتسمتُ وقلت له: بل هو تصنيعٌ غزّيّ خالص".

قال أبو عبيدة، الناطق الرسمي باسم كتائب القسام: "إذا كنتم تظنون أن الاستهداف والاغتيالات ستخيفنا، فسنفاجئكم بما يسوؤكم"، وأضاف: "سنوسّع بقعة الزيت اللاهب.. ونحن نعرف ما نقول، إذا استمرّت الحرب، فقد حكمتم بالإعدام على كل سكان المغتصبات في جنوب ووسط فلسطين المحتلة".

اقرؤوا المزيد: الإعلام العسكري للقسام.. سيرة ذاتية

خلف كلمات الملثم، أعاد الضيف صياغة الردع المضاد؛ فقد أدخل لأول مرة أسلحة محلية متطورة، ففي حي التفاح، أصابت قذائف "بي-29" المضادة للدروع دبابة إسرائيلية، وفي جباليا استخدم جنوده سلاح "تاندوم"، وفي الجو، تمكن قساميّ من إصابة مروحية أُجبرت على الهبوط.

 وفي وسط العملية التي كان من أهدافها استعادة جلعاط شاليط الأسير العسكري في يد المقاومة، استطاعت الكتائب تنفيذ عمليات أسر ستة جنود شرق حي التفاح وأسر جنديّ آخر في جباليا، وبدا أن وعد أبي عبيدة لشاليط "بأن يحضر له من يؤنس وحدته من الجنود الإسرائيليين صار حقيقة ناجزة، لولا تفعيل الطيران الإسرائيلي عقيدة هانيبعل وقصف أسراه بنيرانه حيث تحولوا إلى أشلاء مع آسريهم. 

وبمُضي المعركة من دون تحييد سلاح الصواريخ، أعلنت الكتائب أنها قررت "أن تُدخل أضعاف عدد سكان غزة من الصهاينة تحت نيرانها"، ومع نهاية الأسبوع الثالث، قرر أولمرت إيقاف إطلاق النار من طرف واحد.

وصفت "إسرائيل" الجولة بأنها "أضخم عملية في تاريخ جيش الاحتلال استنفدت خمسين في المائة من ذخيرة الطيران"، في حين قالت المقاومة: "لم نستخدم أسلحة العرب المكدسة، بل استخدمنا سلاحاً صنعناه بأيدينا".

أعلنت "إسرائيل" عن تدمير واسع، بينما أكدت الكتائب أنها فقدت 48 من عناصرها مقابل قتلها 49 جندياً إسرائيلياً بشكل مباشر (وتقدير 80 جندياً في مجمل المعركة).

بعد "الفرقان"، ثبّت الضيف حقيقة صلبة: المقاومة باقية، والحل العسكري لن يجدي، خلصت دراسة من معهد "بروكنغز" إلى أن التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي تحوّل من "الحسم العسكري" إلى "إدارة الصراع" عبر جولات مؤقتة.

شهر العسل القصير

مع اندلاع ثورات الربيع العربي، عاد النبض لجسد الأمة، قال الضيف في كلمة مسجلة عام 2012: "المطلوب حشد جميع طاقات الأمة لاجتثاث هذا الكيان... وحان الوقت لتطهير المسجد الأقصى"، واستجاب الليبيون، يقول لي الحاج مفتاح، وهو شخصية ليبية أشرفت على شبكة الإمداد: "أصبحت حدود غزة هي حدود ليبيا، كانت سيارات النقل تخرج من سرت وبنغازي محملة بالسلاح، وتصل إلى غزة، كنا نعطيهم الجمل بما حمل، حتى السيارات الناقلة".

اقرؤوا المزيد: طريق السلكاوي: سلاح الثورة من ليبيا إلى غزّة

انتتعشت خطوط الإمداد، كان أبو خالد يسمي تلك الفترة "شهر عسل قصير"، لكن ذلك الشهر انعكس على التصنيع، فالاستيراد كان أرخص، يقول لي إياد، وهو قيادي في القسام: "أرسلَنا أبو خالد لنطوف في بلاد العالم... كان يقول: هذا شهر عسل قصير، يجب استثماره".

