ظهرت في الشهور الأخيرة قضايا عدّة تدور حول شخصيّة "المحافظ". من مُخالفة بعضهم قرار رئيس الوزراء محمد اشتيّة إغلاق أربعة مُحافظات انتشر فيها الوباء خلال الموجة الثانية، وتصريحات ومظاهر فظّة شهدتها الساحة الإعلاميّة طوال أزمة "كورونا"، والاعتقالات التعسفيّة "على ذمّة المحافظ"، وغيرها من أحداثٍ عكست هيمنةً أمنيّةً واجتماعيّةً تُمارسها هذه "الشخصية" داخل نظام السّلطة. كما ظهر اصطدامها، في حالات عديدة، مع مؤسسات تنفيذيّة أخرى منها الوزارات والبلديّات.
يقرأ هذا المقال الدور الذي يُمارسه المحافظ في السّلطة، كيف تشكّل تاريخيّاً وكيف تغيّر، ما الدور الذي يلعبه اليوم في خدمة مشروع "السلطة الفلسطينيّة"، أمنيّاً وسياسيّاً، ويسأل إن كان وجود هذا المنصب مبرراً أصلاً في رقعةٍ جغرافيّةٍ ضيّقة ومحدودة السيادة، ولماذا برز دوره في ظلّ أزمة "كورونا" تحديداً؟
تُقسّم الضفّة الغربيّة إلى إحدى عشر مُحافظة، ويُقسّم قطاع غزّة إلى خمس مُحافظات. تتكوّن مؤسسة المُحافظة من المُحافظ ونائبه ومجلسٍ تنفيذيٍّ وعددٍ من المُستشارين والموظفين الإداريّين. تتبع مؤسسة المُحافظة إلى مكتب الرئيس مُباشرة، فيُعيّن المحافظ ويُعفى ويُنقل بمرسومٍ رئاسي. ويُعتبر المحافظ السلطة السياسيّة الأعلى في مُحافظته، فهو مُمّثل السلطة التنفيذية ورئيس الإدارة العامة فيها.
تضارب صلاحيّات: تاريخ لا سوء إدارة
مهام المحافظ فضفاضة وضبابيّة وغير معمول بمعظمها، وتتقاطع مع مهام أجسام حكوميّة ومحليّة كثيرة. مثلاً، من مهام المحافظ "العمل على الرُقيّ الاقتصاديّ والعمرانيّ والاجتماعيّ في المحافظة". علاوةً على كونها مهمّة فضفاضة، فمن غير الواضح كيف تختلف عن عمل الوزارات أو البلديّات أو الغرف التجاريّة وغيرها من مؤسسات السلطة، وهو ما يؤدّي إلى تضارب في الصلاحيّات والمسؤوليّات.1للمزيد: انظر؛ بشناق، باسم. 2003 التنظيم الإداري للمحافظات في فلسطين. رام الله: الهيئة الفلسطينيّة المُستقلّة لحقوق المواطن.
لهذا مثلاً، أعلن رئيس بلديّة نابلس سميح طبيلة واثنان من الأعضاء في 10 يونيو/حزيران الجاري عن استقالتهم من مناصبهم، بسبب تدخّل المُحافظ في صلاحيّات لجنة "التنظيم والبناء" التابعة للبلديّة. وذلك بعد أن منح المُحافظ اللواء إبراهيم رمضان الإذن لإحدى الشركات، التي تملك مبنى بثلاثة طوابق في حي رفيديا، بصبّ بنائها المُخالف والذي يقع ضمن حدود الشارع.
لكنّ المشكلة في دور المحافظ ليست مجرّد خلطٍ في الوظائف الإداريّة أو تداخلات في الصلاحيّات. بل تعود هذه المشكلة إلى طبيعة وجذور وظيفة "المحافظ" التاريخيّة والسياسيّة. فقد وُجدت هذه المؤسسة أصلاً من أجل إحكام سيطرة سلطة سياسيّة مركزيّة على الشأن المحليّ. فتارةً يكون "مندوباً" عن سلطة استعماريّة تهيمن على أي تنظيم سياسيّ محليّ قد يلعب دوراً إداريّاً ومجتمعيّاً. وتارةً يكون يد الرئاسة -كمؤسسة تتمتّع بصلاحيّات شبه مطلقة- التي تفرض سطوتها على ما يُفترض أن تكون مؤسسات متخصّصة في شؤونها، مثل الوزارات والبلديّات.
