8 ديسمبر 2020

نفط واستخبارات وأسلحة.. عن العلاقات الأذريّة الإسرائيليّة

نفط واستخبارات وأسلحة.. عن العلاقات الأذريّة الإسرائيليّة

في 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وفي ذروة اشتعال المعارك بين أذربيجان وأرمينيا على إقليم ناغورنو كاراباخ الجبليّ، زار سفير دولة الاحتلال لدى أذربيجان، جورج ديك، مدينة كنجه غرب البلاد، مُعزّياً بضحايا الهجمات الصاروخيّة الأرمينيّة، ومُعلناً عن تقديم "مساعداتٍ إنسانيّة" ومعدّاتٍ طبيّة إسرائيليّة إلى أذربيجان، في "بادرةٍ" لم تقم بها سوى "إسرائيل" وتركيّا. 

أبرزت الحرب الأخيرة التي حُسِمَت بانتصار أذربيجان مدى التقارب بين باكو وتل أبيب، ولعلّ تكرّر حضور العلم الإسرائيليّ في احتفالات إعلان النصر في أذربيجان، مؤشرٌ قويّ ذلك، خاصّةً بعد زيادة الاحتلال من وتيرة تسليح أذربيجان وتعزيز موقفها ضدّ أرمينيا.  

وحتى التطبيع الإسرائيليّ الأخير مع دول الخليج، كانت أذربيجان واحدةً من الدول القليلة ذات الأغلبيّة المسلمة في المنطقة التي وثّقت علاقتها مع دولة الاحتلال. ورغم متانة هذه العلاقة إلا أنّ معظم ما يترتب عليها يجري بعيداً عن الأضواء، إذ يصفها الرئيس الأذريّ إلهام علييف بالقول: "علاقتنا مع الإسرائيليين تشبه جبلاً جليديّاً، ما يظهر منها هو السّطح فقط، أما معظم تفاصيلها تكمن في الأعماق". في هذا المقال نرصد أبرز ما ظهر من هذه العلاقة. 

البداية من 1891..

تُعدّ أذربيجان دولةً علمانيّةً نفطيّة، يسكنها ثمانية ملايين نسمة أغلبهم من أتباع المذهب الشيعيّ وذوي الأصول التركيّة. منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وإعلان باكو استقلالها عنه عام 1991، كانت "إسرائيل" من أوائل الدول التي تفتتح سفارةً لها في أذربيجان. ورغم وعودٍ ومطالباتٍ إسرائيليّةٍ متكررة، بقيت أذربيجان دون تمثيلٍ دبلوماسيٍّ رسميٍّ في "إسرائيل"، مع حرصها على إبقاء قناة اتصالٍ غير رسميّة من خلال مكاتب الخطوط الجوية الأذربيجانيّة في الأراضي المحتلة، التي تنظم منذ سنوات رحلاتٍ مباشرة ومنتظمة بين البلدين.

لكن العلاقة بين آباء المشروع الصهيونيّ وأذربيجان تسبق ذلك بكثير، فقد كانت باكو منذ أواخر القرن التاسع عشر أحد مراكز الحركة الصهيونيّة في الإمبراطورية الروسيّة، وشهدت عام 1891 إنشاء أوّل جمعيّةٍ من جمعيّات "أحبّاء صهيون"، التي شجّعت على الاستيطان في فلسطين. 

ساهم يهود أذربيجان في أن تقوم بلادهم بهذا الدور وأن تستمر به حتى اليوم، فقد ضمّت أذربيجان تاريخيّاً مجموعاتٍ مختلفةً من اليهود، غالبيّتهم من الأشكناز ويهود القوقاز، وكثيرٌ منهم قدموا إليها في هجرةٍ جماعيّةٍ من روسيا وشرق أوروبا مع أوّل طفرةٍ نفطيّة في سبعينيّات القرن التاسع عشر، واستقرّوا بشكلٍ رئيسيٍّ في باكو الغنيّة بالنفط. ورغم أنّ عددهم حالياً لا يتجاوز بضعة آلاف، مع هجرة عددٍ كبيرٍ منهم للاستيطان في بلادنا (يوجد في الأراضي المحتلّة أكثر من 70 ألف يهودي أذري)، إلا أنهم حافظوا على وجودهم الفعّال في أذربيجان خلال المراحل المختلفة (أسّسوا في باكو أوّل مدرسةٍ يهوديّة في الاتحاد السوفييتي مثلاً)، ولهم اليوم عدّة مدارس ومراكز ثقافيّة ومجتمعيّة نشطة، بعضها يعمل بالتوازي مع "إسرائيل"، وآخر مع يهود العالم. 

