31 مارس 2022

الفخُّ الذي ينتظر قوائمَ المعارضة في البلديّات

الفخُّ الذي ينتظر قوائمَ المعارضة في البلديّات

حقّقت قوائم مُستقلةٌ مكوّنة من تحالف أعضاء محسوبين على حركتي "حماس" والجبهة الشعبيّة (تحالفتا في حوالي 23 قائمة)، تقدّماً واضحاً على قوائم حركة "فتح" أو القوائم المحسوبة عليها، في الانتخابات البلديّة التي جرت في الضفّة الغربيّة في 26 مارس/ آذار الجاري. 

في ثلاث مُدن رئيسيّةٍ، هي الخليل والبيرة وطولكرم، حصلت قوائم المعارضة؛ "الوفاء للخليل" و"البيرة تجمعنا" و"كرميون"، على 8 مقاعد من أصل 15 مقعداً للمجلس البلديّ، وتفوّقت بذلك على قوائم "فتح" التي حصلت في طولكرم على 7 مقاعد وفي الخليل على 6 مقاعد، فيما تفتّت مقاعد المجلس البلديّ على ثلاث قوائم في البيرة.1في 50 هيئة محليّة جرت الانتخابات، ترشّحت فيها 234 قائمة، وتنافست على 632 مقعداً. 35.6% ترشّحت كقوائم حزبيّة، فيما 64.4% من القوائم ترشّحت كقوائم مستقلّة؛ جزء منها حُسب على تيّارات إسلاميّة ويساريّة، وجزءٌ حسب كتيّارات "ظل" للحزب الحاكم.

رفعت هذه النتائج من توقعات النّاس وحفّزت آمالهم بالتغيير خارج عباءة الحزب الحاكم. لكن تلك الانتخابات لم تجرِ لأجل تطوير البلديّات أو لسوادِ عيون الآملين بالتغيير، بل جرت لغرض معرفة مزاج الناس السياسيّ وفحص شرعيّة رجلِ المُقاطعة وحزبِهِ، وبثّ نوعٍ من الوهم بأنّ الضفّة تشهدُ أجواءً ديموقراطيّةً بعد إلغاء الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة مطلع العام الماضي. 

وهي  كذلك أداةٌ إضافيّة (إلى جانب الملاحقة والإقصاء) لمُعاقبة الفائزين (ومن انتخبوهم) عبر نصبِ فخٍّ لهم في مؤسسةٍ شهدت سنواتٍ من الإهمال والفساد وسوء الإدارة، من خلال السيطرة المطلقة عليها وعلى مُقدراتها، وبالتالي تقليص فرص القوائم الفائزة لإحداث تغيير يُذكر. في هذا المقال نشرح بعض معالم هذا "الفخّ". 

حنفية المال التي لا قبل لهم بها..

تُعاني البلديّات من الأزمات الماليّة بسبب تراكم الديون لها وعليها في الآن ذاته. على سبيل المثال، تبلغ الديون المتراكمة لسلطة المياه عند البلديات في الضفّة الغربيّة لعام 2020 حوالي مليار و300 مليون شيكل. ولبلدية رام الله مثلاً ديون عند السلطة تتجاوز 45 مليون شيكل، بحسب تصريح رئيس البلدية السابق موسى حديد

لا يقتصر الأمر على تراكم الديون فقط، بل يمتد ليشمل تدخلاً في جباية الأموال التي يُفترض أن تجبيها البلديات، فضريبة الأملاك التي تُشكّل أحد أهم المداخيل السنويّة للبلديات (تُشكِّل نسبتُها من المداخيل ما بين 35%-70%)، تجبيها نيابةً عنها وزارةُ الماليّة، وبعد جبايتها تقتطع منها حوالي 10% أتعاباً لها، ثمّ من المفترض أن تُعيد الـ90% المُتبقية للبلديات، إلا أنّها لا تفعل ذلك. يقول تيسير أبو سنينة، رئيس قائمة "الوفاء للخليل" تعبيراً عن ذلك: "وصلنا من ضريبة الأملاك والطرق والبترول مثل ما وصلك".

اقرؤوا المزيد: "طريقٌ محفوفةٌ بالقمامة.. كيف يُحجّم دور البلديّات؟".

