خلال "قمع" شرطة الاحتلال الإسرائيلي تظاهرة نظّمتها في القدس عائلاتُ الأسرى الإسرائيليين في غزّة، صرخ أحد المتظاهرين في وجه عناصر الشرطة: "أين كنتم في حوّارة؟ أين كنتم في غلاف غزّة؟"، وذلك في إشارةٍ إلى الفشل الأمنيّ الإسرائيليّ المتكرّر في المنطقتين.
أما غلاف غزّة فقد سرى نبأ ما جرى فيه في الأرجاء، وأما حوّارة، فإنّها تشهد منذ عام 2022 تصاعداً في المواجهة بين جنود الاحتلال ومستوطنيه وبين أهل البلدة والمنطقة عموماً. يشمل ذلك إلقاء الحجارة على سيّارات المستوطنين وجنود الاحتلال، وصولاً إلى عمليات الطعن وإطلاق النار. كما تصاعدت من جهةٍ ثانيةٍ حدة الاعتداءات الإسرائيلية من الجيش والمستوطنين بحق أهالي البلدة.
وللمفارقة، فقد اعترف جيش الاحتلال بنقل سريتين من الكوماندوز من "فرقة غزّة" قوامهما 100 عنصر، من منطقة غلاف غزّة إلى منطقة حوّارة، قبل يومين فقط من عملية طوفان الأقصى. وكان من قبلها قد نشر عناصر السريتين في منطقة الغلاف لتعزيز الجبهة عشية الأعياد اليهودية.
اقرؤوا المزيد: "طوفان الأرض والنفس".
سعياً لوأد تلك المواجهة ومنع تصاعدها، فرض جيش الاحتلال منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 إغلاقاً تاماً على بلدة حوارة، مركزه شارع حوّارة الرئيس، وذلك من خلال إغلاق حاجزي زعترة وحوّارة، والسماح فقط بمرور المستوطنين، ومن خلال إجبار التجار على إغلاق محالهم، ومنع السيارات والمارة من المرور بشكل تام.
من البلدة المزدحمة إلى بلدة الأشباح
تقع بلدة حوارة جنوب مدينة نابلس، في موقعٍ استراتيجي يربط مدن شمال الضفّة الغربيّة بجنوبها من خلال شارع حوّارة الرئيس الذي يمتدّ على طول البلدة، ويمرّ من وسطها بطول يصل إلى 2.5 كم. وهو شارعٌ مزدحم تتوزع على طرفيه محلاتٌ تجاريّة متنوعة.
يشكّل شارع حوّارة جزءاً من شارع 60 الاستيطاني، أحد أهمّ الشّوارع بالنّسبة للمستوطنين، إذ يقطع فلسطينَ من بئر السبع جنوباً حتى الناصرة شمالاً مروراً بأغلب مدن الضفّة، ويشكّل حلقة وصل بين المستوطنات فيها. ويشكّل مقطعه المار في وسط حوّارة خاصرةً رخوة للاحتلال لم يستطع ضبطها رغم أعداد الجنود الكبيرة المنتشرة على طول الشارع، وتلك المتمركزة في البنايات المرتفعة على طرفيه.
وفي ظلّ هذا الموقع المهمّ؛ تتعرض البلدة التي يسكنها حوالي 7 آلاف فلسطينيّ، وتصنّف 62% من أراضيها كأراضي "ج"، لسياسات استيطانيّة تكثّفت منذ منتصف عام 2022 تشمل الإغلاقات المتكررة للمحال التّجارية، ونصب الحواجز والدوريات وإغلاق الطرق الفرعية فيها، عدا عن الاعتداء على الممتلكات وحرقها وقتل الناس.
إلا أن تلك الإغلاقات الجزئية تحوّلت منذ السّابع من تشرين الأول/ أكتوبر إلى حصارٍ وإغلاق تامّ. شمل ذلك إجبار جيش الاحتلال حوالي 300 محل تجاريّ في شارع حوارة الرئيس على إغلاق أبوابها، ومنع السيارات الفلسطينية والمشاة من المرور في الشارع أو حتى الاقتراب منه. وقد تعرّض كل من اقترب من الشارع الرئيس إلى إطلاق النار أو القنابل الصوتية. وقد أدّى هذا الإغلاق إلى تعطيل الدوام المدرسيّ وحرم الطلاب من الوصول إلى مدارسهم.