حظيت هذه العلاقة الممتدة بدفعةٍ قويّة بعد عام 2010. في ذلك الوقت، عاشت العلاقات الأرمينيّة التركيّة بعضاً من أجواء التقارب، خاصّة في ظلّ سياسة "صفر مشاكل" التي اتبعتها تركيا مع صعود حزب العدالة والتنمية إلى الحكم. ولّد ذلك شعوراً لدى باكو بخيانة أنقرة لها، خاصّة أن البلدين تربطهما "أخوةٌ" متينة، يُعبّر عنها بالعبارة الشهيرة: "دولتان، أمّة واحدة". ترافق هذا التطور مع الاعتداء الإسرائيليّ على سفينة "مافي مرمرة" التركيّة، وما نتج عنه من تدهورٍ في العلاقات بين أنقرة وتل أبيب، ومحاولات تركيا التأثير على أذربيجان لتنأى هي عن "إسرائيل" أيضاً.

ضمن هذا السّياق، استغلّت "إسرائيل" الاستياء الأذريّ من تقارب تركيا مع أرمينيا، ومحاولة أنقرة في الوقت ذاته التأثير على سياسة باكو الخارجيّة، فدفع الاحتلال باتجاه علاقةٍ أقوى مع أذربيجان، يستدفئ بها من برود الموقف التركيّ حينها، ويستفيد من قرار الرئيس علييف تحديث الجيش ورفع الأهبة العسكريّة دون الاعتماد الكليّ على قوّة تركيا، حليفة بلاده العسكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة الأبرز.

"إسرائيل" تبحث عن حليف..

زار نتنياهو أذربيجان مرّةً عام 1997، ومرّةً أخرى عام 2016، وفي الأخيرة صوّر العلاقات الأذربيجانية الإسرائيلية على أنها "مثالُ ما يمكن أن تكون عليه العلاقات بين المسلمين واليهود في كلّ مكان". تلخّص هذه العبارة أحد أبرز أهداف "إسرائيل" الاستراتيجيّة من التقارب مع أذربيجان، فحتى ما قبل مرحلة التطبيع العربيّ الأخيرة، وجد الاحتلال في أذربيجان نموذجاً محتملاً للدولة الإسلاميّة "الأخرى"، التي لا ترى حرجاً في التعاون العلنيّ مع "إسرائيل" في مقابل مقاطعةٍ إسلاميّةٍ عامّة.

من ناحيةٍ أخرى، فإنّ لأذربيجان موقعٌ جغرافيّ وتركيبة ديموغرافيّة تجعلها ساحة خلفيّة لـ"إسرائيل" تُحقق من خلالها مصالحها. طوال عقود، انتهجت "إسرائيل" "استراتيجية المحيط" مع خصومها وأندادها، عبر إحاطتهم بحلفاء سياسيّين وعسكريّين لها، وفي هذا السياق يأتي تقاربها مع أذربيجان جارة إيران وتركيا.

كما أنّ ثلث الإيرانيين، بمن فيهم المرشد الأعلى علي خامنئي، ينحدر أجدادهم من أذربيجان، ويعتبر كثيرٌ منهم أذربيجان عشيرتهم وأهلها أهلهم، علماً أنّ عددهم في إيران (نحو 20 مليون من أصول أذريّة) يفوق ضعف سكان أذربيجان، ما يعطي باكو نفوذاً معنويّاً على نسبةٍ وازنة من سكّان إيران (مثلاً تظاهر إيرانيون خلال المواجهة الأخيرة بين أذربيجان وأرمينيا احتجاجاً على موقف إيران المحياد من الأزمة). 

من ناحية ثالثة، هناك أيضاً العلاقة الوثيقة بين أنقرة وباكو مقابل العلاقة القديمة لكن المتأرجحة بين أنقرة وتل أبيب، ما يؤهل باكو لتكون قناة اتصالٍ محتملة لتهدئة الأتراك وجذبهم في أوقات الشدّة نحو مزيدٍ من التقارب مع "إسرائيل".

ومقابل هذه المصالح الاستراتيجيّة الإسرائيليّة، تأمل أذربيجان أن تقاربها مع تل أبيب سيُحسّن صورتها في واشنطن ويساعدها على ترويج سياساتها هناك، بالاستعانة بثقل اللوبي اليهوديّ لموازنة ثقل اللوبي الأرمنيّ العريق وذي التأثير الواسع في السياسة الأميركيّة الخارجيّة. من أمثلة ذلك مثلاً أن تستخدم أذربيجان يهودها وتاريخها في "عدم معاداة الساميّة"، لتحظى بقبول النخب السياسيّة الأميركيّة ودعمها.

