23 مارس 2022

بئر السبع: هل هي بوادر اشتعال؟

بئر السبع: هل هي بوادر اشتعال؟

طائراتٌ لم تهدأ فوق سماء المنطقة في الآونة الأخيرة، تُقِلُّ السياسيّين من قوى المنطقة وما حولها من مدينةٍ إلى أخرى، سعياً لما يُسمّونه "تهدئة الأوضاع" ومنع تصعيدها خلال شهر رمضان القريب. يحدث ذلك بالتوازي مع تحضيراتٍ إسرائيليّة لحفلاتٍ تطبيعيّة وفعالياتٍ "ثقافيّة" و"تسهيلات" على الحواجز، يتوالى الإعلانُ عنها، بهدف احتواء أي هبّة شعبيّة قد تشهدها القدس أو الضفّة الغربيّة.

أما في النقب (ديار بئر السبع)، التي لم تُذكر كمنطقةِ "خطرِ" مُحتملة للتصعيد، فقد شهدت الشهر الجاري جريمة قتل الشهيد سند الهربد في رهط (15 مارس/آذار)، بالإضافة إلى اعتداءات متتالية تعرّضت لها بلدات وأهالي النقب، من المستوطنين وشرطة الاحتلال. ثمّ جاء الإعلان عن مليشيا مُسلّحة من المستوطنين تسعى لما تُسمّيه "فرض الأمن"، وهو الاسم اللطيف لعملية تنظيم وتوجيه وزيادة تسليح الاعتداءات تجاه أهالي النقب، وتسويقها بذريعة "منع الجرائم". 

في خلفية كلّ هذه الأخبار التي شهِدنَاها في الأسبوعين الأخيرين، جاءت عمليةُ الطعن والدهس التي نفّذها الشهيد محمد أبو القيعان، من حورة شرق بئر السبع، مساء أمس الثلاثاء، موقعةً 4 قتلى وعدة إصابات من المستوطنين، والتي وصفتها "إسرائيل" بالعملية الأصعب منذ 5 سنوات.

في هذا المقال سردٌ لأهم التطورات الميدانيّة التي شهدتها القرى والبلدات الفلسطينيّة في النقب منذ الهبّة الشعبيّة التي انطلقت في مايو/أيار 2021، إلى يومنا هذا.

حظر تجولٍ، ولكن بأمرٍ من الشبان

عاد اسم النقب1نبّه باحثون فلسطينيون إلى أنّ "النقب" تسمية صهيونيّة الأصل، وأن الاسم الفعليّ لهذه المنطقة الجنوبية هو ديار بئر السبع أو ديار غزّة، لكن غلبة استخدامها على شرائح واسعة وفي منصات مختلفة جعلت من اسم "النقب" أكثر رواجاً واستخداماً وقبولاً نوعاً ما.، تلك المنطقة المُغيّبة في الوعي الشعبيّ والإعلاميّ الفلسطينيّ، للتداول مع مطلع العام الجاري. كان ذلك على إثر الاحتجاجات التي قادها الناس في أراضي النقع (قرية سعوة وما حولها)، شرق بئر السبع، ضدّ تشجير أراضيهم من قبل "الصندوق القوميّ اليهوديّ"، كوسيلةٍ لسرقتها وتهجيرهم منها، وما ترافق معها من نشرٍ مكثف تحت وسم "انقذوا النقب"، على غرار وسم "انقذوا الشيخ جرّاح".

اقرؤوا المزيد: "كيف ابتعلت غابات "إسرائيل" قرانا المهجّرة؟" 

لم تكن تلك الاحتجاجات، وما تطور عنها من مواجهاتٍ وملاحقات واعتقالات من شرطة الاحتلال، معزولةً عما سبقها من أحداث، أو خارجةً عن السياق العامّ، بل هي حصيلة مراكماتٍ في الفعل الشعبيّ شهدتها ديار بئر السبع منذ المظاهرات الشعبيّة ضدّ مخطط برافر عام 2013 وصولاً إلى يومنا هذا.

وقد كانت معركة "سيف القدس" وما رافقها من هبّة شعبيّة في مايو/أيار 2021، محطةً هامّة أخرى، أظهرت أن "شيئاً" ما يتحرك في المياه الراكدة، وأنّ السياسات التي زرعتها "إسرائيل" في بلادنا على مدار سنوات من الظلم والقهر والتشريد، لا بدّ أن تنفجر في وجهها يوماً ما. 

