18 أبريل 2024

المقاوم الجديد.. من بزّة الجهاز الأمني إلى بزّة الفدائي

المقاوم الجديد.. من بزّة الجهاز الأمني إلى بزّة الفدائي

في واحدٍ من خطابات الشهيد الشيخ صالح العاروري، نائب رئيس حركة "حماس"، يستقرأ فيه مستقبل العمل العسكريّ في الضفّة الغربيّة، قال موجِّهاً كلامه لجيش الاحتلال وأجهزته: "لن تعرفوا من أين يأتيكم المقاوم الجديد!". 

تُستعاد هذه الجملة فلسطينيّاً عند كل عملية مقاومةٍ تهزّ الضفّة الغربيّة وتربكُ  أمنَ الاحتلال ومستوطنيه، خاصّةً أنّها تُعبِّر عن جيلٍ جديدٍ من المقاومين يتجاوز وجودُه قدرةَ أجهزة أمن الاحتلال وعيونه على الكشف والرصد، يبدأ فعله المقاوم منه وينتهي عنده، فهو خليةٌ عسكريّة في ذاته، وفي كثير من الأحيان لا يوجد في مسار حياته ما يشي بنواياه، وهو ما أُسمّيه هنا "المقاوم الجديد".

تجاوزَ هذا "المقاوم الجديد" عوائق الخلاص الفرديّ وقيود الوضع الاقتصاديّ المتردي في الضفّة الغربيّة، وانحسار الحاضنة الشعبيّة وحصارها، معوّلاً على نفسه وجهده فقط، منطلقاً بأهدافٍ محددة، ما بين الردع، أو الثأر، أو الاستنزاف، ومهما يكن هدفه فإنّ خروجه وحده كافٍ لتحقيقه.

وعد الطوفان

في الثاني والعشرين من آذار/ مارس 2024، استعاد الفلسطينيون استقراء العاروري لـ"المقاوم الجديد" بعد عمليةٍ نوعية نفّذها الشاب مجاهد كراجة (31 عاماً)، حين هاجم حافلة مستوطنين على مفترق مستوطنة "دوليف"، غرب رام الله، موقعاً قتيلاً وسبع إصابات، ثمّ واصل الاشتباك مع قوات الاحتلال لأربع ساعات متواصلة، ما دفع الأخيرَ لطلب تعزيزاتٍ شملت مشاركة فرق القوات الخاصّة والمخابرات وطائرة عموديّة وطائرات مسيّرة مزوّدة بكاميرات مراقبة وآلية قنص موجّه، لتنتهي المعركة بارتقاء كراجة بعد رصدِه وقصفِه بصاروخٍ من الطائرات المُسيّرة.

تجسّدت معايير "المقاوم الجديد" في كراجة، لكن مع إضافةٍ نوعيّةٍ تثير القلق في نفوس أجهزة الاحتلال، هي خلفيته العسكريّة التي مكّنته من تجاوز 12 قنبلة، وثلاث طائرات قنص مُسيّرة، قبل الصاروخ الأخير. مرد تلك الخبرة انتسابه وخدمته في جهاز حرس الرئاسة الفلسطينيّ منذ عشر سنوات قبل أن يستقيل منه، وهو ما انعكس على أدائه وتخطيطه القتاليّ، حيث تواجد في مكان العملية قبل طلقته الأولى بخمس ساعات، مرتدياً سترة عالية الجودة، ومزوّداً بأكثر من 70 رصاصة، ومجهِّزاً محيطه لإطلاق النار والاشتباك المتبادل من خلال رفعه سلاسل وسدود صخريّة لحمايته.

مثّلت هذه الإضافة بالنسبة للفلسطينيين في الضفّة إنجازاً وجدانيّاً لا يقلّ أهميّةً عن العملية نفسها، لا سيما مع عمليةٍ أخرى نُفِّذَت بعدها بعدة أيام، تحديداً في التاسع والعشرين من الشهر نفسه، في منطقة الأغوار على يد المنتسب للأمن الوطنيّ الفلسطينيّ الرقيب محمد السعدي، الذي استهدف حافلةً للمستوطنين بالرصاص، ما أدّى لإصابة ثلاثة منهم، وقد اعتقل بعد مطاردة استمرت لـ72 ساعة.

