8 أكتوبر 2023

مروان عيسى.. جنرال طوفان الأقصى

مروان عيسى.. جنرال طوفان الأقصى

إذا كانت "إسرائيل" قد استيقظت يوم أمس على عشرات المقاومين في قلب مستوطناتها، فإن هذا حلم لطالما خططت له قيادات كتائب القسام وعلى رأسهم رجل الظل مروان عيسى، الذي واصل ليله بنهاره منذ التسعينيات وهو ينتظر تحقق هذه اللحظة. من هو هذا الرجل الذي يعدّ اليد اليمنى لمحمد الضيف؟ 

إرثٌ ثقيل

عام 1965، ولد مروان عبد الكريم عيسى (أبو البراء) من مخيم "البريج" للاجئين الفلسطينيين وسط قطاع غزة، نشأ عيسى حاملاً على كتفه إرث عائلة هُجّرت في النكبة من قريتها "بيت طيما" قضاء غزة. 

عُرف بين أقرانه شاباً قويّ البنية، ولاعباً مميزاً في فريق كرة السلة بنادي خدمات البريج، في مسيرة رياضية لم يكتب لها أن تستمر طويلاً، إذ اعتقله الاحتلال في الانتفاضة الأولى لمدة 5 سنوات، بتهمة الانضمام إلى حركة "حماس".

كان قد شقّ طريقه في الحركة عبر الدكتور إبراهيم المقادمة، الذي تعرّف عليه خلال دروسٍ أسبوعية كان يلقيها المقادمة في المسجد الكبير في مخيم البريج، فرأى فيه فراسة ونباهة قدّمته على أبناء جيله.

بعد الإفراج عنه، لم يعد عيسى إلى ممارسة هوايته الرياضيّة، إذ كان لا بد لشاب مثله مجبول على إنكار الباطل وإحقاق الحق، أن يلتحق بالعمل العسكري، فانضم إلى كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس.

كان أبو البراء في ذات الدفعة المجاهدة التي أعدت سلسلة العمليّات الاستشهاديّة انتقاماً لاغتيال يحيى عيّاش عام 1996، وهي دفعة ضمّت أسماء كالضيف وحسن سلامة وغيرهم. قاده ذلك للاعتقال في سجون السلطة، حيث أمضى 4 سنوات، قبل أن يُفرج عنه إثر انفجار انتفاضة الأقصى عام 2000. 

سيرة الظل

رغم سنوات الظل التي رافقت الرجل خلال الانتفاضة الثانية، إلا أنّ مخابرات الاحتلال حفظت اسم مروان عيسى جيداً. كانت العمليّات النوعيّة التي تعرّضت لها مستوطنات قطاع غزّة دليلهم على دوره، فأدرجوا اسمه على قائمة أبرز المطلوبين للاغتيال. وبالفعل، حاولت "إسرائيل" اغتياله عام 2006 مع الضيف وقادة الصف الأول في كتائب القسّام خلال اجتماع هيئة الأركان، خرج منها مصاباً بجراح. 

لكن سيرة الظل لم تطل كثيراً، فكُشف اسم مروان عيسى للإعلام في بيان نشرته كتائب القسام على موقعها الإلكتروني قبل 10 أيام من الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزّة في سبتمبر/ أيلول 2005، تضمّن أسماء قادة الصف الأول من كتائب القسام وصور ثلاثة منهم مع مناصبهم العسكرية، وكان من بينهم مروان عيسى الذي وُصف بـ "أبرز قادة كتائب القسام". 

عام 2011، وفي غمرة احتفالات الشعب الفلسطيني بإنجاز صفقة "وفاء الأحرار" لتبادل الأسرى، التي أطلق فيها سراح 1027 أسيراً مقابل الجندي "جلعاد شاليط"، التُقطت صورة في الجانب المصري من معبر رفح لعدد من قادة حركة حماس خلال استقبال الأسرى المحررين. ضمّت تلك الصورة إلى جانب خالد مشعل وصالح العاروري وأحمد الجعبري، شخصاً ممشوق القوام، يستقرّ الشيب في أجزاء من لحيته، زعم إعلامُ الاحتلال في حينه أنه مروان عيسى، لتكون هذه صورة الرجل الوحيدة التي نعرفه بها.

