29 ديسمبر 2023

مقاتلو طولكرم الجدد.. حديث خاصّ لـ"متراس"

<strong>مقاتلو طولكرم الجدد.. حديث خاصّ لـ"متراس"</strong>

صيف العام 2001، طَرَقَ رائد الكرمي باب منزلٍ في مخيّم طولكرم، وطلب رفيقه الصغير جهاد شحادة (عامان) ليأخذه مجدّداً في جولة، هذه المرة لالتقاط الصور في الاستوديو. كان رائد يمازح صديقه مهراج عندما يهاتفه من السجن: "إذا قصفوني وجهاد معي سامحني، بس رح تصير أبو شهيد". إلا أن يقين رائد كان مختلفاً، إذ رأى في هذا الطفل روحَه التي ستنهض يوماً من جديد. وقال مرّةً لوالدته: "بس يكبر رح يصير زي". غادر الكرمي، وصار جهاد "زيّه".1شكّل رائد الكرمي "كتائب الشهيد ثابت ثابت" انتقاماً لاغتيال الدكتور ثابت ثابت، وكانت  النواة الأولى لتأسيس كتائب الأقصى، الذي وصف بكونه قائدها العام. وقد اغتاله الاحتلال في 14 كانون الثاني/يناير 2002. وشكل اغتياله انهياراً للتهدئة التي توصلت إليها السلطة مع الاحتلال. وصعدت حركة فتح من مشاركتها في الانتفاضة إثر ذلك.

لم تأخذ الأمّ سماح كلامَ الكرمي على محمل الجدّ إلا بعد مرور21 عاماً، عندما رأت ابنها جهاد (24 عاماً) قد ورِثَه فعلاً، فأصبح شاباً عنيداً جريئاً مثله، لا يتحصّن وراء المركبات عندما يُطلق النار بل يقف فوقها، تبع خطاه، وحمل سلاحه، وأصبح واحداً من مقاتلي "كتيبة طولكرم للرد السريع". كان جهاد الأسمر النحيل جريحاً مرّةً، وأسيراً مرتين، لكن لم يردعه ذلك عن إكمال دربه، قال جهاد: "أنا بدي استشهد بس مش هسة، بعد ما أجند نص شباب المخيم، عشان لما استشهد يكون في غيري يكمل المشوار". 

ملصق معلق على باب إحدى غرف منزل الشهيد جهاد شحادة. يظهر فيه الشهيد جهاد والشهيد رائد الكرمي، وصورة قديمة تجمعهما. عدسة: شذى حمّاد.
ملصق معلق على باب غرفة جهاد شحادة في منزل العائلة. يظهر فيه الشهيد جهاد والشهيد رائد الكرمي، وصورة قديمة تجمعهما. عدسة: شذى حمّاد.

هذا ما يسعى إليه المُقاتلون الجُدد في طولكرم، أن يستعيدوا موقعَ مدينتهم على خارطة المقاومة، وأن يُأسِّسوا قواعد اشتباك جديدة ودرباً يسير فيه المقاومون جيلاً بعد جيل. لأجل ذلك، شّكلوا كتيبتين، الأولى: كتيبة طولكرم - الرد السريع،  والتي تتخذ من مخيّم طولكرم مركزاً لها، وهي كتيبة تضمّ مقاتلين من فصائل عدة، وكتيبة طولكرم - سرايا القدس والتي تتخذ من مخيّم نور شمس مركزاً لها، وتضم مقاتلي سرايا القدس- الذراع العسكري لحركة الجهاد الإسلامي. 

في الآونة الأخيرة، كثّف مقاتلو الكتيبتين عمليات إطلاق النار باتجاه الحواجز العسكريّة والمستوطنات، وحوّلوا مخيمي طولكرم ونور شمس إلى حصونٍ يحتمون فيها، ويقودون عملياتهم منها، ويصنعون عبواتِهم المتفجرة في أزقتها. وقد جعلوا من اقتحام هذين المخيمين عمليةً صعبةً ومكلفةً لجيش الاحتلال الذي يسعى للقضاء على بذرة المقاومة قبل اشتداد عودها، تحسباً من تحوّلٍ جديد تشهده طولكرم، شبيه بتجربته معها خلال انتفاضة الأقصى، وما يحمله ذلك التحوّل من تهديدٍ لقربها من الأراضي المحتلة عام 1948. 

