29 سبتمبر 2020

الوصايا.. آخر ما قاله الشهداء

الوصايا.. آخر ما قاله الشهداء

كانَت عدسةُ الكاميرا تقتربُ من وجهه، ثمّ تبتعد بسرعة، ليظهرَ سلاحُه الذي يحمله على صدره: "أنا الشهيد الحيّ صالح عبد الرحيم حسن صوي، أسكن مدينة قلقيلية الصمود، أبلغ من العمر 27 عاماً، ولي أبٌ على قيد الحياة، وتسعة إخوة". سجَّل الصوي مقطع الفيديو قبيْل تنفيذه عملية استشهاديَّة ليكون بذلك المقطع الأوّل من نوعه، فهو أوّل استشهاديّ تركَ وصيَّة مصوَّرة، وذلك في أكتوبر/ تشرين الأول 1994.

توالت بعدها تلك الوصايا، الفريدة حيناً والمتشابهة أحياناً، خاصَّة في أوجِ انتشارِ العمليَّات الاستشهاديَّة بين عاميْ 2001 و2004، حينَ جنَّدت الأذرع العسكريَّة للفصائل الفلسطينيَّة استشهاديّين لتفجير حافلاتٍ ومحالّ في الداخل المحتلّ والقدس والضفَّة الغربيَّة. هنا جولة للاطلاع على مضامين بعضها.

القوْل الأخير

كان صالح صوي قد التقى بالمهندس يحيى عياش في قريةٍ قربَ سلفيت، واتفق معه على تنفيذ العمليَّة، وهناك، في قراوة بني حسان، سجَّل وصيَّته. كان صوي، المطارد القساميّ، في الفيديو حليقَ اللّحية ولا يرتدي نظّارة، عكسَ صورته التي يحتفظُ بها أرشيفُ "كتائب عزّ الدين القسَّام". إذْ أنَّه بالغالب سجَّل وصيَّته في هيئته الأخيرة التي نفَّذ فيها العمليَّة. أشارَ في وصيَّته إلى سببٍ مباشرٍ سيدفعه لركوب الحافلة رقم 90، في ساحة ديزنغوف بتل أبيب، وتفجيرها من مقعده في الصفّ السادس خلفَ السائق.

قال: "تحدّث الحقير رابين والحقير باراك بأنه لم يكن لديهما أيّ خيار إلا قتل الخلية التي حافظت على حياة الجندي المخطوف نحشون فاكسمان، وعدم تلبية مطالبنا الإنسانية بالإفراج عن جميع الأسرى والمعتقلين، ولم يكن أمامنا سوى خيار واحد، وهو جعل كل الشعب اليهوديّ رهينة الخوف والرعب اللذين سـتَبُـثّهما عمليّاتنا الاستشهاديَّة".1في حينه، كان إسحاق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي، وإيهود باراك قائداً في الجيش. أما فاكسمان فكان رقيباً في جيش الاحتلال، أسرته خلية من حركة "حماس"، في محاولة للوصول إلى صفقة لتبادل الأسرى. فشلت العملية عندما اكتشف الاحتلال مكان احتجاز فاكسمان شمال القدس، فاقتحموه وأطلقوا النيران، فأصابت فاكسمان بمقتل.

بعد صوي، تركَ الاستشهاديّون وصايا، إمّا مكتوبة أو مصوَّرة، وجّهوها إلى عموم الفلسطينيّين، وإلى عائلاتهم، ورفاقهم. عادةً ما كانت تُسجَّل الوصايا في شقةٍ يؤخذ إليها الاستشهاديّ قبيلَ تجهيزه للعمليَّة، فيقفُ أمام الكاميرا، وخلفه رايةُ الذراع العسكريّ الذي ينتمي إليه، بينما يحملُ القرآن- غالباً- ومعه سلاح، مرتدياً زيّاً عسكريّاً وعصبةً على جبينه. وبعدَ تنفيذ العمليَّة، يوزّع الذراعُ العسكريّ نسخاً من الوصيَّة بالصوتِ والصورة، لوسائل الإعلام، ومعها صورٌ ثابتة وأخرى لتُطبَع كـ"بوسترات". يتحوَّل حينها الاستشهاديّون إلى وجوهٍ معروفة لأجسادٍ أمستْ "قنبلة".

