"جئنا الظُّلامَ نطرد"، هتف حشدٌ من طلبة أكاديمية ما قبل الخدمة العسكريّة في مسيرةٍ جابت شوارع المدينة بأعلام "إسرائيل" والمشاعل. لا نحتاجُ مهاراتٍ خارقةً في التّأويل لنعلمَ أنّهم بالظُّلام يقصدون الفلسطينيّين، والفلسطينيّون يعلمون أنّ أولئك المستوطنين والجنود المتدربين يريدون إنهاء المهمّة التي بدأها أجدادهم في العام 1948: تصفية المدينة من أهلها.1 أكاديمية ما قبل الخدمة العسكريّة هي أكاديميات تحضيريّة يلتحق بها المستوطنون المتدينون على وجه الخصوص لتحضيرهم فترة الخدمة العسكرية في جيش الاحتلال، ودفعهم نحو مواقع متقدمة فيها. وقد أسست "النواة التوراتية" التي سيتحدث عنها هذا المقال أكاديمية من هذا النوع في مدينة اللد. للمزيد يمكن قراءة مقال: "أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية وصناعة مجتمع المعرفة الأمني"، موقع باب الواد،www.babelwad.com
واجههم رجلٌ فلسطينيٌّ واحدٌ برفع علم فلسطين فاعتقلته سلطاتُ الاحتلال. يتكرّر هذا المشهد في يوميّات المدن الفلسطينيّة حتى يُصبح ذِكرُ زمانِ ومكانِ حدوثه نافلاً، وفي حالتنا لم تتجاوز أصداءُ مسيرة المستعمرين تلك حدود المدينة التي تُرِكت لتقاوم حملاتِ التهويد والتهجير وحيدةً.
قد تكون هذه المدينة التي نصف فيها هذا الحدث مدينةَ القدس أو الخليل، ولكنّها الّلد في هذه الحالة؛ والمناسبة قد تكون مسيرةُ الأعلام في يوم "توحيد القدس"، ولكنها في هذه الحالة مسيرةُ الشّموع في عيد الأنوار "الحانوكا" اليهودي في ديسمبر/كانون الأول 2012؛ ومنظّمو المسيرة قد يكونون ناشطي حركة "لهافا" أو "لا فاميليا"، ولكنهم مسؤولو "النواة التوراتيّةّ" التابعة لتيّار الصهيونيّة الدّينية.
والنّواة التوراتيّة هي مجموعة من المستوطنين أو عائلات المستوطنين المنضوية تحت راية تيار الصّهيونيّة الدينيّة، والتي قرّرت تنظيم نفسها للاستيطان في منطقةٍ مُهمّشةٍ ما أو غير مُحافظة دينيّاً (من الناحية اليهودية) داخل فلسطين المحتلة. الهدف: فرض طابعٍ يهوديٍّ قوميٍّ على المنطقة وتعزيز الاستيطان. وقد استقتْ هذه المجموعات اسمَها - النواة - واللغة التي تستخدمها لوصف نشاطها ونموّها من عالم الزراعة، ما يذكّرنا ببدايات الحركة الصهيونيّة في فلسطين.
تزعم النوى التوراتيّة أنّ دوافعها اجتماعيّة وخيريّة وتصبُّ في تطوير المناطق المُهمّشة التي تستقر فيها ومدّها بخدمات أفضل وموارد أكثر. بيْد أن ما ترمي إليه حقيقةً، بعيداً عن هذا الهدف المُعلن، وخاصّةً من خلال استيطانها وتغلغلها في المدن المحتلة (التي تسمى المختلطة)، كاللّد والرملة وعكّا، هو فرض هيمنتها على الفضاء العامّ وتهويد المدن، وخلق بيئةٍ تُمهّدُ لإفراغ المدينة من أهلها الفلسطينيّين.