العشرات من جنود الاحتلال خلال قمع الاحتجاج على تشجير أراضي سعوة الأطرش في النقب، 12 يناير/كانون الثاني 2022. (AFP)

في تلك الهبّة، وفي النقب تحديداً، اندلعت مع اليوم الأول لانطلاق معركة "سيف القدس"، وهو اليوم الذي فشل فيه المستوطنون في اقتحام الأقصى، احتجاجاتٌ عنيفة مع شرطة الاحتلال على مداخل قرى النقب، وردّد المحتجون "بالروح بالدم نفديك يا أقصى". وقد تطوّرت الاحتجاجات وصولاً إلى محاولات لإشعال النيران في مراكز الشرطة في كل من حورة وشقيب السلام ورهط، تلك المراكز التي زُرعت في وسط البلدات الفلسطينية في الداخل من أجل اختراق المجتمع وضبط نشاطه وحركته.

وفيما بدا أنّه "حربٌ على المواصلات" وقطعٌ لطرق المستوطنين، فقد لمع على مدار أيام من شهر الهبّة الشعبيّة، وهجُ الإطارات المطاطيّة المشتعلة والمنثورة على الطرقات الرئيسة في النقب، فيما اختفت مصابيح السيّارات. بدا ذلك كإعلانٍ غير رسميّ عن شلّ حركة السير وفرض حالةٍ من منع التجول. 

اقرؤوا المزيد: "مخطط "برافر" باقٍ ويتمدد".

على مداخل قرية شقيب السلام مثلاً، أشعل الشباب ليلة الاثنين 10 مايو/ أيار الإطارات المطاطيّة، وامتدّ أثرها ليصل شارع رقم 25، وهو الشارع الذي يصل قرى النقب بقطاع غزّة، في خطوةٍ تجاوزت الرمزيّة فيما تقوله عن التلاحم الشعبيّ بين الفلسطينيين في مختلف أماكن تواجدهم.

في تلك الليلة، سارعت الشرطة للإعلان عن أنّها "أمّنت الشارع"، لكنها اضطرت بعد ذلك للتراجع، والإعلان عن إغلاقه لعدة ساعات. ظلّ شارع 25 الذي يشقّ منطقة السياج، والتي أُريد لها أن تكون معسكراً لتركيز الفلسطينيّين البدو، منطقةً محظورةً على الإسرائيليين بفعل الاحتجاجات لعدة أيام. وظلّت آثار الإطارات المطاطيّة المحترقة بصمة تذكر في حرب كي الوعي المستمرة أن النار لن تخمد.

أما شرقاً، فقد أغلق الشبان المحتجون شارع رقم 31 الذي يصل بين بئر السبع والبحر الميّت، إذ غدت أعمدةُ الإنارة فيه متاريس أُغلقت بواسطتها الطرقات، وعُطّل التنقل بين بئر السبع والمنطقة الشرقية بما فيها من منشآت حيويّة كالمصانع. 

في تلك الأيام، أعلنت شرطة الاحتلال عن ضرورة الامتناع عن التنقل عبر بعض شوارع النقب لأنّها "غير آمنة". وبذلك، لم يذهب عمال مصنع "ديمونا" للعمل، وتحوّل مطار نباتيم العسكريّ إلى قلعةٍ مُحصنةٍ ومحاصرة، والتزم عُمّال مصانع البحر الميت بيوتهم. كما بدا وكأن "الآية قُلِبت"، إذ أقام الشباب حواجز على الطرقات، يوقفون من خلالها المارة، ويستجوبونهم عن وجهة سفرهم وهويتهم. 

ألقت هذه الأحداث الحسرة في قلوب صناع القرار، لاسّيما أنَّ الخطة الاستراتيجيّة الإسرائيليّة تقضي بنقل الثقل العسكريّ من الشمال والمركز نحو الجنوب، عبر بناء قواعد عسكريّة ومعسكرات للجيش ومناطق سكنيّة للضباط في محيط بئر السبع، على اعتبار أنّ النقب منطقة منخفضة الكثافة السكانيّة وتصلح لهذه المشاريع، ويبدو أن التقديرات الأمنيّة لم تكن تتوقع أي تطورٍ على المستوى الأمنيّ في النقب.

