28 أكتوبر 2018

الناصرة

عاصمة الشرخ الانتخابيّ

عاصمة الشرخ الانتخابيّ

تعيش القرى والمدن الفلسطينيّة في الأراضي المحتلة عام 1948 حملاتٍ مكثّفةً وصاخبةً عشيّة انتخاب السّلطات المحليّة. تتمتّع هذه البلديّات والمجالس المحليّة بصلاحيّات تمنحها سلطاتُ الاحتلال الإسرائيلي، ومنها صلاحيّات التخطيط العمرانيّ والميزانيّات وإدارة الموارد.

تُشكِّل هذه الصلاحيّات نفوذاً سياسياً يُترجم إلى المباني الاجتماعيّة العائليّة والحمائليّة والطائفيّة والحزبيّة، إذ يمتاز الحراك الانتخابيّ المحليّ بحضورٍ "سياسيٍّ" للعائلة. السّلوك التنظيميّ للعائلة في "الشّأن العام" وقرار الحمائل خوض الانتخابات، يُحَوِّلُ حضورَها إلى حضورٍ سياسيّ. وإلى جانب هذا الحضور العائليّ، هناك حضور سياسيّ حزبيّ للتيّارات السياسيّة الفاعلة قُطرياً: حركة أبناء البلد، الحركة الإسلاميّة بشقّيها، الحزب الشيوعيّ والجبهة، والتجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ، إلى جانب مبادرات لائتلافات محليّة ومبادرات شبابيّة ونسائيّة.

لا تنفصلُ هذه التّشكيلات عن بعضها البعض، فهي متداخلةٌ ومتشابكة. الاعتبارات السياسيّة للأحزاب، مثلاً، مرتبطة بواقع العائليّة والطائفيّة، وتحرص الأحزاب على تقديم لوائح مرشحين تحظى بدعمٍ عائليّ أو طائفيّ. هذا الحراك الانتخابيّ، بتنوع قوائمه، يُقدِّمُ مشهداً متشنّجاً وموتوراً أيضًا، يُهيمنُ في كثيرٍ من القرى والبلدات ويصل حدّ العنف الكلاميّ والجسديّ؛ من الشتائم وصولاً إلى إطلاق النّار.

وسط هذه الحملات الانتخابيّة الكثيرة في جميع قرى ومدن الداخل، يُمكن اعتبار المعركة الانتخابيّة في مدينة الناصرة الأكثر تأثيراً على المستوى السياسيّ والاجتماعيّ المحليّ. إذ أنَّ المشهد السياسيّ في "عاصمة الجليل" لا يُمكن استيعابه بأدواتٍ آنيّةٍ، وهو وليدُ تَاريخٍ سياسيٍّ امتدّ لعقود.

الناصرة: "ثورة" 1975

الناصرة هي المدينة الفلسطينيّة الأهمّ في الداخل. لسنواتٍ طويلةٍ كانت مركزاً تجارياً اقتصادياً وخدماتياً لفلسطينيي الداخل عموماً، ولأهالي الجليل خاصّةً. منذ عام 1950 وحتّى عام 1975، سيطَرَ حزبا "مبام" و"مباي" الصهيونيان على المجلس البلديّ ورئاسة البلديّة فيها. وكان أيّ نشاطٍ سياسيٍّ خارج إطار هذين الحزبين محدوداً وملاحقاً، ومن ذلك نشاط الحزب الشّيوعيّ الإسرائيليّ.

في انتخابات 1975، ومع تصاعد الحركة السياسيّة والتوجّهات الوطنيّة في المدينة، تحوّل الميزان الانتخابيّ. نجح حينها الحزبُ الشيوعيّ بقيادة الشّاعر الراحل توفيق زيّاد بترأّس بلديّة الناصرة. يُمكنُ اعتبار ذلك الفوز تحوّلاً هاماً على المستوى المحليّ والوطنيّ في الداخل، إذ شَكَّلَ لدى كثيرين انتصاراً معنوياً للفلسطينيين المنهكين من قبضة وحصار الحكم العسكريّ. رأت العديد من القوى الفلسطينيّة في تلك النتيجة "نصراً فلسطينياً" ونقطة تحولٍ نحو دحر ونبذ الأحزاب الصهيونية من الشارع الفلسطينيّ، وشكّل هذا التقدم الانتخابيّ عاملاً مهمّاً في تفجّر انتفاضة يوم الأرض في مارس/ آذار 1976.

تحوّلت الناصرة إلى راعية النشاط السّياسيّ والوطنيّ والثقافيّ لفلسطينيي الـ48، وقد تركّزت فيها الكثير من المظاهرات والاحتجاجات للأحزاب الفاعلة في الداخل، وخاض شبابُ مدينتها مواجهاتٍ عديدة مع أجهزة أمن الاحتلال المختلفة، وصلت ذروتها مع بداية الانتفاضة الثانية حيث ارتقى فيها ثلاثةُ شهداء وجُرح واعتُقل العشرات.

