26 فبراير 2022

هكذا تُبتذل الصحّة النفسيّة

"المُشكلة ليست فيك، المُشكلة في الآخرين!"

"المُشكلة ليست فيك، المُشكلة في الآخرين!"

تعودُ بعد يومٍ مُرهِق من الجامعة أو العمل، تُمسِك جهازك المَحمول، تتصفّح حساباتك على منصّات التواصل الاجتماعيّ، ثمّ فجأة تجد نفسك ومن حيثُ لا تحتسب في مواجهة إرشادات اجتماعيّة وتعليمات حول ما يجب عليك فعله من كلّ صوبٍ وحدب. اقتباسات من كلّ اتّجاه وعبارات بالجُملة، حبّ غير مشروط، وكُن أنتَ، وكُن على طبيعتك، وافعل ما يحقّق سلامَك النفسيّ، ثِق بأحاسيسك، ولا تسمح للأشخاص السامّين بإخبارك أنّك كائن لزج ولا تُطاق، وإذا ابتعد عنكَ الآخرون، فهذا لأنّ الله يُريد إبعادهم عن طريقك وتحقيق أمانك النفسيّ. أمّا أنتَ، فلا عيبَ فيك، لا تُراجع نفسك، لا تُشكِّك في أساليبك ولا أخلاقك، ولا تبحث عن أي سبب في ذاتك، فالآخرون هُم السامّون.

يخلط النّاس بين الأخلاقيّ والسلامة النفسيّة، وتُصبح السلامة النفسيّة معياراً لصحّة الاختيارات، فكلّ ما يحقّق سلامك النفسيّ يُصبح هُو المعيار الأخلاقيّ للحُكم على صحّة قراراتك، وكُل ما يُقلق صحّتك النفسيّة فهو أمرٌ غير أخلاقيّ، وعليكَ التخلّص منه الآن وفوراً. يقول لَكَ أحدهم، العلاقة الصحّية، هي التي تقوم على تقبّل غير مشروط للآخر، لكن هل هذا أمر أخلاقيّ؟

هل يكون التقبّل غير المشروط أخلاقيّاً إن كُنت أدفعُ بابني إلى الهاوية أو نحو مَوتٍ مُبكِّر وحَتمي لأنّني أُريد مثلاً تقبّل وزنه الزائد تقبّلاً غير مشروط؟ هل الأخلاقي هُنا ألّا أُراجع ابني حيال جسمه وأن أتقبّله كما هو، لكي لا يشعر بأي قلقٍ نفسيّ وحرصاً عليه من لوم ذاته؟ هل يكون الأكثر أخلاقية، ألّا أخُبر طفلي بأنّ سلوكه الأناني المُفرِط قد يتسبّب بابتعاد الآخرين عنه ونفورهم منه وبقائه وَحيداً، فأتجنّب تصويب سلوكه خوفاً على صحّته النفسيّة وتحت دَعوى التقبّل غير المشروط؟1بحسب موسوعة ستانفورد للفلسفة، يتعرّف الأخلاقي وفق نظرية القِيَم بأنّه الحُكُم الذي يُحدّد (الصائب أخلاقيّاً) ضمن أحكام قيمية مختلفة، صواب، خطأ، خير أو شر، ويتحدّد هذا الحكم بحسب معايير المدرسة الأخلاقيّة نفسها سواء أكانت نفعيّةً أم مثاليّةً أم غيرها من المدارس. تقترن لفظة الأخلاقيّ Moral بالإيتيقي Ethics وثمّة فروق عدّة بين كلا المصطلحين، إلّا أنّ الأخيرة تتميّز بأنّها تقترن في سياقات مهنية مثل الطب والقانون بوصفها مدوّنة سلوكية أو التطبيق العملي والمهني للأخلاق النظرية. أمّا استخدامنا لها هنا فهو يعني (الصائب أخلاقياً) من جهة جوهرية intrinsic  بأنّه الشيء الصحيح فعله لأنّه بحد ذاته جيّد، بصرف النظر عمّا يؤول إليه.

