29 أبريل 2021

"فأووا إلى الكهف".. بعضٌ من سيرةِ اللجوء والمقاومة

"فأووا إلى الكهف".. بعضٌ من سيرةِ اللجوء والمقاومة

تنتشر في أنحاء فلسطين مئات الكهوف والمغارات مختلفة الاتساع والشكل، ولا تكاد تخلو منها أي قرية فلسطينيّة. والكهوف جزء لا يتجزأ من أشكال سطح الأرض التي تشكّلت عبر عمليات طبيعية، مثل البراكين وذوبان الجليد والتعرية المائية والأمطار المحمّلة بالأحماض، في القشرة الأرضيّة. وفي اللغة، فإنّ الكهف هو كلّ منخفض في الأرض، والبيت المنقور في الجبل، وتُستخدم مفردة الكهف لوصف ما هو أوسعُ من المغارة.

وتعتبر فلسطين واحدةً من البلدان الحاضنة لأشهر الكهوفِ التي عُثر فيها على دلائل لوجود الإنسان البدائي الأول Neanderthal 1 النياندرتال أقرب أنواع الإنسان إلى الجنس البشري الحالي المسمّى "الإنسان العاقل" حسب أبحاث أنثروبولوجية عديدة، وانقرض قبل آلاف السنوات.، ولهذا شكّلت مصدرَ جذبٍ لكثير من الباحثين في هذا الموضوع. أبرز تلك الكهوف هي مغارات الكرمل في حيفا مثل كهوف الطابون والسخول وأبو إصبع والواد التي عثر بها على أدوات صوّانية وهياكل عظميّة التي تُعدّ حلقة تطوّرٍ بين الإنسان البدائي والحديث بالإضافة إلى كهف شقبا غرب رام الله الذي عُثر فيه على مكتشفاتٍ تعود للفترة النطوفيّة (قبل 15000-11500 عام)2أحمد حنيطي، كهف شقبا، منشورات الرؤيا الفلسطينية، ص 1-3..

كهوف فلسطين..استخدامات عديدة

عبر التاريخ الطويل لفلسطين، استفاد سكانُها من هذه الكهوف والمغارات، فكانت ملاذاً لهم للاحتماء من حرّ الصيف أو برد الشّتاء أو هجوم الأعداء والحيوانات المفترسة، أو للراحة والمبيت أثناء الترحال، مثلما شاع في العهد العثمانيّ.3سجلات محكمة نابلس الشرعية، رقم 18، 1874م، ص 256-257. محمد عودة غلمي، تاريخ بيت فوريك، ص 106. كذلك، كانت الكهوف مقرّاً مؤقّتاً للفلاحين في أوقات الزراعة والحصاد والرعي بالأخص في فصلي الشتاء والربيع، وبعضهم أقاموا فيها طوال العام، واستخدموا بعضها كمخازن للغذاء، وحظائر للحيوانات. وارتبطت بعضُ هذه الكهوف في المخيّلة الشعبيّة بالبحثِ عن الكنوز والدفائن. وكانت كثيرٌ من الكهوف وما زالت مأوى تعيش فيها الحيوانات والطيور؛ كالثعالب والخفافيش4جولة ميدانية ومسار بيئي، واد الدالية، مغارة النعسان، 1/11/2019م.

كهف تمت إضافة جدار على مدخله، واد قدرون، تصوير غسان دويكات، 4/12/2020م.

ولعل مغارات وكهوف طانا التحتا بالقرب من قرية بيت فوريك، الواقعة شرق نابلس، من أشهر الكهوف التي ما زالت مأهولةً منذ العصر البرونزيّ حتى اليوم، أي منذ ما يزيد عن 3200 عام. تعرف خربة طانا تاريخياً باسمها الكنعاني "تانا شيله"، وتعني موضع الراحة. 

يوجدُ في طانا حوالي 45 كهفاً ومغارة مختلفة الحجم والاتساع والعمق، محفورة طبيعيّاً منذ القدم. أشهرها كهف "عراق الفدان" الذي تبلغ مساحته 300م2، ولاتساعه الكبير هذا كان الحرّاثون يبيتون ليلهم في أحد جوانبه فيما تستريح دوابهم في الجانب الآخر5محمد عودة غلمي، تاريخ بيت فوريك، ص 106. مقابلة شخصية، نايف أبو السعود حنني، بيت فوريك، 68 سنة، 23/2/2021م.. وغالب هذه الكهوف مسكونة منذ القدم، وبعضها استخدم مكاناً للدفن في العصر البرونزي كما يُستدل من المكتشفات فيها من هياكل عظمية بشرية وأدوات منزليّة دُفنت مع الموتى. 

كهوف ومغائر طانا التحتا، مأهولة بالسكان منذ عام 1200 ق.م. تصوير غسان دويكات، 13/2/2021م.