خلال مواجهات اندلعت في إحدى قرى النقب، خلال الهبة الشعبية في مايو 2021. (تصوير: وليد العبرة).

وهو ما يُمكن فهمه مما نشرته صحيفة "يديعوت أحرنوت" من أنّ هبّة الكرامة التي أشعلها الشباب الفلسطينيّ في الأراضي المحتلة عام 1948، "خلقت مشكلةً جسيمة جداً وخطيرة للجيش الإسرائيليّ في مجال النقل للآليات الثقيلة بما فيها الدبابات، المجنزرات والباصات لنقل الجنود في الطوارئ". 

اعتقالات ولوائح اتهام بالجملة

على إثر المواجهات التي اندلعت خلال الهبّة الشعبيّة في مايو/أيار في أنحاء مناطق الـ 1948، أعلنت سلطات الاحتلال عن حملةٍ باسم "قانون ونظام" هدفها المُعلن اعتقال 500 فلسطينيّ "لاستعادة الردع وتصفية الحساب" مع الفلسطنيّين في الداخل. كان حصيلة النقب حينها من الاعتقال أكثر من 150 معتقلاً، وهي حملة استمرّ عملها إلى اليوم باعتقال العشرات بتهمة المشاركة في مواجهات يناير/كانون الثاني 2022 في أراضي النقع، حيث اعترض الناس على حملات التشجير الإسرائيلية لأراضيهم. 

وقد قدّمت نيابة الاحتلال في بئر السبع حتى سبتمبر/ أيلول 2021، ما مجموعه 63 لائحة اتهام ضدّ 125 شاباً فتىّ فلسطينيّاً، بدعوى المشاركة في المواجهات والاحتجاجات في النقب. وهو رقمٌ مرشحٌ للازدياد بعد حملة الاعتقالات الواسعة التي نُفذت إثر احتجاجات أرض النقع (ضد التشجير في سعوة - الأطرش). وبحسب الحقوقيين، فإنّ أغلب المعتقلين تعرضوا لضغوطات نفسية مكثفّة خلال التحقيق ولسيل من الأسئلة عن مواقفهم السياسيّة ومعتقداتهم بهدف توريطهم، وأن المحاكم حرصت على تمديد الاعتقال لأطول فترة ممكنة.

كما لجأت سلطات الاحتلال إلى تكثيف وسائل التحقيق والملاحقة السيبرانيّة، فشكّلت وحدةً خاصّة أطلقت عليها اسم "وحدة مكافحة التيك توك"، مكوّنة من محققي شرطة ومخابرات وخبراء تقنيين. تهدف الوحدة لمراقبة تطبيق التيك توك، وملاحقة المستخدمين الذين ينشرون فيديوهات تُشير المواجهات والاحتجاجات، ومحاولة تحديد هوياتهم لاعتقالهم وإدانتهم.

متظاهرون فلسطينيون يحاولون الاحتماء من قنابل الغاز التي ألقتها باتجاهم قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال احتجاج على تشجير أراضي سعوة - الأطرش، يناير 2022 (AFP).

محاولة استعادة الهيبة الإسرائيليّة

على ضوء الحضور الشعبيّ الكبير لبدو النقب في الهبّة الشعبيّة في رمضان الماضي، نظّمت أحزاب سياسيّة إسرائيليّة ومجموعات استيطانيّة، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عِدّة مظاهرات للتحريض عليهم، وللاحتجاجِ على ما يسمّونه "التساهل في فرض القانون" ضدّ "جرائمهم"، مع التأطير المكثف القائل بأنّ "النقب تشهد أياماً سوداء بفعل مُثيري الشغب".

تزامن مع تلك المظاهرات مقابلات إعلاميّة للمحللين الإسرائيليّين، تسابقوا فيها لمهاجمة البدو الفلسطينيّين، وقد اعتبروا أنّ إغلاق الطرق وتعطيل حركة السير والمواجهاتِ المتكررة خلال الهبّة، دليلٌ على "فقدان السيطرة وفقدان الأمن في النقب"، في حين يتصرف البدو كما يحلو لهم، و"يستولون على أراضي الدولة". ولم يوفر رؤساء بلديات بئر السبع ومستوطنات النقب الفرصةَ للإدلاء بتصريحاتٍ إعلاميّة للتحريض على البدو.

