يوجد عرفٌ معتاد -وربّما غير ملاحظ- في أيّ نقاش يدور حول مستجدّات "جامعة بيرزيت" وتغيّراتها، ألا وهو تحديد مدى "جدّية جدرانها". لهذا الأمر وجهتا نظر: الأولى تفهمُ الجامعةَ كحيّزٍ ينفتحُ أمام العالم على الدوام ويتقلّب ضمنه، وأخرى تؤكّد على خصوصية الجامعة المُطلَقَة وتقفُ مع الجدران. لسنا مع الأولى تماماً، فـ"بيرزيت" تختلفُ عن الجامعات الفلسطينية الأخرى فيما يتعلّق بالموقف من السلطة الفلسطينية مثلاً، ومن قضايا الشارع الفلسطيني؛ موقفٌ حافَظَ دائماً على استمرار الانتخابات رغم غيابها خارج أسوار الجامعة.
من جهةٍ أخرى، يجعلنا الانصهار في وجهة النظر الأولى نُغفل الكثير من التفاصيل التي ترافق آلية ضمّ الجامعات إلى النسيج السياسيّ والاقتصاديّ؛ الضمّ الذي يُدرك خصوصيّة الجامعة ودورها، أي بناء وتخريج طلبة يعيدون إنتاج هذا النسيج.
وسط كلّ هذا، لا تخلو الجامعة من شواهد عينيّة على التغيّرات التي تطرأ عليها، ويمكن، ببعض الحذر، ربطها بالسياسات الاقتصادية الجديدة التي حملها رئيس الوزراء الفلسطيني السّابق سلام فياض، والتي قوربت اصطلاحاً على أنّها مشروعٌ "نيوليبرالي"، مع الانتباه إلى أنّ هذا الوصف لا يطابق تماماً السياق الاقتصادي والسياسي في فلسطين. لكن، ضمن روح تلك السياسات النيوليبرالية، يمكن رؤية برنامج "مساري"، الذي يتفكّك على شاكلة مشروعات صغيرة، تجاوزت فهم الجامعة كمساحة للاستثمار، إلى فهم مكوّنها الطلابيّ كاستثمار.
يشمل "برنامج القيادة والمواطنة الفاعلة - مساري" الذي انطلق بداية العام الدراسيّ الفائت (2017-2018) جميع الطلبة الجُدد ابتداءً من الدُفعة الجامعيّة للعام ذاته. تُعرِّفه الجامعةُ عبر موقعها الإلكتروني بالقول: "هو رحلة تعلّم تفاعليّة تقوم جامعة بيرزيت على تطويرها وتصميمها وتنفيذها لتستهدف طلبة السنة الأولى في كافة التخصصات. تستمر رحلة التعلم لمدة 3 سنوات دراسية يمرّ عبرها الطالب بست محطات تعلم هي: المسار المهني والكفاءات الشخصية والمواطنة ومهارات المناظرة والريادة".
على ذكر الرحلات يبدو أن الجامعة تخوض ذات الرحلة التي تخوضها أغلب دول المنطقة بهدف الوصول إلى التنمية المستدامة (التعبير الذي تستخدمه الجامعة في عرض أهداف المشروع). وللرحلة ميّزة تُذكَر على الدوام: استقلاليتها، فرغم التشابه من ناحية المحتوى مع الدَرْبِ الأوروبيّ أو الأميركيّ، إلّا أنّ ركاب المركبة من أهل البلاد. انطلاقاً من هذه الميزات، يرى برنامج كـ"مساري" أحقّيته في أن يكون إلزاميّاً لكلّ الطلبة، وأن يدفع الطلبة مقابله رسوم اشتراك (25 ديناراً للفصل) رغم تمويله من "بنك القاهرة عمّان".
"مساري".. ارتباكُ ياءِ المِلكيّة
تتحدّث الجامعة في إحدى فيديوهاتها الكثيرة عن "مساري" بالقول إنّ "الاسم اختير ليكون حافزاً للطلبة للبدء برسم مسار حياتهم منذ اليوم الأول لهم في الجامعة".
يبدو أن تعبير "مسار حياتهم" -حسب فهم مُرَوّجي البرنامج- رديفٌ "لمسار مهنيِّ" إحدى أهمّ محطّات البرنامج (وهو بالمناسبة المحطّة الوحيدة التي تأخذ تسمية "مسار"). يظهر أنّ الجامعة أحبّت تسمية "مساري"، لتستخدم ذات التسمية في بوابة مساري الإلكترونية، التي تُـقـدِّم نفسَها للشركات والمؤسسات المشغلّة على أنّها "توفّر إمكانية الوصول إلى قاعدة ضخمة من رأس المال البشريّ، التي تضمّ أكثر من 10,000 من طلاب وخريجي "جامعة بيرزيت" من أكثر من 60 تخصّصاً رئيسياً وفرعياً". هذا الاقتباس ينفي صفة الادّعاء عن القول: إنّ البرنامج ما هو إلا مساهمة في خلق أفراد يفكّرون ويعملون بمنطق السوق، وينظرون إلى أنفسهم كرأسمال بشري، أو بالأحرى "كمشروعٍ تجاري".
في مسمّى "مساري" إحالة إلى ملكيّة الطالبِ للمسار. إحالةٌ، على الرغم من كونها "ضبابية" من حيث تغييبها لدور الجامعة والبرنامج في تحديد ورسم خيارات الطلبة، إلّا أنها مرتبطة بـ"عملية إخضاع فعّالة الأثر، لأنها تظهر وكأنها تنبع من سعي الذات المستقلّ، وتبدو كعملية سعيٍّ للحرية". تستخدم هذه العملية أدوات وتكنولوجيات الذات "التي يمارس من خلالها الأشخاص القوّة على أنفسهم" (من محاضرة لـ لينا ميعاري، تكنولوجيات الليبرالية الجديدة لتشكيل الذوات: نظام التعليم الجامعي كنموذج)، وإذا كانت الياء هي ياء الملكية فهذا يعني أنك مسؤول عن مسارك، وتعود أسباب إشكاليةٍ من قبيل أن تصبح عاطلاً عن العمل، ذنبكَ الشخصيّ، لا غير.