على أنقاض الفلسطينيين في اللد
تأسّست النواة التوراتيّة في اللد، المعروفة بـ"النواة التوراتيّة - رمات إشكول" (نسبةً إلى الحي الاستيطانيّ الذي اتّخذت منه مقرّاً لها)، في العام 1996. تذكر "النواة التوراتيّة رمات إشكول" في بطاقتها التعريفية أنّ بدايتها كانت من بعض عائلاتٍ "طليعيّة" مُتماهية مع الفكر الصهيونيّ الدينيّ (المُمَثّل حينها بحزب المفدال، واليوم باليمين الجديد بقيادة نفتالي بنت) التي وفدت إلى اللّد في العام 1996 ووجدت فيها "أرضاً خصبةً للازدهار".
بعد عقدٍ تقريباً، أي حوالي عام 2006، انضمّت إلى هذه النواة عائلاتٌ أخرى جيء بها من مستعمرة غوش قطيف بعد تفكيكها وانسحاب جيش الاحتلال من غزّة. تتألف النواة في اللّد اليوم، بحسب موقعها الالكترونيّ، من ألف عائلةٍ صهيونيّةٍ متديّنةٍ تتوزّع على أحياء رمات إشكول ونفيه زايت ونفيه نوف ورمات إليشيف وما حولها. وقد أسست هذه النواة عشرات المرافق التي تخدمها وتعزز نشاطها في المدينة، كالكنس والمدارس والمراكز الشبابيّة، ومنها أيضاً أكاديمية ما قبل الخدمة العسكريّة لتأهيل مستوطنيها للدخول للجيش.
أُقيمت البؤرةُ الاستيطانيّة في رمات إليشيف بالشراكة بين النواة التوراتيّة وشركة "كردان" الإسرائيليّة للعقارات لِتستقطبَ مئات العائلات الثريّة والناجحة من تيار الصهيونيّة الدينيّة. "اللد التي لا تعرفونها" هكذا يصف موقعٌ إسرائيليّ بؤرةَ رمات إليشيف في إعلانٍ ترويجيّ يُحصي مزايا هذه البؤرة وتفرّدها وجودة الحياة فيها لأبناء العائلات الثرية. هذه البؤرة أُقيمت تحديداً على ركام حارةٍ فلسطينيّةٍ قرب مركز المدينة وتطلّ بناياتُها الحديثة والفارهة على المقبرة الإسلاميّة القديمة. أما الأرض التي بُنيت عليها فقد اشترتها (أو الأصح أُهديت إليها) النواة التوراتيّة من "دائرة أراضي إسرائيل"، وهي الجهة الرسميّة الإسرائيليّة التي استولت على أراضي المُهجّرين بعد النكبة وأدارت توزيعَها بين المستوطنات.
ولا يُخفي مؤسس بؤرة رمات إليشيف الارتباطَ الوثيق بين الإيديولوجيا القوميّة الدينيّة والسيطرة على العقارات، ويؤكّد أنّ "تطوير اللد مهمّة وطنيّة لا تقل أهمية عن العيش في نابلس". تعكس هذه الجملة "رسالة" النوى التوراتيّة في المدن المحتلة (المختلطة) في أراضي الـ48، والتي تؤمن بأنها امتدادٌ عقائديّ وسياسيّ لمستوطني يتسهار في نابلس أو كريات أربع في الخليل.
اقرؤوا المزيد: "الهبّة في أراضي الـ48.. ملامح من الالتحاق والالتحام".
هكذا، خلقت هذه البؤر للمستوطنين عالماً موازياً في مدينةٍ حكمت فيها سلطاتُ الاحتلال على الفلسطينيّين بالإفقار والخنق وحرمانهم من تراخيص البناء ومن التوسع ومن الحصول على الخدمات الأساسية. ووسط هذا التطوير العقاري الاستيطاني، تتكثَّف محاولات تفريغ المدينة من أهلها الفلسطينيّين (في اللد حوالي 30 ألف فلسطيني، و70 ألف مستوطن). تعتمد محاولاتُ التفريغ على آلياتٍ عديدة كالاستطباق gentrification وأوامر الهدم أو الإخلاء، وعنف الشّرطة الإسرائيليّة، وتحويل الأحياء الفلسطينيّة إلى أحزمة فقر ومرتعٍ للجريمة المنظمة.