ماذا لو كنتُ أحمقاً؟ 

في كتابها "جيل الـ أنا: لماذا تشعر الأجيال الناشئة باستحقاق وتعاسة أكبر من أي وقت سابق؟"2Generation Me: Why Today's Young Americans Are More Confident, Assertive, Entitled--and More Miserable Than Ever Before. – Jean Twinge (2014).، تطرح جين توينج، وهي بروفيسور في علم النفس الاجتماعي، تساؤلاً حول هذا التقديس المُطلَق للذات وطبيعتها فتقول: "تبدو عبارة "كُن على طبيعتك فقط" بمثابة نصيحة جيدة للوَهلَةِ الأولى، ولكن، ماذا لو كُنتَ أحمقاً؟ ماذا لو كانت طبيعتُكَ إجراميّة؟ ماذا لو كانت طبيعتُكَ ستجعلُك قاتلاً مُتسَلسِلاً أو شخصاً يبتزّ الآخرين؟ رُبّما يجب أن تكونَ شخصاً آخر، رُبّما يجب أن تُقاوم طبيعتَك، وأن تخلق نسخةً مختلفة أفضل وأكثر كفاءة لنفسك وللآخرين".

يتحدّد الإشكال في هذه الفوضى الوصائيّة على الذات بمُخالفة واجتزاء المقولات العلميّة والنماذج العلاجيّة الأساسية. فبحسب ستيفن هايز، مؤسّس "العلاج النفسيّ بالتقبّل والالتزام" (ACT)3Acceptance and commitment therapy: An experiential approach to behavior change. Steven C. Hayes (1999).، فإنّ التقبّل ليس سوى المرحلة الأولى للعلاج، والتي تعقبها سلسلةٌ من الخطوات العلاجيّة تتعلّق بالتزام الشخص بمجموعة سلوكيّات لتغيير نفسه. البروفيسور هايز نفسه، يُعرِّف التقبّل بأنّه استيعاب الشعور السيء والمُقلِق والمُرِبك والسماح له بالتدفّق واختباره بوعي بدلاً من مقاومته أو إنكاره، ولا يقصد به تقبّل الشخص وضعه الحالي تقبّلاً غير مشروط فلا يفعل شيئاً حيال تغييره أو تحسينه.

اقرؤوا المزيد: ملف "النفس أمّارة". 

هذا مُجرّد مثال من عائلة كبيرة من المقولات والاقتباسات حول النرجسيّة الصحّية، وحبّ الذات والحبّ غير المشروط ونحوها من الألفاظ التي تنتمي للقاموس النفسي، والتي تعبّر عن تدويل الصحّة النفسيّة في المجال العامّ وزيادة إقبال النّاس على منظومة العلاج النفسيّ والصحّة النفسيّة. يُصاحب هذا الشيوع تشويهٌ وتسطيحٌ وتوظيفٌ أهوائي لمقولات الصحّة النفسيّة، بحسب مُلاءمتها لحالة الأفراد وبما يُبرّر أوضاعها الحالية ورغباتها ويقلّل من تناقضها قدر الإمكان، بصرف النظر عن أساسها العلميّ أو محدّداتها النظريّة التي انبثقت من خلالها.

عمل فني بعنوان "مقيّد" للفنان Riftress.

جلسة علاجيّة افتراضيّة

حسناً، ما رأيك أن تكون أنتَ الطبيب النفسيّ في هذه الجلسة؟ محمّد يبلغ من العمر 35 سنة، متزوّج ولديه ثلاثة أبناء، وبعد خلافات زوجيّة متكرّرة، قرّر القاضي إبعاد محمّد عن أبنائه وإحالته إلَيك كأخصائي نَفسي تُشرِف على حالته، لما وقع منه من إهمالٍ متواصل لأطفاله. تقوم بإجراء التقييمات النفسيّة اللازمة، وتجد أنّ مُحمّداً سَويٌّ نفسيّاً، ولكنّه يشكو من قلقٍ وضغوطات يشعر بها نتيجة لمسؤوليّات الأسرة المُرهِقة. في الوقت نفسه، يُصِرّ مُحمّد، ومنذ الجلسة العلاجيّة الأولى، على شعوره بعدم حاجته إلى القتال لاستعادة أطفاله ولملمة شتات أسرته، فهو يعتقد تمام الاعتقاد بأنّ راحته النفسيّة والشخصيّة تكمن في التخلّي عن كلّ مسؤولياته، إذ يُريد السفر إلى أميركا وتغيير اسمه والبدء بحياة جديدة تماماً.

