19 يناير 2021

تنازلات "رايح جاي".. هكذا تدير السُّلطة ملف رواتب الأسرى

تنازلات "رايح جاي".. هكذا تدير السُّلطة ملف رواتب الأسرى

لا يملك أحدٌ حتى الآن تصوّراً نهائيّاً ومؤكداً لمصير رواتب آلاف الأسرى والمُحرّرين وكيفية صرفهم،  وذلك في ظلّ الملاحقة الإسرائيليّة- الأميركيّة، وتراجع المواقف الرسميّة الفلسطينيّة شيئاً فشيئاً. في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، استلم الأسرى رواتب ثلاثة شهور مُقدّماً (عن الأشهر ديسمبر ويناير وفبراير)، وهي خطوةٌ هدفت من ورائها السُّلطةُ إلى شراء الوقت لابتكار خياراتٍ "تتكيّف" من جهةٍ مع الأمر العسكريّ الإسرائيليّ القاضي بمعاقبة النظام المصرفيّ الفلسطينيّ في حال استمر بصرف الرواتب، وتحافظ من جهةٍ أخرى على وجودٍ أخيرٍ لها في قضية الأسرى، خاصّةً أنّ غيابها عنها يعني فقدانها لورقةٍ مهمةٍ من أوراق "شرعيتها" النادرة جداً.

تُشيرُ المعلوماتُ التي رشحت حتى الآن إلى أنّ إحدى الخيارات المطروحة هي صرف رواتب الأسرى والمُحرّرين من خلال شيكات يتم تسليمها مباشرةً في مديريات هيئة شؤون الأسرى في مدن الضفّة، أو من خلال المكاتب الحركيّة التابعة لحركة "فتح"، وذلك حتى الوصول إلى حلٍّ نهائيّ توافق عليه حكومة الاحتلال الإسرائيليّ والإدارة الأميركيّة الجديدة والأوروبيّين.

من جهة ثانية، تراهن السُّلطة على أنَّ هدفَ الأطراف الثلاثة هو تجريدُ الراتب من معناه السياسيّ وقيمته الوطنيّة بما يضمن تفكيك الاعتراف والاهتمام بالأسرى كقضيةٍ سياسيّة، وتحويله إلى مبلغٍ من المال يُدير حالةَ الفراغ التي يتركها الأسيرُ في محيطه الاجتماعيّ، وعندها يُبرر الراتب بحماية المجتمع من الظواهر الاجتماعيّة السلبيّة التي قد تنتج عن ذلك الفراغ.

لكن رهان السُّلطة على نفي هذه المعاني الخاصّة برواتب الأسرى من الذهنيّة العامة يساوي تماماً رهانَها على قبول الإسرائيليّين بـمبدأ "راتب اجتماعيّ" لا "سياسي". لأنه وبالقدر الذي يهتم فيه الإسرائيليون بتفكيك القيم المرتبطة بقضية الأسرى، يدركون كذلك أهمية استمرار "الفراغ الاجتماعيّ" الذي يتركه الأسرى كنموذجٍ للردع كما هدم البيوت. لكنّ الأملَ الوحيدَ المُتبقي أمام السّلطة في هذا السياق هو أنْ يقفَ الأوروبيّون إلى جانب طرحهم (تعديل قانون الصرف ليصبح على أسسٍ اجتماعيّة) وأن يُمارسوا ضغوطاً على الإسرائيليين في هذا السياق. 

"دولة" تعرف كيف تحمي بنوكها

أما الخيارُ الآخر المتعلق ببنك الإستقلال فيبدو أنّه لم يعد مطروحاً. في 14 يناير/كانون الثاني الجاري أعلن قدري أبو بكر رئيس هيئة شؤون الأسرى والمُحرّرين عن رفض بنك الاستقلال الحكوميّ صرف رواتب الأسرى والمحررين بسبب تعرضه لضغوطات إسرائيلية. وفي مطلع الشهر نفسه، أكدّ رئيس الوزراء محمد اشتية للجنة الرئاسيّة المُكلّفة بتدارس ملف الأسرى بأنّ خيار صرف الرواتب بواسطة بنك الاستقلال قد أُسقِطَ نهائيّاً، هذا رغم إعلان اشتية في وقتٍ سابقٍ أنه أنشئ لهذا الغرض.

وفي  اجتماع عقد قبل يومين، أكدّ اشتية لوفدٍ من لجنة الأسرى المحررين أنّ الرواتب ستُصرف من خلال البنوك العادية وليس عن طريق بنك الاستقلال (في حين لم يؤكد المعلومة أحد من الهيئات والجهات المختصة بقضايا الأسرى). هذا التأكيد بدا كأنه مجرد "تطمينات" لدفع المُحررين إلى تجميد حراكهم الذي كان مُخططاً لليوم 19 يناير، وهو ما حصل فعلاً.