ويضيف إياد "كلفني أبو خالد في 2004 بتجهيز خط إنتاج لذخائر الكلاشنكوف... مع الثورة المصرية وتدفق السلاح، اتخذ المجلس العسكري قراراً بإيقاف خط الإنتاج بأغلبية، وفيهم أبو خالد، للاقتصاد في الصرف، قمت بتجميع مقدرات المشروع وأغلقت عليها، مع إغلاق الحدود بعد 2013، قلت لأبي خالد: فاكر خط إنتاج الذخيرة؟ فقال لي: لقد ارتكبنا خطأ فادحاً، ثم وجّه بتأسيسه من جديد وأُنجز في 2015".

في 23 تشرين الأول/ أكتوبر 2012، زار أمير قطر الشيخ حمد غزة، وفي نفس اليوم، قصفت "إسرائيل" مصنع اليرموك في السودان، زعماً أنه إحدى سلاسل الإمداد، بعد أن غادر الأمير، أطلقت المقاومة سبعين صاروخاً، كان الضيف يضع قاعدة جديدة: معاقبة "إسرائيل" على استهداف سلاسل الإمداد، حتى لو كانت خارج فلسطين.

في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، استهدف الاحتلال أحمد الجعبري، القائد الميداني للكتائب، لم يتوقع نتنياهو حجم رد فعل الرجل الأول على استهداف أحد قياداته الكبرى، قرر الضيف قصف تل أبيب، قال لي بلال ريان قريب الضيف: "سألته عن قرار قصف تل أبيب لأول مرة، فقال: بدأت إسرائيل من الأخير باستهدافها القائد الجعبري، فقررنا أن نرد من الأخير".

كانت الاستخبارات الإسرائيلية قد استهدفت مرابض صواريخ "فجر" الإيرانية المحدودة، قال وزير جيش الاحتلال  - في حينه - إيهود باراك: "لقد دمّرنا الغالبية العظمى"، لكن على مدى الأيام الثمانية التالية من معركة "حجارة السجيل" ظلت الصواريخ تلمع في سماء "تل أبيب"، قرر الضيف الاعتماد على ما تم تطويره محلياً، صاروخ "M-75" (باسم إبراهيم المقادمة) محلي الصنع. يقول يقول لي مجاهد القيادي البارز في الكتائب:"كانت رشقات مباركة، بقدرتها البسيطة والمفاجئة، تغيرت تقديرات العدو، فقرر نتنياهو إيقاف الحرب لقلة المعلومات عن عدد الصواريخ الجديدة... بيني وبينك، لم نكن نملك الكثير منها في الحقيقة!".

أدرك الضيف بعد استشهاد الجعبري، أن تأمين القيادات سيعتمد على التحرك تحت الأرض، أخبرني عدنان، وهو قيادي في كتائب القسام: "أرسل الضيف وفداً رسمياً بعد حرب 2012 إلى مواقع أنفاق حزب الله في جنوب لبنان، ليطلعوا على نماذج وخبرات قابلة للاقتباس".

جزّازة العشب في مواجهة سنديانات غزة

لم يطل "شهر العسل"، في 3 تموز/ يوليو 2013، أُطيح بالرئيس محمد مرسي الذي تعهد بألا يترك المصريون غزة وحدها، وبدأت حملة منهجية لتدمير أنفاق التهريب.

في 2 تموز/ يوليو 2014، وفي اليوم الرابع لرمضان، اعترض ثلاثة مستوطنين الفتى محمد أبو خضير (16 عاماً) وهو في طريقه لصلاة الفجر، اقتادوه إلى أحراش دير ياسين، وهناك أغرقوا جسده بالبنزين، وأجبروه على تجرّعه، ثم أشعلوا النار فيه حيًا.

قبل أن تنفجر الضفة، وجّه أبو خالد بقصف دولة الاحتلال بأربعين صاروخاً، في 8 تموز/ يوليو، أعلن الاحتلال عملية "الجرف الصامد"، فتصدت لها الكتائب بـ"العصف المأكول".

أعطى الضيف أوامره بتنفيذ عملية نوعية لفرقة "الضفادع البشرية"، تسلّلت مجموعةٌ من مقاتلي النخبة بحراً، وبلغت شاطئ قاعدة "زيكيم" العسكرية وسيطرت عليه، ترافق الهجوم مع إسناد ناري من المدفعية، أثار الهجوم صدمةً، وتكتّم الجيش الإسرائيلي على خسائره، بينما بثّت الكتائب موادّ مصوّرة تُظهر تفاصيل العملية.

