20 نوفمبر 2021

بيوت لفتا: وقائعُ قتلٍ مُعلن

بيوت لفتا: وقائعُ قتلٍ مُعلن
"البيوت تُقْتَلُ كما يُقتل سُكّانها، وتُقْتَلُ ذاكرة الأشياء!"، محمود درويش.1نص "البيتُ قتيلاً"- أثر الفراشة

في مطلع مايو/ أيار من هذا العام، وبينما كانت المقاومة الفلسطينيّة تُعيق مشروعَ تهجير حيّ الشيخ جرّاح في القدس، أعلنت سلطةُ الأراضي الإسرائيليّة عن إعادة طرح عطاءٍ لتنفيذ مخططٍ استيطانيّ يشمل بناء 259 وحدةً استيطانيّةً وفندق سياحيّ ومناطق تجاريّة على أنقاض قرية لفتا المهجّر أهلُها، غرب القدس. طُرح هذا المشروع لأوّل مرةٍ قبل حوالي عشر سنوات، وكان الإعلانُ الأخير إعادةَ إحياءٍ له من جديد. أُطِّرَت  "مناسبة" الإحياء إسرائيليّاً كمظهرٍ من مظاهر الاحتفال بما يُسمّى "يوم توحيد القدس"2 تُحيي سلطاتُ الاحتلال في الثامن والعشرين من الشهر الخامس في التقويم العبري من كل عام ذكرى احتلال الشق الشرقي من مدينة القدس عام 1967، وضمه إلى الشق الغربي المحتل عام 1948. يتخلل الاحتفال اقتحامات للبلدة القديمة والمسجد الأقصى ومسيرةً للرقص بالأعلام الإسرائيلية.، وهو تقليدٌ اتبّعه الساسّة الإسرائيليون، إذ يتعمّدون الدفعَ والإعلان عن الخطط الاستيطانيّة في القدس في ذلك اليوم تجديداً لمعاني السيطرة على المدينة في كلّ عام.

اقرؤوا المزيد: "يوم القدس.. مسرحية الرقص بالأعلام".

أما فلسطينيّاً، فقد جاء ذلك الإعلانُ وصدورُ الجماهير مُشبعةً بنشوة الإنجازات في كلٍّ من باب العمود، والمسجد الأقصى، والشيخ جرّاح وغزّة، فأُطلق على إثره نداءُ "أنقذوا لفتا" أُسوةً بنداء "أنقذوا الشيخ جرّاح". ودعا أهالي القدس وأهالي لفتا المُهجّرين إلى التوجه والتظاهر في قرية لفتا في جمعة الثامن عشر من يونيو/ حزيران 2021، تأكيداً على حقّ الفلسطينيّين في الأرض والعودة والحريّة، ورفضاً لهدم الذاكرة والبيوت. انطلقت الجموع يومها نحو لفتا بوعيٍ شموليٍ يُعيد تعريفَ الصّراع كصراعٍ على الأرض وضدّ التهجير ويتجاوز التقسيمات الاستعمارية، وضمن الرؤية ذاتها وبإيمانٍ بإمكانية العودة يمكن الاستمرار في خوض المعركة لحماية لفتا.

من فعاليات إحياء النكبة في قرية لفتا، بتاريخ 16 أيار عام 2014. تصوير: أحمد غرابلي، AFP.

أيام الاستعمار الأولى في لفتا

جعل موقعُ لفتا الاستراتيجيّ غربيّ القدس وعند بداية الطريق التاريخيّة الواصلة بين القدس ويافا (البوابة الغربية للقدس) أولاً، واتساع أراضيها ومتاخمتها لأسوار القدس من الجهةِ الشماليّةِ ثانياً، من احتلال القرية هدفاً استراتيجياً للمشروع الصهيونيّ. وكان للمستعمرات اليهوديّة التي أقيمت على أراضي القرية -خلال الحكم العثمانيّ ثمَّ الاستعمار الإنجليزيّ في فلسطين- وأحاطت بها دورٌ مهمٌ في تهجيرها في الأول من كانون الثاني/يناير 1948.

