9 أبريل 2020

وحشةٌ ورحمة... من يُطعم القطط في ساحات الأقصى الخالية؟

وحشةٌ ورحمة... من يُطعم القطط في ساحات الأقصى الخالية؟

21 عاماً وحارس المسجد الأقصى عصام نجيب يجلس في مقعده الأليف عند باب الغوانمة وأحياناً عند أبواب أخرى، من السابعة صباحاً وحتّى الواحدة ظهراً. يستهلّ يومه بصلاة تحيّة المسجد ثم بمراقبةٍ دقيقةٍ لقاصدي المسجد والخارجين منه، والاعتناء بتفاصيل كثيرةٍ في المرافق والساحات التي تحوّلت مع "العِشرة" بيتاً لنجيب.

أمّا في صباحات هذه الأيّام، يدخل نجيب إلى الحرم ليجده فارغاً، يُصلّي تحيّة المسجد ثمّ ينطلق بجولةٍ تفقديّةٍ في المصلّيات والساحات الخالية الساكنة. يتسلّى بالتقاط الصور، ويوثّق بعدسة الهاتف مواقف يوميّة تمرّ عليه وعلى الحرّاس، لا سيما خلال تعاملهم مع الحيوانات الأليفة في المسجد، تلك التي لم تهجره رغم غياب من كان يعتني بها من المصلّين.

لم تعد مراقبة دخول المصلّين من أبواب الحرم ومدى التزامهم بزيٍّ يليق بقداسة المكان من المهام اليوميّة لنجيب، ولا حتّى متابعة المستوطنين المقتحمين وتسجيل اعتداءاتهم. هذا حال حرّاس المسجد منذ إعلان دائرة الأوقاف الإسلامية إغلاق المسجد أمام المصلين بدءاً من فجر 23 مارس/آذار المنصرم منعاً لانتشار فيروس "كورونا".

اقرأ/ي المزيد: "القدس في زمن "كورونا"".

قبل أيّامٍ من هذا الإجراء، أُغلقت المصليات المسقوفة، واقتصرت الصلاة على الساحات الخارجيّة. أدخل الحراس والسدنة ومن يُسمح له من موظفي الأوقاف بدخول المسجد إلى مرحلة عمل جديدة أُعتِقوا فيها من مهام تقليديّة، وأخذوا على عاتقهم القيام بأخرى لطالما حملها عنهم روّادُ المسجد من المُصلين.

ساحات المسجد الأقصى خالية من المصلين بعد إغلاقه في ظلّ تفشي فيروس "كورونا". عدسة: حارس المسجد الأقصى سليمان أبو ميالة.

 شوقٌ لأبي هُريرة

لم يسهب الحارس المقدسيّ نجيب في الحديث عن مبادراته الشخصيّة في المسجد، ولاحظنا حديثه الدائم بصيغة الجمع، فقال إنّ إطعام القطط والحمام والغربان في الأقصى بات مسؤولية الحراس الذين يجلبون ما تيسر من منازلهم لهذه الحيوانات.

لم يتطرق للحديث عن هذا الجانب دون أن يستذكر المسن غسان يونس الملقب بأبي هريرة الأقصى، والذي اعتاد على مدار السّنوات الأخيرة أن يشدّ الرحال يومياً إلى المسجد من قرية عارة في أراضي الـ48: "افتقدتُ هذا المسن، وفي الأيام الأولى لإغلاق المسجد لاحظنا كم افتقدتْهُ قططُ وطيور الأقصى التي تتحلق حوله بمجرد دخوله للمسجد للحصول على قوت يومها".

وكما يفعل أبو هريرة منذ عشرات السّنوات، فقد اعتاد عددٌ من روّاد الأقصى والمُصلين فيه منذ سنوات طويلة على إطعام القطط والطيور فيه. كما تبعث نساء البلدة القديمة للقدس في كثير من الأحيان ببقايا الأرز أو الخبز اليابس ليُوضع فوق مصاطب حجرية متفرقة في ساحات الأقصى، يقصدها الحمام والغربان، ويسدّون جوعهم منها.