في 12 تموز/ يوليو، حاولت قوات الاحتلال تنفيذ عملية إنزال على شاطئ السودانية، ولكن قوة النخبة الإسرائيلية وقعت في كمين معدِّ أجبرها على الانسحاب، بدا أن المقاومة دخلت مرحلة جديدة من الاستعداد لتأمين الشواطئ واستخدامها ضد قوات الاحتلال، بعدها بأيام، أعلنت الكتائب عن مفاجأتها الكبرى: سلاح الجو، بإطلاقها سربا من مسيّرات "أبابيل" بنماذجها الثلاثة (استطلاعية، إلقاء، انتحارية).

وجد الإسرائيليّ نفسه وقد أخطأ في تقدير قوة الكتائب، فمنذ أن اتخذ عقيدة "جزّ العشب" (الحروب الدورية لتقويض القدرات)، اكتشف المحتلّ أن الضيف صار يزرع سنديانات غليظة الساق، تتثلّم عليها أسنان مجزّاته. 

في تلك الجولة وجد الإسرائيليّ أن الكتائب لم تعد تكتفي باستهداف تل أبيب، بل صارت صواريخها محليّة الصنع تصل إلى حيفا، العاصمة الاقتصادية للاحتلال، مع إدخال صاروخ الرنتيسي 160 إلى الخدمة، هذه القفزة النوعيّة في التصنيع أدخلت الكتائب مرحلة جدية من نديّة الردع المضاد.

اقرؤوا المزيد: الأصابع المحروقة في نتساريم

في ذلك الجوّ المضطرب على التراب الفلسطينيّ كانت معالم هبة شعبيّة تتشكل في الضفة والداخل، تصدّرتها المقاومة حامياً وحيداً لحقوق الشعب المضطهد، بعد أسبوعين من العدوان أعلنت القسّام أنها مستعدة لإحياء انتفاضة الحجارة ولكن بصيغة أكثر شراسة حيث "صنعت الكتائب ربع مليون قنبلة يدوية ستكون بين يديي فتيان شعبنا ليرجموا بها جنود الاحتلال بدل الحجارة".

مع بدء الاجتياح البري، فوجئ الاحتلال بعمليات توغّل لوحدات قسّامية تخرج من باطن الأرض عبر أنفاق هجوميّة، وتضرب خطوطه الخلفيّة، توّجت هذه العمليات بأسر الجنديّ شاؤول آرون، قال الضيف بعد 23 يوماً من العدوان: "إن موازين المعركة باتت مختلفة... ولن ينعم هذا العدو بالأمن ما لم يأمن شعبنا".

في 19 آب/ أغسطس 2014، اخترقت "إسرائيل" الهدنة بوساطة مصرية، وأطلقت خمسة صواريخ على بيت لعائلة الدلو في حي الشيخ رضوان، معلنة أنها استهدفت القائد العام محمد الضيف، قدّرت استخباراتها أن العملية نجحت، استشهدت في الهجوم زوجة الضيف وداد (27 عاماً)، وولده الرضيع علي (7 أشهر)، "بعد استشهاد زوجته، ظلت أسرتها تلجأ له في كل شيء، وتصدر عن رأيه، لم تنقطع علاقتهم به حتى بعد وفاة ابنتهم"، قال لي أحد رفاق الضيف.

في اليوم التالي، خرج أبو عبيدة في تسجيل مصور: "خبتم وكذبتم، إنكم أفشل وأعجز من أن تطالوا أبا خالد الضيف... أبو خالد الذي بدأ من الحجر وانتقل للبندقية، ثم للعمليات الاستشهادية، حتى غطت صواريخ الكتائب تحت قيادته كل الوطن الحبيب السليب".

في كلمته، وجّه أبو عبيدة وفد التفاوض الفلسطيني بالانسحاب من القاهرة، وصرّح بتصعيد العمليات، ووجه كلامه لشركات الطيران: "نحذر شركات الطيران العالمية من الوصول إلى مطار بن غوريون، وعليها إيقاف رحلاتها منه وإليه... يُمنع أي تجمعات كبيرة لجمهور العدو في الملاعب... يمنع على سكان مستوطنات غزة العودة إلى بيوتهم... يظل ما سبق ساري المفعول حتى إشعار آخر من القائد العام لكتائب عز الدين القسام". 

