1 يناير 2024

أبو أنس الغندور: الرجل الذي لم يُسقط لواء الشمال من يده

أبو أنس الغندور: الرجل الذي لم يُسقط لواء الشمال من يده

واقفاً خلف الشهيد نزار ريان، كأنّه يحاول أن يتوارى عن فضول الصحافيين وعدسات كاميراتهم، كان الرجل ذو الطاقية والزيّ العسكريّ. سألوا الشهيد ريّان: من هذا الذي معك، أهو حارسك الشخصي؟ فأجابهم: "هذا مش حارس، هذا القائد"؛ هكذا قال: "القائد" بأل التعريف!

كان هذا ظهورَه الإعلاميّ الأول، والذي اضطره إليه ارتقاء أكثر من 19 شهيداً وإصابة عشرات الجرحى بعد انفجار حصل خلال عرضٍ عسكريّ كانت تُنظّمه كتائب القسّام في جباليا في 23 أيلول/ سبتمبر 2005، أي بعد الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزّة بنحو شهر.

حدثٌ جللٌ كهذا، كان لا بد أن يخرج معلّقاً عليه رجلٌ ذو شأنٍ في كتائب القسّام. لم يكن وجه الرجل معروفاً للناس، وربّما اسمه أيضاً، لكنّ ربّ الناس كان يعرِفُه، ولمّا وجد العدوّ منه بأساً في ميادين المعارك، صار يعرفه كذلك، ويعرف مكانته.

أما ظهوره الأخير، فلم يكن إعلاميّاً. كان ظهوراً مهيباً يليق بقائدٍ حقيقيّ، ففي السادس والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، حَمَلَهُ الناسُ على أكتافهم لِما له من الفضل عليهم، مستريحاً في لحده بعد أن أمضى عقوداً في مقارعة العدو.

الشهيد أبو أنس الغندور في ظهوره الإعلامي الأول برفقة الشهيد نزار ريان خلال مؤتمر صحفي عام 2005.
الشهيد أبو أنس الغندور في ظهوره الإعلامي الأول برفقة الشهيد نزار ريان خلال مؤتمر صحفي عام 2005.

إذاً، كان لا بدّ للرجل الذي أشغل "إسرائيل" في حياته، أن ينتقل أخيراً إلى حلمه المُشتهى؛ إلى الرفيق الأعلى، حيث سيشغل العدوَ أضعافاً مضاعفة، لما للشهداء الأحياء من أثرٍ في نفوس القادمين الجُدد. 

إنّه أبو أنس أحمد الغندور؛ قائد لواء الشمال وعضو المجلس العسكريّ في كتائب القسّام، وواحدٌ من الذين أسّسوا للحظة السابع من أكتوبر. 

رجلٌ وُلِد في معسكر!

ماذا تظنُّ في رجلٍ وُلِد عام 1967؟ وعائلته مهجّرة من يافا عام 1948؟ هذان تاريخان صنعا عدداً من الرجال، فما بالك ومكان الصناعة هذا هو معسكر جباليا، إذ، كما تُشير صفته، يُحوّل اللاجئ في المخيّم إلى مقاتلٍ في معسكر.

لذا مبكراً عام 1984، وفي سنّ السابعة عشر، حمل الفتى غندور كُرّاسَه وقلمه متجهاً نحو العمل العسكريّ، دون مقدّماتٍ سياسيّة. كان من الجيل المؤسس لحركة "حماس"، في الخلايا العسكريّة الأولى، وفي الزمن الذي كانت فيه قطعة السلاح الواحدة تطوف بين قلوب الرجال المؤمنة في الضفّة وغزّة. 

وفي عام 1988، وضع الغندور ويوسف النجمة عبوة ناسفة على طريق سيّارة "جيب" عسكريّة إسرائيلية، فأحدثت دويّاً هائلاً في المنطقة دون أن توقع خسائر. وكما يروى، فإنّ هذه العبوة التي صنعها الغندور من أعواد الكبريت هي أول ما صُنع من عبوات ناسفة. ولقد جرت هذه العمليّة تحت مظلّة "مجموعة جباليا" المكوّنة من مسؤولها فتحي حمّاد والغندور والنجمة، التابعة لحركة "المجاهدين الفلسطينيين"؛ الجناح العسكري لحماس سابقاً. وربّما تُعد مثل هذه المجموعات المكوّنة من عدّة أفراد، النواة الأولى للتشكيل العسكريّ القادم: لواء الشمال. 