كتيبة الرد السريع.. رصاص بين البيان الأول والاغتيال

في 22 شباط/ فبراير 2023، قرأ أمير أبو خديجة (24 عاماً) البيان الأول لكتيبة طولكرم الرد السريع وسط المدينة، وحوله عدد قليل من المقاومين. وفي 23 آذار/مارس من العام ذاته، اغتاله الاحتلال، مسابقاً الزمن ومانعاً عنه أي فرصة لإكمال دربه. كان أمير قد سجّل وصيته بمقطع مصور وهو يحمل سلاحه ويرتدي زيّه العسكري وخلفه راية حركة "حماس"، مفتتحاً إياها بالقول: "نويتُ الجهاد في سبيل الله سائلاً الله أن أكون من المدافعين عن دين الحق". بعد شهرين من اغتيال أمير، اغتال الاحتلال سامر صلاح الشافعي، وحمزة جميل خريوش، بعد تنفيذهما عمليات إطلاق نار، كان من بينها إطلاق النار باتجاه مستوطنين من مستوطنة "آفني حيفتس" في 21 نيسان/ أبريل 2023، ردّاً على استشهاد الأسير خضر عدنان. 

اقرؤوا المزيد: "عبد الله الفقير.. خضر عدنان"

لم يقضِ اغتيالُ أمير ورفيقيه سامر وحمزة على الكتيبة، بل شكّل حافزاً لاستمراريتها وانتقالها إلى قلب مخيّم طولكرم حيث سيحمل جهاد شحادة ورفاقه اللواء. بدأت الكتيبة بالتوسع، وباتت جسماً عسكريّاً يضمُّ خليطاً من مقاتلي كتائب شهداء الأقصى، وكتائب عزِّ الدين القسام، وسرايا القدس، وجند الله. 

ملصق يحمل صور الشهداء على حائط في مخيم طولكرم. عدسة: شذى حمّاد.
ملصق يحمل صور الشهداء على حائط في مخيم طولكرم. عدسة: شذى حمّاد.

مقاتلون يُعيرون بعضهم البعض أسلحتهم، ويتقاسمون علبة "الحَب" بالتساوي، وينفّذون عمليات إطلاق النّار سوياً. يَصِفُهم مهراج والد جهاد2أُسر مهراج شحادة (43 عاماً) خلال انتفاضة الأقصى لـ 16 عاماً وذلك بعد تعرضه لمحاولة اغتيال استشهد فيها الشهيد غانم غانم، وكان مهراج ضمن الخلايا العسكرية التي أشرف عليها الشهيد رائد الكرمي. بأنّهم: "مقاتلون حقيقيون لهم عقيدة تتجاوز كلّ التنظيمات، عندهم نَفَسُ مقاتل وجرأة لم نشهدها، وعلى بساطة تنظيمهم إلا أنهم أسسوا لفعل عظيم". وعُرِف عن جهاد ورفاقه تدينهم، فكانوا كثيري التوجه إلى شيوخ المخيّم للسؤال عن الشهيد وكراماته، وعن جواز جمع وقصر الصلوات. وكان عدي الزيات، قائد جند الله، يُكرر: "احنا مش تابعين لأي تنظيم.. احنا عملنا خالص لله". 

وقد جعل هؤلاء المقاومون مستوطنتي نتساني عوز وبيت حيفر، الواقعتين غرب طولكرم، وحواجز جبارة، وعناب، والطيبة، أهدافاً لهم بسلسلة من عمليات إطلاق النار المتكررة، إذ ترى الكتيبة أنّ فعلها يجب ألا يقتصر على صدّ اقتحامات الجيش فحسب، إنما أن تبادر بالهجوم عبر عمليات إطلاق النّار.

