20 يونيو 2021

"الغسيلُ الأخضر".. خضرية بنَكهة الاستعمار

"الغسيلُ الأخضر".. خضرية بنَكهة الاستعمار

تعجّ تل أبيب بالمطاعم التي تُقدّم طعاماً نباتيّاً؛ هناك أكثر من 400 مطعمٍ خضريّ ونباتيّ في "المدينة العصريّة" التي تحاكي الذوق الأوروبيّ، برغر نباتي، وبيتزا خضريّة، وكبّة خضريّة، وغيرها من الأصناف. وراء قوائم الطعام هذه، والتي قد تبدو مُغريةً للبعض، بل و"أخلاقيّة" للبعض الآخر، سعيٌ إسرائيليّ دؤوب لأن تكونَ تل أبيب عاصمةَ الخضريّة والنباتيّة في العالم.  

في السياق ذاته، تتفاخر طال غلبواع، وهي أوّل مُستشارة شخصيّة لبنيامين نتنياهو مُختصّة في مجال حقوق الحيوان، فتقول: "أصبحت دولة إسرائيل الأكثر نباتيّةً في العالم. قبل ست سنوات كان نصف بالمائة من السكّان نباتيّين، فيما اليوم 5٪. جيش الدفاع الإسرائيلي هو الجيش الأكثر نباتيّةً في العالم، إذ أنّ 6% من الذين يخدمون في الجيش هم نباتيون".

هكذا، وبكلّ بساطة، يُحيّد دور جيش الاحتلال في ارتكاب المجازر وتدمير الموارد وتخريب الأرض واستخدام أسلحة تضرّ بالبيئة وتقتل الناس وتشوّههم، ويُحيّد أنّ دولة الاحتلال من أكبر موردي ومصدّري السلاح في العالم لأنظمة ترتكب -وما زالت- جرائم بشعة، وأنّها الأعلى من حيث حصّة الفرد من صادرات الأسلحة. كلّ هذا يُحيّد ويختفي خلف واجهةٍ خضراء "تسرّ الناظرين": ارتفاع أعداد الجنود الخضريّين ليصل إلى عشرة آلاف، تساعدهم المنظومة العسكريّة في اتباع حميةٍ غذائيّةٍ تتلاءم واختياراتهم، كما يوفّر لهم ملحقات غذائيّة مثل فيتامين سي وبي وغيرها، ويوفّر أحذيةً للجنود خاليةً من جلود الحيوانات. 

اقرأوا المزيد: كيف تلعب "إسرائيل"؟

تنشأ من ذلك أسئلة: كيف لكيان يقتلُ الناسَ ويُهَجِّرُهم من أراضيهم ويُمارس عليهم شتّى أنواع العنف أن يتحسّس من قتل الحيوان؟ هل يستوي أن يدافع كيانٌ عن حقوق الحيوان في أرضٍ ما وفي الوقت نفسه يجثم على ذات الأرض التي سرقها من ناسها؟ والأهم من ذلك، ماذا يريد كيان الاحتلال من وراء الظهور بصورة "الدولة الأكثر نباتيّة في العالم"؟ 

Dan Balilty / AP

إظهارُ شيء وإضمارُ شيء آخر

من خلال الاحتفاء "بتل أبيب كونها أكثر المدن خُضرية في العالم، تُخفي دولة الاحتلال الظلمَ الواقع على الفلسطينيين والفلسطينيات، ويُقلّل كذلك من واقع أنّ المدينة بأكملها بُنيت على أراضٍ فلسطينية سُرقت من أهلها- يافا وقراها، وما زال خطر التهجير يهدّد الكثير من بيوتها وأحيائها. 

تستخدم هذه المنظومة الاستعمارية الخضريّة أو النباتيّة لتظهر وكأنّها منظومة "أخلاقيّة" و"إنسانيّة" ضدّ العنف، وحامية للبيئة الطبيعيّة ولحقوق الحيوانات، بينما تستغلّ ذلك لتُغطّي على ممارساتها الاستعماريّة تجاه الشعب الفلسطيني وأرضه. يُعرف هذا الاستغلال بـ "الغسيل الأخضر"، وهي ممارسة تلجأ لها الدول والمؤسسات، وفي بعض الأحيان الشركات، من خلال ادّعاء عنايتها ورعايتها وحساسيتها للبيئة والموارد الطبيعية، لكي تُغطّي على ممارساتها المُسيئة. 

كان عالم البيئة الأميركي جاي ويسترفلت، هو أوّل من استخدم مصطلح "الغسيل الأخضر"، وذلك في مقالة له عام 1986، تحدّث فيها عن سياسة بعض الفنادق التي تطالب النزلاء باستخدام المناشف أكثر من مّرة بحجّة "إنقاذ البيئة"، فيما حقيقةً تطلب ذلك من أجل تقليل مصاريفها فتزيد من أرباحها، إذ لم تقم الشركة ببذل أيّ جهدٍ للحدّ من هدر الطاقة يوحي باهتمامها بالبيئة.

