14 فبراير 2025

ترامب ليس قدراً نافذاً

ترامب ليس قدراً نافذاً

خلال جلسة مع الأصدقاء - لم تكن سياسية البتة، وإن أصبح الشأن السياسي أمراً محتوماً على كل من ما زال له قلب وعقل في ظل ما يموج بالمنطقة والعالم - وُجه إلي سؤال يحمل صيغة الإخبار والإبلاغ في آن: ترامب سيصفّي القضية الفلسطينية، ويبدو أنها مسألة وقت. هذا الرجل يقول ما سيفعل، وينفذ ما يعد به دائماً. ثم أُتبعَت هذه الجملة بسؤال: ما رأيك؟

كان السؤال جزءاً من تلك الأسئلة والأفكار المنتشرة بين الناس: هذا الرئيس، أشقر الشعر، أبيض الفكر والملامح، تاجر الصفقات، الناجي من الاغتيال، لا يمزح، وأن ما يبدو جنوناً في سلوكه، هو جنون عاقل يوظفه ليحصل على ما يريد، غصباً أو بطيب نفس. وبنظره: ما أجمل أن يكون ذلك غصباً! 

يؤرق هذا السؤال الجميع، منذ إعلان ترامب للمرة الثانية في 10 شباط/ فبراير 2025، أن أبواب الجحيم ستُفتح على غزة إذا لم يُخرجوا الرهائن يوم السبت 14 شباط/ فبراير 2025، الساعة 12 ظهراً. توحي هذه الدقة في الطلب، واللهجة المستخدمة، أن الرجل يعي تماماً ما يريد، وأن هذا الجنون البادي على شخصيته، لا ينحصر في جسده، بل سينفلت على العالم، وأن غزة ستكون مثالاً وعبرة.

من يكسره الخوف؟ 

"في عالم يسوده الجنون، تصبح الأفعال غير المتوقعة هي القاعدة"1تيريز دلباش (كتاب: عودة البربرية في القرن الحادي والعشرين).

قبل النظر إلى تعاطي ترامب مع قضايا منطقتنا، وقضية غزة تحديداً، ينبغي النظر في الصورة الأوسع: فما إن أٌعلن تنصيب ترامب رئيساً لأميركا، حتى بدأ يضرب يمنة ويسرة. بدءاً من كندا التي لم تسلم من سياساته وتهديداته، وقد أسماها: الولاية الـ 51، فهكذا لطالما تخيلها. كندا، البلد الذي لا يعد امتداداً طبيعياً لأميركا فحسب، بل يشبهها في كثير من السمات الثقافية، في اللغة، في التاريخ الاستعماري، في المشاريع الاقتصادية، وفي بنية الطرقات والمنازل. 

المكسيك، أوروبا، الناتو، كوبا، غرينلاند، كلها ملفات أزّمها ترامب بتصريحاته. هذا خلافاً لعمليات "التطهير" الداخلي التي يضرب بها المؤسسات الأميركية. هل يبدو هذا السلوك لشخص يمتلك خطة؟ أم لشخص يلوح بالقوة، ويفاوض بالتهديد، ثم يرى ما ستؤول إليه الأوضاع؟ 

ترامب يستهدف الجميع، وما يسعده حقاً أن يعلن العالم بسببه حالة طوارئ، وأن يتصرف العالم على هذا الأساس.

لكن، حين تكون متصلاً بقضية ما، ثمة مساران متوازيان للتعامل معها، مسار داخلي متصل بالنفس (للفرد والمجتمع)، ومسار خارجي متصل بالمعطيات المادية. التعاطي مع الثانية من دون الأولى بانهزامية، يجعلك خاسراً قبل أن تبدأ، أما التعاطي مع الأولى من دون الثانية فلا معنى له.

ترامب يشبه "إسرائيل"، و"إسرائيل" تشبه ترامب، كلاهما يتمدد بنشر الخوف. كانت "إسرائيل" ترسم لنفسها صورة الجيش الذي لا يُقهر، والاستخبارات التي تسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصمَّاء، وأن الطريق إلى واشنطن، قبلة من يستجدي القوة، تمر عبر تل أبيب.

 كانت هذه الدعاية سبباً رئيساً لتحولات جذرية في مواقف كثير من الأنظمة العربية. "إسرائيل" قَدَر حتمي، ومحاربتها تشبه المعارك الدونكيشوتية. هذا ما يحدث تماماً حين ترتكز على معطيات المادة، وتنهزم داخلياً.