النّار التي تتفجّر من الأرض

أما عند الاقتحام، فتحوّل الكتيبةُ أزقةَ المخيّم إلى ميدان اشتباك، إذ زرعت طرقَها بالعبوات المتفجِّرة التي كان مسؤولاً عن صناعتها وزراعتها الشهداءُ رامي الشوملي، ومحمد أبو عنين، وعدي الزيات. وقد بدأ عدي بتصنيعها وتفجيرها، ثمّ توسّع بإعدادها كمّاً وحجماً وتوزيعها على مقاتلي المخيّم مع توسع حالة المقاومة فيه. وسعياً لاتخاذ ما يُمكنها من التدابير الأمنيّة، نصبت الكتيبة "الشوادر" لِتُعيق مراقبة الطائرات الإسرائيلية المُسيّرة، ووضعت الكاميرات في عدد من الأزقة لِتُرَاقب التحركات داخل المخيم. 

وهكذا لم تعد قوات الاحتلال تقتحم مخيّمَ طولكرم إلا وتتقدمها الجرافات العسكريّة والطائرات المُسيّرة المفخّخة. وبالتوازي مع ذلك، كثّفت عملياتها الهادفة لتأليب الحاضنة الشعبيّة على المقاومين، كتدمير البنية التحتية في المخيّم بتجريف شوارعه وتخريب شبكات الصرف الصحيّ وتخريب بعض المحال التجاريّة.

ومثلما كان طريقُ جهاد شبيهاً بطريق معلِّمه الأوّل رائد، كان استشهاده أيضاً، ففي 6 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، استهدفت القوات الخاصّة في جيش الاحتلال المقاوم عزّ الدين رائد عواد، قائد كتائب القسّام في طولكرم، إلا أنه كعادته لم يكن يتحرك إلا برفقة صديقه جهاد شحادة فاستشهدا سوياً، كما قاتلا سوياً. كما استشهد معهما مؤمن بلعاوي، وقاسم محمد، إذ استدرج الاحتلال المقاتلين الأربعة إلى خارج المخيم وأوقعهم في كمين. 

شهدت طولكرم تشييعاً مهيباً للشهداء الأربعة، يشبه إلى حدّ كبير تشييع الشهيد الدكتور ثابت ثابت وتشيع رائد الكرمي. ومثلما أعاد رصاصُ الكتيبة تذكير الكرميين بأمجاد مقاومتهم وتاريخها، ذكّرهم هذا التشييع بدمِّ الشهداء الذين حملوا الأمل في قلوبهم وشقّوا بجهادهم العنيد طريقاً للحريّة رغم ما يحيطهم من واقعٍ معقّد. تقول سماح والدة جهاد: "الكتيبة ما انتهت، تخلق أجيال وأجيال رح تحمل اسم جهاد وتكمل مشوار الكتيبة". 

"زقق الموت" في مخيم طولكرم. عدسة: شذى حمّاد.

أحمد ورامي.. من الحجر إلى M16

كان أحمد سليط (20 عاماً) يُطمئن والدة صديقه جهاد في كل مرةٍ يراها قلقة: "طول ما احنا مع جهاد، مطولين لنستشهد"، واصفاً جهاد بكونه "بشتغل عن عقل"، لم يكن ذلك إلا تعبيراً عن الأمان الذي يشعرونه بكونهم مجموعة واحدة، يحارب مقاتلوها بجانب بعضهم البعض. رغم أنَّ الكتيبة لا تبدو فيها تراتبية واضحة تنظّم عملها، ولا يوجد فيها شخصٌ  مركزي، إذ كان جهاد قائداً لكتائب الأقصى، وأحمد سليط قائداً لسرايا القدس، وكل منهما يقود فصيله تحت مظلة الكتيبة. 

كان خوف أحمد في مكانه، فمع استشهاد صديقه جهاد، اقتربت شهادته ورفاقه الذين أسّسوا الكتيبة سوياً، إذ بعد 16 يوماً، وتحديداً في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر، وجّه الاحتلال ضربةً ثانيةً للكتيبة باغتيال عددٍ آخر من مؤسسيها عبر مُسيّرة مفخّخة خلال اشتباكهم مع قوات الاحتلال في أزقة المخيّم، من بينهم أحمد سليط، إضافةً إلى محمد أبو عنيّن، ورامي الشوملي، وعدي الزيات. تقول فاطمة سليط والدة أحمد: "فخورة فيه، الله يرضى عليه ويهنيه.. أول ما وصلني الخبر سجدت شكر الله، أحمد ذخر النا".  