إضافةً لإيرادات الضرائب، تعتمد البلديّات على أموال المانحين الأوروبيّين في تنفيذ جزءٍ كبيرٍ من مشاريعها. تذهب هذه الأموال إلى صندوق تطوير وإقراض الهيئات المحليّة2يجمع الصندوق التمويل من الجهات الخارجيّة الآتية: البنك الدولي، الوكالة الفرنسية للتنمية، الحكومة الدنماركية، الوكالة السويدية للتنمية، بنك التنمية الألماني، الوكالة الألمانية للدعم الفني، الوكالة البلجيكية للتنمية، الوكالة السويسرية للتنمية، الاتحاد الأوروبي، اتحاد البلديات الهولندي، الوكالة البريطانية للتنمية الدولية.، ثمّ تُعطى لوزارة الحكم المحلّي التي تُشرف على توزيع التمويل والمشاريع. يُمرّر التمويل إلى البلديات وفق ثلاثة معايير: 20% بناءً على عدد السكّان، 30% بناءً على الاحتياج (تُخصّص لكلّ بلديّة ميزانيّة ثاتبة تبلغ 25 ألف يورو، قبل أن يتم فحص احتياجها بناءً على مجموعة من المؤشرات)، 50% بناءً على الأداء. وتبقى هذه المعايير رهينةَ اعتباراتٍ عدة، مثل شروط المووّل وسياسات وزارة الحكم المحليّ والاستجابة للقرارات الصادرة عن مجلس الوزراء. 

إذاً، يخضع تمويل البلديات لاعتباراتٍ "نسبيّة" هي رهينة أن ترضى السّلطة الفلسطينيّة والمموّل عنك. وبغية إفشال القوائم المعارضة في إدارة المجالس البلديّة، قد لا تُضخّ الأموال من الوزارة للبلديات بما يتلاءم واحتياجاتها. وفي السياق نفسه، قد يضع المموّلُ مجموعةً من الاشتراطات الجديدة كالتي فرضها على مؤسسات المجتمع المدني عام 2019 بعد تحريضٍ إسرائيليّ. 

صور مرشحين فلسطينيين لانتخابات بلدية نابلس على إحدى اللافتات في المدينة، 24 مارس 2022 (عدسة: جعفر اشتية/AFP).

جيش من الأقنعة

تأخذنا المشاكلُ الماليّة إلى موضوعٍ مرتبطٍ بها وهو البطالة المُقنّعة، والتي تُعتبر إشكاليةً جوهريّةً في أداء مؤسسات السُّلطة، خُلِقت عمداً بغرض بناء شبكةٍ زبائنيّةٍ من المُستفيدين والموالين حولها تضمن تطبيق مصالحها وأجنداتِها. وفي غالب الأحيان لا تُعلن البلديّات عن أعداد الموظفين فيها، إلا أنّه بات من المعروف ضمناً في هذا السياق أنَّ كثيرين منهم لا حاجة تشغيليّة لهم. في بلديّة طولكرم على سبيل المثال، تُشير التقديراتُ إلى أنّ ربع الموظّفين تقريباً يندرجون ضمن تصنيف البطالة المُقنّعة، أي لا حاجة لتشغيلهم.

وتُثقل البطالةُ المُقنّعة جسمَ البلديّة بفاتورة رواتبٍ تزيد عن طاقة الميزانيّة، إذ تذهب جلُّ الإيرادات لتغطية الرواتب والمصاريف التشغيليّة المرتبطة بالموظفين بدلاً من صرفها لأجل تطوير المدن والبلديّات، وهو ما عبّر عنه رياض عوض، رئيس قائمة "كرميون". 

وعندما تسعى المجالس البلديّة التابعة للأحزاب المعارضة لتغيير هذا الوضع، فإنّها تُواجه عادةً بما يُعيق عملها ويُعطّله. وإن هي ذهبت باتجاه إيجاد عملٍ لأولئك الذين لا يعملون، فإنّهم قد يعترضون على ذلك ولا يمتثلون لأوامرِها، فتذهب إجراءاتها سُدىً. وإن ذهبت باتجاه فصلهم من وظائفهم فإنّهم قد يتحولوا إلى نواة احتجاجٍ ويعلنون العصيان داخل البلديّة، وُيألبون الرأي العامّ بإشعاره أنّ الفصلَ جاء على "خلفيةٍ حزبيّة". 

