15 مايو 2019

اللجوء الفلسطينيّ الجديد

أفق في بطن السّواد

أفق في بطن السّواد

قضيّة فلسطين هي قضيّة اللجوء ومطلب العودة إلى البلاد. هذا هو الجوهر. وكلُّ ابتعادٍ عن هذا الجوهر، في الممارسة السياسيّة والفكر السياسيّ، هو تعميقٌ لمأساة وبؤس كلّ إنسان فلسطينيّ أينما سكن قهره؛ في غزّة أو برلين، في الناصرة أو نهر البارد، في القدس أو النقب.

ليس في هذا أيّ إسرافٍ في الجذريّة ولا اعتزال للواقعيّة السياسيّة. فقد بحَّ صوت الواقعيّة السياسيّة من فرط ما زعقت في أذن القيادة الفلسطينيّة الصمّاء بأن وجود الصهيونيّة –سياسةً وعسكراً ومجتمعاً- لم يكن ولن يكون ممكناً في أيّ مرحلةٍ من المراحل، إلا من خلال مواصلة تدمير وإخضاع الشّعب الفلسطينيّ. بمعنى آخر، إنّ استمرار القتل والتهجير كان الشرط الأساس في قيام "إسرائيل"، وهو الشرط الأساس في استمرارها. هذا هو الواقع.

إنّ قضية اللجوء هي المفصل الوحيد الذي ينفي ويتحدّى، بتعريفه الأساسي لا بخياراته، الأيديولوجيا الصهيونيّة وطبيعة الوجود الاستعماريّ في فلسطين. بكلماتٍ أخرى، هي القضيّة التي تُعرّف "وجود إسرائيل" من عدمه. وبما أنّ محو كلّ ما هو غير يهودي هو الفعل الأيديولوجيّ الكامن في أساس الوجود الصهيونيّ، فإنّ مطلب العودة هو النقيض الأيديولوجيّ، الجوهريّ والوجوديّ، الوحيد للصهيونيّة. العودة هي الإمكانيّة الوحيدة الواقعيّة لإنهاء مأساة الشعب الفلسطينيّ في كلّ أماكن تواجده، لا المساواة "الكاملة" في إطار المواطنة الإسرائيليّة، ولا إقامة دولة فلسطينيّة تتعايش مع "إسرائيل"، ولا غيرها.

من الأيديولوجيا إلى الجغرافيا

لا مجال للشكّ في أن تدهور القضيّة الفلسطينيّة إلى الحضيض الذي نعيشه في هذه الأيّام، يقع على موازاةٍ تامّة مع انحدار مكانة اللاجئين في صياغة العمل والفكر السياسيّين الفلسطينيّين، وانحسار العمل والفكر في التصوّر الجغرافيّ لقضيّة فلسطين. وهو تقهقر من رؤيا أيديولوجيّة تقاوم الاستعمار كونه استعماراً، والعنصريّة كونها عنصريّة، إلى أضيق مفاهيم السيطرة الجغرافيّة على الأرض القادرة على التعايش مع هذا الاستعمار.

شهدنا هذا التحوّل الخطير الذي أعاد صياغة قضيّة فلسطين من جديد خلال العقود الأربعة الأخيرة. كان الخروج من بيروت طلقة البدء في هذا التحوّل الذي استحوذ على منطق القيادة الفلسطينيّة. لاحقاً، وبعد الانتفاضة الأولى، جاءت اتفاقية أوسلو لتشكّل ذروة هذا التحوّل وعلامة على تثبيته على الأرض، تلك الاتفاقية التي لم يكن لها، بالنسبة للقيادة الفلسطينيّة، أيّ ماهيةٍ أخرى غير التواجد في جغرافيا فلسطين بعد استئصالٍ طال قواعدَها بين اللاجئين.