الشهيد أبو أنس الغندور برفقة الشهيد وائل رجب قائد كتيبة بيت لاهيا. واللذين استشهدا معاً في معركة طوفان الأقصى.

هكذا، لم يمضِ  عامٌ على انطلاق الانتفاضة الأولى، حتّى تنبّه الاحتلال لنشاط الغندور، فاعتقله في سجونه حتّى توقيع اتفاقية "أوسلو" وتأسيس السلطة عام 1994. 

خرج الرجل الذي ظنّت "إسرائيل" أن اتفاقيةً أمنيّةً ستردَعُه، وأنَّ أجواءً مُهادِنة ستقيّده، إلى العمل الجهاديّ  مرّةً أخرى. ولكن سرعان ما تسلّمت الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة ملفَ المقاومين من الاحتلال، فتعرّض العمل المقاوم عام 1996 لضربةٍ قويّة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، تحديداً نشطاء حركة "حماس"، إذ شنّت السلطة حينها حملة اعتقالات واسعة طالت قيادات ورموز الحركة.

هكذا، لم يلبث الغندور عامين خارج سجن الاحتلال الإسرائيلي حتى اعتُقِل في سجون السلطة الفلسطينيّة، إلى أن اندلعت انتفاضة الأقصى عام 2000، ففتحت أبوابَ سجونها تحت ضغطٍ شعبيّ أو تحت وقع القصف الجويّ الإسرائيلي. 

بعد هذا العام ستُكتب حقبة جديدة للعمل المقاوم، وتحديداً لقطاع غزّة، وسيكون من تمظهراتها عدم مقدرة السلطة أو الاحتلال على اعتقال أبو أنس الغندور وضبط عنان فرسه "كلّما سمع هيعةً أو فزعةً، طار عليه إليها، يبتغي الموت أو القتل مظانَّه".

هكذا دُفع الجيش للانسحاب

لم يخرج أبو أنس من سجون السلطة إلى بيته، بل خرج منها إلى بيت قائد القسّام ومؤسّسه الشهيد صلاح شحادة، مُمتطياً بذلك هدفَه الأوحد؛ هزيمة "إسرائيل" وتحرير فلسطين، تُحرّكه رغبةٌ عارمة بإعادة بناء القسّام واستنهاض العمل الجهاديّ، بعد الضربة التي تلقّاها. 

فتحرّك أبو أنس للعمل مع أبناء جباليا فوزي أبو القرع وسهيل زيادة، ثمّ لاحقاً أسسّ كلّ واحد منهم مجموعة ضمّت بضعة أفراد. ويمكن اعتبار هذه المجموعات، بداية لما سيُعرف بعد انتفاضة الأقصى بـ "لواء الشمال". 

من يمين الصورة: أيمن صيام، الشهيد رأفت سلمان، الشهيد أبو أنس الغندور، أبو عبيدة الجراح، الشهيد فوزي أبو القرع.

وما قاله القياديّ في "حماس" فتحي حمّاد، في تأبين الشهيد مُهندس العمليّات النوعية فوزي أبو القرع عام 2005، يصحّ كذلك على الغندور، فقد اعتُقلا معاً وانطلقا إلى العمل معاً: "نذكر خروجك يا فوزي من سجون السلطة أنك حينها لم تعد إلى بيتك، ولم تبحث عن أبويك وأولادك لتسلّم عليهما، إنما بحثت عن الشهيد القائد صلاح شحادة، لتعود إلى صفوف القسام مع ثلة من إخوانك، أمثال القائد أبو أنس الغندور والقائد الشهيد سهيل زيادة، وتمضي في سبيل الله، لتعيد بناء كتائب عزّ الدين القسام، من دمك ومن عرقك". 

هذا ما بذله أبو أنس الغندور؛ عَرَقاً فوق عرق، سنعرف لاحقاً أنه سيستحيلُ إلى دمٍ فوق دم. هذه كرامة الشهيد، إنّها رائحة العرق التي عادةً ما تكون "كريهة" في الدنيا، تُصبح عند موته رائحة مسك يتحدّث عنها الناس. 