وبالعودة إلى تاريخ هذا البنك، فقد ظهر لأوّل مرةٍ بتاريخ 1 يونيو/حزيران 2020 كخيارٍ "استراتيجيّ" للتخلص من الضغوط الممارسة على السُّلطة في ملف رواتب الأسرى والمُحرّرين بما يضمن استمرارَ صرفها دون أيّ ابتزاز. صادقت الحكومة الفلسطينيّة على تأسيسه باعتباره مؤسسة مصرفيّة حكوميّة غير مرتبطة بالنظام المصرفيّ الإسرائيليّ أو هيئاتٍ دوليّة، لتكون قناةً لتحويل الأموال إلى الأسرى وأُسر الشهداء، وفي 20 يوليو/تموز 2020 عُيّن الخبير المصرفي بيان قاسم رئيساً تنفيذيّاً له.

وفي تصريحٍ نادرٍ له في 11 أغسطس/آب 2020 أكدّ قاسم بأنّ الهدف الرئيس للبنك الحكوميّ تخطي التهديدات الإسرائيليّة على البنوك التجاريّة. لكنّه لم يوّفر إجابةً حقيقيّةً وواقعيّة حول آلية التعامل مع الخطوات الإسرائيليّة المحتملة ضدّ البنك، مكتفياً بالإشارة إلى أنّه "جزءٌ من مؤسسات الدولة الفلسطينيّة، والجانب السياسي يعرف جيّداً كيف يحمي مؤسساته"، حسب تعبيره.

وبما أنّ خيار بنك الاستقلال كقناةٍ لصرف رواتب الأسرى لم يعد مطروحاً، يتبقى السؤال عن الأهداف الحقيقيّة وراء تأسيسه. تتضّح بعض هذه الأهداف في عدة قراراتٍ صدرت بخصوصه في الجلسة رقم 90 لمجلس الوزراء، والتي عُقِدَت في 4 يناير/كانون الثاني الجاري، كان من بينها قرار بحوكمة المؤسسات والصناديق في الوزارات المختصة. بناء على ذلك سيتولى بنك الاستقلال كامل التعاملات الماليّة لعدد من الصناديق الحكوميّة، كالمؤسسة الفلسطينيّة للتمكين الاقتصادي، وصندوق التشغيل والحماية الاجتماعيّة، وصندوق الإقراض لطلبة مؤسسات التعليم العالي. خلال جائحة كورونا كانت الصناديق تُسرِّب للإعلام بسريّة وتصرخ بصمت: اكتشفوا فينا حقل نفط.1الصناديق الحكومية هي مؤسسات مالية تحظى بالاستقلال المادي والمعنوي وتختص كل واحدة منها في تقديم الخدمات والمساعدات لشريحة معينة. من الأمثلة على ذلك: صندوق وقفة عز الذي أنشئ لمساعدة العمال المتضررين بفعل جائحة كورونا. 

ملف الأسرى عند السّلطة: كلّما ضغطوا كلّما تراجعنا

في العام 2014، بدأ حراكٌ أوروبيّ وأميركيّ وإسرائيليٌّ في ملف الأسرى. أدركت السُّلطة حينها أنّ عليها فعل شيءٍ يُرضي أصدقاءَها الثلاثة، وفي العام نفسه، قررت تحويل وزارة الأسرى إلى هيئة تابعة لمنظمة التحرير الفلسطينيّة. انعكس ذلك بشكلٍ عمليّ على اهتمام الحكومة الفلسطينيّة بقضايا الأسرى المحررين، خاصّةً أن الملف لم يعد له مُمثِّلٌ في اجتماعات مجلس الوزراء الفلسطينيّ وغاب عن أجندتها، إلا من خلال وزراء يُنَسِّقُ معهم رئيس الهيئة لإثارة بعض القضايا الملّحة2عيّن رئيس الهيئة بدرجة وزير مع عدم المشاركة في اجتماعات مجلس الوزراء.. وبعدها تكثف تأجيل وإهمال بعض المستحقات المالية للأسرى المحررين، خاصّةً منح الإفراج والغرامات التي تُدفع لمحاكم الاحتلال، فقد توقف صرف الأخيرة نهائياً.

اقرؤوا المزيد:"الحرب على رواتب الأسرى.. القصة أكبر من حسابات بنكيّة".