في المقابل، لم تعمل القيادة الفلسطينيّة على إعادة بناء تواجدها السياسيّ في مخيمات اللجوء، فاختارت أن تتجاوز بؤس حالتها بواسطة الخيار الجغرافيّ. ذلك الخيار الذي أعاد تكوين الخطاب الفلسطينيّ على أساس "السيادة" ونوعيّة السيادة، والحدود وموقع هذه الحدود، أي إنشاء "كيان سياسي" على "أي" بقعة جغرافيّة ممكنة، كخطوة قيل إنّها "مرحلية". عدا عن أن في جوهر اتفاقية أوسلو، أي إقامة دولة على حدود ما تيسر من أراضي الـ67، ما ينفي عملياً اللاجئين وقضيتهم، فأين سيعود لاجئو الـ48 مثلاً؟ عدا عن كون مناطق الـ67 نفسها حاضنة لأكبر تجمعات اللاجئين، وبالذات غزّة، فهل يعني أن هؤلاء لن يعودوا كذلك؟ يبدو أنه من نقطة ذلك التحول لم تعد القيادة الفلسطينية قادرة على الرجوع عن هذا الخطاب.

أما الانتفاضة الثانية، فرغم جبروتها في تحدّي المنظومة العسكريّة الصهيونيّة، فقد راكمت على فهمٍ مشوّه لسياسة أوسلو الجغرافيّة، وكانت ابنة أجهزةٍ وتنظيمات انحصر فعلها في الضفّة والقطاع بينما شكّل الداخل الفلسطينيّ أهمّ "عُمقٍ" ممكن للفعل المقاوِم، بدلًا من التفكير بأوسع "مدى" ممكن للفعل المقاوم؛ اللجوء.

في المقابل، لم يكن اللجوء (الذي صار الآن يُسمى "الخارج") أكثر من مصدر تمويلٍ ودعمٍ للانتفاضة الثانية. وعندما سُحقت الانتفاضة، تمّ ذلك على سكّة السيادة والحدود والجغرافيا؛ كلّ إجراءات وتدابير قمع الانتفاضة ووأد إمكانيّة بعثها، كلّها، تجسّدت من خلال سياسات إقامة الدولة الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة. وأهمّ ما أحدثته هذه التدابير هو إقامة منظومة مراقبة شاملة لقطع أي علاقة دعم بين "الخارج" والداخل، والعزل التام للعمل الوطنيّ داخل الجغرافيا التي تُحكم "إسرائيل" السيطرة عليها. ومن كان يعتقد أن التدهور نحو العزلة الجغرافيّة سيتوقّف عند هذا الحدّ، جاءته الخلافات الداخليّة الفلسطينية لتؤسس عُزلات جغرافيّة مختلفة، وشكلاً منقوصاً من السيادة بدرجات مختلفة على أنواع حدودٍ مختلفة.

وبينما تدهسنا هذه الصيرورة التاريخيّة المتأرجحة، فنزهو ببعث الانتفاضة الأولى، ثم يأكلنا الأسى في أوسلو فنتيه بعظمة الانتفاضة الثانية، ثم ينهشنا الخلاف الفلسطيني الداخليّ، ثم نفخر بصمود غزّة (وهكذا إلى أجلٍ غير معلوم)... وبينما يحكم هذه الصيرورة إعلامٌ يُلاحق "تطوّر الاحداث"، تملؤه تصريحات قيادة تنجرّ وراء خيوط الفُتات الإسرائيليّ بينما هي مقتنعة بمواهبها التكتيكيّة الفذّة، وبينما يُشبّع هذا كلّه ببدعٍ نظريّة من رحم الأكاديميّة المتهيّجة للتجديد العلميّ واللّحاق بركب المنظومة الدوليّة، يُصبح اللاجئون -باسم الواقعيّة السياسيّة- مجرّد خلفيّة تاريخيّة للقضيّة، مهمّشةً وممحيّةً وغائبة.