وممّا أفرزه عرقه، عمليّات نوعيّة خلال انتفاضة الأقصى يُحمّله الاحتلال المسؤوليّة عنها، منها: عملية ريم الرياشي عام 2004، تلك الأم الاستشهاديّة التي ألقت وصيّتها قبل التوجه إلى حاجز "إيرز" شمال قطاع غزة، فكانت تُمسك بيدها اليمنى سلاحها، وتحمل بيدها اليُسرى طفلها، ولقد أسفرت عمليّتها عن مقتل 4 من جنود الاحتلال وإصابة 10 آخرين؛ وعمليّة "ميناء أسدود" عام 2004، والتي تسلّل فيها الاستشهاديان نبيل مسعود ومحمود سالم بعمليّة معقّدة استخدما خلالها حاوية "كونتينر" حتّى وصلا إلى الميناء شديد التحصين داخل الأراضي المحتلّة عام 1948، وأسفرت عمليّتهما عن مقتل نحو 10 إسرائيليين وإصابة العشرات. 

يوجّه القائد ويخطّط، هذا صحيح، ولكنه يشارك في التنفيذ كذلك. ففي شباط/ فبراير 2003، سوّى جيش الاحتلال الإسرائيليّ بيت أبو أنس بالتراب، إذ نسب له أنّه زرع قنبلة في إحدى الطرق؛ قنبلة كانت تنتظر القوّة الإسرائيليّة، فما إن مرّت بجانبها حتّى انفجرت بهم، فقتلت 4 جنود.

لكن ما سبق هو مقدّمة لمعركة ملحمية خاضها مجاهدو القسّام على عين الله، كان أبو أنس قائدها. في 29 أيلول/ سبتمبر 2004، تحرّكت آليّات الجيش الإسرائيلي نحو قطاع غزّة، تحديداً إلى شماله، وبالأخص إلى مناطق بيت حانون وبيت لاهيا وجباليا. كانت قوات الاحتلال وقتها تسعى لتحقيق هدفٍ واحد: القضاء على صواريخ المقاومة وإيقاف تهديدها، إذ كانت تلك الصواريخ البدائيّة تقضّ مضاجع مستوطنة "سديروت" والمستوطنات التي تجثو على أرض غزّة. 

مجاهدو القسام يقفون بين الناس في 6 أكتوبر/تشرين الأول 2004 على أنقاض المنازل في مخيم جباليا والتي دمرها الاحتلال خلال معركة أيام الغضب. (تصوير: سكوت نيلسون/ غيتي إيماجز)

وكما العادة، بالغت "إسرائيل" في تقدير هيبتها. أسمت المعركة "أيام الندم"، فأسماها المجاهدون "أيام الغضب".

استعدّ القسّام للاجتياح البريّ، وقد كان وقتها بأعداد وخبرات وتجهيزات متواضعة، ولكنه أعدّ لهم ما استطاع من عشرات الاستشهاديين الذين انتشروا في مواقع متقدّمة، ونثروا في الشوارع والأزقة عبواتٍ أرضيّة وموجّهة، كما حضّروا الأسلحة والقذائف كـ "الياسين" و"الآر بي جي".

"تقهقر العدو وتراجع دون أن يتمكن من الدخول لمتر واحد في مخيم جباليا، في حين بقي في مناطق مكشوفة من بيت لاهيا وبيت حانون وجباليا البلد، وعندما فشل العدو في حملته بدأت طائراته تقصف البيوت على ساكنيها"؛ هكذا قال أبو أنس الغندور في مقابلة أجريت معه حول مجريات المعركة.

ولمّا اشتد القتال، مدّهم الله بسلاح الضباب، أنزله عليهم فكان أمنةً لهم من أعدائهم، ليربط على قلوبهم ويُثبّت به الأقدام، "فتوقف طيران العدو وكمن المجاهدون للجنود من خلف خطوطه الشمالية والشرقية، وباغتوه بعمليات نوعية جعلت الجنود يختبئون في آلياتهم مرعوبين يطلقون النار في كل اتجاه"، كما قال أبو أنس. 

وبحسب المكتب الإعلامي لكتائب القسّام، فإنّ المقاومة أوقعت خلال المعركة 8 جنود قتلى وأصابت 60 آخرين بجراح. كما جرى استهداف 72 آلية عسكريّة إسرائيلية، بين دبّابة وجرّافة وناقلة جند.