في العام التالي استشعر الأسرى المُحرَّرون خطورةَ ما يجري، وشرعوا باعتصامٍ مفتوحٍ أمام مقرّ مجلس الوزراء مطالبين بعدد من الحقوق مُعطلة التنفيذ رغم كونها مكفولةً في قانون الأسرى. كان المطلب الأهم والأبرز، والذي يحتاج لتعديلٍ قانونيّ، إعادة تعريف ما يُصرَف للأسرى من مُستحقاتٍ شهريّة، والتي يُشار لها في المادة 5 من قرار بقانون الأسرى والمحررين رقم 1 لسنة 2013 بــ"مبلغ ماليّ شهري"، ليصبح "راتب موظف عموميّ".

استجاب الرئيس عباس لكافة المطالب ما عدا هذا المطلب لإدراكه أنّ ذلك يمنح رواتب الأسرى مناعةً قانونيّةً وإجرائيّةً في وجه أي عملية قطع أو وقف على أساس الانتماء السياسيّ، وبالتالي أبقى الراتبَ تحت تصنيف "منحة" تتحول لـ"سيف" في مواجهة المعارضين في بعض الأحيان، وقد شهدت السنوات الأخيرة قطع رواتب مئات الأسرى في قطاع غزّة، بسبب هذه الثغرة التي لم تعالج.

كما أنّ تعريف رواتب الأسرى كـ"مبلغٍ ماليّ شهريٍ" أو "منحة" يؤثرُ على شروط إجراء عددٍ من العمليات المصرفيّة الخاصّة، من بينها الحصول على قروضٍ أو تسهيلاتٍ بنكيّةٍ معينة، إذ أنّ الشروط التي يجب أن يستوفوها تختلف عن الشروط الخاصّة بالموظفين العموميين الذين يتقاضون راتباً مُحوّلاً على البنوك، بالإضافة إلى محدودية عدد البنوك التي توافق على منح الأسرى قروضاً وتسهيلات. وقد كان لهذا الوضع انعكاساته العمليّة في أزمة المقاصة الأخيرة (أزمة 2020)، فقد طالبت البنوك الأسرى بتسديد ما عليهم من أقساطٍ للقروض لعدم شملهم في قرارات سلطة النقد الخاصة بالموظفين العموميين آنذاك.

اقرؤوا المزيد: "تسهيلات سلطة النقد.. الرابح يبقى مصرفاً".

جاء عام 2017 ليشكّل علامةً فارقةً في قضية رواتب الأسرى، خاصّةً فيما يتعلق بالضغط الدوليّ في هذا الملف، فقد طلب مسؤولون أوروبيّون ونوابٌ من الاتحاد الأوروبيّ في مطلع ذلك العام من السّلطة الفلسطينيّة تغيير القانون الذي يُنظِّم عمليةَ صرف الرواتب مبدين امتعاضهم من قيمتها. وعدت السُّلطة في حينه بدراسة الأمر بما يشمل صياغة قواعد اجتماعيّة للصرف، مثل: الحالة الاجتماعيّة للأسير، وعدد الأفراد الذين يعولهم، والوضع الاقتصاديّ لعائلته. هذا المقترح، تحوّل بعد ثلاث سنواتٍ من نقاشٍ سريٍّ في الغرف المغلقة إلى تصريحٍ صحفيٍّ علنيّ لرئيس هيئة شؤون الأسرى، الذي قال لصحيفة نيويورك تايمز الأميركيّة في نوفمبر/تشرين الثاني 2020 إنّ مقترحَ تعديل صرف مخصّصات الأسرى سيمنح عوائلَهم مخصّصاتٍ بناءً على أوضاعهم الاجتماعيّة وليس على طول مدّة بقائهم في السجن كما هو معمول حالياً.

أميركا من جهة.. و"إسرائيل" من جهة

في مارس/آذار 2017 أخذ الأميركيون زمام مبادرة الضغط في ملف رواتب الأسرى من خلال تشريع الكونغرس الأميركي مشروع قانون يحمل اسم الجندي الأميركي تايلور فورس، الذي قُتِل على يد شابٍ فلسطينيٍّ في مدينة يافا عام 2016. يقضي القانون بوقف المساعدات الماليّة للسلطة الفلسطينيّة، والتي تُقدّر بـ300 مليون دولار سنوياً، في حال استمرت الأخيرة في دفع رواتب الأسرى والمحررين، لأن ذلك يناقض الأهداف التي وجدت لأجلها، وهي "محاربة الإرهاب".