من "الفلسطينيّ الجديد" إلى "المقاوم الجديد"

شهد عام 2012 واحداً من أبرز إنجازات المنسق الأمنيّ الأميركي بين "إسرائيل" والسلطة الفلسطينيّة، الجنرال كيث دايتون، ألا وهو خلو الضفّة الغربيّة من أي مطاردٍ أو مطلوبٍ للاحتلال، وهو ما عنى وقتها نجاحاً في إخماد المقاومة، واستقراراً أمنيّاً لجيش الاحتلال ومستوطنيه.

الأمريكية كوندوليزا رايس، ورئيس الوزراء الفلسطيني السابق سلام فياض يوقعان وثائق اتفاقية إطارية لمساعدة قطاع الأمن الفلسطيني، خلال مؤتمر صحفي في مدينة رام الله بالضفة الغربية، 2آب\ أغسطس 2007،. (تصوير: عمر الرشيدي\ وكالة الصحافة الفرنسية).

استطاع دايتون ما بين 2005-2009 صناعة "فلسطينيّ جديد" من خلال إعادة ثقة الإسرائيليين بالأجهزة الأمنية الفلسطينيّة الجديدة، وأثبت جدارته في توجيهها لمحاربة المقاومة وحاضنتها، ومن المعلوم بالضرورة أنّ الكثير من عمليات اغتيال المقاومين أو اعتقالهم تمت بفضل التنسيق الأمنيّ والمعلومات التي تجمعها وتوفرها الأجهزة الأمنية الفلسطينية لصالح الاحتلال.

ضمّت الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة بعد إعادة تشكيلها أكثر من 15 ألف مجند، تم اختيارهم بعد موافقة كلٍ من جهاز المخابرات الإسرائيلي "الشاباك" وجهاز الاستخبارات "آمان"، بما يضمن بعدَهم عن الانتماء الحزبيّ وخلو سيرتهم من مواجهةٍ للاحتلال. وقد خضعوا لتدريبٍ أمنيٍّ برؤية أميركية إسرائيلية أوروبية، يؤهلهم لتطبيق الإجراءات المطلوبة على الأرض1يبلغ عدد قوى الأمن الفلسطينية ثمانية أجهزة، وتشمل: الأمن الوطني، والشرطة المدنية، والمخابرات العامة، والأمن الوقائي، والاستخبارات العسـكرية، والحرس الرئاسي، والدفاع المدني، والضابطة الجمركية.

عمل مشروع دايتون إذن على تعزيز نموذج "فلسطيني جديد" يرى في المقاومة وسلاحها تهديداً وجوديّاً وحيداً له، ومصدراً لما يُسمّى "الفلتان" و"الفوضى"، في تجاهلٍ لانتهاكات الاحتلال واعتداءاته. ويبدو أنّ هذا المشروع أعجب الاحتلال حتى سأل ضابط في الجيش الإسرائيلي الجنرال دايتون: "كم من هؤلاء الرجال الجدد تستطيع أن تصنع، وبأية سرعة؟".

الأجهزة الأمنية الفلسطينية في 3 يوليو 2021، خلال قمع تظاهرة في مدينة رام الله، انطلقت رفضاً لاغتيال الناشط نزار بنات. (تصوير: أحمد الغربلي/ وكالة الصحافة الفرنسية)

ورغم ما أثبتته هذه البرمجة من نجاحٍ متواصل حتى اليوم، وملاحقةٍ شرسةٍ للفعل النضاليّ بمختلف ألوانه، و"تنسيقٍ أمنيّ مقدّس"، واستهدافٍ متواصلٍ لأي حراكٍ اجتماعيّ أو نقابيّ فلسطيني، واختراق للبنية النفسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والأخلاقيّة للشعب الفلسطيني، إلا أنها شهدت خلخلةً في السنوات الأخيرة.

بدأت تلك الخلخلة انطلاقاً من "هبّة القدس" عام 20152شهدت الفترة 2015 -2016 موجة احتجاجات على عنف الاحتلال واعتداءات مستوطنيه، أُطلق عليها "هبة القدس أو انتفاضة السكاكين"، أسفرت عن استشهاد أكثر من 245 شهيد، و12 ألف جريح، وشملت أكثر من 266 عملية إطلاق نار، و362 عملية إلقاء عبوات ناسفة، و147 عملية طعن مؤكدة، و44 عملية دهس مؤكدة، واشتعال أكثر من 10950 نقطة مواجهة مع الاحتلال.، التي لربّما شهدت أولى عمليات الانعتاق من "الفلسطيني الجديد" إلى "المقاوم الجديد"، وصولاً إلى العمليات الثلاث التي نفّذها عناصر من الأجهزة الأمنيّة بعد السابع من أكتوبر، فعدا عن السعدي وكراجه، نفّذ ضابط الشرطة محمد يوسف ذياب مناصرة، في التاسع والعشرين من شباط/ فبراير 2024، عملية إطلاق نار، استهدفت محطة وقود قرب مستوطنة "عيلي" جنوب نابلس، وأسفرت عن مقتل مستوطنيين اثنين، وارتقائه شهيداً. 