17 يوماً من الاجتياح والقصف للمنطقة التي وُلِد وشبّ فيها الغندور ثمّ صار مسؤولاً عنها، لم يخرج منها جيش الاحتلال بالهدف الذي أراده؛ إيقاف الصواريخ. لقد دفعه جنونه من قصف "اسديروت" إلى "أيام الغضب"، ولكنها اليوم، هي وأخواتها من مستوطنات ومدن الاحتلال، تُقصف على الدوام، وبدلاً من أن "تندم" المقاومة على صنيعها، ثابرت على صناعة صواريخ أكثر فتكاً وتطوّراً من تلك التي أغضبت الاحتلال في حينه، حتى صارت رشقة الصواريخ أهون على المقاومة من "شربة الماء".

وبينما كان الدرس المُستفاد عند البعض أنّ "الصواريخ عبثية" و"المقاومة غير مجدية"، كان درس أبي أنس الغندور ما قاله بعد "أيام الغضب": "تصوّروا لو لم تكن المقاومة تمنع دخول العدو ماذا كان سيحدث؟ مئات الشهداء، آلاف المعتقلين، دمار وخراب أضعافاً مضاعفة مما هو عليه اليوم!". 

الطريق إلى الجيش

في 15 آب/ أغسطس 2005، انسحب جيش الاحتلال الإسرائيلي من قطاع غزّة بالكامل، وفكّك معه المستوطنات التي كانت مزروعة من شمال القطاع إلى جنوبه (21 مستوطنة؛ نحو 35% من مساحة القطاع). لم يفعل ذلك طوعاً، بل مُكرهاً على وقع مقاومة عنيدة. ستدرك "إسرائيل" لاحقاً، أن هذا التاريخ كان وبالاً عليها، فلما سحبت جيشها تأسس في غزّة جيشٌ قوامه اليوم عشرات آلاف المقاتلين.

"لقد أصبحنا جيشاً حقيقياً"؛ هكذا قال الغندور، وأكمل كلامه: "ومثل أي جيش، هناك أحياناً فترة من الهدوء يتدربون خلالها ويستعدون للمرحلة المقبلة. هذا هو الهدوء الذي يسبق العاصفة". لا يحتاج الأمر إلى تأويل، حتّى تفهم أنّ هؤلاء الرجال أعدّوا ما صنعوا اليوم منذ زمن بعيد. 

في هذه الأثناء، ستنشر كتائب عز الدين القسّام أسماء 7 من أبرز قادتها العسكريين، وسنعرف أن للقسّام جهازاً عسكريّاً مقسّماً إلى خمسة ألوية، وأنّ أبا أنس قائد لواحد من هذه الألوية، وربّما من أهمها؛ لواء الشمال. 

يتكوّن هذا اللواء من عدّة كتائب: كتيبة الشهيد فوزي أبو القرع (منطقة الخلفاء)، وكتيبة الشهيد عماد عقل (المنطقة الغربية)، وكتيبة الشهيد سهيل زيادة (المنطقة الشرقية)، وكتيبة الشهيد نضال ناصر (بيت حانون)، وكتيبة الشهيد عبد الرؤوف نبهان (جباليا البلد)، وكتيبة الشهيد جهاد المصري (بيت لاهيا)1تنضوي تحت اللواء كتائب، تحتها سرايا، تحتها فصائل، تحتها مجموعات، في كل واحد منها عدّة أفراد يستقرّون في عقد وجيوب قتالية. كما تحتوي كلّ كتيبة على مختلف التخصصات القتالية، مثل: قوات النخبة، الاستخبارات، الدفاع الجوي، المدفعية، سلاح الإشارة، سلاح المظليين.

هذه هي مكوّنات الشمال الذي استعصى على الكسر، بقيادة أبي أنس الغندور، منذ انتفاضة الأقصى وحتّى يومنا هذا في "طوفان الأقصى"؛ أعلن الجيش الإسرائيلي سيطرته عليه فسلّم المقاومون الأسرى الإسرائيليين من قلبه، قال إنّه مسح مناطق بأكملها فاستهدفه فيها المجاهدون بعمليّات نوعيّة. منطقة تستند على إرثٍ مهول من الرموز والخبرات والعمليّات، منها تُطلق الصواريخ، وفيها زخم الأنفاق الهجوميّة تحديداً.