تاريخ: من المندوب للمحافظ
بموجب مرسوم دستور فلسطين للعام 1922، مُنحت للمندوب السامي البريطاني الصلاحيّات الإداريّة والتشريعيّة والأمنيّة. تغيّرت التقسيمات الإداريّة التي فرضها الاستعمار البريطانيّ على فلسطين، وأبقت على منصب "حاكم اللواء" الذي يعيّنه المندوب السامي. بعد النكبة، تولّت مصر إدارة قطاع غزّة وقسّمته إلى أربع مناطق، وعيّنت ضابطاً عسكريّاً مصريّاً "حاكماً إداريّاً" في كلّ منطقة، يتمتّع بذات الصلاحيّات الإداريّة والتشريعيّة والأمنيّة الموروثة عن الاستعمار البريطاني. أمّا الضفّة الغربيّة فقسّمتها الأردن إلى ثلاث محافظات، وعيّنت لكل منها حاكماً، وتغيّر اسمه في الستينيّات ليُصبح "محافظاً".
بعد هزيمة حُزيران عام 1967، استخدمت "إسرائيل" هذه المؤسسة أيضاً، وعيّنت ضبّاطاً عسكريين إسرائيليين لحُكم المناطق المحتلّة. ثم لاحقاً أنشأت الإدارة المدنيّة عام 1981، والتي خوّلت رئيس الإدارة المدنيّة بإدارة شؤون الفلسطينيين والسيطرة عليهم. وقتها، كانت قد قُسّمت الضفّة الغربيّة إلى سبع مناطق، وقطاع غزّة إلى منطقتين. وعُيّن على كل منطقة ضابط إسرائيليّ لديه مهام أمنيّة وعسكريّة وإداريّة، ويُشرف على ضبّاط آخرين يُتابعون سير قطاعات الحياة المُختلفة كالتعليم والصحة.
مع توقيع اتفاقيّة أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينيّة، ورثت هذا المنصب وأبقت على استخدامه. لم تُجرِ السلطة أي تعديلات جديّة على شكل النظام الإداريّ المتوارث منذ البريطانيين والحكمين الأردني والمصريّ ولاحقاً الحكم العسكريّ الإسرائيليّ. واكتفت بزيادة تقسيمات جغرافيّة، فحوّلت الضفّة الغربيّة من 7 إلى 11 محافظة، وغزّة من محافظتين إلى 5 محافظات.2للمزيد حول تاريخ التقسيمات الإداريّة في فلسطين: انظر؛ حسيبا، سناء. 2006. واقع واستراتيجيّات تطوير الإدارة المحليّة في الأراضي الفلسطينيّة. نابلس: جامعة النجاح الوطنيّة. في البداية استلمت وزارة الداخليّة مسؤوليّة المحافظين وعيّنتهم، لكن ذلك لم يدم طويلاً...
المُحافظ: من أبو عمّار إلى أبو مازن
منذ نشوء السلطة الفلسطينيّة وحتّى عام 2002 كان ياسر عرفات وزير الداخليّة إضافةً لكونه رئيس السّلطة، وكانت مسؤولية المحافظين تتبع له. في سعيها لقمع الانتفاضة، فعّلت "إسرائيل" ضغوطاً دوليّة هدفت إلى تحجيم دور أبي عمّار وعزله عن الأذرع التنفيذيّة. وذلك من خلال إنشاء منصب رئيس الوزراء، وتعبئة المراكز الحكوميّة بشخصيّات مقبولة على الإسرائيليين. وأجبرت هذه الضغوطات عرفات على ترك منصب وزير الداخليّة.