لأول مرة، بدت المقاومة المحاصَرة وكأنها تفرض حصاراً مضاداً على دولة الاحتلال، بعد خمسة أيام من كلمة أبي عبيدة، توقف العدوان الإسرائيلي.

خرج الملثّم ثانية، لكن هذه المرة في ميدان عام بين حشود تحتفل، وأعلن: "لقد بان للعالم من غزة أننا لم نعد أيتاماً، فقد كبر الأيتام واشتد عود مقاومتهم"، في تلك الحرب، جنى أبو خالد ثمرة عقدين من الإعداد، بقوّة الصواريخ محلية الصنع "التي هجّرت عشرات الآلاف، وأدخلت 6 ملايين إلى الملاجئ"، قتلت المقاومة 66 جندياً (حسب اعتراف الحكومة الإسرائيلية)، وكبّدت الاقتصاد مئات الملايين من الدولارات.

في ذلك العام، بدا للقائد وكتائبه أن مشروع المقاومة قد بلغ مرحلة النضوج، وأن المعركة الحاسمة تنتظر اللحظة المواتية، قالت الكتائب في حينها: "نثق أنها المعركة قبل الأخيرة، وأنه النصر الذي يسبق معركة التحرير الشاملة، {وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا}".

أنضجت تلك الجولة منظومة القيادة والسيطرة لدى المقاومة، وبيّنت قدرة المقاومة على الاعتماد على الإنتاج المحلي وتوفير الذخيرة في منطقة مغلقة، كما أنها أظهرت إمكانية تعامل سلاح الدروع مع المدرعات للتصدي لأي عملية برية قادمة.

شعر أبو خالد حينها أن مشروعه التصنيعي قد استوى على سوقه، فوقف غير بعيد، متفرّغاً للعمل الميدانيّ ومقبلاً على تطوير هيكلة الكتائب وكفاءتها القتاليّة، تمهيداً للمواجهة القادمة، كانت الغاية من عملية الهيكلة في الكتائب ترسيخ التخصصات العسكرية وتنظيمها في أجهزة مستقلة، وتوحيد الكفاءة القتالية بين الألوية من خلال التدريب المركزي، "بعد 2015 ترك أبو خالد قيادة ركن التصنيع، وتحول للعمل الميداني، وهيكلة الكتائب والألوية، كان يقعد معهم ويجتمع ويسمع منهم ويتابع أعمالهم، إضافة إلى أنه التحق بالأكاديمية العسكرية التي أسسها، وصُمم له برنامج خاص حتى يواكب الدراسات في العلوم العسكرية" قال لي قياديّ في القسام.

أثمرت عملية ترسيخ التخصصات التي قادها الضيف في الكتائب إنشاء وحدات رصدٍ واستطلاعٍ متخصّصة قادرة على تقديم صورة أدق عن تحرّكات العدو، خاصة فرقة غزة.

"مع استقالته من رئاسة مجلس التصنيع لم يترك متابعة مساراته، كان مولعاً به، ويمنحه حيزاً ليس بالقليل من وقته، لكنه في نفس الوقت كان يحترم التراتبية الإدارية فلا يصادر قيادة التصنيع الجديدة صلاحياتها".

"لا تستغرب من خبرة أبي خالد في التصنيع" يقول لي قياديّ قسامي، "فقد صحبته منذ 2001 إلى 2015، وهذه 14 عاماً من المتابعة الحثيثة والمستمرة والتجارب والاطلاع على كل التفاصيل تركت عنده كماً هائلاً من المعلومات والخبرة، الطالب العادي يمكنه أن يعمل عدة رسائل دكتوراة إذا درس كل هذا الوقت".

لم يكن العمل في ورشات التصنيع أقل خطراً من المرابطة في الخطوط الأمامية بجانب العدوّ، فالعمل بأدواتٍ بدائيّة وفي بيئة تنعدم فيها وسائل الأمن والسلامة، يجعل من يوميات المجنّد في قسم التصنيع مناوشة مع الموت.