لهذا، كان لتشكيلات القسّام على أساس الألوية والأقاليم، دورٌ هامٌّ في خوض المعارك المختلفة والتصدي لعدوان الاحتلال، تحديداً عند اجتياحه البريّ. وكان لأبي أنس، الذي يُعدّ الرجل الثالث في الكتائب بعد الضيف ونائبه مروان عيسى، أدوار بارزة في معارك مهمة ومحطات تاريخيّة، تحديداً تلك التي أخذ اللواء على عاتقه خوضها، مثل: معركة "أهل الجنة" في بيت حانون في تشرين الثاني/ نوفمبر 2006، حين خاض 73 شاباً قتالاً صعباً مع جيش الاحتلال الذي حاصرهم في مسجد "النصر" لأكثر من يومين.

مقاوم يُعد صواريخاً محلية الصنع استعداداً لإطلاقها اتجاه دبابات الاحتلال في بيت حانون، في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2006، خلال معركة أهل الجنة.

فيما يتهم الاحتلال أبو أنس الغندور بالمشاركة في عمليّة "الوهم المتبدد" قبلها في حزيران/ يونيو 2006، والتي جرى خلالها اجتياز السياج الفاصل شرق مدينة رفح جنوب القطاع، واقتحام موقع عسكريّ إسرائيلي، أُسر على إثرها الجندي جلعاد شاليط، حتى أطلق سراحه عام 2011 في صفقة تبادل حُرّر فيها أكثر من 1000 أسير فلسطينيّ.

أما الطريق لبناء هذا الجيش، فليس أحسن من أن يصفه من كان على هذا الطريق لعقود دون أن يستريح، يقول أبو أنس بعد تحرير القطاع: "استخدمت كتائب القسام كل ما استطاعت الحصول عليه من سلاح، فبدأت بالتربية الجهادية بشتى أنواعها، ثمّ بما تيسر؛ بداية من الحجر والملتوف والبنادق والرصاص والقنابل، ثم منّ الله علينا بالمهندسين الذين وفقهم الله في صناعة المتفجرات، والتي هي بعد الله سبحانه وتعالى وقود لكل المقاومين والمجاهدين والتي أصبحت سلاح رعب وردع للمحتلين، فكانت العبوات بشتى أنواعها، الأرضية والجانبية الموجهة وللأفراد، وكانت الأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة، وكانت صواريخ القسام التي أنزلت الرعب في قلوب الصهاينة، وكانت الصواريخ المضادة للدروع منها البتار ومنها الياسين الذي جعل المحتلين يفكرون ألف مرة في أي اجتياح بل أصبحوا يفكرون بالانسحاب".

أبو أنس الطيّار

مُبكراً، وضعت "إسرائيل" أبا أنس الغندور على سلّم أولويّات الاغتيال عندها. ففي عام 2005، سلّم الاحتلال السلطة الفلسطينيّة قائمة بأسماء 28 مطلوباً له في قطاع غزّة، كان اسم أحمد الغندور هو الخامس في القائمة. لم يكن ذلك غريباً، إذ ينسجم مع ما صرّح به أبو أنس بعد انقضاء معركة "أيام الغضب" عام 2004: "عثرنا في بعض مقرات الأجهزة الأمنية المدمرة على تقارير تفصيلية حول تحركات المجاهدين".

وفي عام 2018، حدّثت "إسرائيل" قائمة القيادات التي تسعى لاغتيالهم تحت مسمّى "أخطر المطلوبين لإسرائيل"، وكان أبو أنس الاسم الثالث في القائمة، بعد الضيف وعيسى. كما أدرج عام 2017 على "قائمة الإرهاب" الأميركية.

عام 2002، حاولت "إسرائيل" اغتيال الغندور خلال عمله الجهاديّ في انتفاضة الأقصى. ونفّذ الاحتلال عام 2006، غارة جويّة على مبنى في حي الشيخ رضوان في غزّة، ادعى حينها أنّ قادة حماس كانوا يجتمعون فيه، من بينهم كان الضيف، وأبو أنس الغندور، الذي على حدّ مزاعمهم أصيب وقتها بـ "جروح قاتلة". 