بعد الاحتلال مباشرةً، أنشأتْ عصاباتُ الـ"هاجاناه" معسكراً لها في القرية، وأفضت خططُ الاستيطان إلى تدمير الجرافات الإسرائيليّة مساحاتٍ واسعةً من القرية، وكان المنطقُ الذي اتُّبِعَ في عملية الاستيطان أن تُحصِّن المستعمراتُ الجديدة حدودَ القرى المُهجّرة، ومنها لفتا، فتمنع عودةَ سكّانها الذين هُجِّروا خلال الحرب وبعدها. وقد عبّر بن غوريون عن تلك الرؤية في تصريحه خلال اجتماعٍ لزعماء حزب "مباي" في 7 فبراير/ شباط 1948: "إذا دخلتم القدس عبر لفتا- روميما أو عبر محانيه يهودا أو عبر الملك جورج أو مئاه شعاريم فإنكم لن تجدوا غريباً واحداً".3من خطاب بن-غوريون أمام زعماء حزب مباي في 7 فبراير/شباط 1948،  يمكن الرجوع إليه عبر مقال "لفتا - ذكريات مصورة" المنشور على موقع "المكتبة الوطنية الإسرائيليّة".

في حين سَلِم من التدمير حوالي 50 مبنىً يقع أغلبها في جذر القرية التاريخيّ المُسمّى بـ"لفتا التحتا" والمنطقة المحيطةِ بها. يعزى سبب نجاة هذه البيوت من التدمير إلى وقوعها على تلةٍ ذات انحدارٍ شديد حالَ دون إمكانية الجرافات في ذلك الوقت من اجتيازه.4 Noga Kadman, Erased from Space and Consciousness: Israel and the Depopulated Villages of 1948 (Bloomington: Indiana University Press, 2015) تُضاف إلى ذلك قيمة البيوت الجماليّة الشبيهة بالقصور وحداثتها وقدرتها على تلبية الخدمات العصريّة، إذ وقعت بيوت "لفتا التحتا" ضمن حدود بلدية القدس الإسرائيليّة المُعلنة في الشطر الغربيّ المُحتل حديثاً من القدس، وأصبحت بالتالي أحد أحيائها، ووُضِعت تحت تصرف قسم "استيعاب المهاجرين" التابع للوكالة اليهوديّة5"الإسرائيليون الأوائل" توم سيجف، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1986، ص93.، والذي قام بدوره بتوطين 63 عائلة من المستعمرين اليهود ذوي الأصول اليمنيّة والكرديّة فيها.6"لفتا: سجل شعب. التاريخ والتراث الثقافي والنضال"، نظمي الجعبة، بمساهمة من: رنا بركات، خلدون بشارة، ويعقوب عودة، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2020، ص43.

لم يدم استيطان المستعمرين لبيوت "لفتا التحتا" طويلاً، إذ هدّد قربُ تلك البيوت من خطِّ وقف إطلاق النّار (1949)، وخصوصاً من قرية بيت إكسا المحاذية للقرية من جهتها الشماليّة الغربيّة المستعمرين الجدد، ودفعهم إلى إخلاء البيوت بعد أشهرٍ قليلة من استيطانها. أما البيوت البعيدة نسبياً عن خطّ وقف إطلاق النّار فقد بقيت آهلةً بالمستعمرين، حتى بدأت عمليات إخلائهم منتصف ستينيات القرن الماضي واستمرت حتى بداية الألفية الثالثة.

الحفاظ على بيوت لفتا مطلبٌ إسرائيليّ؟!

بعد هدم جزء من البيوت وإسكان المستعمرين الجدد في جزءٍ آخر، تتابعت محاولات الطمس وعمليات المحو وهندسة الحيّز في لفتا. كانت المحاولة الثانية عام 1959 حين حُدِّدَت أغلبية المنطقة المبنية فيها - أي منطقة لفتا التحتا - "محميةً طبيعيّة" إسرائيليّة، ثمّ تصنيفها عام 1964 محميةً أثريّةً7المصدر السابق. وتحويل الأراضي إلى محمياتٍ طبيعيّة وأثريّة هو وسيلة أخرى من وسائل الاحتلال التي يلجأ إليها لتعزيز سيطرة مؤسساته وقوانينه على الأراضي الفلسطينيّة وأهلها، فبإعلانها محميةً تُمنع عودة لاجئيها إليها، ويُمنع البناء فيها، وتكتسب عملية "حمايتها" من ذلك البناء طابعاً "قانونيّاً" إيجابيّاً يتمثل بـ"حماية" الآثار والمشاهد الطبيعيّة!