تَردُ استعارة الجسد كقنبلة، أو كسلاحٍ بحدّ ذاته في أكثر من وصيَّة، فيقولُ الشهيد علي أشمر، الملقّب بــ"قمر الاستشهاديين"، في وصيّته: "بعد قليلٍ من هذه الكلمات، سيصبح جسدي ناراً تحرق المحتلّ الصهيونيّ الذي يُمعن كلّ يوم وكلّ لحظة في تعذيبكم". وتقول الشهيدة هنادي جرادات في وصيّتها: "لقد اخترت طريقي هذا بكامل إرادتي، ولقد سعيت لهذا كثيراً.. فليس أمامي غير هذا الجسد الذي سأجعله شظايا تقتلع قلب كل مَن حاول قلعنا من بلادنا..".

الذهابُ إلى البحر

يتركُ الشهداءُ في وصاياهم شواهدَ على فلسفتهم في الحياة، وهي في غالبها تُركّز على الدور الذي يؤمنون به. نجدُ ذلك جليّاً في وصيَّة الشهيد علي أبو ركبة، الذي قادَ هجوماً مسلّحاً في مستوطنةٍ غوش قطيف عام 2002: "كلّكم مسؤول، وكلّكم سوف يسأل على حدة: ما هو دورك في هذا الزمان؟ ماذا عملت؟ فيما كنت تفكر؟ ما هو هدفك؟ سداد القرض؟ أم شراء الأرض، أم الرتبة؟". 

مثله الشهيد هاني أبو بكرة، الذي كتب في وصيَّته بيتَ الشِّعر: "دقّاتُ قلبِ المرء قائلة له.. إنَّ الحياةَ دقائق وثوانٍ"، متأملاً وقتَه في الحياة، الموشك على الانتهاء: "إنَّ الوقتَ هو عمر الإنسان، وكلّ دقيقة من عمرك قابلة لأن تضع فيها حجراً يزداد به مجدك ارتفاعاً، وهذه الدقيقة يمكن أنْ يُفعل فيها خيرٌ كثير ويُنال بها أجرٌ كبير، دقيقة واحدة يمكن أن تزيد في عمرك وفي عطائك وفهمك". كان من المفترض بـ"أبو بكرة" أنْ ينفّذ عمليةً استشهاديَّة بحقيبةِ متفجّراتٍ عام 1994، لكنَّ العمليَّة لم تكتملْ، وعاش بعدها عقداً كاملاً، ثم استشهد عام 2004 برصاص الجنود على حاجزٍ عسكريّ. 

والدة الشهيدة وفاء إدريس تحمل صورتها في منزلها بمخيم الأمعري. نفّذت وفاء عمليَّة استشهاديَّة عام 2002، لتكونَ أولى الاستشهاديّات النساء في تلك الفترة.

يتضّحُ من الوصايا العديدة المنشورة، والقصص الموثّقة عن الاستشهاديين أنَّهم كانوا منشغلين بِما يلي دقيقةَ أعمارهم الأخيرة. إذْ أوصوا بأنْ يَعْلَمَ أبناؤهم وإخوتهم عن سببِ اختيارهم لهذه الطريق، وكانوا يفكّرون بما بعدَ التنفيذ. منهم نافذ عايش النذر من غزّة، الذي ذهبَ قبيْلَ استشهاده إلى موزّعٍ للمياه المعدنيَّة في منطقتِه، واشترى منه صهريجَ ماءٍ كبيرَ الحجم، موصياً إيَّاه بأنْ يتواجد في اليوم الثاني في الحيّ، بحجَّة أنَّ مسيرةً كبيرة لحركةِ "حماس" ستخرج يومها، وأنّ الحرّ سيكون شديداً. جاءَ الرجلُ في اليوم التالي، ليفاجأ بأنَّه يسقي السائرين في جنازةِ الشهيد القسَّاميّ النذر ذاته. تقولُ أمُّ الشهيد إنَّه، في أيّامه الأخيرة، وزَّع ملابسه على أصحابه، وأصلحَ بين اثنيْن متخاصميْن، ثمّ وضَّب حقيبةً صغيرةً له، وودَّعها، على أنَّه ذاهبٌ إلى البحر في رحلة. 