"قلما يسلم أحد من حوادث التصنيع، كنا نشتغل على قذيفة ياسين بصحبة أبي خالد ورائد ثابت، كنا نحلل تركيبتها، كان هناك صاعق لا يزيد على 1 سم، حاولتُ تفكيكه، وانفجر فينا، كنت أنا الأقرب وكانا يقفان بجواري، فانتشرت الشظايا فينا، لكن الله سلّم وكانت إصابات سطحية" يقول لي أبو حاتم، مسؤول عسكري في القسام.

كانت مسيرة التقدّم في التصنيع طريقاً محفوفة بدماء الشهداء وبأطراف المصابين، لكل قطعة سلاح تاريخ موغلٌ في المعاناة والقصص الشخصيّة.

في عام 2014، أدخلت العبوة الناسفة المضادة للدروع (شواظ) بإصدارها الجديد التجريبي إلى الخدمة العسكرية في أثناء عملية العصف المأكول، وجد باسم الآغا من كتائب القسام نفسه أمام دبابة الميركافا ممسكاً بالعبوة المخروطية التي كان يصل وزنها في أول نسخها إلى 40 كيلوغراماً، هذه فرصة عملية لاختبار الإصدار الجديد وقدرته على اختراق تحصين الميركافا السلاح الرئيسي في عمليات الاجتياح البري، حاول باسم إلصاق العبوة التي بذل قسم التصنيع كثيراً من العرق والدماء في تطويرها على متن الدبابة لتثبيتها ثم سحب الزناد والركض ابتعادًا عن مصدر الانفجار، لكن العبوة انزلقت ولم تثبت، أعاد باسم تثبيتها ثانية، لكن بلا فائدة، في المرة الثالثة قرر باسم أن يجرب طريقة مضمونة لمعرفة أثر الجيل الجديد من شواظ على دبابات العدوّ التي تتقدم داخل منطقته في خان يونس، أسندَ العبوة إلى نقطة قاتلة في الدبابة، وبدلاً من تثبيتها بطريقة تقليديّة، أسند جسده النحيل لتثبيتها، وسحب الزناد، سيعرف قسم التصنيع بعدها معلومة دقيقة عن قدرة السلاح الجديد في التصدي للميركافا.

مقاوم يوثق وضعه عبوة من نوع شواظ على دبابة إسرائيلية قبل تفجيرها خلال معركة طوفان الأقصى.

مقاوم يوثق وضعه عبوة من نوع شواظ على دبابة إسرائيلية قبل تفجيرها خلال معركة طوفان الأقصى.


منذ انطلاقة قسم التصنيع في كتائب عز الدين القسام إلى عام 2022، استُشهَد 250 عاملاً خلال ممارسة العمل، وقد حرص الضيف على صرف مبالغ مالية ثابتة شهرياً لأسرهم، وتفقدها باستمرار بزيارات دورية. يقول القيادي في القسام أبو سامر: "كان أبو خالد يمنحنا مبلغاً شهرياً كقادة كتائب أو قادة دوائر بين 300 -1000 دولار ويطلب منا بشكل مباشر أن نتحسس حاجات الناس والشباب الذين يعملون معنا، كان يطلب منا أن نذهب إلى عائلات الشهداء بأنفسنا لتسليم المبلغ بشكل شهري، ورفض أن نكتفي بالتحويل البنكي، حرصاً على رعاية أسر الشهداء وتلمّس احتياجاتهم".

كان الضيف القائد حريصاً على زرع مكانة خاصة لرجاله في قلب المجتمع، فسياسات المحتل تقوم على تقويض العلاقة بين المقاومة وحاضنتها الشعبية، بيد أن نمط اهتمامه لم يكن يهدف للغاية العسكرية فحسب، بتحصين الكتائب وموقعها من المجتمع، بل بدافع الوفاء لكل من قدم خدمة لمشروع الكفاح المسلح. يعلق المسؤول عن الموارد البشرية في كتائب القسام: "كان القائد يحرص بشكل كبير على موضوع العلاج للمصابين، بالإضافة إلى عنايته بتزويج الشباب، لقد كان أبو خالد قائداً اجتماعياً وتربوياً بموازاة منصبه قائداً عسكرياً" يقول لي المسؤول عن الموارد البشرية داخل الكتائب.