القطاع الخاص والحكومة: مسؤوليّة مُشتركة
ارتبط توّجه الجامعة، في فتح أبوابها للاستثمارات، بـالأزمة الماليّة التي تُعاني منها. أحد أهمّ أسباب هذه الأزمة: عدمُ دفع الحكومة لمخصّصاتها للتعليم العالي، رغم ضآلة نسبة التعليم في ميزانيتها. والاستثمار داخل أسوار الجامعة -بالنسبة للإدارة- واحدٌ من ثلاثة حلول للأزمة: رفع الأقساط، وزيادة عدد الطلبة، أو خفض الميزات المالية للطاقم التدريسيّ والإداريّ.
الحديث عن التزامات الحكومة غير المحقّقة يقابله تذكير بواجب القطاع الخاصّ تُجاه التعليم العاليّ. ففي المؤتمر الصحافي لإطلاق برنامج "مساري"، أكدّت ثائرة كراجة، مديرة التسويق وتطوير الخدمات في "بنك القاهرة عمان"، الداعم الرئيسي للبرنامج، على "التزام البنك بمسؤوليته الاجتماعية وتحديداً تجاه فئة الشباب، مشيرةً إلى أن البنك يرى في هذا القطاع أمل المستقبل". هذا الواجب لا يعدو كونه -في لغة المتحدثة- أكثر من مسؤولية اجتماعية، وهذا يتعارض مع الواقع، إذ يستفيد القطاع الخاص من خريجي الجامعات، الذين يتحمّلون -هم وأهلهم- تكاليف تعليمهم ويغطون جميع مراحل دراستهم. وبالتالي، فإنّ مسؤولية القطاع الخاص تجاه التعليم العالي تتعدى خطاباً حول دورها الاجتماعي، بل هي مسؤولية حقيقية يجب أن تترجم بضريبة خاصة تأخذ لقطاع التعليم العالي الذي يعد أفراده "أمل المستقبل" أو "استثمار المستقبل".
تفاعل لا فاعليّة
تصف ميرفت بلبل نائبة رئيس "جامعة بيرزيت" للشؤون الإدارية والمالية، "مساري" بأنّه "برنامج طموح جداً هدفه تحضير بيئة خصبة للإبداع في بيرزيت". لكن هذا الطموح العالي لم يُقابَل بتحضيرٍ حقيقيٍّ لهذه البيئة، فعلى الرغم من التبشير الدائم بالتفكير النقدي ووضعه كأحد أهمّ أهداف برامج الجامعة، كبرنامج "مساري"، إلّا أنّ تجارب سابقة في الجامعة توحي بعكس ذلك. مثلاً، قُوبِل نقد نقابة العاملين في الجامعة لطريقة التعيينات، بردّ من الإدارة أشبه بـ"هذا ليس من شأنكم". وهذا المثال يوافق سلسلة أخرى من الأحداث التي رّدت عليها إدارة الجامعة بأسلوب مماثل كمحاولة الحركة الطلابية مناقشة ملف الأزمة المالية.
التفكير النقدي، إذن، يُعرض بكونه مهارة لا فكراً، وهو كالتفاعل الاجتماعي، وبناء الذات، لا يسائل بـ"لماذا؟"، بل هو مجرد مهارة تعلّق في الهواء أو تكتب في السيرة الذاتية.
في مقابل ذلك، تُحاول الجامعة تحفيز الطلبة على المشاركة في برنامج "مساري" عن طريق احتسابها ساعات البرنامج كساعات "عمل تعاونيّ"، وذلك بالرغم من عدم وجود أي عمل تعاوني ضمن خطة البرنامج، سالبةً بذلك من جوهر العمل التعاوني معناه، ومحوّلة إياه إلى مجرّد حافز لحضور المحاضرات.
ليس نقاش برنامج "مساري" مناظرةً بين طرفين يتنازعان على شكل أو محتوى الخريج الفلسطيني الذي تبنيه الجامعة، وإن كان في بعض جوانبه كذلك، إلّا أنه أيضاً فهمٌ للبرنامج كإعادة تشكيل نهائية لفضاء الجامعة، عبر صهر كلّ مكوّنات الجامعة ومساحاتها، واستبدالها بمحطات جامعيّة، وبعناوين تحمل قوالب أكثر منها تسميات للفعل الطلابي في هذا الفضاء.
النضال التطوّعي والعمل النقابي ومشاريع تشغيل الطلبة تُستبدل بالريادة المجتمعية والمواطنة، وفي أحسن الحالات، يتم خلق فضاءات لا تمسّ القائم ولا تغيّر. مثلاً، التعليم التفاعلي والحواري المعروض كأحد محاور برنامج "مساري"، يسير بموازاة التعليم الأكاديمي ولا يتقاطع معه، فلا يتمّ توظيف هذا التعليم الحواري لتحسين طريقة التعليم في الجامعة.
تتعدى، إذن، إشكاليات برنامج "مساري" نقد المحتوى ونقد المخرجات والأهداف، لتطال مستوى آخر: حركة البرنامج وأثره ضمن الحيّز، وبالطبع هاجسنا الحميم، لفهمه ضمن مستوى التغيّرات الاقتصادية والسياسية.