هكذا، أصبح التمسّك بمركزيّة اللجوء، بالنسبة للمجال السياسيّ والفكريّ والمجتمعي داخل فلسطين، ترفاً وترفّعاً عن "الواقع" الذي يعاني منه الناس داخل الوطن. إلا أنّ الحقيقة أن اللاجئين هم أغلبيّة الشعب الفلسطينيّ، وعلاوةً على مكانة اللجوء الجذريّة والأيديولوجيّة، فهي أيضاً الواقع الذي يعاني منه الناس، الأكثر إلحاحاً وضرورةً وخطورةً؛ قضيّة اللاجئين، أغلبيّة الشعب الفلسطينيّ، لا تزال قضيّة جوع وموت وقهر وكوارث اجتماعيّة وإنسانيّة، لا تزال قضيّة تعليمٍ وصحّة ورفاه اجتماعيّ وأمن غذائيّ ومائيّ، لا تزال قضيّة ملاحقة أنظمة عنصريّة ودكتاتوريّة تحاصر وتفتك بالمخيمات وتنتهك حقوق الناس وتعذّبهم بشتّى الطرق الوحشيّة العنيفة أو البطيئة. والأهم أنّها قضيّة أخوتنا وأولادنا وأهلنا الذين أدارت حركة التحرّر الوطنيّ لهم ظهرها وظلّوا دون تمثيل سياسيّ، ودون تنظيم، ودون ثقل لمقاومة الأذى، ودون أملٍ ودون أفقٍ، وقد نسي معظمنا -في القدس وحيفا وغزّة ورام الله- أن شعار التمسّك بحق العودة، بات أوهن من قشّةٍ يتمسّك بها لاجئ يغرق في البحر المتوسّط هرباً من موتٍ جديد.

من أوروبا حتى استراليا

هذه مواصفات الحالة السياسيّة التي عاشها اللجوء الفلسطينيّ، وفوق كلّ هذا داهمته تحوّلات الوطن العربيّ الكبرى في العقدين الأخيرين. بدءاً من غزو العراق وصولاً إلى الربيع العربيّ والثورة السوريّة وما تبعها من حروبٍ أهليّة، مروراً بأحداثٍ داميةٍ شهدتها المخيّمات اللبنانيّة كانت ذروتها في مخيّم نهر البارد عام 2007. كل هذه الأهوال وقعت دون أن تتوقّف المعاناة الصامتة التي يواجهّا كلّ فلسطينيّ في الشتات تحت وطأة التمييز العنصريّ والحصار وتضييق الخناق. وهي كلّها مجتمعةً ولّدت ضغوطات وقد أدّت لتغييرات قسريّة جذريّة على مستوى البنية الاجتماعيّة. ومع اشتداد القتل والاعتقال والتشريد، لم يكن أمام عشرات آلاف اللاجئين الفلسطينيين إلا الوقوف على حافّة لجوءٍ جديدٍ في العالم كلّه، من أوروبا مروراً بتايلاند حتى أستراليا.


لنأخذ سوريا وحال اللاجئين الفلسطينيين فيها. عاش في سوريا قُبيل عام 2011 أكثر من نصف مليون لاجئ فلسطينيّ، هُجّر منهم مجدداً بعد اندلاع الثورة أكثر من 160 ألف فلسطينيّ وصلوا بغالبيّتهم إلى أوروبّا وتركيّا. أما من ظلّوا لاجئين في سوريا رغم الحرب، فقد قُتل منهم أكثر من 3900 إنسان، وهُجّر 60 بالمئة منهم إلى مناطق أخرى فيها، بينما يعيش 95% منهم "بأمس حاجةٍ للمساعدة الانسانيّة المستدامة" وذلك بحسب وكالة غوث اللاجئين – الأونروا.

وكما انصبّت هذه الكارثة على اللاجئين أفراداً ومجتمعاً، وهم الأهم، فقد دمّرت أيضاً التعبير المادّي والعمرانيّ عن وحدة اللجوء وحالته الاجتماعيّة والسياسيّة – دمّرت المخيّمات. مخيّم اليرموك مثلاً، والذي سُمي "عاصمة الشتات الفلسطينيّ" بعد أن كان مقراً أساسياً للنشاط الثقافيّ والسياسيّة للفلسطينيين، لم يبق من بين 144 ألف لاجئٍ كانوا فيه إلّا ما يقارب الـ6 آلاف لاجىء، بينما هُدمت 80% من بيوته.