في محاولةٍ منه للإبقاء على مفاتيح قوّة أمنيّة وسياسيّة، ولمواجهة الضغوطات الرامية لعزله، أصدر عرفات مرسوماً في العام 2003 ينقل فيه منصب المحافظ من صلاحيّات وزارة الداخليّة إلى صلاحيّات الرئاسة الفلسطينيّة المباشرة. ونصّت المادّة الأولى فيه على التالي: "يكون لكل محافظة مُحافظ يُصدر بتعيينه وإعفائه من منصبه قرار من رئيس السلطة الفلسطينيّة".
ألغى أبو عمّار الارتباط بين المُحافظ ووزير الداخليّة ومجلس الوزراء، ونقل صلاحيّات مُتابعة المُحافظ والإقرار بشأنه إلى شخص الرئيس حتّى لا يتسنّى لأحدٍ غيره أن يمتلك قوّة تنفيذيّة في كل محافظة. وهو بذلك رأى في المُحافظ دوراً أمنيّاً وسياسيّاً في سياق الانتفاضة، للحفاظ على منصب الرئيس وقوّته ومصالحه أمام أيّة حكومة قادمة.
قبضة أمنيّة
لعلّ المؤشّر الأكثر مباشرة على الوظيفة الفعليّة للمُحافظ هو الخلفيّة الأمنيّة للمُحافظين؛ مُستشار الرئيس لشؤون الموظفين إسماعيل جبر، هو فريق ومساعد للقائد الأعلى لقوى الأمن الفلسطينيّة. محافظ سلفيت عبد الله كميل، هو لواء ومدير مُخابرات طولكرم سابقاً. محافظ جنين، محافظ قلقيلية، محافظ الخليل، وغيرهم كُثر جميعهم برتبة لواء. فإذا كانت وظيفة المُحافظ إداريّة، أليس من المنطق أن تكون خبرته في مجال الإدارة لا في مجال الأمن؟
بحكم المنصب يتمتّع المُحافظ بعلاقاتٍ جيّدة مع الأجهزة الأمنيّة، فيجتمع مع رؤساء الأجهزة الأمنيّة وإقليم حركة "فتح" بشكل أسبوعي لمتابعة أوضاع المُحافظة والبت في شؤونها، مثل مسائل الاعتقال. أمّا بحكم التاريخ الأمني، فإنّ للمُحافظ ذهنيّة الأجهزة الأمنيّة في مُعالجة القضايا المُتعلّقة بالمُحافظة، وهو ما يتشابه مع وظيفة السلطة بشكل عام. وبرز ذلك مثلاً في ظل أزمة "كورونا"، حيث عمل المحافظ على نشر الأجهزة الأمنيّة في الشوارع وإغلاق مداخل المحافظات وفرض منع التجوّل واعتقال المخالِفين من السكّان، وبالوقت ذاته إصدار تصاريح الحركة، علاوةً على الطلب من الناس أن يُقدّموا شكاوى على جيرانهم وأقربائهم في حال خالفوا إجراءات الحجر.
من هذا الباب، تقوم الأجهزة الأمنيّة باعتقال نُشطاء سياسيّين على "ذمة المُحافظ". عام 2018، تلقّت الهيئة المُستقلّة لحقوق الإنسان 237 شكوى على المُحافظات، تتركّز في مُحافظات: جنين، طولكرم، قلقيليّة ونابلس. كانت الشكاوى تدور "حول التوقيف والاحتجاز دون اتّباع الإجراءات القانونيّة السليمة، والتعسّف في استخدام السلطة، وعدم تنفيذ قرارات المحاكم، وعدم العرض على الجهات القضائيّة المُختصّة".3وضع حقوق الإنسان في فلسطين، التقرير السنوي الرابع والعشرون. 2018. الهيئة المُستقلة لحقوق الإنسان "ديوان المظالم". وفي شهري يناير/كانون الثاني ومارس/آذار من العام الحالي، كان هناك ما لا يقل عن 20 حالة اعتقال على ذمّة المُحافظ.