اضطر النذر أنْ يخفيَ الأمرَ عن والدته، مثله مثل معظمِ الاستشهاديّين، والذين يبقون الأمرَ سرّاً ويتركون رسالةً صغيرةً لأمّهاتهم في وصاياهم. يُستثنى منهم محمد فرحات (17 عاماً)، الذي سجَّل وصيَّته مع أمّه "أم نضال فرحات" بجانبه عام 2002، يرتديان العصبة الخضراء ذاتها على جبهتيْهما، وتقول هي: والله يما إنّه أعزّ يوم بيمرّ عليَّ يما، أنا بودعوش للموت يمّا، بودعه لحياة أحسن.. ولو عندي 100 ولد زي محمد، لأقدمه بطواعية، وكل غالي يرخص في سبيل الله".

الشهيد محمد فرحات في لحظاته الأخيرة يودع والدته مريم فرحات.

بين الحياة والموت

كرّر الاستشهاديّون في وصاياهم فكرةً مفادها أنَّ موتَ ذاك الجسد- القنبلة- هو من أجلِ الحياة، فيقول الشهيدُ محمد الغول في وصيّته: "ما أجمل أن أكونَ [أنا] الردّ، وأن تكون عظامي شظايا تفجّر الأعداء.. ليسَ حبّاً في القتل، ولكن لنحيا كما يحيا الناس، فنحنُ لا نغنّي أغنيةَ الموت، بل نتلو أناشيد الحياة، ونموت لتحيا الأجيال من بعدنا".

كانت تلك الوصيَّة الثالثة التي يكتبها الشهيد الغول، بعد تأجيل تنفيذه العمليَّة مرّتيْن، وبوصيّته تلك، انطلقَ لينفّذ عملية في القدس عام 2002. كان الغول، الطالبُ في جامعة النجاح، 24 عاماً قد أوصى أهله في مخيَّم الفارعة بألّا يحزنوا وألّا يبكوا على فراقه.

نجدُ الوصيَّة الأخيرة بتجنّب الحزن في معظم وصايا الاستشهاديّين، إذْ أوصى الشهيد نبيل العرعير أمَّه بأنْ تزغرد، فهو يعتبرُ استشهاده عرساً ولا يرى أنَّه سيموت، بل سيغادرُ إلى حياةٍ جديدة، ومثله كثيرون حرصوا على توصيةِ عائلاتهم بقبول التهاني، وتوزيعِ الحلوى عن أرواحهم.

اقرأ/ي أيضاً: الشّهيد خليل الشريف.. حكاية توديع اللُّغة

ذكرُ الحياةِ في اللحظاتِ الأخيرة، التي يليها الموتُ حتماً، لم يبدأ بالعمليَّات الاستشهاديَّة خلال الانتفاضة الثانية، أو العقد الذي سبقها. كانَ ذكرُ الحياة بمعنىً مختلف في وصيَّةٍ جماعيَّة تركها منفّذو عمليَّة ميونخ عام  1972.2عملية نفذتها منظمة "أيلول الأسود" واحتجزت فيها رهائن إسرائيليين في ألمانيا.كتب المنفذون وصيّتهم قبل ساعاتٍ من التنفيذ وأجملوا فيها نقاشاً دارَ بينهم، لم يفكّروا فيه بالعمليَّة ذاتها، التي أصبحتْ أقرب من أيّ شيء آخر، بل بمن سيعيشون بعدها: "إلى إخوتنا رفاق الدرب الطويل، لم نكن نحبّ أن نكتب وصيَّة، لأننا نريد الحياة، لا لأنّنا نحبّ الحياة... وخاصة حياتنا نحن الشعب شعب فلسطين... الحياة القاسية المريرة. ولكن لأنّنا نحب أن تستمر حياتنا من أجل أن يستمر نضالنا[...] نكتب وصيتنا الجماعيّة، فنحن نشترك في عملية واحدة وقد نموت دفعةً واحدة، وقد تنجح عمليتنا وينتصر شعبنا كله، فلتكن الوصية جماعيّة رمزاً للتعاون الخالد ورمزاً للجماعيَّة في التفكير والتخطيط والتنفيذ."