 أما في حالات الكشف عن ارتباط أحد أعضاء القسام مع الاحتلال، حرص الضيف أيضاً على استمرار إعالة أسرهم. يقول القيادي في القسام أبو سامر: "في إحدى الحالات كشف الجهاز ارتباط أحد الإخوة الذين يعملون في التصنيع بالعدو، وأنه زودهم بمعلومات عن العمل في التصنيع العسكري، أحيل إلى القضاء وثبتت عليه التهمة وحُكم عليه بالسجن في انتظار الإعدام، لكن أبا خالد لم يوقف راتبه، واستمر في دفعه لعائلته، بحجة أنه لا ذنب لهم في خيانته".

وعن موقف آخر يحدثنا أبو سامر: "كشف جهاز الأمن الداخلي تواصل أحد أعضاء الشرطة مع العدو، جرى التحقيق معه، وقررت المحكمة الداخلية إبعاده عن العمل، اتصل بي وقتها أبو خالد وسألني عن علاقتي بوزير العمل والشؤون الاجتماعية، فقلت له جيّدة، فقال أريد منك أن تكلّمه في شأن أحد الإخوة الذي آوانا في مرحلة المطاردة، اكتشف الإخوة تواصله مع العدو، وقرروا إبعاده، ولا أريد تركه من دون دخل، فلو تواصلت مع الوزير وطلبت منه أن يضيف اسمه إلى كشوفات الشؤون الاجتماعية حتى يبقى له ما يعيل به أطفاله".

سنوات الصمت.. إعادة بناء السلاح 

"الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى" المنظر العسكري البروسي كارل فون كلاوزفيتز

بالرغم من الانتصار المعنوي في 2014، فإن الحرب وإغلاق الأنفاق المصرية بعد 2013 تركا أثراً كارثياً على التسليح.

يروي بلال عضو المجلس العسكري أنه "في تلك الفترة، تم إيقاف التجنيد في القسام بسبب عدم وجود سلاح كافٍ، هذا تقريباً بعد 2014، اجتمعنا وأعددنا إحصائية، فوجدنا أن كل مجموعة ( 4 - 6 أفراد) معها قطعة سلاح واحدة أو قطعتان... هذا في الوقت الذي لا يقل فيه عدد المتقدمين لطلب الالتحاق بالقسام عن 2000 إلى 3000 شاب كل عام".

كان هذا هو الواقع المرير الذي واجهه الضيف بعد 2014، لقد نجحت المقاومة في الصمود وفرض الردع، لكنها خرجت من الحرب شبه "عزلاء" بعد تدمير الأنفاق على الحدود المصرية.

هنا، اتخذ "الرجل المكيث" قراره الاستراتيجي الأخطر، أن يعود إلى الذات، إذا كانت بوابات الاستيراد قد أُغلقت، فلا بد من فتح المصانع وخطوط الإنتاج الذاتي، كان هذا هو الخطأ الذي اعترف به لإياد، القيادي في ركن التصنيع حين قال "لقد ارتكبنا خطأ فادحاً بإيقاف خط إنتاج الذخيرة".

كرّس الضيف السنوات من 2015 إلى 2020 لما أسماه رفاقه "ثورة التصنيع الداخلي"، تحولت غزة إلى ورشة عمل لا تهدأ، أُعيد إطلاق خطوط إنتاج الرصاص، وتطوير الوقود الصلب للصواريخ، وتكثيف إنتاج المسيّرات التي ظهرت في 2014 (أبابيل) إلى أجيال أحدث وأخطر مثل الزواري وشهاب، "كان عنده عناية خاصة بقضية الشباب الموهوبين، وجهنا لزيارة بعضهم واستقطابهم للعمل، وأرسل آخرين بمنح تعليمية إلى الخارج، كان يعتبر هذا الملف مشروعًا قوميًا ولأجله أسسنا دائرة الموارد البشرية" يقول لي مسؤول الموارد البشرية في القسّام.

في هذه السنوات، كان الضيف يبني جيشاً تحت الأرض، بعيداً عن أعين الطائرات، ويختبر صبره الاستراتيجي، كان يرى أن "إسرائيل"، المنشغلة بجز العشب كل سنتين، لا تفهم أنه يزرع سنديانات لن توقفها آلة الحرب.

جاءت اللحظة عام 2021، لم تكن الأحداث في غزة، بل في القدس، قضية حي الشيخ جراح واقتحامات الأقصى، لأول مرة، قرر الضيف تغيير قواعد الاشتباك التي استمرت لعقدين، لن تكون غزة مجرد مُدافعة عن نفسها، بل ستكون "سيف" القدس.