الوقائع الغريبة في اختفاء 300 ألف إنسان ضربةً واحدة

شهدت لبنان تفكيكاً للمخيّم كذلك، وهي الشقيقة "السبّاقة" في انتهاك حقوق الفلسطينيين وتضييق الخناق عليهم ومنعهم من مزاولة المهن والامتلاك وما إلى ذلك. فبعض المخيّمات هُدم في خضمّ أحداثٍ داميّة، وبعضها ظلّ على شكله إنما جرت فيه تبدّلات ديمغرافيّة واجتماعيّة نتيجة الفقر المدقع وتهميش فئات واسعة من مسحوقي لبنان، عدا عن معدلات اللجوء المتزايدة إلى أوروبا، والبيوت المهجورة أو المعروضة للبيع في المخيمات. وهو ما أفقد المخيّم تماسكه الاجتماعيّ فوق تفكك الدور السياسيّ.

أما الكارثة الأكبر، فتأتي من دوائر الإحصاء؛ بينما تُفيد الأونروا بأن عدد اللاجئين يُقارب 450 ألف لاجئ فلسطينيّ في لبنان، يُفيد إحصاء أجري بتعاون بين السلطة الفلسطينيّة والحكومة اللبنانيّة بوجود 174 ألف لاجئ فقط. وبمعزلٍ عن الرقم الصحيح، وعن التفسير المنطقيّ الذي يقول بأن غالبيّة اللاجئين الفلسطينيين لجأوا من لبنان إلى أوروبا بسبب الظروف المعيشيّة، إلا أن "اختفاء" ما يقارب 300 ألف إنسان من المعطيات الرسميّة بهذه السهولة والتفاهة، ليس إلا دليلاً على ظروف التهميش والإهمال والإقصاء الفاجعة التي عاشها ويعيشها لاجئو لبنان بالنسبة للسلطات اللبنانيّة كما للسلطة الفلسطينيّة.

ينشأ واقع "اللجوء الجديد" من قلب هذه الأهوال، ورحلات الهجيج الجديد في عرض البحر هي سير مأساة قائمة بحدّ ذاتها. والحقيقة أنّ الصورة لا تكتمل دون ذكر اللجوء المستمر من قلب فلسطين أيضاً إلى الغرب، والذي يُفهم عادةً باعتباره هجرةً من البلاد، فمثلاً أدّت الكارثة الإنسانيّة والحروب المتواصلة على قطاع غزّة إلى لجوء أكثر من 20 ألف إنسان منذ العام 2014. كما أنتجت سياسات الإفقار وتضييق الخناق وتحديد الحركة والملاحقة في الضفّة الغربيّة كما في الداخل حركة هجرة -وإن كانت محدودة- إلى الغرب تنسجم كلّها في تشكّل هذا الواقع الجديد.

واقع جديد يزداد سواداً بفعل المفاهيم القديمة

خلّفت موجات اللجوء الجديدة هذه واقعاً جديداً خارج فلسطين عموماً وفي الدول الغربيّة تحديداً. هو واقعٌ يتصعّد فيه التشتّت بسبب انحلال الروابط العائليّة والمحليّة التي جمعت جمهور اللاجئين، ومعها تآكل المؤسسة السياسيّة والثقافيّة حدّ الاندثار، وهي جميعها أدّت إلى انهيار التماسك الاجتماعيّ لهذه الجماهير. لكنّ ما يُضخّم ويهوّل هذه الأزمة ويصوّرها كنهاية لقضيّة اللجوء الفلسطينيّ لا يرتبط بالظروف الموضوعيّة لهذا الواقع، بقدر ما هو مرتبط بمفاهيم اللجوء المتجذّرة في العمل السياسيّ والفكر السياسيّ الفلسطينيّ.