وفيما يبدو محاولة لإرضاء الرأي العام ولتسجيل "إنجاز وهميّ بالانتصار"، نفّذت قوات الاحتلال في 24 نوفمبر/تشرين الثاني، حملة مداهمات واعتقالات موسّعة في النقب، شارك فيها أكثر من 1200 شرطيّ وعنصر من الوحدات الخاصّة، وبحضور المفتش العامّ للشرطة يعكوف شبتاي، وتخلّلتها عمليةُ إنزالٍ جويّ فوق بيت لفلسطينيّ في قرية أبو تلول مسلوبة الاعتراف. 

اقرؤوا المزيد: "أ ب تهجير النقب".

بعد حوالي شهر، اتضح أنّ عملية الإنزال تلك كانت استعراضيّةً بالكامل، وبمشاركة فريق  تصويرٍ تلفزيونيّ، بهدف الترويج لعمل الشرطة ونشاطها الواسع في النقب، ولتصدير صورة من "السيطرة" على البدو. وقد بُثّ التقرير الذي يوثق عملية الإنزال في برنامج "استوديو الجمعة" على القناة الإسرائيلية 12.

في 6 ديسمبر/كانون الأول 2021، تجوّل رئيس حكومة الاحتلال نفتالي بينت في النقب، في خطوة سُوّقت كجزءٍ من "خطّة مكافحة الجريمة والعنف العربيّ في المنطقة". وهو العنوان الأوسع لكلّ ما يمكن أن يحدث من اعتداءات، واعتقالات، وهدم بيوت، ومصادرات وتجريف أراضي. خلال الزيارة، وقف بينت على تلّة تُطلّ على بلدة رهط، شمال بئر السبع، مُصرّحاً: "انتقلنا من الدفاع إلى الهجوم"، وعبّر عن دعمه لقوات الشرطة في سبيل "إعادة الأمن إلى الجنوب". ولم تكد تمضي 3 شهور على ذلك التصريح، حتى قتلت قوات المستعربين سند الهربيد أمام منزله في رهط.

فلسطينيّون من النقب يهتفون خلال مظاهرة احتجاجية على تشجير أراضيهم ومصادرتها أمام مقر الكنيست الإسرائيلي، يناير 2022 (AFP).

في الأثناء لم تتوقف عمليات هدم البيوت، وقد سجّلت حكومة بينت رقماً قياسيّا في ذلك، إذ بلغ عدد البيوت المهدمة خلال عام 2021 أكثر من ثلاثة آلاف مبنى، زادت من الحنق والغضب المتراكم والذي انفجر في أحداث سعوة في يناير الماضي، إذ تُحاول سلطات الاحتلال الإجهاز على ما تبقى من أراضٍ، وحسم مُلكيتها بشكل نهائيّ، في استهدافٍ مستمر للقرى الفلسطينيّة، ومحاولة إخضاعها تماماً.

مؤخراً بدأ التحذير في أوساط أهالي النقب من خطر مليشيا "بارئيل" الإسرائيليّة، والتي بادر لإقامتها منذ أكتوبر/تشرين الثاني الماضي، مندوب حزب "عوتصماة يهوديت" في النقب، ألموغ كوهين، وتضم حوالي 200 متطوع من المستوطنين المُسلحين، بهدف "حماية سكان النقب".2أُطلق عليها "وحدة بارئيل" على اسم الجندي في جيش الاحتلال باريئيل شمولي الذي قُتل برصاص قناص فلسطينيّ على السياج الحدوديّ مع غزّة في أغسطس/ آب الماضي. وقد شارك ممثلون عن شرطة الاحتلال وبلدية بئر السبع في الجلسات التي تداولت إنشاء المليشيا، إلا أنّ الشرطة تنصلت منها لاحقاً، دون أن تمنع عملها أو تجمعها.

أخيراً، أرادت "إسرائيل" تهميش النقب، بجعله مكاناً مصمتاً يتلقّى القتل والتهجير والسرقة دون أيّ ردّة فعل، وبجعله كذلك مكاناً منسيّاً في وجدان المجتمع الفلسطينيّ. غير أنّ تحوّله إلى نقطة مواجهةٍ ساخنة في السنة الأخيرة، تتحدى سياسات الاستيطان والتهجير وما يترافق معها من اعتداءات منظمة ومكثفة، وتتحدى أي تصوراتٍ مسبقة، قد جعل لها مكاناً في صدر مشهدٍ من المواجهة مفتوحٍ على مختلف الاحتمالات.