اقرؤوا المزيد: "الحدائق القومية.. الاستيطان باسم الطبيعة".

وكان لعمليات الطمس مظهرٌ آخر، فقد تزاحمت الخططُ الاستيطانية في لفتا وتوسّعت على أراضيها الممتدة المستعمراتُ كمستعمرة "روميما" وأجزاء من مستعمرة "راموت"، والمباني الحكوميّة كمبنى "الكنيست" الإسرائيلي، والمنشآت الرياضيّة الإسرائيليّة، كما وقع مركز القرية في قلب خطط تطوير شبكة الطرق الرئيسة (شارع القدس-يافا، المعروف اليوم بشارع رقم 1) وسكك الحديد من وإلى القدس. وفي سبيل تنفيذ هذه المخططات والتوسع في الاستيطان تعرّضت العديد من بيوت لفتا الواقعة على أطرافها للهدم، ما أدّى فعليّاً إلى تهديد معالمها الطبيعيّة والثقافيّة والتاريخيّة.

جزء من المحيط الاستيطاني كما يظهر في الصورة، والتي تحيط بالقرية التحتا وبيوتها القديمة.

أما البيوت التي سلمت من الهدم، وهي بالأخصّ الواقعة في جذر القرية (لفتا التحتا)، فقد بقي أمرُ هدمِها أو الإبقاءِ عليها موقعَ جدلٍ في الأوساطِ الإسرائيليّة منذ عام 1965 حتى يومنا هذا. إذ رفضت سلطةُ الآثار الإسرائيليّة في ذلك العام مقترحاً لتدمير القرية وتجريفها بالكامل كما حدث في سائر القرى الفلسطينيّة المُهجَّرة8المصدر السابق، وفي عام 1984 رَفض رئيسُ بلدية الاحتلال في القدس آنذاك، تيدي كوليك، مقترحاً آخر يحملُ الرقمَ (2351) ويقضي بالإبقاء على البيوت وترميمها وبناء متحفٍ ومدرسة ومكاتب في أراضي القرية، ذلك لأنّه كان يسعى إلى استيطان بيوت القرية واستغلالها بطريقةٍ مغايرةٍ وبمشاريع أوسع9المصدر السابق.

بئرُ المخططات لا قرار له! مخطط 6036

بعد مرور ما يقارب ثلاثة عقود، وفي ظلِّ التغيّرات الواسعة التي طرأتْ على القرية بفعل تنفيذ المخططات الاستيطانيّة على أراضيها، ولا سيما مشروع بوابة القدس الغربيّة10 مشروع بوابة القدس الغربيّة "مخطط 4930\A": يهدف المخطط إلى تطوير طريق "بن غوريون" عند مدخل القدس الغربيّ، وتوسيع شارع رقم 1 "القدس-تل أبيب" ليصبح بثلاثة مسارب ويُسهل الحركة الإسرائيلية من وإلى القدس، وقد اكتملت معظم ملامحه في الأعوام الثلاثة الماضية. اقرؤوا أكثر: "واختُرقت الطريق إلى القدس، على موقع "باب الواد".، تكون الظروفُ قد اكتملت من أجل استغلال ما تبقى من لفتا لتنفيذ مشاريع استثماريّة تدرُّ دخلاً يُقدّر بمليارات الدولارات على "سلطة أراضي إسرائيل" وعلى بلدية الاحتلال في القدس. في ضوء ذلك، طَرحت سلطةُ الأراضي، بالاتفاق مع البلدية، عام 2003 مناقصةً عامّةً للبناء في قرية لفتا، وفي يوليو/ تموز 2004، أُعلِنَ عن مخططٍ يحملُ اسمَ "مي نفتوح" والرقم 6036.11 "لفتا: سجل شعب. التاريخ والتراث الثقافي والنضال"، نظمي الجعبة، بمساهمة من: رنا بركات، خلدون بشارة، ويعقوب عودة، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2020.