استمرّت قيادة توفيق زيّاد للناصرة من ديسمبر/ كانون الأول 1975 وحتّى يوليو/ تموز 1993، وقد عُرِف زيّاد باعتباره قائدًا شعبيًا ليس في الناصرة فحسب، وإنّما في جميع مناطق التّواجد الفلسطينيّ. حيث لعب دوراً قاعدياً في تحريك الشارع وتصعيد الخطاب في مواجهة الاحتلال.

أدار زيّاد مدينة الناصرة مستفيداً من الـ"كاريزما" التي تمتّع بها، ومن تأثيره على طبقاتها الشعبيّة والبرجوازيّة على حدٍ سواء، ودَمَجَ بين القضايا المحليّة والبعد الوطنيّ العام، مستعيناً كذلك بقيادةٍ تكنوقراطيّةٍ للبلدية، بَرَزَ من بينها المهندس رامز جرايسي.

بعد وفاة زياد توّلى جرايسي رئاسة البلدية من عام 1994 إلى غاية عام 2013. في فترة رئاسة جرايسي التّي امتدّت لما يقارب 20 عاماً، شهدت المدينةُ تحوّلاً تدريجياً في نهج قيادتها، حيث غَلَبَ الطابعُ البيروقراطيّ الإداريّ البحت، في ظلّ تراجع التّواصل الشّعبيّ المباشر مع الناس، مقارنة مع فترة زيّاد.

شهاب الدّين والناصرة 2000

في فترة رئاسة جرايسي، أقبلت مدينةُ الناصرة -مدينة البشارة- على الاحتفال بالألفيّة الثانية لميلاد المسيح. وحملت مشاريعُ البلديّة في تلك الفترة في طيّاتها أزمةً طائفيّةً حادّةً، إذ أقدمت البلدية عام 1997 على هدم بناءٍ عثمانيٍّ يُحاذي كنيسة البشارة، وهو ما تسبّب في إشعال أزمةٍ طائفيّةٍ أثّرت على المدينة طويلاً.

قالت شخصيّاتٌ إسلاميّة إنّ الموقع المهدوم هو مصلّى شهاب الدين من العهد العثمانيّ، وطالبت بامتناع البلديّة عن المساس برمزٍ إسلاميّ. عمل التيّار الإسلاميّ على مواجهة البلدية، وبدأت أعمال بناء مسجد "غير مرخص" تم هدمه لاحقاً بقرارٍ من محكمة إسرائيلية.

بطبيعة الحال، ساهمت حكومة الاحتلال في توتير الأجواء بين الطرفين، فمثلاً وقفت قيادات "الليكود" "تأييداً" للطرف "الإسلامي"، وفي الوقت نفسه، دعمت -أي تلك القيادات- خطوات البلديّة التي يقودها، باللغة السلطويّة الإسرائيليّة، "شيوعيٌّ مسيحيٌّ". شكّلت هذه الأزمة منذ بدايتها تراجعًا في تمثيل الحزب الشيوعيّ داخل المجلس البلديّ في انتخابات 1998، وأدّت إلى صعود "القائمة الموحّدة" المحسوبة على التيّار الإسلاميّ، وهي قائمة وليدة "أزمة شهاب الدين"، واستمر تمثيلها في البلديّة لغاية عام 2008.

علي سلّام... رئيساً

لم تنجح "القائمة الموحدة" في اكتساب شرعيةٍ عميقةٍ في الشّارع النصراوي كبديلٍ للجبهة والحزب الشيوعيّ. في المقابل فإنّ أزمة "شهاب الدّين" العميقة التي قسّمت الناصرة، وأضعفت تمثيلَ الجبهة داخل البلديّة، وأضعفت رئيس بلديتها، لم تدفع بالجبهة إلى معالجة وإصلاح نهجها وتعاملها مع الأزمة وتداعياتها، ولا مع الانتقادات الموجهة لنهج رئيس البلدية. بالتالي تحوّلت الساحة النصراويّة إلى ساحة متأزّمة وموتورة ومنقسمة: مدينة تنتظر تغييراً دون إدراك معالمه وماهيته.

عام 2013، أنتجت هذه الأزمة المستمرّة انشقاقاً في الجبهة؛ انشقّ علي سلّام، نائب الرئيس جرايسي، ليخوض الانتخابات بقائمةٍ مستقلةٍ منافسةٍ للجبهة. سلّام، الذي نشأ في الجبهة وشغل فيها مناصب عديدة وشكّل "ذراعاً شعبياً" فيها، فاز بالانتخابات في معركةٍ انتخابيّةٍ عنيفةٍ أدّت إلى استمرار وزيادة الاستقطاب.

لم يعتمر هذا الاستقطاب قبّعة الطائفيّة، إلا أن الفرز الذي أحدثه "شهاب الدين" في الشارع النصراويّ لم يتبخّر، بل انعكس في فرزٍ طبقيّ بين علي سلّام (القريب من الطبقات الشعبيّة وهمومها، بحسب ادعاء مؤيديه، ويتحدّث بلغتهم "البسيطة")، مقابل المرشّح "البيروقراطيّ" الذي مثّل إلى حدٍ بعيد مصالح "الطبقات الرفيعة" في المدينة.