هذه الألفة مع الحيوانات في ساحات المسجد جعلت البعض يُشيرون إلى بعضها بمواصفات مُعينة تُحددها. مثلاً، نشر نجيب قبل أيام على صفحته على "فيسبوك" مقطع لإطعام إحدى القطط، مُبيناً لأصدقائه أنّها "القطة العمياء في المسجد"، وكأنها معروفة لروّاد المسجد.

كما أتاح الفراغ الذي خلّفه عدم دخول المصلين للأقصى المجال أمام الحرّاس أيضاً لتفقد الأشجار والمزروعات، فوثّق نجيب بمقطع فيديو ظهور نبات الفطر في المسجد معلقاً على ذلك: "فطر في ساحات مسجدنا يزيده جمالاً على جمال.. اللهم احفظ المسجد الأقصى المبارك من الشرور والأشرار، وفرّج عنا هذه الغمة يا كريم".

ووفقاً لعصام فإنّ الحرّاس والسّدنة وعمال الإطفائية والعيادات والإنذار المبكّر والإعمار والأئمة هم من يتمكّنون حالياً من دخول المسجد الأقصى، بالإضافة للمؤذنين، وكل من يقع مكتبُه داخل باحات المسجد من موظفي دائرة الأوقاف الإسلاميّة. ويضيف أنّ الدائرة تواظب على تعقيم المصليات المسقوفة والباحات من حين لآخر.

وعما إذا كان أحد الحرّاس قد خضع للحجر الصحيّ الوقائي قال نجيب إنّ حارسين أحدهما زار بيت لحم، والآخر قدم من الأردن، خضعا للحجر الصحيّ المنزليّ لمدة أسبوعين، ثم عادا لمزاولة عملهما. يعلم نجيب صعوبة وثقل إغلاق المسجد الأقصى على النفوس، إلا أن يرى أنه ما من ذلك مفرّ، "عندما أعلن الإغلاق شعرتُ بالراحة نوعاً ما، لأنه في حال أصيب أحد الحراس بالفيروس ستحل كارثة على المسجد".

 "كما يجلب لنفسه"

"صلوا في رحالكم" عبارة تصدح به حنجرة مؤذني الأقصى يومياً. عن قسوتها ختم نجيب حديثه لـ"متراس" قائلاً إنّ الأمر بدا طبيعياً في البداية، لكن مع مرور الوقت بات يشعر بحزنٍ عميقٍ عند سماعها، لأن الأيام تتوالى دون روح المصلين وأصواتهم ودعواتهم. وأضاف أنه رغم قلّة الانشغالات حالياً وسهولة التحرك داخل الأقصى لكون الأبواب مغلقة، إلا أن شرطة الاحتلال ماضية في التضييق عليهم وبتهديدهم من الإقدام على الصلاة في المصليات وتشكيل تجمعات.

أمّا الحارس سلمان أبو ميّالة، فقد استهلّ حديثه بالقول إنّه لم يتمكن حتى اللحظة من الخروج من حالة الاندهاش التي يشعر بها منذ خلو الأقصى من روّاده. "كحارس كنت آتي لعملي يوميّاً مستعداً للتعامل والاختلاط مع المصلين والمرابطين من كافة أنحاء فلسطين، والآن نفتقد لنفسهم ونشتاق لخدمتهم، وهمّنا الشاغل الحرص على ساحات الأقصى والتعقيم المستمر لها".

يقول أبو ميّالة: "اختارنا الله لنكون خدماً للأقصى. يبلغ عددنا نحو 250 حارساً نتوزع على أربع وحدات، وأثرت الأزمة الحالية على وصول كثير منا حتى تقلص عدد حرّاس الوحدة الصباحيّة إلى 20 حارساً، يتطوع بعضهم للبقاء على رأس عمله حتى صلاة العشاء أحياناً".

لا يكتفي الحراس بالقيام بمهمة الحراسة فقط بل يتطوعون، حسب أبو ميالة، بتنظيف المصليات وخاصّةً مصلى باب الرحمة، وتطرق لاهتمام الحراس اليومي بالحيوانات الأليفة. وعن ذلك قال: "الحارس والسادن إنسان قبل كل شيء، وبعضهم كما يجلب لنفسه طعامه اليوميّ، يحرص على توفير ما تيسر من منزله للحيوانات، ومنهم من يشتري لها الطعام خصيصاً".