فاطمة، والدة الشهيد أحمد سليط في منزلها، خلال الحديث مع متراس. عدسة: شذى حماد.

اعتقل أحمد في سجون الاحتلال في تشرين الأول/ أكتوبر 2021 وحُكم لتسعة شهور. تقول والدته فاطمة: "لقّبه الأسرى بعماد عقل، لأنه يُشبهه بالابتسامة والهدوء والأخلاق والتدين". أما فاطمة فتُعرّف ابنها الأصغر بكونه زاهداً في الدنيا لم يسعَ لهدفٍ ماديٍّ فيها، بريء وحنون. "حنون على عائلته وعلى الناس، ولكن شرس على العدو، كان يُطبّق الآية أشداء على الكفار رحماء بينهم". وعُرف عن أحمد تصعيده من عمليات إطلاق النار انخراطاً بمعركة "طوفان الأقصى" والتي شكّلت منحنى جديداً في حياته.

أُصيب أحمد مرتين، وكانت شظايا الرصاص العالقة في بطنه وقدمه تسبّب له الألم اليومي، لكنه رفض إزالتها  "حتى تكون شاهدة عليه أمام الله"، هكذا كان يردّد كلما صرخ من وجعها. ومنذ أن كان عمره 13 عاماً، كان أحمد يشارك في المواجهات التي تندلع في منطقة  مصانع جيشوري، غرب طولكرم، وكان يتلثم خوفاً من أن يعرفه أشقاؤه الأكبر. في هذا العمر أيضاً، أعدّ أحمد وأصدقاؤه ومثّلوا في فيلم قصير سمّوه "العواقب"، يحاكي سعيهم للثأر من الاحتلال بعد أن قَـتل أحد أصدقائهم، وها هو حوّل الفيلم إلى واقع.

أما رامي الشوملي (36 عاماً) فقد كانت طفولتُه شبيهةَ بطفولة أحمد سليط، تختصرها والدتُه فوزية الشوملي بالقول: "رامي انحبس وعمره 17 سنة بعد ما كان مطارد وبدهم يغتالوه، قضى ثلاثة سنوات ونصف وخرج من السجن". كان رامي في طفولته دائم المشاركة في المواجهات فيما تحاول والدته إقناعه بعدم جدوى الحجارة. تتابع فوزية: "لما كبر والتحق بالكتيبة، أقلقت عليه..  بس ما قدرت أحكيله اشي وقتها". 

والدة الشهيد رامي الشوملي في منزلها، خلال الحديث مع متراس. عدسة: شذى حمّاد.
والدة الشهيد رامي الشوملي في منزلها، خلال الحديث مع متراس. عدسة: شذى حمّاد.

كان حلم فوزية أن ترى نجلها رامي عريساً، إلا أنّ رامي كان له حلم آخر: "أنا عاهدت ربي على الشهادة، وأنا ما بدي الدنيا". وفي يوم اغتياله، اعتقلت قوات الاحتلال اثنين من أشقائه محمد وسامي، فحُرِموا من وداعه وحضور جنازته. فيما نُقلت شهادات أسرى محررين للعائلة أنّ ابنيها تعرضّا لضربٍ وتعذيبٍ قاس. ويتهم الاحتلال شقيقه سامي (39 عاماً) بفتح منزله مركزاً للإسعاف خلال اقتحامات الجيش للمخيم.
رامي صاحب صوت عذب في ترتيل القرآن والإنشاد، وقد حفظ ثمانية أجزاء من القرآن خلال اعتقاله. عُرف بالشاب الحنون على أطفال المخيم، الذين يعرفونه جيداً لأنه كان يوقف سيارة البوظة ويشتري ما فيها ويوزعها عليهم. تروي فوزية: "يوم العيد كان يجلس باب الدار ويوزع مصاري على الصغار.. كان يكرر "إلي بفرّح صبي بِفَرِّح نبي". وتضيف: "إلقينا في غرفة رامي قائمة أسماء العائلات الفقيرة الي كان يساعدها".