وهكذا تحوّل الشارع الأكثر ازدحاماً إلى شارعٍ خالٍ إلّا من سيارات المستوطنين والكلاب الضالّة، وصار الشارع الذي لا يتجاوز عرضه 10 أمتار فاصلاً يفصل شرق حوّارة عن غربها، فيقول أحد سكان حوارة واصفًا المشهد: "صرنا زي ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية"، فصار من يسكن شرق الشارع يحصل على حاجاته الأساسية عبر المرور من طرق ترابية طويلة تصلهم ببلدة بيتا، ومن يسكن غرب الشارع يحصل على حاجياته من بلدات جماعين وعينابوس. هذا عدا عن قطع شمال الضفة عن جنوبها، مما أجبر الفلسطينيين على البحث عن طرق فرعية، تستغرق وقتاً أطول وتمر في وسط القرى.
View this post on Instagram
"التنقيط".. سياسة للضبط والردع
وعلى الرّغم من عدم وجود تحرّك فعّال لكسر الحصار، إلّا أنّ بعض أصحاب المحلّات التّجاريّة كسروا قرار الإغلاق وفتحوا محلّاتهم رغم التشديدات المكثفة، وهو الأمر الذي تبعته قرارات تظهر تخفيف الحصار في ظاهرها، بينما تهدف لترسيخه أمراً واقعاً في حقيقتها. إذ أعلنت بلدية حوّارة بالتّنسيق مع الارتباط الإسرائيلي -وهي الخطوة الوحيدة التي انتهجتها منذ بدء الإغلاق- "تسهيلات" شملت فتح 44 محلّاً تجارياً من أصل 300 بدايةً، هي في غالبها محلات السوبرماركت والمخابز، بالإضافة إلى فتح طريقين فرعيين والسماح للسيارات الفلسطينيّة بالمرور على الشارع، ثمّ امتدت لتشمل فتح بضع محلات كلّ يوم "بالتّنقيط"، لتصبح أكثر من 44 محلاً.
لا وزن لهذا القرار فعليّاً، إذ إنّ حاجز حوّارة الذي يقع شمال الشارع الرئيس وحاجز زعترة الذي يقع جنوبه ظلّا مغلقين باتجاه حوّارة، ما يعني اقتصار الحركة الاقتصادية على أهل حوارة. كما منعت قوات الاحتلال المحلات التي بادرت لكسر قرار الإغلاق من ذاتها من أن تفتح أبوابها، ما يعني أنّ خطوة "التسهيلات" أخذت بُعداً ترويضياً يهدف لضبط أي حالة رفض ومقاومة، في رسالة مفادها: أن من يريد أن يفتح محله فلينتظر حتى نسمح له، لا أن يبادر لفتحه بمبادرته الشخصيّة.
عن "يتسهار" وأذرعها
يشنّ المستوطنون - بحماية الجيش- هجمات دورية ومتكررة على حوّارة بلغت أوجها في السادس والعشرين من شباط/ فبراير 2023، شملت حينها إحراق البيوت والسيارات والمنشآت التجارية وإطلاق الرصاص والقنابل تزامناً مع حملة تحريض واسعة من القيادة السياسية للمستوطنين دعت لمحو حوارة وإغلاق محالها التجارية وشارعها. وهي "التحريضات" التي تُترجَم إلى واقع اليوم مع الحصار المفروض على حوّارة وتكرُّرِ هجمات المستوطنين واعتداءاتهم، إذ استمروا بالإرهاب ذاته منذ السّابع من تشرين الأول/ أكتوبر وشنّوا اعتداءات مستمرّة شملت إطلاق النار على البيوت وهدم محلّ تجاري وطمره بالتّراب.
View this post on Instagram
تنطلق هذه الاعتداءات على حوارة في غالبها من مستوطنة يتسهار. تأسست المستوطنة عام 1983 كموقعٍ عسكريّ بداية، ثم تحوّلت إلى مستوطنة تحتلّ قمة جبل سلمان الفارسي في الشمال الغربي من حوّارة بمساحة 10 آلاف دونم، هي أراضي 6 قرى فلسطينية أبرزها حوّارة التي سُلب منها حوالي 3000 دونم لصالح المستوطنة.