النواة والبلدية.. يد واحدة
تحظى النوى التوراتية بدعمٍ سخيٍّ من دولة الاحتلال وأذرعها ووزاراتها المختلفة مثل شُعبة الاستيطان2وحدة مستقلة داخل الهستدروت الصهيونية العالمية، تحصل على كامل تمويلها من حكومة الاحتلال، وهدفها تأسيس وتثبيت الاستيطان في الضفة والجليل والنقب والمدن التي تُدعى "مختلطة". ووزارة التربية والتعليم ووزارة الزراعة ووزارة الإسكان، وليست مجرد مجموعاتٍ تطوعّية تعتمد على تبرعات المؤمنين بها. وفقاً لأرقام نُشرت في العام 2014، حصلت النوى التوراتيّة في مختلف أماكن وجودها داخل فلسطين، على 52 مليون شيكل من ميزانية دولة الاحتلال. وكشف تقريرٌ يراقب عملها بأنها توفر بنيةً تحتيّةً فكريّةً للصهيونية الدينيّة خلال الانتخابات البلدية. وبدورها تحرص أحزابُ الصهيونيّة الدينية على ضخِّ الأموال والدعم السياسيّ لهذه النوى بلا انقطاعٍ من خلال الوزارات التي تُسيطر عليها.
في اللد مثلاً، تُعتبر النواة التوراتيّة ابنة البلديّة المدلّلة، فرئيس بلدية اللد يائير رفيفو، عضو حزب الليكود، (والذي زاره عضو الكنيست منصور عباس قبل أيام) عضوٌ في النواة التوراتيّة كذلك. ومدير عام البلدية أهرون أتيّاس من أحد مؤسّسي النواة ومن أبرز وجوهها الإعلاميّة. "اللد مدينة يهوديّة"، قال أتياس في العام 2015، "وبحمد الله نتوقع وصول ثلاثة آلاف عائلة متدينة وحريدية إلى اللّد بعد سنة ونصف".
ولا تنفصل جهود النواة التوراتية عن جهود بلدية اللّد. فالأخيرة تحاول منذ سنواتٍ سحقَ الوجود الفلسطينيّ في المدينة فعليّاً من خلال رفضِ المصادقة على إقامة وحدات بناءٍ جديدة للفلسطينيين في مقابل تشجيع وتحفيز اليهود المتدينين على الاستيطان فيها، ورمزيّاً من خلال محاولات متكررة لإسكات مكبّرات الصوت في المساجد، فيما يعتبره الفلسطينيون في المدينة "حرباً على الأذان". في العام 2016، مثلاً، هدّد رفيفو بتشغيل تسجيلٍ لعضو من أعضاء بلديته وهو يُلقي آيةً من التوراة في كلّ مرةٍ يعلو فيها صوت الأذان. هذا الهجوم الرمزيّ على الوجود الفلسطيني في المدينة ليس إلا امتداداً لمحاولات طمسٍ عديدة استهدفت هوية المدينة الفلسطينية، ومنها إطلاق أسماء العصابات الصهيونيّة على شوارع المدينة، بما فيها عصابة الـ"بلماح" المسؤولة عن تهجير أهالي اللّد في النكبة.