اقرأ/ي المزيد: "على ذمة المحافظ.. اعتقالات الضفة التعسفية".
قدّنا قد مصر
لنعود إلى التساؤل الأوّل: هل هناك فعلاً حاجة مُجتمعيّة لوجود شخصيّة تُدعى "المُحافظ" في سياقنا الفلسطيني؟ إن المنطق عالميّاً وراء استحداث شخصيّة كالمُحافظ هو منطق إداري لتطوير وتنمية المُحافظة. لكنّ وظيفته الإداريّة تأتي في سياق الدول الكُبرى من حيث حجم المساحة الجغرافيّة وعدد السُكّان، وما يترتّب على ذلك من اختلافٍ في الثقافات بين المُحافظات المُختلفة. في فرنسا مثلاً، والتي يبلغ تعداد سُكّانها 65 مليون نسمة على مساحة ُجغرافيّة تُقدّر بـ 550 ألف كم مُربّع تقريباً، تحتوي على 96 محافظة، في كل محافظة هناك ما يزيد عن الـ 400 بلديّة.
مُقابل ذلك كلّه، نحن نتحدّث عن سلطة تُشرف على 5 مليون فلسطيني فقط في الضفّة والقطاع، على مساحة جُغرافيّة تُقدّر بـ 6 آلاف كم مُربّع، هذا في حال احتسبنا مناطق "ب" و"ج" التي تُسيطر عليها "إسرائيل". ومع ذلك فإنّها تحتوي على 16 مُحافظة (مصر بجلالة قدرها تحتوي على 26 مُحافظة)، تُشرف على 146 بلديّة (كانت 29 بلديّة عند مجيء السلطة). مع ذلك، لو كان مُبرّر وجود هذه المُحافظات هو إداري وتطويري كما هو ادّعاء السُلطة لرأينا انعكاسات ذلك على الواقع، لكنّ الانعكاسات التي نراها هي فقط سياسيّة وأمنيّة لإعادة إنتاج علاقات القوى الموجودة في السلطة.
إن كان لتطوير الطُرق والمواصلات والإنشاءات والتعليم والصحّة وشؤون الناس اليوميّة كالكهرباء والمياه، الخ الخ، إن كان لكلّ ذلك وزاراتٍ ومؤسساتٍ خاصة بها، فما الحاجة المُلحّة لتخصيص مؤسسة كاملة تُدعى "المُحافظة" لها ميزانيّتها ونفوذها واليد العُليا في المنطقة التي تتبع لها، وبالإمكان تخصيص هذه الأموال والكوادر في خدمة القطاعات الأخرى كالصحّة التي تُعاني في كلّ عام من عجز في الموازنة؟
رمز هيبة القمع
لا تخدم مؤسسة المحافظ المجتمع كما هو واضح. لا هي وظيفة إداريّة "ولا ما يحزنون"، وليست في خدمة الشعار الرنّان المُسمّى "الصالح العام". يلعب المحافظ دور مندوب رئيسٍ مطلق الصلاحيّات، معنيّ بحفظ الهيمنة الأمنيّة والسياسيّة للسلطة الفلسطينيّة. هذه الهيبة القمعيّة هي العمود الفقريّ للسلطة القائمة في الضفّة، وتتطلّب لذلك مؤسسات تمثّل هذه "الهيبة" على المستوى المحليّ.
وهذه النزعة القمعيّة هي المهمّة الحقيقيّة الوحيدة التي تقوم عليها السلطة؛ لا تأمين معيشة الناس ولا حقوقهم ولا رفاهيّتهم ولا حتّى سلامتهم الجسديّة حين يتعلّق الأمر بانتهاكات الاحتلال. ورُبما، لهذا السبب بالذات، برز دور المحافظين خلال أزمة "كورونا"، حين افتقدت السلطة لأي حلولٍ توعويّة أو سياسات صحيّة، وقصّرت أمام تجهيز المستشفيات وتدعيم اقتصاد الناس، فلم يكن أمامها إلا فرض السطوة الأمنيّة... وفي هذا المشهد نجم بارز: المحافظ.