قناة للتجسس على إيران..

خريف العام 2012، وبينما وقف نتنياهو في الأمم المتحدة مؤدياً عرضاً مسرحيّاً للتحذير من تطوّر السلاح النوويّ الإيرانيّ، كان هناك لاعبٌ صامت يراقب المشهد بتوجّس. هذا اللاعب هو أذربيجان التي كثّف الموساد نشاطه على أراضيها منذ 2007، وتُتهم بأنها مصدرٌ أوليّ لمعظم معلومات "إسرائيل" عن النوويّ الإيرانيّ، وفق ما نشرته وثائق ويكيليكس عام 2011.

منذ أوائل التسعينيات، دأب جميع رؤساء الموساد على زيارة أذربيجان ولقاء نظرائهم في جهاز MTN الاستخباري الأذريّ بشكلٍ دوريّ، وبُنيت محطات رصدٍ وتجسّس إلكترونيّة على طول بحر قزوين والحدود مع إيران بدعمٍ من الاحتلال. 

وفي عام 2011، بدأت "إسرائيل" بتزويد أذربيجان بطائراتٍ دون طيّار لمراقبة الحدود، لتصبح أذربيجان عيوناً وآذاناً، وأحياناً ذراعاً للاحتلال، كما وقع في حادثة سرقة الموساد نصف طن من بيانات الأرشيف النووي الإيراني، التي نسبت تقارير إعلاميّة لباكو المساهمة بها عبر تسهيل تهريب الأرشيف من طهران إلى تل أبيب مروراً بأراضيها. بالإضافة إلى اتفاق البلدين مبدئياً على السماح للمقاتلات الإسرائيليّة باستخدام مطارٍ عسكريّ أذربيجانيّ لشنّ هجماتٍ محتملة ضدّ إيران.

اقرؤوا المزيد: "قمع في الأرجنتين؟ "إسرائيل" جاهزة لتقديم خبراتها".

وكنوعٍ من "ردّ الجميل"، تساعد "إسرائيل" الرئيس إلهام علييف في قمع المعارضة الداخليّة والتجسس على الصحفيّين والنشطاء الأذريّين، والتصدي لاستهداف مصالح "إسرائيل" في أذربيجان، ومن ذلك اعتقال السّلطات الأذريّة في 2013 خليةً قالت إنّها تنتمي لـ"حزب الله"، بعد تحذير الموساد من مخططٍ لاستهداف السّفير الإسرائيلي في أذربيجان.

من أجهزة التنصت حتى السفن الحربيّة..

أمّا على صعيد العتاد العسكريّ، فقد كان الاحتلال وجهة أذربيجان الأولى للتسلّح خلال العقد الأخير، إذ لم تعر "إسرائيل" اهتماماً لحظر توريد الأسلحة الدوليّ لأذربيجان وأرمينيا، لتستفيد جميع الشركات العسكرية والأمنية الإسرائيلية الكبرى من حرص باكو على التسلح، وتبيع شركات "IAI" و "Elbit" و "Rafael" وشركات أخرى أصغر أي شيء تقريباً إلى أذربيجان، بما في ذلك القبّة الحديدية وطائرات بدون طيّار خاصّة الكاميكازي والسفن الحربيّة وأجهزة التنصت. في الفترة بين 2015-2019 أصبحت "إسرائيل" المورد الأساسي لحوالي 60% من الأسلحة الأذربيجانيّة، متجاوزةً روسيا، وقد حققت من ذلك أرباحاً جاوزت 7 مليار دولار.

في موجة التصعيد السابقة بين أرمينيا وأذربيجان عام 2016، برزت الأسلحة الإسرائيليّة والمقاتلات بدون طيّار خلال المعارك. أمّا في الحرب الأخيرة، فقد هبطت أربع طائرات على الأقل من طراز (إليوشن إي أل-76) في قاعدة "عوفدا" العسكريّة جنوب فلسطين، وأقلعت مجدداً نحو أذربيجان، وهي القاعدة الوحيدة التي يُسمح للطائرات المُحمّلة بالمتفجرات الإقلاع منها. تسبّبت هذه الحادثة بغضبٍ أرمينيّ دفع يريفان لاستدعاء سفيرها في "إسرائيل" رغد أنّه لم يمضِ على تعيينه في حينه سوى أيّام قليلة.1أرمينيا التي يُغضبها رفض الاحتلال الاعتراف "بمذبحة الأرمن"، لم تفتتح سفارةً لها في "إسرائيل" إلّا في خريف 2020.