ظهر الشبح بصوته، في تسجيل نادر، مُطلقاً تحذيراً: "إن لم يكفّ العدو عن عدوانه على أهلنا في الشيخ جراح، فإننا لن نقف مكتوفي الأيدي، وسيدفع العدو الثمن غالياً".

لم يصدق الاحتلال، اعتبره تهديداً فارغاً، وعندما انتهت المهلة، أصدر الضيف الأمر، انطلقت الصواريخ، ليس نحو الغلاف فقط، بل نحو القدس و"تل أبيب".

اقرؤوا المزيد: أذرعُ المقاومةِ الطويلةُ.. عن صواريخ "سيف القدس"

كانت معركة سيف القدس التي وصلت صواريخ المقاومة في غزة بمظاهرات ومسيرات وعصيان مدني في الضفة والقدس وداخل مدن الساحل والجليل والمثلث في تظاهرات غير مسبوقة منذ عقود هي البروفة النهائية، لقد كشفت للعالم عن مدى القوة الصاروخية التي بناها الضيف في صمت، وبشّرت أهازيج الفلسطينيين في الضفة والقدس ومناطق الخط الأخضر وسط مظاهراتهم "حط السيف قبال السيف، احنا رجال محمد ضيف" بإمكانية "توحيد الداخل الفلسطيني" خلف خيار المواجهة المسلحة مع المحتل. والأهم، أنها كانت المرة الأولى التي تبادر فيها المقاومة، بأمر من الضيف، ببدء المعركة دفاعاً عن رمزية خارج حدود غزة، لقد أثبت الضيف أنه تجاوز مرحلة رد الفعل إلى مرحلة الفعل الاستراتيجي.

الطوفان 

بعد "سيف القدس"، عاد الضيف إلى الظل، اعتقد الاحتلال أن الردع قد تحقق، وأن "جزازة العشب" نجحت مرة أخرى، لكن الضيف كان يرى شيئاً آخر، لقد رأى أن "البروفة" نجحت، وأخذ يتحيّن الفرصة للعرض الرئيسي، ولم تمهله ظروف الإقليم، حتى فرضت عليه الفرصة فرضاً.

على امتداد سنتين بعد سيف القدس كان المشروع الوطني الذي تقوده السلطة الفلسطينية قد انتهى عمليا بعد أن تجاوزتها العواصم العربية إلى اتفاقيات التطبيع المباشرة، وانتقلت فكرة الدولة الفلسطينية من رفّ الحلم إلى درج النسيان. كان العالم وقتها ينتظر اعترافًا عربيًا وإسلاميًا بدولة الاحتلال بانضمام مراكز الثقل العربي والإسلامي إلى الاتفاقيات التطبيعية مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، ومعه ستتحول القضية الفلسطينية إلى مسألة محليّة، تتعامل معها "إسرائيل" حسب ما تراه مناسباً إما بالتهجير، أو الاحتلال الكامل، فتعيّن على الضيف ورفاقه أن يتحركوا قبل فوات الأوان. 

اقرؤوا المزيد: لماذا ذهبنا إلى المعركة؟ لماذا لا نذهب؟

كانت المنطقة في طريقها لترتيب جديد حسب المقاييس الإسرائيلية مع عودة ترامب أكبر حليف لها إلى البيت الأبيض، الذي يفضّل الحسم مع النفوذ الإيراني، وتسكين المنطقة بإخضاع دول الإقليم وإدخالها تحت وصاية وكيلته "إسرائيل"، ليتفرغ لمواجهته المصيريّة مع الصين.

رأى الضيف بواقعيّته العسكريّة أن المواجهة أصبحت حتميّة، وأن الظروف تفرض عليه أن يجد صيغة لبقاء المشروع في عاصفة سياسيّة ستغيّر خارطة المنطقة، ورأى في انتزاع وعود الدولة الفلسطينية على حدود 1967 صيغة معقولة للبقاء، وأن فرضها على "إسرائيل" ممكن بعملية عسكرية نوعية تجني ثمرة سنوات الإعداد والتنسيق مع الحلفاء. كان السلاح في تلك اللحظة ليس فعلَ يأسٍ، بل محاولةً عقلانية لإعادة رسم المشهد السياسي، ولإثبات أن ما لم تصنعه ثلاثون سنة من المفاوضات والوعود يمكن تحقيقه بقوة السلاح وتثبيت أرضية صلبة لمستقبل القضية وسط رمال التطبيع التي بدأت تبتلع الإقليم. 