في صالون استقبال الضيوف، وضعت فوزية حلوى الغْريّبة لتوزيعها على زائريها وخاصّةً طلاب المدارس الذين يزورونها يومياً. تقول فوزية: "بروح واحد بطلع ألف بداله، الجيل الصغير بالمخيم كله رح يطلعوا مقاومين بإذن الله.. كل مرة بقتحم الجيش المخيم بطلعوا هم الخسرانين". 

نور شمس.. الطريق المعبد بالعبوات 

على بعد ثلاثة كيلومترات من مخيّم طولكرم ميدانُ قتالٍ آخر، إنّه مخيّم نور شمس. سلاحه الأبرز العبوات التي تُزرع في كل زقاق فيه، مما جعل اقتحام قوات الاحتلال له مهمةً صعبةً وذلك لشهور طويلة. بدأت المقاومة في مخيّم نور شمس تنتظم أكثر فأكثر في آذار/ مارس 2023 إثر إعلان كتيبة طولكرم - سرايا القدس عن تشكلها استكمالاً للخطوات الأولى التي قطعها الشهيد سيف أبو لبدة، والذي سرعان ما تنبّه له جيش الاحتلال واغتاله على الفور. 

هدوء حذر يسود المخيم في ساعات النهار، لم يعد مسموحاً لأي غريب الدخول دون مُعرِّف، كما يُمنع دخول المركبات. حواجز حديدية تغلق مداخل بعض الأزقة، وسواتر من أكياس رمليّة نُصبت في بعض المحاور، و"شوادر" كبيرة تغطي سماء المخيم، وكاميرات تراقب كل تحرك يدور. هكذا جهز مقاتلو كتيبة طولكرم - سرايا القدس ميدان القتال في مخيمهم. هذا عدا عن العبوات التي فُخّخت بها الأزقة.

في 19 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، علم جيشُ الاحتلال أنّه أمام تجربة جديدة من العبوات المتفجّرة في أزقة المخيم الضيّقة، وخاصة بعد انفجار عبوة بقوّة إسرائيلية خلال إحدى الاقتحامات، أدّت إلى مقتل جنديٍ إسرائيلي من وحدة المستعربين، وإصابة تسعة جنود آخرين. منذ ذلك الحين كثّف جيش الاحتلال اقتحاماته للمخيم مستخدماً الجرافات والطائرات المسيّرة، ومتعمداً تدمير البنية التحتية بشكلٍ واسع. إلا أنه لم ينجح حتى الآن بتوجيه ضربة للكتيبة باغتيال الفاعلين فيها. 

أحد أزقة مخيم نور شمس، وتبدو "الشوادر" تمتد فوقه لتحجب مراقبة الطائرات الإسرائيلية. عدسة: شذى حمّاد.
أحد أزقة مخيم نور شمس، وتبدو "الشوادر" تمتد فوقه لتحجب مراقبة الطائرات الإسرائيلية. عدسة: شذى حمّاد.

أبو شجاع: المخيم سيكون جهنم عليهم!

في إحدى أزقة حارة المنشية التي تشهد أعنف الاشتباكات تصدياً لاقتحامات جيش الاحتلال، كان محمد جابر، المعروف بـ"أبو شجاع" أحد مؤسسي الكتيبة والناطق باسمها، في انتظارنا. هذه واحدة من المقابلات الصحفية القليلة التي يوافق "أبو شجاع" ورفاقه على إجرائها والجلوس مطولاً مع الصحفيين، إذ تعتمد الكتيبة بشكلٍ كبيرٍ على قناتها في تطبيق تلغرام لنشر بياناتها. كان "أبو شجاع" حذراً، واختار أن تكون المقابلة تحت نظر كاميرات المراقبة التي تديرها الكتيبة، كما كان حذراً أيضاً في حديثه وتصريحاته والمعلومات التي يُقدّمها.