على الأرض، بعضهم ينبطح، وبعضهم يُحيَّد، وآخر يصنع السابع من أكتوبر!

ترامب أيضاً يشبه أميركا التي يرأسها، أميركا التي رأت نفسها استثناء كونياً، ومعجزة الله على الأرض. يتجسد ترامب هذه المعاني، فهو الذي أنقذه الله من محاولة الاغتيال كي ينقذ أميركا من انهيار حتمي وشيك. وهو القادم من بعيد بعد خسارة، وبفوز مريح وافق هوى ترامب بالتفويض الممنوح من الإله والشعب لجعل أميركا عظيمة مرة أخرى. 

يفكر ترامب: كيف نجعلها عظيمة؟ ليس عبر المؤسسات، ولا الثقافة، ولا الدراما، ولا عبر القوة، بل عبر فائض القوة والتلويح بها أمام الجميع. هذا ما فعله الآباء المؤسسون، أو المجرمون الأوائل، يوم سيطروا على هذه الأرض التي تُعرف اليوم باسم أميركا. لكن ترامب لا يريد أن يكون امتداداً للآباء المؤسسين، بل أن يكون مؤسساً جديداً عبر ضم أراض جديدة، وإعادة صياغة العالم على الشاكلة التي يريد.

أما داخلياً، فيسعى ترامب إلى تفكيك مؤسسات الدولة، إذ يود لو أن البلاد والقوانين تصبح مطواعة لإلهامات السماء التي تراوده، وما أجمل أن يصبح العالم كله مطواعاً كذلك، لا من خلال المؤسسات، بل عن طريق الأوامر. 

ولكن ما يغذي نرجسية ترامب، ويجعلها قدراً نافذاً، أن تمنح النرجسي ما يريد. المشكلة هنا، أن النرجسية وحش يتغذى ويكبر على تلبية احتياجاته، وهذه التلبية لا تدفعه إلا إلى طلب المزيد. فلا يُشبع النرجسي خضوع اليوم، بل إنه يتوق لخضوع الغد، وتحشيد الخاضعين في صف مرصوص لأداء فروض الطاعة والولاء.

أما ما يحجّم النرجسية ويضعها عند حدها، فهو المقاومة والرفض والتجاهل، ثم بناء نموذج ناجح.  

مُعادلات تُصاغ بالدم

يقال إن الإنسان سُمّي إنساناً، لكثرة نسيانه. والقرآن حين يصف الإنسان بـ : العجول، والهلوع، والجزوع. وغيرها من سمات فإنه لا يعالجها إلا الإيمان الذي يتبعه عمل. 

والصنم، قبل أن يكون نحتاً، هو فكرة. أما أصنام اليوم الدولية، فتتجسد بالاعتقاد أن الواقع حتمي، وأن تجاوزه محض جنون. والأصنام لا تسقط من السماء، بل تنبت من تربة فاسدة، تغذى بالدعاية والخوف، وتُرعى بالمصالح الوقتية. 

وهذه ألعاب نفسية استُخدمت على مدار تاريخ الصراع البشري، منذ صورها الأولى في العروض المروعة للقائد المغولي تيمورلنك، الذي أباد مدناً كاملة وبنى أبراجاً من جماجم ضحاياه كما عمد إلى نشر الشائعات التي تثير الرعب، بهدف إضعاف معنويات أعدائه وكسر إرادتهم للقتال أو المقاومة. إذ أحياناً لا تحتاج إلى هدم المدينة من الخارج، إن استطعت إسقاطها من الداخل. 

وفي سورة الحشر، ذُكرت صيغة بليغة، حين قال الله تعالى: "وقذَف في قلوبهم الرعب"، أما ناتج ذلك فـ "يُخربون بيوتهم بأيديهم". ثم تنتهي الآية بتوجيه "فاعتبروا يا أولي الأبصار". 

يلعب ترامب على هذا الوتر، وتلعب "إسرائيل" كذلك على هذا الوتر. لكن ما أثبتته وقائع التاريخ، أن من يأخذ بأسباب القوة، دفاعاً وهجوماً، يكون قادراً على تثبيت معادلاته مهما بلغت الأثمان. 