إذا كُنت تتعامل مع "السلامة النفسيّة" كقيمة معيارية تُحدّد بها خياراتك الحياتيّة والمصيريّة، وإذا كُنتَ من أنصار العبارة الشائعة: "كلّ ما تخسره في سبيل سَلَامك النفسيّ هو مكسب عظيم"، سيكون خسران محمّد لعائلته وأولاده مجرّد مكسب عظيم، فهو في النهاية قد عمِلَ ما يُحقّق رفاهه النفسيّ وسلامه الداخلي وسعادته كما يتخيّلها، وخفّف عن كاهله عبء الضغوطات والالتزامات التي أرهقت نفسيته.

تكمن مشكلة هذا التفكير في شقّين: شِقّ إجرائي وآخر أخلاقي. أمّا الأوّل، فهو غير مُنصِف ولا عادل، إذ أنّ الحديث عن السلامة النفسيّة للأب بمعزل عن السلامة النفسيّة لأبنائه وزوجته، يجعل منها قيمةً مُطلقة بحدّ ذاتها. والمفاجأة هُنا، أنّ الميثاق الأخلاقي للعاملين في مجال الصحّة النفسية - تحديداً العمل الاجتماعي، تُوصِي المختصّ النفسيّ بدعم "حقّ الفرد بتقرير مصيره". وهذا بالمُناسبة إحدى أسئلة اختبار مزاولة مهنة العمل الاجتماعي، إذ تكون الإجابة الصحيحة التي على أخصّائي العمل الاجتماعي والنفسي ذكرها هي: لكَ حرّية الاختيار فيما إذا كُنتَ تُريد استعادة أسرتك وأطفالك أو إذا ما كُنتَ تُريد التخلّي عنهم.

فيما الشقّ الثاني يُعلي من "المصلحة الذاتيّة" على حساب "المسؤولية الأخلاقيّة" للفرد نفسه، أيّ أنّنا نتحدّث عن حقوق بلا واجبات وعن استحقاقات بلا مسؤوليات. والحقيقة أنّ أطفاله يملكون مُبرّرات أخلاقية أكثر من سلامة الأب النفسية وسعادته، فمن جهة فلسفيّة واجتماعيّة: أولاده أكثرُ عدداً منه، وهُم أكثر هشاشة وضعفاً لكونهم أطفال، كما أنّ الطريق لا يزال أمامهم ليتشكّلوا وليبنوا خبرةً سليمةً أو مشوّهة لوجودهم، ثمّ فإنّ محمّداً هو الذي أتى بهم إلى هذا العالَم، فلماذا يتخلّى عنهم؟4يجدر التنويه هنا، أنّ ما سبق ليسَ نقاشاً للمسار الأفضل، ففعلاً، قد يكون المسار الأفضل للأطفال هو ابتعاد والدهم عنهم، وقد يكون العكس. لكنّ النقاش هُنا، عمّا إذا كان من الصواب لأيّ نقاش نفسيّ أن يجري حول إرادة الشخص وصحّته النفسيّة بمعزل عن مسؤولياته الأخلاقيّة تجاه غيره.

اقرؤوا المزيد: بعد محاولة فاشلة للانتحار.. ماذا ينتظرك؟

إنّ تعاطي المُتخصّصين داخل العيادة النفسيّة مع مقولات تتمركز حول أهمّية الصحّة النفسيّة والسلام الداخلي للفرد بوصفه اعتبار يجب أن يفوق أيّ اعتبار آخر، وترويج ذلك على أنّه وسيلة لرفع الوصمة عن الاضطراب النفسي، كلّ هذا الابتذال التخصّصي، يؤول إلى تكريس مبادئ مُجتَمع مُفرط بفردانيته. وهي طريقة ناعمة وصياغة أدبيّة جماليّة، تغطّي فظاعة قِيمية كامنة، يصير فيها "الفرد" بحدّ ذاته معياراً ومركزاً، وتصير فيها سلامته النفسيّة مساراً للانعتاق من المسؤوليات.