هذه الخلاصة التي كانت تبدو مجرّد محاولة تأويلية لعقلنة خيار الطوفان، صارت حقيقة ثابتة بعد أن أفرجت قوات الاحتلال عن أوراق حصلت عليها من مقتنيات القائد يحيى السنوار نصّ فيها على أن "غرض الخطة، تفعيل القانون المعطل" بقيام دولة فلسطينية. 
لم يتخذ الضيف قرار الطوفان إلا بعد أن حلّ عقيدة بن غوريون الأمنيّة عروةً عروةً، على مدى ثلاثين عاماً من الكفاح واستفراغ الوسع في الإعداد، ثم كثّف ذلك النقض المتراخي في عملية أخيرة كبرى.

في فجر السبت، السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وبينما كان المستوطنون في غلاف غزة يغطون في سباتهم، انكسر حاجز الصمت الذي دام 30 عاماً. لم يكن صوت انفجار عادي، بل كان صوت الشبح نفسه، محمد الضيف، يتحدث إلى العالم في تسجيل صوتي بُث بالتزامن مع انطلاق آلاف الصواريخ.

لقد قررنا أن نضع حداً لكل هذا، قال الضيف "آن الأوان أن تتحد كل القوى العربية والإسلامية لكنس هذا الاحتلال... اليوم، كل من عنده بندقية فليخرجها، فهذا أوانها، ومن ليس عنده بندقية، فليخرج بساطوره أو بلطته أو فأسه..."

كانت تلك كلمة السر. في تلك اللحظة، كانت "الضفادع البشرية" (نسخة 2023 من ضفادع زيكيم 2014) تقتحم الشواطئ، وكانت "المسيّرات" (نسخة 2023 من "أبابيل") تُعمي أبراج المراقبة، وكان "سلاح الجو" (مقاتلو المظلات الشراعية) يعبرون السياج من السماء، وعلى الأرض، وتحتها كانت "وحدة الظل" تستعد لاستقبال الضيوف الجدد.

في ذلك اليوم أجهز محمد الضيف على عقيدة المؤسس لتأمين دولة الاحتلال؛ سقط مبدأ الردع حين اخترقت قوات النخبة القسّاميّة الحدود في وضح النهار، وانقشع وهم إخضاع المقاومة الذي كانت "إسرائيل" تراه إنجازاً أمنياً، وهوى مبدأ الإنذار حين عميت أجهزة الاستخبارات عن استشعار ما يجري تحت أنفها، فتبدّد وهج التفوق الاستخباري الذي ذلّت له أعناق دول الإقليم، أمّا مبدأ نقل المعركة إلى الخارج فانقلب على أصحابه، إذ تحولت مستوطنات الغلاف إلى ساحة حرب، ووجدت "إسرائيل" نفسها للمرّة الأولى منذ تأسيسها تُقاتل داخل حدودها لا على تخومها.

كان "الطوفان" هو التجلي الأعظم لكل فصل من فصول هذه القصة؛ إنه "فخ الحاخام"، ولكن هذه المرة بآلاف المقاتلين، إنه "تصنيع" يحيى عياش وجمال الزبدة، وقد تحول من قنبلة بدائية إلى صواريخ دقيقة، إنه "أنفاق" رفح، وقد تحولت من ممر تكتيكي إلى شبكة استراتيجية للهجوم، إنه "الحرمان المعلوماتي" لعملية 1997، وقد تحول إلى خداع استراتيجي هو الأكبر في تاريخ الصراع، إنه "الرجل المكيث" الذي انتظر 30 عاماً يراوح بين الإقبال والكفّ متحيّناً للفرصة.

في ذلك اليوم، تحول محمد الضيف من شبح يطارده الاحتلال، إلى الكابوس الذي يطارد الدولة بأكملها.



25 ديسمبر 2023
رسالة إلى جنرالٍ مُتعب

وصلتني رسالتك أيها الصديق، ودعني أقدمك للقرّاء باسم الجنرال المُتعب. وصلتني رسالتك المليئة بالأسئلة عن المعنى خلف السابع من أكتوبر،…