31 مايو 2023

الظلُّ الذي بقي في عين سامية

الظلُّ الذي بقي في عين سامية

*الصور في هذه المادة جميعها من تصوير: شذى حمّاد. 

وتد الخيمة 

تَخَلْخَل وتدُ الخيمة الذي كان عصياً على القلع. وبعد علاقةٍ تحدّت ريحَ الشتاء وحرَّ الصيف على مدار 40 عاماً، أَطلق الوتدُ مجبراً سراحَ الخيوط، وانهارت الخيمة، وسقطت. تلاشى الظلُّ واحتضن الأرض، حيث سيبقى شاهداً على ما كان. زال كلُّ شيء، وبقى الخواء وفي قلبه الأثر.

في الاجتماع الأخير تحت الخيمة كان الصمتُ حاضراً، كان اللقاء الأخير الذي أعلن انتهاءَ الكلام. لم تفُحْ رائحةُ القهوة كالمعتاد، لم تُجهّز ولم تُقدّم للضيوف القليلين، كأنّ الخيمة تُعلن إقفالَ بابها، رغم أنَّ لا باب لها. ووسط الصمت، أُشعِلَت الكثير من السجائر التي تاه دخانها ملاحقاً وباحثاً عن مصير صاحبه. 

غادر محمد سمرين كعابنة الخيمة، وجلس في غرفة الزينكو الملاصقة يروي حكايته للمرة الأخيرة، ومعلناً بغضبٍ وحزم أن لا روايةَ ستُروى بعد انقضاء اليوم. خلف محمد كانت عقارب الساعة تُشير إلى الثالثة و35 دقيقة، بدا أنّها توقَّفت إلى الأبد، توقّفاً عبيثاً لا دلالة له. وتحت الساعة كان دخان محمد مفروشاً حتى يجف. لم يجف الدخان بعد، وتمسك بخضرتِه كأنّه يُعاند صاحبه. 

هُدم مسكن محمد وعائلته، زال كل شيء، وبقيت الساعة المتوقفة عقاربها متمسكة بما تبقى من الحائط. وتناثرت أوراق الدخان تحت الأنقاض. 

محمد سمرين كعابنة.

النافذة المكسورة والحصة الأخيرة

دق جرس المدرسة، كان عالياً على غير المعتاد. وبعد أن اصطفوا في الطابور الصباحي. أعلن الطلبة افتتاح يوم جديد بقراءة الفاتحة، كان الصوت عالياً أيضاً، مرة متحداً، ومرة تسمعه متفاوتاً فتقدر أعمار من يتلون السورة. ثم ركض الطلبة نحو الصفوف، لم يكن وقع أقدامهم عادياً. كان وقعاً عالياً كذلك.

كل أصوات المدرسة كانت مرتفعة، ولكن ذلك كله لم يكن إلا صدى يحتفظ به المكان، وكأن الطلبة تركوا ظلالهم وأصواتهم خلفهم. ربما لأنهم كانوا على أمل العودة في اليوم التالي، وربما لأنّهم لن يعودوا أبداً فتركوا أصواتهم تحرس المكان. 

يختفي الصدى، ويسترد المكان وحشته. مخيفة أصبحت مدرسة الزينكو التي أُقيمت في شباط/ فبراير 2022. تحوّلت إلى مدرسة أشباح لا حياة فيها. وتجيب النوافذ التي حطمها الأغرابُ الليلة الفائتة عن هذا التحول، وعن غياب الطلبة الأبدي.

من بين زجاج نافذة الصف المُحَطّمة، كانت مقلمة الألوان مكانها على طاولة المعلم. المقاعد مرتبة، والصفّ نظيف. ولكن لا حصة اليوم. ولا أحد مستفيداً من هذا الغياب إلا العصافير التي تتنافس فيما بينها في ساحة المدرسة على فتات سندويشات الزيت والزعتر التي تناولها الطلبة بالأمس. الأمس الذي سيبقى قريباً. 

عن الألعاب والدفاتر التي نُسيت 

فُكِّك مسكن الزينكو وأُزيل، وتُركت عربة تدريب المشي مكانها، أو ربما نُسيت. كانت لطفل بدأ لتوه التدرب على المشي، بعد أن بلغ من عمره الشهر الثامن. كان يحبو هنا فوق هذا التراب، لعب فيه وتذوقه خلسة، وحفظ رائحته قبل أن يحفظ رائحة والدته.

نُسيت العربة أو تم تناسيها، ولم تُنقَذ مع الأشياء التي أُنقذت. ربما لم تعد لها الأولوية الآن، فالأم لم تعد تريد استعجال طفلها على المشي، وهمست له أن يبقى طفلاً غير مدركاً لهذا الوجع. أن يبقى طفلاً حتى نتخطى هذا كله. وهمست له: لتكبر فيما بعد، لتكبر غداً أو بعد غد.

تُركت بعض الدفاتر والكتب أيضاً. ربما لأنه لا مدرسة بعد اليوم، ولوقتٍ طويل. تُركت للهواء يقلّب صفحاتها ليكشف عن تدرب إحدى الطفلات على كتابة الحروف دون أن تُسقطها عن السطر. كانت الحروف دائماً تسقط منها، والآن تجلس ثابتة على السطر. ولكن يبدو بعد أن فات الأوان، فقد أُغلقت المدرسة، وهُدم المسكن.

يُلخّص خضر سلامة ما يدور: "المستقبل استولى عليه مستوطن. نحن اليوم نعيش النكبة". ورغم أن خضر لا يملك الأرض إلا أن علاقته فيه تتخطى مجرد امتلاك الوثيقة، "بتعز علينا البلاد لأنه ولادنا ولدوا فيها". 