أولاً، يأخذ واقع اللجوء الجديد خطورةً استثنائيّة بسبب اعتماد السياسة الفلسطينيّة، تاريخياً، على القانون الدوليّ وقرارات الأمم المتّحدة وما يُسمّى "الشرعيّة الدوليّة" فيما يخصّ حقّ اللاجئين بالعودة، وهوس التمسّك بالقرار 194، والقرار 242، ومن ثم تأسيس الأونروا بقرار 302، وهي المنظّمة التي باتت تُمسك بزمام قدرَ اللاجئين وتسلّمت مفاتيح إدارة حياتهم، والتي أصبحت مؤخراً رهينة الدعم الأميركي المقطوع.

ومن قلب هذا الانسياق التام وراء الفهم الحقوقيّ الدوليّ للعودة، كان الاحتفاظ بصفة اللجوء الرسميّة هاجساً فلسطينيّاً تكبّد اللاجئون معاناةً هائلة تمسّكاً به ورفضاً للتوطين والتجنيس بصفته بديلاً عن حق العودة. وفي هذا السياق، استغلت بعضُ الأنظمة العربيّة قضية الخوف من التوطين كأداة للتمييز ضدّ اللاجئين الفلسطينيين، فلم يعد رفض التوطين عند هذه الأنظمة نابعاً من الرغبة بتعزيز صمودهم بما يشمل تحسين ظروفهم، بل هو رفضٌ نابع من عدم الرغبة في وجود الفلسطيني عندهم، دون أن يكون لهم موقف مبدئي من قضية التوطين.

أما حركة التحرّر الوطنيّ الفلسطينيّ فلم تطرح في أيّ مرحلةٍ من المراحل صياغةً مختلفةً لمفهوم اللجوء وتنظيمه الاجتماعيّ الشامل والمستقل عن المنظومة الدوليّة. أما اليوم، فإن ما يجعل اللجوء الجديد يظهر بهيئة تصفية نهائيّة لقضيّة اللاجئين، فهو السعي الإسرائيليّ والأمريكيّ لمحو تميّز اللجوء الفلسطينيّ من منظومة الشرعيّة الدوليّة، من خلال تذويب هذا اللجوء وخاصيّاته في قضيّة والهجرة العامّة في العالم، خاصةً في الوقت الذي يسعى فيه الفلسطينيّون في الدول الغربيّة إلى تحصيل جنسيّات الدول لتمكين حياتهم وحياة أولادهم.

ثانياً، تشكّلت مخيّمات اللجوء على استرداد ما أهلكته النكبة من روابط اجتماعيّة تقليديّة. وغلب، بشكلٍ طبيعيّ، التصوّر القرويّ على تشكّل المخيّمات ومجتمعاتها، ومن ثم تقدّست الروابط العائليّة من باب توارث الأمل بالعودة. وبما يحاكي القانون الدوليّ، فقد اشتُرط الحقّ السياسيّ، بطبيعة الحال، برابط الدم والعائلة. ثم أعادت هذه الروابط إنتاج ذاتها ضمن الانتماءات الفصائليّة التي لم ينقصها التعصّب. ولسوء حظ منظّمة التحرير فإن الزمن يمشي أحياناً، والعالم يتغيّر أحياناً، ويحدث أن ندخل صدفةً في القرن الواحد والعشرين بكل ما يحمله من صفاتٍ من النافل التوقّف عندها.

حصل هذا دون أن تؤسس حركة التحرّر الوطنيّ أي وسائل تنظيم وإدارة لحصر أبناء شعبها وتسجيلهم والاتصال بهم، والأهم أنها لم تؤسس أطراً اجتماعيّة مدنيّة. قصرت فصائل منظمّة التحرير عن أداء هذا الدور إما بسبب الحرب التي شنّتها "إسرائيل" والأنظمة العربيّة مراراً، وإما بسبب الإخفاقات والأعطاب والفساد الذي لطالما نخر المنظّمة.