في تلك الحارة التي تحمل اسم قرية المنشية، القرية التي هُجّرت بعض عائلات المخيّم منها في النكبة، استنفر مقاتلو الكتيبة لوجود غرباء في المخيم، بدا عليهم القلقُ واضحاً، وحرصوا أن يبقوا محيطين بـ"أبو شجاع"، إذ في الوقت الذي كانت فيه الاقتحامات تشتد على مخيم طولكرم، كان التحريض يتصاعد على مخيم نور شمس، وبات أبو شجاع ورفاقه متيقنين أنّ القتال في المخيم سيشتد. يقول أبو شجاع "يقولون إن مخيم نور شمس أصبح حقل للألغام، ونقول إن المخيم سيكون جهنم لهم". ويضيف: "من كثر ما أوجعهم المقاتلين صاروا يفشوا غلهم بالمدنيين، معظم الشهداء حتى الآن من المدنيين". 

تضم الكتيبة في نور شمس مقاتلين شباب تتراوح أعمارهم بين 17-27 عاماً، معظمهم من الأسرى السابقين في سجون الاحتلال، وهم موزعون على عدة وحدات تتشكل منها الكتيبة: وحدة المراقبة والرصد، ووحدة الهندسة المسؤولة عن تصنيع العبوات، ووحدة العساكر وهم الذين يحملون السلاح ويشتبكون مع جيش الاحتلال. يُعلّق أبو شجاع الذي ودّع شقيقه محمود شهيداً في 16 كانون الأول/ ديسمبر: "صحيح كلنا طالبين الشهادة، ولكن بعد أن نُوجِعهم وبعد أن نأسس حالة تكمل الدرب بعدنا، ولهذا كانت العبوات أساس في عملنا".

أحد المقاتلين في مخيم نور شمس، ويظهر على الحائط ملصق يحمل صورة الشهيد أحمد سليط.

 لا يقاتل أبناء الكتيبة من أجل مخيمهم فحسب، وإنما لتحرير فلسطين، هذا الهدف الذي يستعيده المقاتلون اليوم بعد معركة طوفان الأقصى. يقول أبو شجاع إنّ كلَّ دمِّ تُضحي به الكتيبة هدفه التأسيس للأجيال القادمة التي ستستلم المهمة وتقود التحرير. ويقول أبو شجاع: "احنا بنجاهد عن عقيدة ووعي، لأنه حربنا معهم مش طخ، حربنا وعي، وهذا ما أثبتته معركة طوفان الأقصى". 

خلال المقابلة انشغلت إحدى نساء الحارة بضيافة المقاتلين وضيوفهم، مرة قهوة، ومرة شاي، ومرة بسكوت. يُشير إليها أبو شجاع بكونها "واحدة من خنساوات المخيم"، إذ لها ابن أسير وابنان مطاردان، إلا أنها في 17 كانون الأول\ديسمبر، أصبحت أم شهيد أيضاً. تقول هنادي شحادة، والدة الشهيد غيث، "بعيوني هدول، كلهم ولادي". تضيف هنادي: "بعزّ علينا ولادنا، هدول روحنا في الدنيا، بس بالمقابل بدهم حياة كريمة، ولهيك راحوا طريق الجهاد .. وأنا عندي إيمان بالله، وإيمان بقضيتنا.. ومؤمنة أنه ولادنا بعملوا بأمر ربنا".  

أما "ماريو" (19 عاماً) أحد مقاتلي الكتيبة، فهو مطارد منذ سنتين على خلفية تصنيع وإلقاء العبوات، قبل مطاردته كان حلمه أن يؤدي العمرة ولكن الاحتلال منعه من السفر كونه أسير سابق، واليوم أصبح حلمه أن يصل مدينة نابلس أو مدينة رام الله. يعلق: "مش قادر أعمل عمرة، وما بقدر أطلع من طولكرم من الحواجز.. ليش عايشين احنا، لهيك بدنا نقاتل، حياة كريمة أو بلاش". 

ألصق "ماريو" على مخزن سلاحه صورة صديقه الشهيد أسامة أبو نهار الذي ارتقى خلال اقتحام المخيم في 20 تشرين الأول/ أكتوبر. وكان أسامة أول شهداء الكتيبة، وهو أحد مهندسي العبوات فيها. يقول ماريو: "أسامة كان مهندس، يصنع ويزرع العبوات، وكان من أشرس الشباب، وشهادته ما كانت ببلاش هو راح بعد ما أوجعهم". ويضيف عن صديقه: "كل المخيم بحب أسامة، لأنه ربنا كان يحبه، كان يصلي ويقيم الليل ويقرأ القرآن".