مروان عيسى (في المنتصف) إلى جانب قيادات من حركة حماس، خلال استقبال أسرى محررين في صفقة "وفاء الأحرار".
مروان عيسى (في المنتصف) إلى جانب قيادات من حركة حماس، خلال استقبال أسرى محررين في صفقة "وفاء الأحرار".

هكذا، عاش أبو البراء في الخفاء نائباً للضيف قائد الجهاز العسكري، ما تفعله يمينه لا تعلم به شماله. حتّى أنّه لم يغادر ظلّه هذا، بالرغم من وفاة نجله الطفل براء (9 سنوات) عام 2009، إثر معاناته من مرض الفشل الكلوي، ومنعه من السفر لتلقي العلاج خارج غزة، ليكون الشهيد رقم 359 من شهداء الحصار على القطاع في أحلك سنواته.

المستوطنات: هدفٌ قديم

أشار إعلام الاحتلال في تقرير عام 2011، إلى أن مروان عيسى كان يخطّط في الانتفاضة الثانية لعملية اقتحام بعشرات المقاتلين لمجمع "غوش قطيف" الاستيطاني جنوب قطاع غزة، بإشراف مباشر من القائد أحمد الجعبري، لكن ذلك لم يحدث لأن مستوطنات غزّة فُكّكت خوفاً من مصير كان يُعدّ لها.

شكّلت هذه المحطة التاريخية، الظهور العلني بالاسم لـ "مروان عيسى" في إعلام كتائب القسام، الذي أصدر نشرة خاصة حملت اسم "فجر الإنتصار" تزامناً مع الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة. شملت النشرة مقابلات مع عدد من قادة كتائب القسام، جرى فيها تقديم مروان عيسى بوصفه "مسؤول عمليّات المستوطنات"، الذي تحدث عن هذا النوع من العمليات الخاصة، مشيراً إلى أن أول من طرح فكرة اقتحام المستوطنات هو الشيخ صلاح شحادة، القائد العام السابق لكتائب القسام. علّق عيسى على هذه الاستراتيجية القتالية الجديدة للكتائب بالقول: "لقد تغير تفكيرنا، قررنا نقل المعركة إلى منازل المستوطنين". 

يكمل عيسى في المقابلة شرحه لتفاصيل عمليات الاقتحام التي تُنفّذها مجموعات خاصة بعد تدريبات شاقة وإعداد متواصل، مشيراً إلى أن العملية تبدأ بعمليات الرصد والمراقبة التي قد تمتد لأسابيع، بهدف جمع كل ما يمكن من معلومات، يلي ذلك طرح ملف العملية أمام القيادة للنقاش، وتشكيل لجنة خاصة لدراسة إمكانية تنفيذ العملية من عدمه، أو تأجيلها، والفيصل هنا على لسان عيسى هو "تحقيق أكبر قدر ممكن من النجاح وأقل قدر ممكن من الخسائر". وعن نظرته للصفات التي على المقاتلين والوحدات الخاصة التحلّي بها، يقول: "عليك أن تصل إلى لياقة بدنية جيدة، وقوة ذهنية عالية".

في تقرير إسرائيليّ، يشير ضبّاط استخبارات سابقون في جيش الاحتلال، إلى أن الجهد العسكري لمروان عيسى في سنوات انتفاضة الأقصى كان في اتجاهين: الأول هو هيكلة الكتائب وتحويلها من مجموعات متفرقة إلى ما يشبه الجيش النظامي المُقسّم إلى ألوية وكتائب ومجموعات متخصصة، والثاني هو سد الفراغ الذي أعقب اغتيال المهندس عدنان الغول عام 2004، والنهوض بمشروع التصنيع المحلي، وإحداث نقلات نوعية فيه براً وبحراً وجواً، وذلك بعد الصعوبات التي واجهت عمليات تهريب السلاح إلى قطاع غزة. 