أفق في بطن السواد

يُمكن النظر بعين اليأس إلى حال اللجوء الفلسطينيّ الجديد، ولن يكون ذلك مجرّد سوداويّة، فالظروف الموضوعيّة قاتمة بالفعل، واللجوء الفلسطيني آخذ بالتوسّع على خارطة العالم الكبير دون أي جامعٍ سياسيّ، بل إنّ الاندماج الاجتماعيّ في الشعوب الأوروبيّة بات يُصوَّر في مواضع كثيرة كتنازل وبديل عن حلم العودة كحقٍ سياسيّ، وهو ليس كذلك بالضرورة، فاللاجئون إنما يُحركهم تحسين ظروف حياتهم الاجتماعية والاقتصاديّة، ولا يعني ذلك تخليهم عن حقّهم في العودة.

من ناحية ثانية، لا يبدو في المدى المنظور أن أي قيادة فلسطينيّة تنوي الالتفات إلى هذه الأزمة الجوهريّة بعيداً عن الشعارات والتصريحات، أو الخروج من دائرة الجغرافيا الضيّقة نحو استعادة خطابٍ تحرّري شاملٍ يناهض الاستعمار الصهيونيّ. لكنّ ذلك لا يعني أن هذه الظروف لا تحمل في داخلها ما يتيح آفاقاً جديدة لتنظيم اللجوء.

فإن اللجوء الجديد، خاصةً في مقابل المأزق الذي نعيشه داخل فلسطين، لا يزال مشهداً يُتاح فيه العمل السياسيّ خارج الثنائيّات المتحجّرة والأطر التقليديّة المتآكلة ودون خضوعٍ لخطابٍ قابل بالوجود الإسرائيليّ. قد يكون اللجوء الجديد مجالاً متاحاً للقاء الشباب الفلسطينيّ الذي قسّمته لعقود طويلة الحدود بين الداخل الفلسطينيّ والدول العربيّة، ولإعادة تشكيل لغة سياسيّة جامعة تتفوّق على التمزّق المفاهيميّ في داخل فلسطين. وتشكيل أطرٍ عمل سياسيّ مرنة ومنفتحة على القضايا الاجتماعيّة المحيطة بها، وهي قضايا تُعيد للقضيّة الفلسطينيّة بُعدها الأيديولوجيّ التحرّريّ – من قضايا تمييز عنصريّ، وحركات طلّابيّة ونقابيّة ومناهضة للرأسماليّة- وتعزيز البُعد الأمميّ كبيئة طبيعيّة للنضال الفلسطينيّ، بعكس هوس المؤسسة الفلسطينيّة التقليديّة بالهيئات الدبلوماسيّة والدوليّة التي يظهرون بها بأشكالٍ شديدة الإحراج أمام أخطبوط اللوبي الصهيونيّ.

يُمكن، ويجب، استغلال محدوديّة القمع الحكوميّ في الدول الغربيّة من أجل تشكيل حركة جماهيريّة وشبكات تضامن اجتماعيّ وثقافيّ وسياسيّ، لا تُعنى بحفظ هويّاتي للفلسطينيين فحسب، وإنما تُعنى كذلك بتسييس الانتماء لفلسطين كقضيّة تحرّريّة تستعيد مركزها عالميّاً، وتساهم في تشكيل خطاب فلسطينيّ جامع يعود للأسس الأولى، وتكون نموذجاً ومثالاً يُحاكي آلام المجموعات والشعوب المقموعة، ولا يتواطأ مع أنظمةٍ، ولا يلعب في دوائر المصالح الضيّقة. والأهم – أن يكون متحرّراً من أي خضوعٍ للخطابات "المرحليّة" والسبات الفكريّ والانعزال الجغرافيّ. وأن يمتلك القدرة الكاملة بأن يحكي عن فلسطين – قضيّة اللجوء، ومطلب العودة إلى البلاد.