بحسب ادّعاء الاحتلال، يهدف مخطط 6036 المُمتدُّ على مساحة تقارب 456 دونماً من أراضي لفتا  -في السفحين الشرقيّ والغربيّ وفي جذر القرية- إلى "الحفاظ على المباني المتبقية من القرية وترميمها"، ومن ثمّ تحويلها إلى حيٍّ سكنيّ يضمُّ بيوتاً فاخرة وفندقاً ومركزاً تجاريّاً ومباني خدمات، وشوارع وحدائق ومناطق عامة، ومتحفاً للذاكرة الجمعيّة الصهيونيّة. 

يعكس المخطط السابق النزعة الصهيونيّة المُتمثِّلة بضرورة المحافظة على المشهد الريفيّ لقرية لفتا على المدخل الغربي لمدينة القدس إلى جانب السعي إلى البناء الاستيطاني والتطوير الحضري. إذ سعى مهندسو الحيّز إلى توظيف المباني المتبقية ذات الطراز التقليديّ في خدمة الرواية الصهيونية وحصر الحيز والذاكرة في الهيمنة اليهودية الغربية وضرورة الحفاظ عليها كمتحفٍ للعمارة التقليدية لـ"أرض اسرائيل".

إثر الإعلان عن المُخطط، قدّم أهالي لفتا عام 2004 اعتراضاً على المخطط أمام "اللجنة المحليّة للبناء والتخطيط"، اقتصر ردُّ الأخيرة على رفع توصيةٍ إلى "اللجنة اللوائية للتخطيط والبناء" بإحداث تعديلٍ شكليٍّ في المخطط لا يُغيّرُ من جوهره في تشويه القرية وتغييرٍ في بيئتها الحضاريّة ومحو تاريخها، وهو ما اكتفت به اللجنة اللوائية فمُرِّرَ المشروع إلى مرحلة التنفيذ. لكن ذلك أُرجأ إلى حين إتمامِ أعمال الحفر والبناء لشقّ نفقٍ/ملجأ أسفل أراضي لفتا يتصل بمقري "الكنيست" والحكومة الإسرائيليين.12يُحاط هذا المشروع بنوع من السريّة، ولكن المعروف عنه أنّه نفق طوارئ مُعد لاستقبال جلسات الحكومة في حالات الحرب النوويّة أو البيولوجيّة أو الكوارث الطبيعيّة، ويُسمّى أحياناً بـ"خندق يوم القيامة".

وفي عام 2010، عزمت "سلطة أراضي إسرائيل" على البدء بالتنفيذ الفعليّ للمخطط وطرحت عطاءً يتضمن ذلك. في المقابل، قادَ أهالي لفتا -إلى جانب منظماتٍ وشخصيات إسرائيليّة تصف نفسها باليساريّة- تحركاً قانونيّاً في المحاكم الإسرائيليّة لإسقاط المخطط. أسفرت الدعوى التي رُفعت في حينه عن إصدار المحاكم الإسرائيليّة قراراً في فبراير/ شباط عام 2012 بإلغاء العطاء "مؤقتاً" بدعوى مخالفته لقانون التنظيم والبناء، ولقانون سلطة الآثار وتوصياتها، وأمرت بإجراءٍ مسحٍ أركيولوجيّ للمكان. جاء في قرار المحكمة آنذاك أنَّ "مضامين المخطط رقم 6036 لا تلبي المتطلبات الأساسيّة للمحافظة على تراثها.13"لفتا: سجل شعب. التاريخ والتراث الثقافي والنضال"، نظمي الجعبة، بمساهمة من: رنا بركات، خلدون بشارة، ويعقوب عودة، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2020، ص285.

أي أنّ المحكمة لم تُعارض المشروع في جوهره ولم ترغب بإعادة النظر في مخطط البناء، وإنما اشترطت "مراعاة" المخطط للقواعد والمعايير الإسرائيليّة لحفظ التراث، وهو ما مهدّ لإعادة طرح المشروع لاحقاً بعد استيفاء المعايير والشروط المطلوبة. وهكذا تحولت قضية "الحفاظ على لفتا" إلى سلطة الآثار الإسرائيلية، باعتبارها قضية تاريخيّة-أثريّة لـ"أرض إسرائيل".