الصندوق القوميّ اليهوديّ.. الاختباءُ خلف الأشجار

ليس جديداً على دولة الاحتلال توظيف الغسيل الأخضر لتمرير سياساتها الاستعماريّة والتغطية على جرائمها عالميّاً ومحليّاً، فها هو الصندوق القومي اليهودي منذ أكثر من مئة عام يُمارس سيطرته على الأراضي الفلسطينيّة بنهبها من ناسها عبر تشجيرها وتحويلها إلى مناطق طبيعيّة. يدّعي الصندوق بأنه يعمل على "المساهمة في محاربة أزمة المناخ بواسطة غرس الأشجار وإعادة تأهيل وصيانة الغابات القائمة"، كما يتيحُ الفرصة لمن يرغب بذلك بأن يغرس شجرةً نيابة عنه مقابل تبرّع مالي. عام 1949 حوّلت سلطات الاحتلال مليون دونم من أراضي فلسطين إلى سيطرة الصندوق القومي اليهودي، وفي سنة 1953 حُوّل مليون دونم إضافيّ له، وما زال نفوذ الصندوق وسيطرته على الأراضي بازديادٍ مستمرّ حتى اليوم. ومنذ إقامة الصندوق القومي اليهودي تمّ غرس 240 مليون شجرة في فلسطين، على مساحة 920 ألف دونم، ويتباهى الصندوق بكونه سببَ تصدّر دولة الاحتلال قائمة الدول التي تفوق كمية الأشجار فيها اليوم ما كانت عليه مطلع القرن الـ20.  

لكن ما يُخفيه هذا التباهي أنّه جاء على حساب الناس، أهل البلاد، الذين يقتلعونَ من أراضيهم وقراهم لصالح التشجير و"الحفاظ على البيئة". في النقب مثلاً، اقتلعت دولة الاحتلال الأهالي، ولكي تضمنَ عدم عودتهم لأراضيهم أو حتّى عدم توسّع مدنهم وقراهم، شجّر الصندوق القومي الأراضي الصحراويّة عوضاً عن غرس جيوشه ومعسكراته. لكنّ مُمارساتهم الهجينة ألحقت الضرّر في البيئة الصحراويّة للنقب، إذ أنّ الأشجار الصنوبريّة التي جاء بها الصندوق من أوروبا، تحلّ محلّ أشجار محليّة كالزيتون، فتهدّد التوازن البيئي. 

مردّ ذلك أنّ للنباتات استراتيجيّات مختلفة للبقاء على قيد الحياة، فالصنوبريّات مثلاً لا تحتاج إلى كميّات عاليّة من الضوء، لذا فإنّ زرعها في غير بيئتها الأصليّة كما في النقب يدفعها لتطوير آليّات للتأقلم مع درجات الحرارة العاليّة والضوء، فتعكس الضوء لتحمي نفسها، ممّا يؤدي إلى ارتفاعِ درجات الحرارة فيساهمُ في ظاهرة الاحتباس الحراري. إضافةً إلى أنّ عكس هذه الأشجار للضوء والحرارة يحرمُ كائنات حية من الضوء الذي تحتاجه لضمان بقائها في بيئتها الطبيعيّة.

اقرؤوا المزيد: في السّهول والجبال.. جولة لمعرفة نباتات فلسطين.

لم يستولِ الصندوق على الأراضي فحسب، ولم يكتفِ بغرس أكثر من 220 مليون شجرة في فلسطين على مساحة تُقارب المليون دونم طردَ مقابلها الناس وهدّم مقابرهم، بل هو شريكٌ أيضاً في الاستيلاء على البيوت والعقارات الفلسطينية في القدس، كما ويعملُ على توسعة نشاطاته الاستعماريّة وجعلها علنيّة في الضفة الغربية التي أنشأ فيها العام الماضي سبع محميات طبيعية جديدة على مساحة 130 ألف دونم ووسّع اثني عشرة محمية أخرى.

تصلُ وقاحة النهب إلى فرض مقابل ماديّ على الفلسطينيين والفلسطينيات لزيارة "محميات طبيعية" مقامة على أراضي قرى فلسطينية مهجّرة، ما زال باستطاعتنا أن نسمع فيها وقع أقدام من هجّروا منها ونشبوا على أمل العودة إليها. على أنقاض 89 قرية فلسطينيّة، أقام الصندوق القومي اليهودي 46 غابة ومحميّة طبيعيّة، وذلك من أصل 68 يمتلكها الصندوق.