ولنأخذ ترامب ذاته مثالاً، ففي دورته الأولى قال إنه سيدمر كوريا الشمالية. ما الناتج؟ ترامب كان أول رئيس يلتقي كيم جونغ أون. ترامب قال أيضا إنه لا يريد التفاوض مع طالبان وإنه سينتصر عليهم. ما الناتج؟ أميركا توقع اتفاقاً مع طالبان. وفي دورته الأولى أيضاً، أعلن ترامب عن صفقة القرن، وذهب صهره كوشنر إلى المنامة ليعرض خطته العبقرية. ما الذي جرى؟ لا شيء.

أما إيران فقد فرض عليها ترامب في دورته الأولى ما أسماه "بالعقوبات القصوى" والتي عدّها محللون إما سيراً نحو إسقاط النظام الإيراني وإما توجيهاً لسلوكه. ما الناتج؟ ربما على ترامب أن يسأل المرشد الذي يشهد اليوم دورة ترامب الثانية.

المقاومة الفلسطينية تعي كل ما سبق وتعي نفسها أولاً، فالمشترك بين النماذج السابقة أنها لم تعتبر تصريحات ترامب قدراً نافذاً، وكانت تسند موقفها وقرارها السياسي بقوة عسكرية.

فبعد حرب إبادة استمرت لـ 15 عشر شهراً، وأهداف إسرائيلية وضعت على رأسها القضاء على حماس، وتحرير أسراهم بالقوة، ماذا كان رد القسام؟ لن تحصلوا على أسراكم إلا بوقف إطلاق النار، وشروط أخرى وضعوها، وأصرّوا عليها. 

توقفت الحرب، وخرج المقاومون بسلاحهم، وبتنظيم عالٍ، وبصورة نصر انتزعوه انتزاعاً رغم كل الجراح. 

أما المعادلة التي كان يعيها هؤلاء، أن المعادلات تفرض بالدم، ولا تصاغ بما تسمعه الآذان ثم تلتقطه الأفئدة الخاوية. قال تعالى في سورة النساء: "فقاتل في سبيل الله لا تُكلف إلا نفسك.. وحرّض المؤمنين.. عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا.. والله أشد بأسا وأشد تنكيلا".

نعم، للولايات المتحدة الأميركية قدرة عالية على التنظيم. وينسحب ذلك على تنظيم العمل، تنظيم القتل، تنظيم صناعة القتل، تنظيم الدعاية والبروباغندا، وتحشيد الوسائل كافة في سبيل ما تُريد. أما النتائج، فشأنها آخر. وتلك النتائج شاهدناها في فيتنام والعراق وأفغانستان، وغيرها. حروب قامت على قرع الطبول بصخب، وعلَت لأجلها الأصوات، قبل أن تصبح ندوباً غائرة في التاريخ الدموي الأميركي.

"إنما عليك البلاغ" 

لا يحصل الاستلاب الفكري إلا مصحوباً بشعور العجز وضعف الفاعلية. فالمُشاهد، يتأثر بتقلبات المشاعر، أما الفاعل الذي يصحب فعله بإيمان، يدرك دوره وإن صغُر في عين البشر، أو على الأقل يبحث عن دور أكثر فاعلية وتأثيراً، وبذلك لا يكون هوائياً تذروه الرياح.

فالإيمان بالله، بما يبثه القرآن من معانٍ، ليس إيماناً خامداً، بل إيمان يحث على الحركة أيا تكن النتائج، قال تعالى: "إنما عليك البلاغ". 

وهذا ما تؤمن به المقاومة في غزة، رغم انتفاء كل الظروف الموضوعية، من حصار، وتصنيفات دولية، وموازين قوى منحازة ومتواطئة، وشح في موارد المال والسلاح، فقد حفرت الصخر، وبنت مدناً تحت الأرض، وبثت روح المقاومة في المجتمع من حولها.

وبعد كل هذا، من هو ترامب؟ هو قدر نافذ لمن لا يعمل ومن لا يمتلك الجرأة على العمل ولمن رضي الخذلان، بينما هو قدر ظاهره شرٌ قد يجعل الله فيه خيراً كثيراً لمن يعمل. ومن هو ترامب؟ هو شخص ممن خلق الله، وإليه سيعود. 



22 نوفمبر 2023
عن الصحافة في زمن الحرب

بعد الضربة القاسية التي تلقاها الاحتلال في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، ومنذ انطلاق معركة طوفان الأقصى، تصاعدت الاعتداءات والاعتقالات…