ملفات عالقة

إضافةً إلى الأمور الماليّة التي يُتعامل معها كملفّات مُغلقة في البلديّة لا يُفصح عنها، توجدُ ملفّاتٌ عالقة أخرى، أهمّها النفايات والكهرباء والماء. من أبرز مُشكلات بلديّة البيرة مثلاً، مُشكلة عدم توفّر مكبٍّ للنفايات في المدينة، ممّا يضطرها لنقلها إلى مكبّ "زهرة الفنجان" في مدينة جنين كلّ يوم، وهو ما "يرهق البلديّة ماليّاً وإداريّاً"، كما عبّر روبين الخطيب عن قائمة "البيرة تجمعنا".3وضعت هذه القضيّة على رأس سلّم الأولويّات للقضايا التي بحاجة إلى معالجة، تحت بند "ضعف إدارة النفايات الصلبة"، وذلك بناء على الخطة التنموية المحلية الاستراتيجيّة لمدينة البيرة للأعوام 2018 - 2022، والتي أصدرها صندوق تطوير وإقراض الهيئات المحليّة.

أمّا في بلديّة طولكرم، فيُعتبر ملف الكهرباء أبرز المُشكلات التي ينتظر الناس من المجلس البلديّ القادم حلّها، إذ لا يكاد يمرّ يومٌ في فصل الصيف إلا وينقطع التيّار الكهربائيّ على منطقةٍ ما في المدينة. وهي مُشكلةٌ ترتبط من جهةٍ بعدم موافقة الاحتلال على تزويد المدينة بخطوط كهرباءٍ إضافيّة تُلبّي حاجتها وتتناسب مع توّسعها، ومن جهةٍ أخرى، تتعلق بمُماطلاتٍ وتقصير مُتعمد من قبل سلطة الطاقة الفلسطينيّة، تسعى من خلاله لدفع البلديّة للانضمام إلى "شركة كهرباء الشمال"، والحصول على التيار منها،  كما صرّح رئيس البلديّة السابق محمد يعقوب.4شركة كهرباء الشمال: هي شركة خاصّة لتزويد الكهرباء في منطقة شمال الضفة الغربيّة، وتحاول سلطة الطاقة دفع البلديّات نحو التخلي عن دورها في إدارة وتنظيم وتأمين التيار الكهربائي للسكان، وإعطاء هذا الدور للقطاع الخاصّ، وهو ما قد يؤدي إلى ارتفاع كبير في الأسعار. 

جانب من مظاهر الاحتجاج على انقطاع الكهرباء في طولكرم، أغسطس 2021. (عدسة: بهاء جيتاوي).

وفي الخليل، مشكلةٌ شبيهة في قطاع الكهرباء، فبينما تحتاج المدينة 135 ميجاواط من الكهرباء، فإنّ ما يصلها هو فقط 105 ميجاواط. كما أنّ الخليل تُعاني من أزمةٍ في المياه؛ تحتاج إلى 40 ألف متر مكعب من المياه يوميّاً فيما يصلها نصف هذه الكميّة فقط، وذلك لأسبابٍ مُتعلّقة بتسريبات في إمدادات المياه وتكرار الاعتداءات عليها.

في بعض جوانبها، تعكسُ هذه الملفّات العالقةُ طبيعةَ العلاقة الإشكالية بين البلديّة وأجسامٍ حكوميّة عدّة، إذ عادةً ما ينشأُ تضاربٌ في الصلاحيّات بينها نتيجة الصراع على النفوذ والسلطة. فمثلاً تدخّلت محافظة نابلس في عمل لجنة "التنظيم والبناء" التابعة للبلديّة، عبر منح إحدى الشركات الإذن لاستكمال أعمال البناء التي كانت قد أوقفتها اللجنةُ لوقوع البناء في مُخالفة تعدّيه على الشارع. 

اقرؤوا المزيد: "الناس حائرون.. المحافظ من يكون؟"

ناهيك عن تضارب الصلاحيّات بين البلديّة ووزارة الحكم المحليّ، كأمور تنظيم المدينة معماريّاً، إذ تتحكّم الوزارةُ بالتمويل الذي يُصبُّ إلى البلديّات لتنفيذ مشاريعها، ويُمكنها أن تجعل تركيزها في المشاريع على منطقةٍ دون سواها، دون أن يكون للبلدية رأي مستقل في ذلك. يعني ذلك أنّ هناك الكثير من العراقيل التي وضعتها السُّلطة مسبقاً في جسم البلديات بما يكفي لتعطيل عمل قوائم المعارضة. 

وعدا عن الواقع المفروض من قبل مؤسسات السلطة الفلسطينيّة، فإنّ سلطات الاحتلال تتحكم بإمكانيات التحرك والتقدم في ملفاتٍ مركزيّة تتعلق بالبلديات كالكهرباء والمياه. أوضح مظاهر هذا التحكم هو سيطرة الاحتلال على 60% من أراضي الضفّة الغربيّة (مناطق "ج")، حيث تتركز معظم الموارد الطبيعيّة من مياه ومساحات زراعية وأماكن تنزه، وحيث يقع فائض الأراضي الذي يمكن التوسع العمرانيّ باتجاهه وتطوير البُنية التحتية.