كما قصف طيران الاحتلال عام 2008 منزلاً في بيت لاهيا شمال القطاع، وكان في هذا الوقت يتواجد في المكان بعض قادة القسّام، من بينهم أبو أنس الغندور. أما عام 2012، فقصف الاحتلال بيت الغندور في مخيم جباليا، زاعماً أنّه كان متواجداً فيه. وفي جميع هذه المحاولات التي باءت بالفشل، ارتقى عددٌ من الشهداء ووقعت إصابات عديدة من سكّان المنطقة، بين أطفال ونساء وقيادات في الحركة. 

لقد ضحّى هؤلاء الرجال بأغلى ما يملكون من أجل غاياتهم النبيلة؛ من طموحات ومكتسبات شخصيّة وحتّى الركون إلى حياة عادية. بل ودفع الغندور بأولاده في مقدمات الصفوف، فاستشهد ابنان له في الدفعة التي دخلت الأراضي المحتلة من "قوّات النخبة القسّامية" في 7 تشرين الأول/ أكتوبر مُعلنين انطلاقة "طوفان الأقصى"، ثمّ لحق بهما ابنه الثالث فاستُشهد خلال المعارك مع جيش الاحتلال في محور الفالوجا. 

محاولات اغتيال وتدفيع أثمان بتصفية أسرته، كلّها حتّى يُسقط أبو أنس أحمد الغندور لواء الشمال من يده. كأنه جعفر الطيّار، تُقطَّع قدماه ورجلاه، فيضمّ اللواء بصدره كي لا يسقط. 

لقد نجا أبو أنس الغندور من موتاتٍ عديدة، حتى استوفت نفسه هذه الحياة الدنيا من بعد لحظة الطوفان، إذ كان قدره أن يشهد صنيع ما قدّمت يداه، ثمّ يذهب إلى بارئه فلا يقول -إن شاء الله- يوم لقائه: "يا ليتني قدّمت لحياتي". 

الطاقية

بعد أن جرى وقف إطلاق النار بين المقاومة في غزّة والاحتلال الإسرائيلي ضمن "هدنة إنسانيّة مؤقتة" خلال معركة "طوفان الأقصى"، وُجد أبو أنس الغندور رفقة قادة آخرين، وقد قضوا نحبهم بعد أن كانوا منتظرين، وما بدلوا تبديلا2أعلنت كتائب القسّام عن استشهاد 4 من قادتها العسكريين، أحمد الغندور عضو المجلس العسكري وقائد لواء الشمال، ورأفت سلمان نائب قائد لواء الشمال، ووائل رجب قائد كتيبة بيت لاهيا، وأيمن صيام قائد لواء المدفعية.. وإذا ما كانت كتائب القسّام قد أعلنت هذا النبأ في 26 تشرين الثاني/ نوفمبر، فإنّ الإعلام الإسرائيلي ادعى في 14 من الشهر نفسه اغتيال الغندور ورفاقه، ثمّ أعلن الجيش الإسرائيلي بعدها بيومين خبر الاغتيال.

الشهيد أبو أنس الغندور برفقة القيادي يحيى السنوار وفتحي حماد في مهرجان تأبين شهداء سيف القدس عام 2021.
الشهيد أبو أنس الغندور برفقة القيادي يحيى السنوار وفتحي حماد في مهرجان تأبين شهداء سيف القدس عام 2021.

ليس مهماً متى استشهد أبو أنس الغندور على وجه التحديد، بل المهم كيف استُشهد. لباسٌ عادي، طاقية سوداء أو زيتيّة أو جيشيّة على رأسه، ساعة يد من نوع "كاسيو" في يده اليُمنى، مسبحة ذات حبّات مئة. مظهرٌ بسيطٌ جداً، وعملٌ كبيرٌ عريض. 

في مهرجان تأبين شهداء معركة "سيف القدس" عام 2021، كان أبو إبراهيم يحيى السنوار واضعاً يده اليمنى على كتف الغندور الصلب، كأنه يقول للناس المحتشدة كما قال قبلها الشهيد ريّان: هذا هو القائد! ثمّ بالخطأ، أسقط السنوار بيده طاقية الغندور. وبمشهدٍ يجلّله التواضع والتقدير، نزل قائد الحركة لطاقية قائد اللواء، تناولها، نفض عنها الغبار، قبّلها، ثمّ أعادها إلى رأس أبو أنس؛ تلك الرأس التي حوت كثيراً من الأحلام، كالتي رأيتموها يوم السابع من أكتوبر.