لا بدَّ من الإشارة أن قبول المحكمة للدعوى التي قدّمها أهالي لفتا، لا يعني بأي شكلٍ من الأشكال قانونيّةَ محاكم الاحتلال أو الإيمان بأي دورٍ مفترضٍ لها في إحقاق الحقّ الفلسطيني، بل إنّ القانون الإسرائيليّ -كما هو حال مشاركة منظمات إسرائيليّة في تقديم الدعوى- يؤدي دوراً وظيفيّاً مُكَمِّلاً في خدمة المشروع الصهيونيّ، إذ تُنزع قضية لفتا من سياقها الفلسطينيّ الأعم، وتغدو مسرحاً يمارس فيه المستوطن تصالحاً مع ماضيه العنيف.

وبالعودة إلى المخطط، وتماشياً مع قرار المحكمة، أجرت سلطة الآثار مسحاً أركيولوجياً في لفتا، شمل دراستين تاريخيّة وجغرافيّة، انتهت منه نهاية عام 2016. حظي المسح بإشادةٍ واسعة باعتباره "سابقةً تاريخيّةً بأن تجري "إسرائيل" إعادة بناءٍ لقريةٍ على هذا النحو"، وذلك في إشارةٍ إلى إعادة البناء الافتراضيّة للقرية خلال مختلف العصور التي تخللها المسح. شُمل المسح 75 منزلاً، حُدِّد أقدمها والذي يعود تاريخ حجارته إلى 2000 عام -إلى العصرين الهلينستي والروماني- والعديد من الكهوف التي لم يسبق أن تم العثور على مثلها.14"جنّة مُعبّدة؟ كشف أسرار قرية قديمة في القدس"، نير حسون، صحيفة "هآرتس"، 20 ديسمبر/كانون الأول 2016. 

عَكَس المسحُ السطوةَ الاستعماريّة في السيطرة على التاريخ، ووفّر مخزوناً تاريخيّاً ومعرفيّاً استُغل في بناء الأساطير الوطنيّة والرمزيات الدينيّة التي تخدم الوجود الصهيونيّ من خلال ربط المستوطنين الحاليين بالماضي القديم. بذلك يكون تعليق المخطط 6036 بحجة إجراء المسح الأثريّ قد خدم المصالحَ الاستعماريّة بالدرجة الأولى، وإن كان قد أرجأ السيطرة الكاملة على بيوت القرية لعدة سنوات.

من جديد.. المخطط على الطاولة

في سياقنا الاستعماريّ، وضمن رؤيةٍ استيطانيّةٍ-استثماريّة، لا يعني تجميدُ المخططات أو إلغاؤها انتهاءَ الفكرة. إذ تعود المساعي الاستيطانيّة بمخططاتٍ مماثلةٍ وبعناوينَ جديدة، فبعد مرور 10 سنوات على تجميده، تحديداً في مطلع مايو/أيار من هذا العام، جدّدت "سلطة أراضي إسرائيل" نيّتها طرح عطاء البناء في لفتا أمام المستثمرين. 

يدّعي أحد أعضاء حزب الليكود في "الكنيست" الإسرائيلي، يائير غباي، الذي كان عضواً في لجنة التخطيط والبناء التي وافقت على المخطط عام 2006، أنّ فكّ تجميد المخطط جاء بناءً على طلبه وذلك في مناسبة "يوم القدس". في الواقع جاء الإعلان في وقت كانت تتعثر فيه مساعي الاستيطان في الشيخ جرّاح بفعل المقاومة الفلسطينيّة، وكأنَّ الاحتلال أراد البحث عن تعويضٍ ما لخسارتِه المحتملة.