ألعاب كثيرة بقيت هنا، إذ لم يُسمح للأطفال بحمل أشيائهم. وحُمِّلوا ما تراه الأم ضرورياً: الطعام، وبضع ملابس، وحقيبة المدرسة، وأوانٍ قليلة. ولكن يبدو أنّ أحدهم يخطط للتسلل والعودة والتقاط بعض الألعاب: كلعبة التركيب الجديدة، وسيارة شقيقه الصغير.

تفكيك المسكن وقرميد المستوطنة 

تعرّت مساكن بادية عين سامية، فُكِّكت ألواح الزينكو، وأُزيلت الخيم، وبقي أثرها. وعلى التلال المحيطة حيث تتوالى الهجمات، كان قرميد مستوطنة "كوكب الصباح" ثابتاً مكانه. وفي الجهة المقابلة بؤرة "نيخة" الاستيطانية تتوسع مسيطرة على مساحات جديدة من التلة. كان الفلسطيني يرحل ويفكك مسكنه بسبب هذا الحصار، والمستوطن يزرع قدميه أعمق في الأرض.

المستوطنة أعلى الجبل، وبيوت عين سامية خاوية..

فكّك الأهالي الحمّامَ المتنقل الذي نقلوه خلسة إلى المنطقة خوفاً من الملاحقة والمصادرة. وفكوا خزانات المياه التي ينقلونها بالليل سراً، فقد أراد المستوطن تعطيشهم حتى الرحيل، وكان الماء ممنوعاً عليهم وهم الذين يسكنون في عين سامية، ليكون الحصار مضاعفاً.

ملأ الخراب المكان، وحضر باعة الحديد. لقد تحولت المساكن وما احتوته من ذكريات إلى "خردة". تُرمى ألواح الزينكو في الشاحنة بلا مبالاة وكأنّها لم تحتضن يوماً عائلة وأطفالاً وذكريات. وكأنها لم تتحدى على مدار السنين السابقة المستوطنة وقرميدها.

 لا أحد من أصحاب المساكن يقف ينظر على مسكنه المحطم، ولا أحد فيهم يلتفت إلى بائع الحديد. فقد كان البيت عزيزاً، عزيزاً جداً.

حراس الأرض والنكبة الرابعة 

على أنقاض المساكن وتحت سقفها المهدوم في بادية عين سامية شرق رام الله، أدى أصحابها الصلاة الأخيرة فيها، وكأنّها صلاة الجنازة على الروح التي تعلقت في هذا المكان 40 عاماً منذ تهجيرها الأول عام 1967. الروح التي ستموت بخروجها من هنا. 

هذه المرة وبسبب سطوة وبطش المستوطنين واعتداءاتهم، تُهجّر 37 عائلة من عرب الكعابنة من مسكنهم. وهذه المرة الرابعة التي يعيشون فيها معنى التهجير منذ عام 1948. وبينما تفكك العائلات مساكنها، سارع المستوطن ببناء بؤرته الاستيطانية الجديدة على أنقاض المكان (كما تظهر في الصورة أدناه). 

في بداية الثمانينيّات استقرت عائلة الكعابنة في بادية عين سامية، شمال شرق رام الله، بعد تهجيرها من العوجا ثم منطقة المعرجات، وقبل ذلك من منطقة الخليل. وصمدت في المكان رغم محاصرتها والتضييق عليها. يذكر محمد سمرين كعابنة أن إقامتهم في المكان كانت قبل بناء مستوطنة كوكبة الصباح، وقد أجبروا على الهبوط من التلة إلى الواد جراء استهدافهم المتكرر خلال التدريبات العسكرية التي أسست لبناء المستوطنة. "خلال التدريبات العسكرية كانوا يتعمدون إطلاق النار علينا ونحن داخل الخيام". 

اعتبر الاحتلال على الدوام وجود الكعابنة في المنطقة مخالفاً، وقد أصدر بحق كافة المساكن والخيم قرارات هدم والتي نُفذت بشكل مستمر، آخرها قبل شهرين. كما تعتبر مدرسة عين سامية مهددة أيضاً بالهدم. 

سلطات الاحتلال ليست وحدها تحاصر عائلة الكعابنة، وقد صعد المستوطنون مؤخراً هجماتهم عليهم والتي ازدادت كماً وعنفاً في السنوات الخمس الأخيرة. إذ أنشأ المستوطنون بؤرة رعوية جديدة في المنطقة ومنعوا أهالي الكعابنة من رعي أغنامهم، وصعدوا من ملاحقتهم وسرقة مواشيهم وشن الهجمات على مساكنهم. 

مؤخراً، وفي ظل تصاعد هجمات المستوطنين، طالبت الكعابنة من مؤسسات السلطة الفلسطينية أن تدعم صدها لهجمات المستوطنين، بتوفير نشطاء يعتصمون معهم. وحسب محمد كعابنة، المتحدث باسم بادية عين سامية، أنهم قرروا تأمين النساء والأطفال في مكان آخر خوفاً عليهم، وعقدوا اجتماعاً مع هيئة الجدار والاستيطان، ولكن الأخيرة اشترطت عليهم إعادة النساء والأطفال للمنطقة مقابل توفير متضامنين يساندونهم في صدّ اعتداءات المستوطنين، وهو ما رفضه الأهالي. 

خضر سلامة.

يعلق محمد، "يطلبون منا أن نبقى صامدين ويقولون لنا أنتم حراس الأرض.. ويرفضون أن يقدموا لنا شيء". فيما يقول خضر سلامة، "منذ خمس سنوات ونحن نحذرهم من الواقع الذي يفرضه المستوطن ولكنهم تجاهلونا وهم سبب تهجيرنا اليوم".