من ناحيةٍ أخرى، تتدخل سلطات الاحتلال أحياناً من خلال اعتقال بعض مرشحي قوائم المعارضة، وفي الجولة الأخيرة من الانتخابات اعتقل الاحتلال عدداً من المُرشحين، منهم إسلام الطويل مرشح قائمة "البيرة تجمعنا"، وعمرو عبيد مرشح قائمة "الوفاء للخليل". 

اقرؤوا المزيد: "كيف تُصمّم السّلطة "العرس الديموقراطيّ" على مقاسها؟"

هذا هو الواقع السياسيّ والاقتصاديّ الذي تعمل البلديّاتُ في إطاره، فما تواجِهُهُ من مشكلاتٍ ومُعيقات هو من صُلب بُنية المؤسسة. من يعتقد بأنّ هذه المرّة الأمور تختلف عن سابقها، فإنّه لا يعرف أنّ الفساد والزبائنيّة في البلديّة صنيعة من قبل السلطة لتأبيد مشروعها، وليست عارض ناتجاً عن خللٍ فنيّ أو سوء إدارة، ينتهي بمُجرّد وضع الأصبع على الجرح. هذه أمورٌ بنيويّة في جهاز السلطة، لها أسس وجذور ثُبِتت خصيصاً لأجل إحكام السيطرة على المؤسسة.

وبهذا المعنى، أُريد للبلديات أن تكون ورطةً لقوائم المعارضة ولمن يبتغي تحقيق تغييرٍ حقيقيّ من خلالها. وفي مقابل هذه الورطة، فإنّ فوز قوائم المعارضة والحال كهذه يعني فرصةً أخرى لحزب السُلطة لتقديم خصومه بمظهر العجز والفشل، مما يُعيد تعزيز حضوره كخيارٍ وحيد مُفضّل. وبينما قد يطرد البعض من مخيّلته مثل هذه السيناريوهات كنوعٍ من المُجاملة السياسيّة أو إحراج الطرف الآخر أو من باب "حسن النيّة" به، لكنّ الوقائع والتاريخ يُخبرانا بأنّ إحسان النيّة في السياسة ضربٌ من ضروب الانتحار. 

لن تُغيّر الطريق، لن تُصلح المركبة، القيادة فقط!

على خلاف ما يُصوّر، فإنّ نسبة التصويت المنخفضة (53%) في الانتخابات البلديّة مؤشرٌ على ما خبِرَه الناس من هذا المسار. فهم رأوا كم مرّة أُعلن عن إجراء انتخاباتٍ بلديّةٍ أو تشريعيّة ومن ثمّ أُلغيت، وجرّبوا صناديق الاقتراع عام 2006 التي دفعوا ثمن خيارهم فيها على شكل اعتقالاتٍ وتضييقات وحصار وقطعٍ للمساعدات.

وربما هو مؤشر آخر أنّ طريق الانتخابات تحت قبضة السّلطة الأمنيّة وضمن بُنيتها المتماسكة على أساس المصالح لا تفتح باباً حقيقياً للتغيير في أوضاع الناس، وأنّ التحرّك ضمن الحدود الذهنيّة والجغرافيّة التي وضعتها "إسرائيل" هامشيّ جداً.

يرتفع الأدرينالين في أوقات الانتخابات، وقد تُعقد الآمال بالتغيير على مؤسسةٍ ما، ومصدرُ ذلك ليس الحماس الذي تبعثُه الأجواءُ بقدر ما هو التعطّشُ لنافذة أملٍ يُطلُّ بها الناسُ على واقعٍ مُغاير. يعبّر هذا عن أفقٍ مسدودٍ في الواقع المعاش، لكنّه يُعبّر أيضاً عن أزمةٍ لدى الفواعل السياسيّة والاجتماعيّة المعارضة للسلطة. لذا من المهم التذكّر على الدوام، بأنّ الانتخابات؛ ممارستها ونتائجها التي تُفضي إلى قيادة المؤسسة، صنمٌ من تمرٍ يأكله صُنّاعه متى احتاجوا. 



29 مارس 2021
الإضراب العام وأولاده

شكّلت فكرةُ الإضراب العام قطعةً هامّةً في صورة النضال الفلسطينيّ عموماً، وفي تصوّر النضال داخل الأراضي المحتلّة عام 1948 على…