هدمٌ وتجفيفٌ وغازات سامّة

بحجّة الحفاظ على البيئة الطبيعيّة والزراعة فيها، يُصدر الاحتلال أوامر لهدم منازل الفلسطينيين. في مطلع شهر شباط/ فبراير الماضي، أصدر الاحتلال أوامره بهدم 38 منزلاً في قرية الولجة قرب القدس، في الوقت الذي ينوي فيه إقامة "حديقة وطنية" على مئات الدونمات ويستمرّ دون كللٍ في توسيع المستوطنات المحيطة بالقرية. 

أمّا في النقب، فأقيم قرب قرية وادي النعم الفلسطينيّة مكبّ نفايات كيماوية، تابعة لمنطقة صناعية. وقد كانت قرية وادي النعم حتى عام 2017 قريةً مسلوبة من أبسط الحقوق، إذ يرفضُ الاحتلال تزويدها بأي خدماتٍ كالصحة والتعليم والبنى التحتية على الرغم من أن تعدادها السكاني يزيد عن خمسة عشر ألف نسمة. تُعرّض النفايات الكيماوية والسامة صحّة وحياة سكان القرية لمخاطر صحيّة كبيرة، من انبعاث الروائح والغازات التي ما زالت مخلفاتها موجودة قرب القرية حتى اليوم، ولا يملك سكّان القرية عنوانًا يتوجهون إليه لضمان وصولهم لخدمات أساسية، بسبب تعمّد الاحتلال تهميشهم وقمعهم.

صورة لجنود احتلال مع دبابة سوبر شيرمان في منطقة غابات تطل على الحدود مع الأردن خلال حرب الأيام الستة في يونيو 1967 (تصوير رولز برس / بوبرفوتو)

وفي قضاء صفد، يوجد مشروعٌ من أكبر المشاريع الاستعمارية التي أشرف عليها الصندوق القومي اليهودي، مشروع تجفيف بحيرة الحولة الذي بدأ عام 1951 وانتهى عام 1958. من الحجج التي ساقتها دولة الاحتلال لتجفيف البحيرة، كان القضاء على الأوبئة التي انتشرت في المنطقة "نتيجة الإهمال" بحسب ادعائهم. لكنّ تجفيف البحيرة صاحبه محو ملامح قرى فلسطينيّة مُهجّرة مُحيطة، وزيادة في عدد المستوطنات الزراعية في المنطقة، وتأهيل أراضي زراعية خصبة وتعديل مسار مياه نهر الأردن ليصل إلى النقب. وقد تبيّن لاحقًا أنّ المشروع الاستعماري بتجفيف بحيرة الحولة حمل أضرارًا بيئية جسيمة، منها: هبوطٌ في الأراضي، وانجرافُ مساحات في التربة، وخسارةُ مصادر الأسماك، وحرائق عديدة ناتجة من نوعية التربة التي ظهرت في البحيرة نتيجة التجفيف. 

الفخّ!

تُشكّل السياسات البيئية التي يعتمدها الاستعمار وسيلةً لتشويه تاريخ المكان وفرض هُويّة بديلة تخدم مشروعه الاستيطاني. تارةً تكون هذه السياسات وسيلة تهجير وبسط للسيطرة الإسرائيليّة، وتارة تكون أداة تسويقٍ وتطبيع لـلمنظومة الاستعمارية كونها تُحاكي الصيحات البيئية الحديثة و"الحضارية" في التشجير ونشر النظام الغذائي الخُضري وتشييد المحميات الطبيعية. وعلى غرار أشكال غسيل سياسيّ أخرى كالغسيل الوردي، تشكّل هذه السياسات أداة صهر للوعي، تسند ثنائية "الخيّر" الصهيوني الذي يحافظ على الطبيعة ويطوّرها، مقابل "الشرير" الفلسطيني الذي يهملها ويؤدي لهلاكها، بذلك تسوّق "إسرائيل" نفسها على اعتبار أنّها "نورٌ للأمم".

يؤدّي هذا الاستقطاب أحياناً إلى تذويت الرواية الإسرائيليّة والوقوع بفخّ الأساطير التي تخلقها عن نفسها، عبر عبارات تتردد على ألسنة فلسطينيين وفلسطينيات، فيها شيءٌ من التقدير والإشادة بـ "أخلاقيّة" العدوّ. فمرة عند تحدّث إحدانا عن النفاق المتجذّر في كون الاحتلال يوفّر أحذية خضرية لجنوده، أجابت امرأة فلسطينية خضرية: "لا يهمني فهذا في مصلحة الحيوانات". من خلال هذا الخطاب، يتغاضى عددٌ كبير أنّ هذا الاستعمار مُقامٌ أساساً على أرض أصحابه الأصليين، يتعرّضون للقمع يومياً على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي وحتى البيئي، فعددٌ كبير منهم محرومٌ أساساً من الوصول إلى أرضه والتمتع بالبيئة والموارد الطبيعية المتوفرة على أراضي فلسطين.