في المستوطنة مدرسة دينية كانت تتخذ مقام يوسف في نابلس مقرّاً لها، ثم انتقلت إلى يتسهار على إثر انتفاضة الأقصى. تُخرِّج المدرسة أشدّ مستوطني "إسرائيل" أذى وعقائدية، ممن يقودون جماعات "شبيبة التلال" و"تدفيع الثمن" المسؤولة عن توسيع الاستيطان في الضفّة الغربيّة (تفرّعت عن يتسهار 9 بؤر استيطانية حتى الآن)، وشن اعتداءات منهجية منظّمة على القرى الفلسطينية، وترهيب الناس وتهديدهم بالتهجير والقتل.
ولتعزيز الاستيطان وحماية المستوطنين وتخفيف الأزمات عليهم شق الاحتلال شارع التفافي حوارة الذي أُقيم على 406 دونمات من أراضي سهل حوّارة، ويلتفّ شرقها ليفصلها عن امتدادها الجغرافي مع بلدات بيتا وأودلا.
"لا" التي ارتفعت في حوّارة
ورغم خنق الاستيطان ومحاولات الترويض عبر التحكم بالحركة التجاريّة، شهدت حوّارة منذ مطلع العام الحالي موجة عمليّات نوعيّة استهدفت المستوطنين والجنود المنتشرين في البلدة، كان أبرزها عملية الشهيد عبد الفتاح خروشة التي تبعتها موجة كبيرة من العمليات وصلت إلى 10 عمليات ما بين إطلاق النار والدهس، أسفرت عن مقتل 4 مستوطنين وإصابة 12 جندياً ومستوطناً، بجانب إلقاء الحجارة على سيارات المستوطنين يوميّاً.
ورغم تحوّل حوّارة إلى ثكنةٍ عسكريّة ينتشر فيها حوالي 15 برجاً عسكريّاً بالإضافة إلى عشرات الجنود المتمركزين فيها وفي البنايات المنتشرة على الشارع، نجح منفّذو العمليات بالانسحاب في كلّ مرّة ما جعل الشارع خاصرة رخوة للاحتلال يصعب عليه ضبطها.
وقد جاءت موجة العمليات هذه بعد اندلاع "معركة العلم" في حوّارة إثر قيام مستوطن بإزالة علمٍ فلسطينيّ معلّق على عمود في الشارع صيف العام 2022، فانطلقت الدعوات لإزالة اللافتات العبريّة وعدم استقبال المستوطنين في المحلّات. وقد ذكّرت تلك المعركة بالسياسات الممنهجة التي مُورست طوال السنين الماضية على حوارة للحفاظ على هدوئها وضبطها، فاستغلّ الاحتلال التجارةَ المنتعشة في المنطقة لمحاولة خلق حالة من "التعايش" بين الناس والمستوطنين الذين كانوا يقصدونها لإصلاح مركباتهم والتبضع من بعض المحلّات؛ كما استغل مصادر رزق الناس لابتزازهم ومحاولة خفض وتيرة أي مواجهة، وهي المحاولات التي فشلت.
يكثّف الاحتلال سياساته القمعية على حوّارة من بعد معركة طوفان الأقصى لتحقيق ما عجز عنه في الفترة الماضية من خنقٍ للشارع الرئيس وإحكامٍ للسيطرة. يقول أحد السكان: "كلّ اللي المستوطنين هدّدوا يعملوه قاعدين بنفّذوه هسّا". كما يصادر المزيد من الأراضي بالقرب من الشارع الرئيس والشارع الالتفافي الجديد -فقد صودِرت 5 دونمات من الأراضي خلال الأسبوعين الماضيين فقط-، هذا بالإضافة إلى زيادة وتكثيف اعتداءات المستوطنين لترهيب الناس وهزيمتهم نفسيّاً بتهديدهم بالتهجير والقتل.
هكذا هي الضفّة الغربيّة، يشتد عود الاستيطان فيها حيناً، وتسود سياسات "السلام الاقتصادي"، ومن ثمّ تتصاعد الـ"لا" من وسط الحصار متخذةً أشكالاً مختلفة يدافع بها الناس عن وجودهم وبقائهم.