بحسب إعلانها في مايو/ أيار الماضي، اعتزمت "سلطةُ الأراضي" إعادةَ طرح العطاء بحلول نهاية يونيو/حزيران 2021 مُستنِدَةً هذه المرة إلى موافقة "سلطة الآثار" على المخطط بوصفه لا يُهدِّد القيمة الأثريّة للموقع. وهذا ما دفع أهالي لفتا المُهجّرين15من أولئك الذي هُجّروا عام 1948 إلى شرق القدس، وإلى جزءٍ آخر من أراضيهم الشرقية المعروفة بـ"أرض السمار". إلى تقديم دعوىً جديدة في المحكمة الإسرائيليّة. في منتصف سبتمبر/ أيلول الماضي ردّت المحكمة الإسرائيليّة الدعوى بالقول إنّها "سابقة لأوانها"، إذ أنّ العطاءَ لم يُطرح بعد، ولم تتَّضح تفاصيله ودرجة التغيير التي يُمكن أن يُحدثها في مشهد القرية. وذكرت المحكمة في قرارها أنّه يحق للمعترضين إعادة رفع دعواهم عندما يُنشر العطاء بشكله النهائيّ. في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، أعلنت "سلطة الأراضي" أنّها ستنشر العطاء نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2021، وذلك بعد تأجيل طرحه لأكثر من 3 مرات خلال 5 شهور. 

واحدٌ من بيوت لفتا المهجّرة، التي صمدت بعد تهجير القرية وطرد سكانها منها عشية النكبة. 21 يونيو 2011 تصوير: صموئيل سوكول / واشنطن بوست.

أما بلدية الاحتلال في القدس، فقد عبّرت في البداية عن رغبتها بإلغاء المخطط، إذ ترى أنّه يُهدِّدُ القيمتين التاريخيّة والعالميّة للموقع، وسيُؤدي إلى فقدان دونماتٍ شاسعةٍ من المساحات الخضراء، حسب ادعائها. ثمّ لاحقاً تصاعد موقفها في معارضة المخطط وقالت على لسان رئيسها إنّها سترفض منح تراخيص بناء لأي مشروع سيُقام على أراضي القرية. وفي المقابل، عبّر رئيس البلدية ذاته عن دعمه إقامة "حديقةٍ قوميّة" في المكان في حال توفّر التمويل اللازم لترميم البيوت التي ستوضع في خدمة تلك الحديقة.16وفقاً لمعلومات السيد ناصر أبو ليل، عضو في جمعية "أبناء لفتا المقدسية" التي تتابع قضية المخطط، في اتصال هاتفي أُجري في نوفمبر 2021

يُرجح أنّ يكون السبب الحقيقي في رفض البلدية للمخطط هو خلافاتٍ داخليّة مع "سلطة أراضي إسرائيل" التي أعلنت عن إعادة طرح العطاء دون الرجوع إلى البلدية، وربما يكون السبب متعلقاً بأن المخطط بشكله وأهدافه التجاريّة الترفيهية الحالية ذو طابعٍ "علمانيّ"، وهو ما قد تعارضه الأغلبيةُ اليمينيّة المتدينة في المجلس البلديّ الإسرائيليّ، وهي الأغلبية التي تبحث عن مخططات تتوافق مع رؤيتها الدينيّة والسياسيّة. ومن المتوقع أن يُساهم موقف بلدية الاحتلال هذا في تعطيل المشروع لسنوات عدة أو في قرار مستقبلي من المحاكم بتعطيله، نظراً لثقل وزن البلدية في تحديد مسار هكذا مشاريع. 

كما المرةِ السابقة قبل 10 أعوام، قد تؤدي الخلافات بين الأطراف المنخرطة إلى تجميد المخطط لبضعة أعوام إضافية. ولكن أصبح من المؤكد أنّ ما يُجمّد من خططٍ استيطانيّة لا ينتهي في كيان قائم أساساً على استيطان الأرض وقتل السكان. وهكذا، يتكثّف القتل المستمر لسكّان لفتا وتتعدد أشكاله؛ بدايةً بطردهم من بيوتهم في نكبة عام 1948 ثمّ منعهم من العودة إليها، وفي نزعِ قضية البناء الحالية في القرية خارج سياقها التاريخيّ والسياسيّ، وفي متحفة القرية وذاكرة أهلها وتاريخهم، وفي صراعهم المتُجدد ضدّ هدم ما تبقى منها.

*تُنشر هذه المادة بالتعاون مع مؤسسة الجذور الشعبيّة المقدسيّة.