السلطة لا تتكاسل عن دورها

أمام ما حققته المتاريس والعبوات المتفجّرة من دورٍ في التصدي المستمر لاقتحامات قوات الاحتلال لمخيمي نور شمس وطولكرم، سارعت الأجهزة الأمنيّة التابعة للسلطة الفلسطينيّة إلى اتخاذ إجراءات لإزالتها. ففي 30 آب/ أغسطس الماضي، استشهد عبد أبو عقل (22 عاماً) برصاص الأجهزة الأمنية، خلال مواجهات اندلعت في مخيم طولكرم رفضاً لقيام الأخيرة بإزالة المتاريس. سبقها في 11 حزيران/يونيو اندلاع مواجهات بين شباب مخيّم نور شمس والأجهزة الأمنيّة رفضاً لإزالة الأخيرة متاريس وضعتها الكتيبة في الشارع الرئيس المحاذي للمخيم وعلى مداخله. 

لم يقتصر الأمر على ذلك، إذ لاحقت أجهزة السلطة مقاتلي الكتيبتين في بداية تشكلهما، يُذكر من ذلك محاولتها مراراً اعتقال الشهيد أمير أبو خديجة، واقتحام منزل الشهيد سيف أبو لبدة وملاحقة أشقائه، إضافةً لنصبها الحواجز تزامناً مع تشييع الشهداء ومحاولة اعتقال المقاتلين واستفزازهم. يعلق أبو شجاع: "في إحدى المرات منعونا الوصول إلى تشييع شهيد، كنا مسلحين وكان بإمكاننا الاشتباك معهم، ولكننا قررنا أن الرد سيكون على نقطة عسكرية لجيش الاحتلال لنوصل لهم رسالة أن عدونا واضح". 

أحد العوائق التي يضعها المقاتلون في شوارع مخيم نور شمس لإعاقة تقدم قوات الاحتلال. عدسة: شذى حمّاد.

المعنى الذي جذّره الطوفان

لم يأتِ تشكّل كتيبة طولكرم الرد السريع، وكتيبة طولكرم - سرايا القدس من فراغ، وإنما كان جزءاً وامتداداً للحالة الأوسع التي يشهدها شمال الضفّة الغربية منذ عامين، بما فيها ظهور عدد من المجموعات العسكرية، والتحول الذي شهدته عمليات المقاومة وتركزها على إطلاق النار. وإن كان يُنظر إلى كل منطقة بمعزل عن الأخرى انعكاساً للواقع الاستيطاني وتفتيت الضفة، إلا أن الصورة الأدق تظهر بؤرةَ المقاومة كوحدةٍ واحدة تتوسع وتتجذر وتؤسِّس لمرحلةٍ جديدة. 

ورغم محاولات جيش الاحتلال التعامل مع كل حالة على حدة، ومحاولة سبق المقاتلين بخطوة عبر عمليات الاغتيال السريعة والمبكّرة بهدف القضاء الفوريّ على المجموعة المسلّحة، إلا أن طولكرم كانت عصية على هذه السياسة، إذ نبّهت عمليات الاغتيال الأولى الشباب للحالة التي تتأسس وكأنها كانت دعوة لهم للانضمام، وهو ما انعكس على حالة الكتيبتين من استمرارٍ وتوسع. 

بإمكانياتهم المحدودة وصدق نواياهم، كان المقاومون يقاتلون وهم يرون فلسطين بعيدةً عنهم وصعبة المنال. فكان هدفهم من قتالهم الصمود والثبات. إلا أنّ معركة طوفان الأقصى أضفت معنىً إضافياً على مقاومتهم، وأصبحت "إسرائيل" الوهم الذي يمكن هزيمته، وأصبحوا لا يرون الجيش إلا "جباناً". هذا التحول بالوعي الذي حفره الطوفان، يبدو أنه سينقل المجموعات العسكرية لمرحلة جديدة، ستكون أشد بأساً.