أثرٌ يُرى

ظهرت هذه الذهنيّة الأمنيّة والعسكريّة لمروان عيسى في حروب غزّة المتلاحقة: معركة "حجارة السجيل" عام 2012، ومعركة "العصف المأكول" عام 2014، ومعركة "سيف القدس" عام 2021، وهذه الأيّام معركة "طوفان الأقصى" عام 2023. معارك ظهرت فيها القوّة البريّة والاستخباراتيّة والتقنيّة لعناصر كتائب القسّام، والتي تُشير إلى أنّ الاهتمام باقتحام المستوطنات والمقرّات الإسرائيليّة الأمنية ليس وليدة اللحظة، بل هو استكمالٌ لمشاريع سابقة انطلقت شرارتها في انتفاضة الأقصى.

يُعرف عن الرجل ولعه بتكتيكات "القوّات الخاصة"، ومنهجية عمليات "الكوماندوز" البرّي والبحري. ونحن نرى استراتيجيّته هذه واقعاً ميدانياً على الأرض في المعركة الحالية؛ من اختراق السياج الحدودي مع قطاع غزّة واقتحام مستوطنات الغلاف والاثخان فيها على عمق 40 كم، مروراً بالإعلان عن سلاح الجوّ "سرب صقر" الذي نفّذ عناصره إنزالاً جويّاً خلف السياج الفاصل، وصولاً إلى عمليّة إبرار خمسة زوارق محمّلة بمقاتلي الكوماندوز البحري على شواطئ عسقلان والقتال فيها. 

عناصر من الكوماندوز البحري التابع لكتائب القسام (المصدر: قناة كتائب القسام على تيليغرام).
عناصر من الكوماندوز البحري التابع لكتائب القسام (المصدر: قناة كتائب القسام على تيليغرام).

كذلك، تظهر لمسات الرجل في معارك سابقة؛ من تنفيذ غارات عديدة خلف خطوط العدو في قلب مواقع الاحتلال براً وبحراً، وكشف القسام على الدوام عن قفزات هائلة في قطاع التصنيع العسكري، برفع مدى وصول الصواريخ وزيادة قدرتها التدميرية، وامتلاك طائرات مسيّرة تنفّذ عمليّات عدّة، وقوات نخبة، وأنفاق هجومية، ووحدات كوماندوز بحري استطاعت تنفيذ أول عملية إنزال على سواحل الأرض المحتلة وضرب قاعدة عسكرية ضخمة على سواحل عسقلان، إضافة إلى "كي الوعي" الذي تعرض له جيش الاحتلال بعد إطلاقه العملية البرية وتوغله على أطراف قطاع غزة، والتي انتهت بمقتل العشرات من جنوده وإصابة المئات، وأسر 2 من ضباطه في كمائن محكمة.

كلّ ما سبق مشاهد تتحدث عن بصمات القائد عيسى ودوره في تحقيق نقلات كبيرة في العمل العسكري بقطاع غزة، الأمر الذي أدى إلى نتيجة حتميّة انتقلت فيها المقاومة في آخر معركتين من حالة الدفاع إلى حالة المبادرة بالهجوم. 

ظهور سياسيّ عسكريّ

تجمع شخصيّة مروان عيسى العسكري بالسياسي، وهو توازنٌ ربّما يظهر في شخصيّات أخرى بارزة في حركة حماس، مثل صالح العاروري ويحيى السنوار. على سبيل المثال، ظهر عيسى عام 2015 بشكل مفاجئ في ندوة علميّة نظمتها كلية الرباط الجامعية التابعة لوزارة الداخلية في قطاع غزة، قال خلالها إنّ كتائب القسام تواصل مضاعفة قوتها وتعزيز ترسانتها من الصواريخ بعد معركة "العصف المأكول" استعداداً للمواجهة القادمة، التي لا تسعى لها الكتائب حالياً، مشيراً إلى أن حماس تواصل صياغة التحالفات مع كل من يمدّها بالسلاح دون أن تكون في جيب أحد. كما تعرّض في كلمته لقرار محكمة مصرية بتصنيف حركة حماس كـ "تنظيم إرهابي"، قائلاً: "كل المحاولات الإقليمية والدولية لحصار حماس وذراعها العسكري ستفشل"، وهو القرار الذي عادت محكمة مصرية وألغته بعد 3 شهور من تصريح عيسى. 

وفي سياق العلاقات مع مصر، وصل عيسى عام 2017 إلى القاهرة ضمن وفد عسكري سياسي لخوض مفاوضات حول ملف تبادل الأسرى. تكرّرت هذه الزيارات واللقاءات في الأعوام اللاحقة لبحث ملفات التهدئة وتبادل الأسرى والمعابر التجارية المصرية وغيرها. 