إلى جانب حالة الاستقطاب التي تعمّقت في الناصرة، مراوحةً بين لهجةٍ طبقيّةٍ وأخرى طائفيّةٍ، ابتعدت المدينة عن دورها الوطنيّ، ابتعاداً قاده رئيس بلديّتها الجديد علي سلام بشكل علنيٍّ وفظٍّ. وكانت إحدى علاماتِه الفارقة مظاهرات 2015 التي عمّت الناصرة احتجاجاً على الانتهاكات في المسجد الأقصى، وانتهت إلى صداماتٍ عنيفةٍ بين شرطة الاحتلال وشباب المدينة.

في حينه، اتّهمَ علي سلام قيادةَ المتابعة والقائمة المشتركة بـ"تخريب" مرافق الناصرة والاضرار بحركتها التجارية والسياحيّة، علاوةً على نزوله بنفسه إلى الشارع مع مرافقين لقمع الشباب ومنعهم من الوصول إلى نقاط الاشتباك.

ولعل التعبير الأبرز لهذا الموقف مواجهة علي سلام مع رئيس القائمة المشتركة، أيمن عودة، المعروفة بواقعة "أيمن، رَوِّح على حيفا". حيث صرخ الرئيس سلّام أمام شاشات التلفزيون الإسرائيليّ طارداً القيادات السياسيّة من المدينة، وهو ما قوبل بترحابٍ إسرائيليّ، تبعه انسحاب رئيس بلدية الناصرة من لجنة المتابعة وتوطيد علاقته مع الحكومة الإسرائيلية، واستقبال رئيسها بنيامين نتنياهو في الناصرة، ومن ثم المشاركة في استقباله في قرية عين ماهل، علاوةً عن "مغازلته" للوزيرة ميري ريغيف في إحدى المؤتمرات.

انتخابات 2018: استقطاب طبقيّ وسياسيّ

تخوضُ الناصرة انتخابات هذا العام مُحَمّلةً بجبالٍ من السّخط المتبادل بين شقيّ المنافسة. شقٌّ يلتّفُ حول وليد عفيفي، مالكُ مجموعة شركات "عفيفي" العاملة في مجال المواصلات والسياحة، والمرشّح غير حزبيّ الذي حظي بدعم الجبهة والحزب الشيوعيّ (التي انسحب مرشّحها لصالح عفيفي)، وبدعم التّجمع الوطنيّ الديمقراطيّ وقائمة شباب التغيير (وهي قائمة شبابيّة انشقّت عن الجبهة ووسّعت صفوفها)، ومن جهةٍ أخرى فئات شعبيّة واسعة تلتف حول الرئيس الحاليّ علي سلّام.

يتخذُّ الخطابُ في المعركة الانتخابيّة لهجةً تلوّح بمصيريّة هذا الانتخاب. فهو ليس خطاباً يناقش المسائل الخدماتيّة والتطويريّة، إنّما يذهب نحو "ضياع البلد وخرابها". بين فئة الرئيس الحاليّ التي ترى بنفسها مُهَمَّشَةً لعقود، ويتركّز خطابُها في شخص علي سلّام وقدرته في "الإجهاز" على الجبهة بعد عقودٍ من سيطرتها، مقابل معسكرٍ يعبّر عن اصطفاف الأحزاب التقليديّة وتدعمها لجنةُ المتابعة.

ملحوظٌ كذلك في هذه المعركةِ تجنيد الاعتبارات الطبقيّة بشكلٍ فج، حيث يستحضر هجوم رئيس البلديّة على منافسه وليد عفيفي، ما يمتلِكُه الأخيرُ من شركات وعقارات تجعله مرشحاً "رأسمالياً" أمام "ابن الشارع". علاوةً على إصرار اعتبار سلّام للعفيفي "مرشّحاً عن الجبهة".

الناصرة: التحديات الخدماتيّة والوطنيّة

أمام أي رئيس قادم للناصرة تحديات كبيرة، منها إحياءُ المدينةِ من "الموت التّجاريّ" الذي سبّبه إدخالُ الشّبكات التّجاريّة الإسرائيلية الكبرى لمجمّعات تجاريّة على أطراف المدينة. والتعامل مع الخنق السكانيّ داخل المدينة، وانعدام أي حلول جذريّة في الأفق. والتعامل بجديّة مع محاولات تهويد سوق المدينة والمبادرة لإحياء السوق والبلدة القديمة.

مواجهة هذه التحديات تتطلبُ موقفاً سياسياً واضحاً، ليس فقط من منطلقاتٍ خدماتيّةٍ بيروقراطيّة، بل تتطلب أولاً تشخيصاً للمصير الذي يُحاك بصمتٍ وهدوءٍ من قبل الأذرع الحكوميّة الإسرائيليّة لخنق المدينة والسيطرة عليها. لذلك، فإن الوقوف في وجه هذه التحديات، يتطلّب رئيس بلديّة يستطيع أن يُعيد المكانة القياديّة لهذه المدينة بالنسبة لفلسطينيي الداخل وعلى المستوى الوطنيّ.