بعد شهرين من إقرار قانون تايلور فورس، التقى الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والفلسطينيّ محمود عباس في بيت لحم، وكان ملف رواتب الأسرى مادة النقاش الرئيسية. لم يخلو الأمر من فجاجة ترمب، الذي اتهم عباس بـ"دعم الإرهاب والكذب" بسبب استمراره في صرف الرواتب. دفع ذلك عباس، وبعد التشاور مع دائرته المصغرة، إلى التوجه نحو تحويل هيئة شؤون الأسرى والمُحرّرين إلى جمعيةٍ خيريّةٍ تتبع لوزارة الداخليّة، وذلك لتجريد القضية من طابعها السياسيّ وتأطيرها بآخر اجتماعيّ، بما يتناسب والرواية التي تُقدِّمها السُّلطة للأطراف الدوليّة لتبرير صرف الرواتب.

أُعدّ بالفعل مرسومٌ في الأمر، لكن تم التراجع عن الإعلان عنه بسبب إظهار الإدارة الأميركيّة مزيداً من التجاهل لقيادة السُّلطة، وبالتالي كان الاعتقاد لدى الأخيرة أنها ليست بحاجة لأخذ خطوة في الموضوع لأنّ الأميركيين قد أداروا ظهرهم أصلاً، ولن تنال هي سوى الإحراج على المستوى الداخليّ.

اقرؤوا المزيد: "تعاون بين الرجوب والشاباك".. عميد الأسرى يكشف معلومات خطيرة".

لكن التأثير الأميركي لم يتوقف هنا، فقد ساهم قانون تايلور فورس والدعم المُطلق من قبل الإدارة الأميركيّة والتفهم الأوروبيّ للموقف الإسرائيليّ في ملف رواتب الأسرى في إقرار تشريعاتٍ إسرائيليّة في هذا الخصوص. في 2 يوليو/تموز 2018 أُقِرَّ قانون "تجميد دفع الأموال للإرهابيين" من قبل الكنيست الإسرائيليّ بالقراءة الثالثة والنهائية. وفقاً للقانون، يرفع وزير جيش الاحتلال تقريراً في نهاية كلٍّ عامٍ إلى المجلس الوزاري المُصغّر (كابينت) للمُصادقة عليه، يوضّح بالتفصيل المبالغ التي دفعتها السُّلطة الفلسطينيّة للأسرى والمُحرّرين خلال ذلك العام، على أن يتم اقتطاع قيمتِها في العام التالي من أموال الضرائب التي تحوّلها "إسرائيل" إلى السُّلطة الفلسطينيّة شهريّاً.

في مارس/آذار 2019 قررت حكومة الاحتلال البدء باقتطاع قيمة رواتب الأسرى والمُحرّرين، والتي تقدّر بـ 50 مليون شيكل شهريّاً، من أموال المقاصّة. كان ردّ الفعل الفلسطينيّ في حينه على لسان الرئيس عباس بالإعلان عن خطّين أحمرين: أنّها لن تقبل وقف صرف رواتب الأسرى، ولن تستلم أموال المقاصة منقوصة. في أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه تراجعت السُّلطة عن شعاراتِها واستلمت الأموالَ دون أيّ تبريرٍ للخطوة.

شجّع هذا التراجعُ الاحتلالَ على تعديل أمرٍ عسكريٍّ في فبراير/شباط 2020، يتم بموجبه معاقبة البنوك والهيئات التي تُشارك في صرف رواتب الأسرى على أن يبدأ تنفيذ الأمر بعد ثلاثة أشهر من توقيعه. جُمّد القرار عدة مرات من قبل وزير جيش الاحتلال، آخرها في سبتمبر/أيلول الماضي، ليدخل حيز التنفيذ بشكل فعلي في 31 ديسمبر/كانون الأول 2020، إلى أن وصلنا إلى نقاش اليوم حول بنك الاستقلال وآلية الخروج من "الأزمة": كيف تُصرف الرواتب في ظلّ امتناع البنوك عن صرفها؟

ساهم تعاطي وتكيّف السُّلطة مع كلّ ما سبق من تشريعاتٍ وضغوطاتٍ بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر في تشجيع المستويين الأمنيّ والسياسيّ في دولة الاحتلال على بلورة توجهٍ نهائيّ لإغلاق الملف، وهو ما قد تشهده الأشهر أو السنوات القادمة على أبعد تقدير. وإذا نظرنا إلى مختلف الحلول المطروحة من طرف السُّلطة فإنّها تبدو مجرد خطوات إداريّة وفنيّة تفتقدُ للإرادة السياسيّة في المواجهة، وبذلك تكون السُّلطة قد سهّلت المهمة الإسرائيلية بعجزها وخوفها. لكن السبب الأساس الذي غفل عنه كثيرون إلا مندوب الاحتلال السابق في مجلس الأمن حين أكد بأنه "لا يُعقل أن تنسق معنا السّلطة أمنيّاً في إطار وظيفتها الأمنيّة، ثم تدفع للمعتقلين المال، هذا التناقض يجب أن ينتهي".