وَضَعَ المنفّذون وصيَّتهم في ظرفٍ ومعه 500 دولار وسبعة وثلاثين ماركاً ألمانيّاً، كتبوا أنَّهم وفّروها للثورة: "لأنّنا نعرف أنه قد يأتي اليوم الذي تكون فيه بحاجة إلى هذا المبلغ على ضآلته، واسلموا لنا ثواراً مناضلين، واسلموا رافعين راية التحرير".

في المْيدان

تزامنَ تصاعدُ العمليَّات الاستشهاديَّة مع تولّي أريئيل شارون رئاسة الوزراء في حكومة الاحتلال، وذلك عام 2001. عقب تولّيه السّلطة أطلق شارون عملية "البرونز"؛ وهي تكثيف لتكتيكاتٍ كانت قبل قدومه إلى الحكم، من قصفِ المناطق السكنيَّة، وجرف الأراضي الزراعيَّة، ونشر الدبابات، وطائرات الهيلبكوبتر. كان يُحكم قبضته على المدن الفلسطينيَّة بحجَّة الردّ على العمليّات، ويزعم استكماله "حرباً ضدَّ الإرهاب" بغاراتٍ جويَّة جديدة، واغتيالات، والتوغل في المزيد من الأراضي.

في المقابل، نظرت حركات المقاومة إلى عمليَّاتها الاستشهاديَّة كـ"توازنٍ للرّعب"، فصرَّح القيادي الشهيد عبد العزيز الرنتيسي، حينها، أنَّه ليس لديه صواريخ، ولا طائرات حربيَّة، مضيفاً: "إنَّهم يهاجموننا بأسلحة لا نستطيع الدفاع عن أنفسنا أمامها، والآن أصبح لدينا سلاح لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم أمامه".

وجدت أحزابُ المقاومة الفلسطينيَّة متطوّعين كثر مستعدين لتنفيذ العمليَّات الاستشهاديَّة، وفي ظلّ ذلك، لاقت العمليات الاستشهاديّة جدلاً في أوساط التنظيمات الفلسطينيّة نفسها. من بين النقاط التي دار النقاش حولها، مسألة حتميَّة استشهاد المنفّذ بعد تدريبه وجدوى ذلك، إذ رأى البعض أنّ العمليات الاستشهاديّة تعني سرعة خسارة المقاومين بعد تدريبهم، وأنّ الأوْلى هو الحفاظ عليهم لأطول فترة ممكنة للمشاركة في مختلف أعمال المقاومة.

كما رأى البعض أنّ العمليات الاستشهاديّة تكشف المكان الذي خرج منه الشّهيد، وبالتالي تزيد من احتماليَّة كشف خلايا عسكريَّة فاعلة في محيطه. مقابل ذلك، طُرحت في النقاش مزايا تلك العمليّات الميدانيَّة، من تحكّم المنفِّذ بالمكان والتوقيت وإيقاعها ضرراً مباشراً أكبر من غيرها من العمليات.

تختلف الدراسات فيما تُقدّمه من أرقام حول عدد العمليات الاستشهاديّة التي شهدتها الانتفاضة الثانيّة، إلا أنه يمكن تقديرها بما يتراوح بين 130-160 عملية، على اختلاف المصادر. ومع اغتيال الاحتلال للعديد من القادةِ الميدانيّين العسكريّين في الفصائل الفلسطينيَّة، والمضيّ قدماً في بناء الجدار الفاصل عام 2002، وما رافق ذلك من سياسات تهدف للقضاء على الانتفاضة الثانية، سرعان ما انخفضَ عدد العمليَّات تدريجيّاً، وبقيَت من بعدِها نصوص الوصايا، وعدد قليل من مقاطعها المسجّلة، شاهداً على الانتفاضة الثانية باعتبارها واحدة من أكثف تجاربنا النضاليّة الفلسطينية.

 



10 مارس 2020
ما المُفزع أكثر من "كورونا"؟

يخيفنا الفيروس، يخيف العالم عموماً، فما بالكم بنا نحن؟ نحن الذين ليس لدينا نظام صحيّ يمكن الوثوق به والاطمئنان إليه.…