كذلك الحال بالنسبة لمسافر يطا جنوب الخليل، والتي تضمّ ما يزيد عن 16 قرية فلسطينيّة يقيم بها حوالي ألفيّ فلسطينيّ. يعيش هؤلاء في كهوف وتجاويف صخرية منذ مئات السنين، ويعملون في تربيةِ المواشي والزراعة والرعي. وتشتركُ المنطقتان؛ طانا ومسافر يطا، بكونهما مستهدفتين بشكل دائم من قبل الاحتلال الإسرائيلي الذي يسعى لطرد سكانها وتوسيع المستوطنات على حساب أراضيهم.

ووُظِّفت الكهوفُ والمغارات دينيّاً، إذ اتّخذها الرهبان مكاناً للعبادةِ والانعزال عن الناس، وطلباً للحماية والأمان، خاصّة في العهد الرومانيّ حين طاردت السلطاتُ الرومانيّة آنذاك أتباعَ المسيح عليه السلام. ونجد مثالاً على ذلك في الكهوف الواقعة في بريّة القدس وبيت لحم، مثل وادي القلط، حيثُ تعبّد الرهبان فيها، ولاحقاً بُنيت فوقها بعض الأديرة6نمر سرحان، موسوعة الفلكلور الفلسطيني، ج1، ص 120. جولة ميدانية ومسار تجوال بيئي، العبيدية، دير ما سابا، 4/12/2020م. جولة ميدانية ومسار تجوال بيئي، الخان الأحمر، دير يوثيموس، واد القلط، 29/11/2019م. وفي الفترات الإسلاميّة اللاحقة، اتُّخذت بعض الكهوف كمقاماتٍ للأولياء، مثل مغارة الأدهميّة شمال البلدة القديمة للقدس أسفل مقبرة باب الساهرة، وصخرة الست سليمية في مدينة نابلس، وهي تجويف صخري على السفح الجنوبي لجبل عيبال7احسان النمر، تاريخ جبل نابلس والبلقاء، ج4، ص 165.

ابراهيم أبو جحيشة يزور كهف "طور بدو" الذي اكتشف أسفل أرضه في إذنا، غرب الخليل، 20 يناير 2021. يعتبر الكهف واحداً من أكبر الكهوف في الضفة الغربيّة. (حازم بدر/ AFP)

احتضان الفدائيين

كانت الكهوف والمغارات جزءاً من نكبةِ الشعب الفلسطيني بطريقةٍ أو بأخرى؛ رافقت آلامه وأمله بالتحرير بذات الوقت. إثر النكبة وما تخللها من معارك ومجازر، هُجّر آلاف الفلسطينيين من قراهم، ولجأ كثيرٌ منهم إلى الأشجار والكهوف والمغارات. فمثلاً لجأ عرب الجرامنة الذين هُجروا من قريتهم المويلح قضاء يافا إلى مغارات وكهوف خربة الأشقر في منطقة قلقيلية، وبعضهم لجأ إلى مغارات سلفيت وبالذات إلى كهف أم الحمام القريب من قرية دير بلوط، وذلك قبل أن يستقروا في مخيم بلاطة في نابلس.8سجلات بلدية نابلس، ملف اللاجئين، صناديق 38-43. إحسان النمر، تاريخ جبل نابلس والبلقاء، ج4، ص 40-48. مكالمة هاتفية مع الدكتور أمين عبد العزيز ذبلان أبو وردة، 54 سنة، 26/2/2021م. وهو ما تكرّر حدوثه إثر النكسة الفلسطينية وفقًا للرواية الشفويّة لمن عاصروا تلك الحرب، فقد لجأ الفلسطينيون إلى الكهوف للحماية.

وكما أنها استخدمت ملاذاً للاجئين، فإنّها كذلك استخدمت منطلقاً للمقاومين والمناضلين الفلسطينيين والعرب على مرّ العصور. تذكر إحدى المصادر أنّ المقاتلين المسلمين خلال الفترة الأيوبية كانوا يحتمون بكهوف منطقة القدس في حملاتهم الاستطلاعية لجمع الأخبار عن الصّليبيّين وتحركاتهم، وقد وُجِدت أسماءُ بعضهم محفورةً ومكتوبةً على جدران إحدى تلك الكهوف.

استمرّ هذا النوع من الاستخدام من مقاومة الغزو الصليبيّ إلى مقاومة الاحتلال الإسرائيليّ. على سبيل المثال، تقع في أعلى السّفح الشماليّ لجبل الشيح محمد (جبل الجدوع) بالقرب من بيت فوريك مغارة تُسمّى مغارة جبل القعدة، والتي ارتبطت بالفدائيين الذين عبروا الحدود الشرقيّة نحو فلسطين لتنفيذ عمليات ضدّ الاحتلال بعد عام 1967. كانت هذه المغارة واحدةً من محطّات استقبال هؤلاء الفدائيّين، وأدّت ثلاث وظائف؛ تأمين وصول وإيواء الفدائيّين تمهيداً للانطلاق منها لتنفيذِ عملياتهم، واستقبال وتسلم مختلف أنواع الأسلحة ليجري توزيعها على مجموعاتٍ فدائيّة داخل الضفة الغربيّة، وأخيراً تأمين عودة الفدائيّين إلى شرق نهر الأردن.9محمد عودة غلمي، تاريخ بيت فوريك، ص 139. صحيفة معاريف، 10/12/1967م، ص2. صحيفة دفار، 10/12/1967م، ص 2.