هل أنت بخير؟ هذا أهم شيء

ثمّة اتجاهات متعدّدة ومدارس مختلفة حول مبادئ العلاج النفسيّ وعلاقة المُعالِج النفسيّ بالمُراجِع أو بالمُضطرِب نفسياً داخل العيادة النفسيّة، لكنّ الاتّجاه المُهيمِن حالياً في أوساط العلاج النفسيّ والذي يخضع للميثاق الأخلاقيّ الخاصّ بالمُعالجين النفسيّين وكذلك الميثاق الأخلاقيّ الخاصّ بالمُرشدين النفسيّين،5أتحدّث هنا تحديداً عن الميثاق الأخلاقي الصادر عن الجمعية الأميركية لعلم النفس (APA) وكذلك الميثاق الأخلاقي الصادر عن الجمعية الأميركية للإرشاد النفسي (ACA) وهي النماذج الأكثر هيمنة، والتي تتبعها معظم المواثيق الأخلاقية، حتّى العربية تُترجمها كما هي دون تسييق. يتأسّس على الالتزامات المهنية التالية: أولاً، يلتزم المُعالِجُ النفسيّ بالحياد الأخلاقي،6يُسمّى هذا النموذج بإطار العمل المُحايِد قِيَمياً Value-Neutral Framework بحسب الميثاق الأخلاقي الصادر عن الجمعية الأميركية لعلم النفس. ولا يُقرّر الصواب والخطأ الأخلاقي للمُراجِع، بأيّ حال من الأحوال. ثانياً، من حَقّ المُراجع ألّا تتأثّر منظومته الأخلاقيّة خلال العلاج النفسيّ.7Handling conflicts of personal values - Ethics Inquiries - By Michelle E. Wade (2015). ثالثاً، يتحدّد دور المعالج بتحقيق الرفاه النفسيّ للمُراجع وتحقيق أهداف الخطّة العلاجية المُتّفق عليها. 

اقرؤوا المزيد: الفلسطيني والعلاج النفسي الإسرائيلي. 

إذاً، فإنّ الدور الرئيسي للمُعالِج النفسي بحسب معظم الأدبيات الرئيسية8Basics of Psychotherapy. Richard B. Makover (2017). حيال أي مشكلة نفسيّة يأتي بها المُراجع للعيادة النفسية هي في تخفيفه التوتّر الداخلي للشخص، أو إعانته على أن يكون أكثر نجاحاً من جهة وظيفيّة أو إجرائيّة؛ في دراسته، وفي عمله، وفي أسرته. وبحسب النموذج المعرفي القائم، ليس من مَهمّة المعالج النفسي تصويبك أخلاقياً، فقد تكون شخصاً سيّئاً لكنّك بعد هذا العلاج النفسيّ ستشعر بشعور جيّد أو ستشعر -على الأقل- بأقلّ تناقض ممكن.9بالطبع، من حقّ المراجع الذهاب للعلاج النفسيّ دون أن يخشى على معتقداته الدّينية أو توجّهاته القيمية التي اختارها لنفسه من أن تُحرَف، وهذا جزء أساسي من الحلف العلاجي الآمن الذي يتأسس بين المُعالج والمُراجع. 

هذا ليس ادّعاءً تأمّلياً، إذ قدّم عدد من النُقّاد في المجال النفسيّ والاجتماعيّ نقداً لاذعاً لهذا الفصل القِيَميّ بين العلاج النفسيّ وبين القيمة الأخلاقيّة، كان من أبرزها في تسعينيّات القرن المنصرم، النقد الذي قدّمه البروفيسور وليام جاي دوهرتي في كتابه: "روح تائهة: لماذا ينبغي على العلاج النفسيّ أن يُعزِّز المسؤولية الأخلاقيّة؟".10Soul Searching: Why Psychotherapy Must Promote Moral Responsibility. William J. Doherty (1996). 

عمل فني بعنوان "توازن" للفنان Riftress.

"السلامة" في مَعاجِم الفلاسفة وأدبيات الثائرين

ثمّة ترويج مبالَغ فيه لمفهوم السلامة النفسيّة، وتحويله لقيمة أو فضيلة معياريّة ينبغي الاحتكام إليها عند اتّخاذ القرارات الشخصيّة والاجتماعيّة. يُميّز الفلاسفة على المُستوَى الدقيق بين الأخلاق والقِيَم والفضائل، وبدون إغراقٍ نظري بالتفاصيل، إليكَ هذه الحقيقة: السلامة النفسية ليسَت إحداها. يُمكِن القول في أحسن الأحوال إنّ السلام النفسي، مُبتَغى لكلّ إنسان، حالة يطمح إليها معظم الناس، وهدف يسعون لتحقيقه، لكنّها ليسَت قيمة معياريّة حاكمة على خيارات المرء دون استدخال معايير أخلاقية أخرى.