يقدّم الاحتلال كذلك تدريباتٍ لأجهزة الأمن والاستخبارات الأذربيجانيّة والقوات الخاصة، وتوفر شركاتٌ إسرائيليّة حماية شخصية للرئيس علييف وكبار المسؤولين، بالإضافة إلى بناء الأنظمة الأمنية في مطار باكو.

النفط.. ومشاريع الهيمنة

عام 1994، أي بعد فترةٍ قصيرة على انهيار الاتحاد السوفييتي، كانت "إسرائيل" تغتنم فرصة اقتصادية في بلدٍ يحاول أن ينهض، فبدأت شركة خطوط Bakcell، أول مشغل للهاتف الخلوي في أذربيجان، كمشروعٍ مشترك مع الاحتلال

ومنذ عام 1999، بدأت باكو تصدِّر نفطَها للاحتلال، وصارت تسدّ اليوم جزءاً من فاتورة الأسلحة الإسرائيليّة الضخمة بالنفط، فمع ازدياد واردات الأسلحة، ارتفعت صادرات النفط بشكلٍ كبير حتى أصبحت باكو في 2016 مصدر نصف النفط الذي يستورده الاحتلال تقريباً، وصارت "إسرائيل" ثاني أكبر مستوردي النفط الأذربيجانيّ بعد إيطاليا، بينما تمد بدورها أذربيجان بمعداتٍ متطورة في مجالات التكنولوجيا والطب والزراعة.

في حقل الطاقة أيضاً، يسعى الاحتلال إلى مدّ خطّ أنابيب باكو - تبليسي - جيهان الممتد من بحر قزوين حتى المتوسط عبر أراضي أذربيجان وجورجيا وتركيا، ليصل إلى ميناء إيلات على ساحل البحر الأحمر. تطمح "إسرائيل" أن تربط هذا الخطّ مع خطّ Tipline الإسرائيلي (خط أنابيب يقطع الأراضي المحتلة من إيلات إلى عسقلان)، وأن تنقل عبره نفط دول آسيا الوسطى بما فيها أذربيجان إلى أسواق الهند واليابان وكوريا الجنوبيّة.

هذا على صعيد المستقبل، أما على صعيد الواقع، فقد استفاد الاحتلال من خبرات أبرز شركات النفط الحكوميّة الأذريّة (SOCAR) في التنقيب في مياهنا الفلسطينية قبالة ساحل أسدود عن النفط عام 2012. لم يجد الاحتلال النفط حينها، لكنه استفاد من تعاون الأذريين وخبراتهم في المجال. 

أما بعد..

تزامناً مع نقل السفارة الأميركيّة إلى القدس المحتلة قبل عامين، وبينما كانت قوات الاحتلال تنفذ مجزرة بحقّ متظاهري مسيرات العودة في غزة، كان وفدٌ أذريٌّ رفيع المستوى يزور دولة الاحتلال. وبينما يندر مثل هذا النوع من التواصل بين السلطة الفلسطينية وحكومة أذربيجان التي ليس لها تمثيلٌ دبلوماسيٌّ في رام الله، دأبت باكو على الامتناع عن تأييد مقترحات القوانين الإسرائيليّة التي تستهدف الفلسطينيين، بما فيها مقترح لإدانة حركة "حماس" في مجلس الأمن عام 2018.

ربما بإمكاننا أن نحيل تحاشي باكو دعم "إسرائيل" ضدّ الفلسطينيين في المحافل الدوليّة وامتناعها عن افتتاح سفارةٍ في "إسرائيل" إلى خشية أذربيجان من الضغط الذي قد تتعرض له من دولٍ سيزعجها التقاربُ الفجّ مع "إسرائيل"، على رأسها الجارة إيران التي تفوق أذربيجان حجماً وقوّة، ودول العالم الإسلاميّ الأخرى مثل باكستان وإندونيسيا، وتأثيره السلبي لاحقاً على دعم هذه الدول لأذربيجان في صراعها ضدّ أرمينيا على إقليم ناغورنو- كاراباخ. 

لكن بما أنّ باكو استعادت حديثاً سيطرتها على الإقليم بعد سنواتٍ طويلة من الصراع، ومع تقارب السعودية مع "إسرائيل" وتطبيع الإمارات والبحرين، لن يكون مستبعداً أن تبادر أذربيجان قريباً لافتتاح سفارتها هي الأخرى، وفتح الباب لتعاونٍ أكبر.