في الأسبوع الأول من ديسمبر/كانون الأول 1967 لجأ فدائيون فلسطينيّون وسوريّون لهذه المغارة، وكانوا يخططون لتنفيذ عمليةٍ في العفولة شمال جنين، إلا أنّ أمرهم كُشِفَ. على إثر ذلك، باغت جيشُ الاحتلال المجموعةَ لتدور معركةٌ استمرّت حوالي خمس ساعات، استخدمَ فيها الاحتلال الطائرات العمودية والرشاشات الثقيلة والقوات المظلية، وأسفرت عن استشهادِ ستة من الفدائيين. دُفن ثلاثة منهم قرب المغارة وما زالت قبورهم هناك، فيما اختطف الاحتلالُ جثامين ثلاثة آخرين وما زالت محتجزة في مقابر الأرقام، فيما انسحبت بقية المجموعة10محمد عودة غلمي، تاريخ بيت فوريك، ص 139. مقابلة شخصية، عارف ابو السعود عبد الرزاق حنني، 66 سنة، 9 تموز 2017م، بيت فوريك. صحيفة معاريف، 10/12/1967م، ص2. صحيفة دفار، 10/12/1967م، ص 2.. وفي حادثةٍ أخرى، لجأ ياسر عرفات في نهاية شهر حزيران 1967 إلى مغارة أخرى في خربة كفر بيتا القريبة من بيت فوريك خلال تسلّله إلى الأراضي المحتلة11أحمد عودة غلمي، تاريخ بيت فوريك، ص 137. جولة ميدانية، 13 شباط 2017م..

وسط ويمين الصورة تلال منطقة الصوانة، ويظهر في الافق الغور الاردني، تصوير غسان دويكات، 13/2/2021م.

ومن أبرز الأمثلة الأخرى على استخدام المقاومين للكهوف الفلسطينية معركة الصوّانة، وهي مجموعة تلالٍ قريبة من الحدود الأردنية-الفلسطينية شرق قريتي بيت دجن وبيت فوريك. إذ لجأت في أبريل/نيسان 1967 مجموعةٌ من المقاومين تسلّلوا عبر منطقة الجفتلك إلى إحدى مغارات الصوّانة.12مقابلة شخصية، نايف ابو السعود عبد حنني، 63 سنة، 24 تشرين أول 2016م، بيت فوريك. علم الاحتلال بوجودهم وهاجمهم ما أدّى إلى استشهاد أحدهم وإلقاء القبض على البقيّة13محمد عودة غلمي، تاريخ بيت فوريك، ص 421. صحيفة معاريف، 16/4/1968م، ص 3. صحيفة دفار، 16/4/1968م، ص 1. يعقوب بيري، مهنتي كرجل مخابرات؛ 29 عاما من العمل في الشاباك، ص 11 – 18. مقابلة شخصية، نايف ابو السعود عبد حنني، 63 سنة، 24 تشرين الأول 2016م، بيت فوريك. وفي إثر المعركة، علم جيشُ الاحتلال بقدوم مجموعة فدائيين مساندةٍ لدعم المجموعة المتسلّلة، فكمن الجنود في المغارة حتى وصل أفرادُ المجموعة السبعة، وأطلقوا النار عليهم لتدور معركة حامية الوطيس استشهد فيها ثلاثة من المقاومين وأصيب اثنان ألقي القبضُ عليهما فيما نجح البقية بالفرار.14محمد عودة غلمي، تاريخ بيت فوريك، ص 143. مقابلة شخصية، نايف ابو السعود عبد حنني، 63 سنة، 24 تشرين أول ، بيت فوريك. مقابلة شخصية، عارف ابو السعود عبد الرزاق حنني، 66 سنة، 9 تموز 2017م، بيت فوريك. وصحيفة معاريف، 16/4/1968م، ص 3. صحيفة دفار، 16/4/1968م، ص 1. يعقوب بيري، مهنتي كرجل مخابرات؛ 29 عاما من العمل في الشاباك، ص 11 – 18.

يتّضح أنّ حضور كهوف فلسطين ممزوج بالأبعاد السياسية والدينية والمعيشية والحضارية، ولا يختلف تاريخها عن مسيرة الشعب الفلسطيني؛ منذ أقدم الحضارات والديانات، مروراً بالغزاة والطامعين، وصولاً إلى المحتلّين ومقاوميهم، وليست نهايةً بسكّانها الدائمين، واللاجئين إليها من خوفٍ أو بردٍ أو لزرعٍ.