الحبّ، الكَرَم، الحرّية، التسامح، العدل؛ هذه جميعها أمثلة على قيَم أخلاقية عُليا، وحتّى يكون بمقدور المرء بلوغها، فعليه أحياناً التضحية بأمور مثلَ السلامة والرّاحة والاستقرار. وهذه الأمور حيادية، تكون إيجابية وتكون سلبية، لذلك قد يقرّر شخص ما أن يتخلّى مثلاً عن إنقاذ والدته التي تتعرّض للأذى في الشارع، مقابل حفاظه على أحوال السلامة لديه؛ سلامة ذاته وسلامة نفسه من الأذى، مع تجاهل تامّ لمسؤوليته الأخلاقية تجاه أمّه.

اقرؤوا المزيد: مسلسل "Mr.Robot".. الفصام وسيلة لتفجير ألغام الرأسماليّة.

تكمن المفارقة الفلسفية هُنا، بأنّ السلام الداخلي والذاتي الحقيقي قد لا يتحقّق بمعناه العميق إلّا عبر تضحيات عدّة ومتكرّرة تجاه قضيّة ما؛ تضحيات تقضّ المضاجع، وتُربِك الذات، وتنزع عنها الرّاحة والاطمئنان، لصالح الاستثارة والغضب والغيرة التي تعتمل داخل المرء، كي يُقدِم مثلاً على سلوك مقاوِم، سلوك يُضحِّي به المرء بذاته، باطمئنانه واستقراره الشخصي، والانخراط بمَسار نضالي لا يعرف الرّاحة، مقابل تحقيق قيمة عليا، مثل قيمة الحرّية أو العدل، التي تنتهي إليها -على سبيل المثال- كلّ مناهج مقاومة المُستَعمِر والتحرّر من الاحتلال.

عمل فني بعنوان "ابتسم" للفنان Riftress.

حادثة تسرّب المصطلحات من العيادة النفسيّة

لَم تعد مسائل الصحّة النفسية محصورةً في العيادة النفسيّة، وبات من الواضح لدى أي متابع للشأن العام، انفلات مصطلحات الصحّة النفسية خارج أسوار العيادة النفسية. خطابات سياسيّة عديدة باتت تستخدم عباراتٍ نفسيّة في سياق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وصار معنى "تمكين الشباب" جعلهم "إيجابيين" وأكثر "مرونة نفسية" كي يتقبّلوا صعوبة المرحلة الحالية. وقد تجِدُ إداريّاً يُحدّث موظّفيه عن آليات الدفاع النفسي، وقد يتأخّر صديقك عن مواعيده فيُخبرُكَ بأنّه يُعاني من الاحتراق النفسي وانعدام رغبته بحضور أي شيء، وقد تجد إعلامياً في مُقابلة تلفزيونيّة مع فنّان أو مُطرب يُحدّثكَ عن العلاقات السامّة.

ثمّة إفراط عام بتداول كلّ هذه التشخيصات النفسية، تداولٌ يصلّ حدّ الابتذال، والمُبتذَل لغةً هو ما أُهينَ وفَقد قيمتَه بسبب كثرة الاستعمال، والابتذال يؤول إلى التسطيح والاختزال، والاختزال بدوره يؤدّي إلى سوء الفَهم، وحين يُساءُ فَهمُ الشيء يَسوءُ استخدامه. يترافق هذا كلّه مع دعوات تتمركَز حول رفع الوصمة من منظور كَمّي أحُادي يُعنى فقط بزيادة إقبال النّاس على العلاج النفسي والعيادة النفسية، دون مساءلة الأطر القيمية والنظرية لهذه العلاجات، ودون مُراجعة جودة مُخرجاتها لغايات نقدها وتطويرها.

كلّ ما سبق، دفع بالعديد من النُقّاد في مجال علم النفس العياديّ والاجتماعيّ إلى التحذير من خطابات الصحّة النفسية المتمركزة حول الفرد. ذلك عبر مشاهدات علمية ومقاييس نفسيّة رصدت ارتفاع مؤشّرات النرجسيّة لدى الأجيال المعاصرة؛ ارتفاع هشاشتهم النفسية وسرعة انهيارهم عند تعرّضهم لأي نقد أو محنة مقارنة بالأجيال السابقة. الأمر الذي استدعى النقد ومساءلة الخطاب المعاصر للصحّة النفسية، بوصفه مَصنعاً كبيراً يُصدّر أفواجاً أخرى من ذوات نرجسيّة غارقة بالفردانية ومُفرِطة بالأنانية وتقدّس مصلحتها الشخصيّة، دون أن تشعر بأي تناقض.11The Narcissism Epidemic. Jean Twenge and W. Keith Campbell (2009).