لعلَّ هذه الاعتداءات الفعليّة والرمزيّة التي تعرّض لها الفلسطينيون والفلسطينيات في اللّد بقيادة النواة التوراتية وممثّليها في البلدية، هي ما دفعت معظم الناشطين اللداويّين بتنبّؤ انفجار وشيك، وهذا ما حصل في 10 مايو/أيار الماضي. خرج الفلسطينيون في المدينة يومها نصرةً للقدس والمسجد الأقصى ودفاعاً عن هويتهم الفلسطينيّة، ولا شك أنَّهم رأوْا في ممارسات المستوطنين في الشّيخ جرّاح، وفي البلدة القديمة للقدس، نسخةً تكاد تطابق ما تمارسه النواةُ التوراتيّة ومستوطنوها في اللّد. خرجوا وصُفعوا، ولكنّهم لم يُديروا خدّهم الأيسر هذه المرة. أما النواة التوراتيّة فاستعانت بـ"طلائعيين" من نوعٍ آخر، بـ"فتيان التلال" الذين اشتهروا باعتداءاتهم اليومية على الفلسطينيين في الضفّة، وبإحراق محاصيلهم الزراعيّة وممتلكاتهم، وتنفيذ عمليات "تدفيع الثمن" على جانبي الخطّ الأخضر.
اقرؤوا المزيد: ""الموت للعرب".. عن مستوطني شبيبة التلال".
كي لا ننسى "النواة التوراتيّة" الأكبر!
أشاد أحدُ حاخامات النواة التوراتيّة بفتيان التلال الذين أقلّتهم الحافلاتُ من الضفة الغربيّة إلى اللّد كي يمارسوا هواياتهم المفضلة وصوّرهم على أنهم أبطالٌ أنقذوا سكان المدينة اليهود. أيديولوجيّاً يتبنى فتيانُ التلال فكراً أكثر يمينيّةً وفردانيّة من ذلك الذي يسود النوى التوراتية، ولكن معركة الفريقين واحدة وإن اختلفت الأدوات.
اعترف بعضُ المحلّلين الإسرائيليّين مثل براك رفيد وجيلي كوهن بأن تعاظم قوة النواة التوراتيّة في اللد وفي المدن المحتلة عام 48 ساهم في تدهور الأوضاع في المدينة، وأعادَ البعض نشر مقالاتٍ قديمة توّضح أنّ تلك النوى تشكِّل خطراً على علمانية المجتمع الإسرائيليّ من خلال تغلغلها في مدنٍ ذات طابع صهيونيّ علمانيّ، وسعيها إلى "تديين" الأطفال والمراهقين هناك وفرض سيطرتها على سلك التعليم.
يستحق هذا الاستقطاب بين القوى الصهيونيّة العلمانيّة والقوى الصهيونيّة المتديّنة بحثاً جادّاً وموسّعاً لفهم الصراعات والشروخ ضمن دولة الاحتلال. من المهم، بالمقابل، أن لا نقعَ في فخ اعتبار النوى التوراتيّة عدوّاً مشتركاً للفلسطينيّين في أراضي الـ48 والإسرائيليين العلمانيّين، أو القبول بتوظيف عنصريّة هذه النوى للترويج لخطاب ما يُسمّى "العيش المشترك".
ولنتذكّر دائماً أنّ أكبرَ نواة "توراتيّة" في فلسطين هي الحركة الصهيونيّة بمجموعاتها الاشتراكيّة والعلمانيّة، وأنّ فكر التطهير العرقي الذي يُحرّك النوى التوراتيّة في يافا وعكّا واللد والرملة هو سليلُ فكر التطهير العرقيّ الذي حرّك "الشبيبة العاملة"، وغيرها من الحركات الصهيونيّة المسؤولة عن النكبة. إنّ أي محاولة لاستخدام فاشيّة النوى التوراتيّة لتلميع الصهيونيّة العلمانيّة بيمينها ووسطها ويسارها يُغفِلُ أنّ صراعَ البقاء الذي يخوضه الفلسطينيون ليس صراعاً مع "متطرفين" (وكأنّ هناك استعماراً معتدلاً!) بل ضدّ النظام الصهيونيّ بكافة ألوانه وتدرجاته.