انتخب عيسى عضواً للمكتب السياسي ممثلاً عن الجناح العسكري للحركة عام 2017، وأعيد انتخابه بعد انتخابات آذار/ مارس 2021، وظهر في الصورة الجماعية لأعضاء المكتب في تلك الدورة مغطياً وجهه بكمامة. وبالرغم من حضوره السياسي في الحركة، إلا أنه أدرج على لوائح الإرهاب الأميركية عام 2019.

أعضاء المكتب السياسي في حركة حماس، ويظهر مروان عيسى في الجهة اليسرى وعلى وجهه كمامة.
أعضاء المكتب السياسي في حركة حماس، ويظهر مروان عيسى في الجهة اليسرى وعلى وجهه كمامة.

في حزيران/ يونيو 2021، ظهر مروان عيسى على الإعلام لأول مرّة ضمن برنامج "ما خفي أعظم"، ولكنه كان ظهوراً يليق بشخصيّته الأمنيّة الحسّاسة: يجلس في الظلّ، ترى هيئته ولا ترى ملامحه، وتسمع صوته مُتحدّثاً عن أولوية تحرير الأسرى لدى قيادة القسام، مشيراً إلى امتلاك المقاومة أوراق مساومة قادرة على إنجاز صفقة تبادل مشرّفة. 

لم يكن هذا الظهور الأخير لأبو البراء، إذ تكرّر مرتين متتاليتين صيف عام 2022، متحدثاً بالصوت في فيلمين وثائقيين أصدرتهما كتائب القسام في الذكرى السنوية الأولى لمعركة سيف القدس؛ راثياً في الأول شقيقه وائل أحد قادة الكتائب الذي ارتقى شهيداً في الأيام الأولى من المعركة، ثم متحدثاً في الثاني عن سيرة رفيق دربه وقائد لواء غزة في كتائب القسام الشهيد باسم عيسى، أحد أبرز قادة التصنيع العسكري والمشروع الصاروخي للقسام، ودوره في تأسيس وحدة الظل التي تولت تأمين الجندي جلعاد شاليط منذ لحظة أسره وحتى إطلاق سراحه.

"زلزال يضرب المنطقة"

في آذار/ مارس 2023، نقلت قناة الأقصى الفضائية التابعة لحركة حماس، تصريحات نصية منسوبة لمروان عيسى، حذّر فيها من "زلزال يضرب المنطقة" حال المساس بالمسجد الأقصى. وأشار إلى نهاية أوسلو والمشروع السياسي في الضفة الغربية، واصفاً الأيام القادمة بأنها حُبلى بالأحداث. كما أضاف إلى أنّ في نية حماس الاستثمار في إشعال جبهتي الضفة والقدس المحتلتين بوصفهما "ساحات الفعل والتأثير الاستراتيجي في المرحلة الحالية"، ومنحها الأولوية على حساب أي تصعيد عسكري ينطلق من غزة، التي كما عبّر عيسى "تتيح الفرصة للمقاومة في الضفة دون أن يعني ذلك بقاءها صامتة".

يبدو أنّ مروان عيسى أبو البراء، كان يُصرّح سياسيّاً ما يعرف أنّ العسكريّ جديرٌ بتحقيقه. قال باقتضاب الرجل الذي يعمل، عن أيام قادمة حُبلى بالأحداث تحمل في طيّاتها زلزالاً يضرب، فكان فعلاً: "طوفانُ الأقصى"!



22 يونيو 2022
تقسيم الأقصى.. ماذا فعلنا حتى الآن؟

يراجع هذا المقال التطوّرات المتعلقة بمسعى الاحتلال الإسرائيليّ لتقسيم المسجد الأقصى زمانيّاً ومكانيّاً، وجهود الفلسطينيّين لإفشاله ومواجهته على مدار السنوات…

6 ديسمبر 2019
"صوت اليهود" يتّهم الصهيونيّة

"التضامن هو النسخة السّياسيّة للحبّ"، بهذه الكلمات المقتبسة عن الكاتبة والمناضلة الأميركيّة ميلاني كايي Melanie Kaye، افتتحت منظّمةُ "صوت اليهود…