اقرؤوا المزيد: "مقاتلو طولكرم الجدد.. حديث خاص لمتراس".

في تشرين الأول/ أكتوبر 2015، أطلق الشرطي محمد ماهر حامد من بلدة سلواد النّارَ على قوة للاحتلال خلال مواجهات شهدتها بلدة سلواد شرق رام الله. وبعد يومين اعتقلته أجهزة الأمن الفلسطينية وأحالته إلى المحكمة ليصدر بحقه حكم بالسجن لعشر سنوات. وكان تلك العملية فارقة من حيث أنّ الشرطي شارك في مواجهات كانت تجري بالحجارة، لينقلها إلى مستوى الاشتباك بالنار، ثم الانسحاب.

تلتها عملية الشهيد مازن عريبة في كانون الأول/ ديسمبر من العام نفسه، حين نفّذ الضابط في جهاز المخابرات الفلسطينية عملية إطلاق نار على جنود الاحتلال على حاجز حزما شمالي القدس، أسفرت عن إصابة جندي، واستشهاد الشاب.

تلتها عملية "بيت إيل" نهاية كانون الثاني/ يناير 2016، حين نفّذ الشرطي أمجد السكري من بلدة جماعين قرب مدينة نابلس، عملية إطلاق نار على حاجز بيت إيل ما أدّى لاستشهاده وإصابة 3 جنود إسرائيليين.


من تشييع جثمان الشهيد أمجد السكري في مدينة نابلس، في الأول من شباط/فبراير 2016. (تصوير: خلة محرم/ وكالة الأناضول)
من تشييع جثمان الشهيد أمجد السكري في مدينة نابلس، في الأول من شباط/فبراير 2016. (تصوير: خلة محرم/ وكالة الأناضول)

رغم ذلك بقيت "الثقة" راسخة بين جيش الاحتلال والأجهزة الأمنية، إذ أشار وزير الأمن الإسرائيلي في حينه، موشيه يعلون، في تصريحات صحفية أنّ الأجهزة الأمنية الفلسطينية تنأى بنفسها عن العملية وتواصل التعاون مع الأجهزة الإسرائيلية في إحباط العمليات.

لاحقاً، وبالتزامن مع ارتفاع حالة الوعي النضالي، وازدياد وتيرة العمل المقاوم بشكله "الفردي"، ظهرت مجموعات شبابية مناضلة في عدة جيوب في الضفّة، منها "كتيبة جنين" في مخيّم جنين 2021، وكتائب طوباس وطولكرم وأريحا، ومجموعة "عرين الأسود" في نابلس. وقد مثّلت هذه التجارب منعطفاً إضافيّاً للعديد من أبناء الأجهزة الأمنية ومقاتلي "فتح" القدامى، إذ انسحب عدد منهم من الأجهزة الأمنيّة وانضم إلى هذه المجموعات.

وفي العاشر من حزيران/ يونيو 2021، اغتالت قوات الاحتلال جميل العموري مجدّد الاشتباك في كتيبة جنين، برفقة اثنين من أفراد الأجهزة الأمنية هما أدهم ياسر عليوي من نابلس، وتيسير محمود عيسة من جنين، بعد اشتباكٍ مع قوّة خاصة. فيما نفذ أحمد عابد المنتسب لجهاز الاستخبارات العسكرية عملية نوعية على حاجز الجلمة، أدّت لمقتل ضابط كبير وإصابة آخرين في 14 أيلول/ سبتمبر 2022. 

وقد استشهد أحمد نظمي علاونة الضابط في جهاز الاستخبارات الفلسطيني، خلال مشاركته مجموعة من رفاقه في اشتباك مسلّحٍ مع قوات الاحتلال، إضافة لعملية إطلاق النار التي نفّذها ضابط الشرطة محمود حجير على حاجز حوارة، واعتقل على إثرها. وهذه نماذج للعمل المقاوم النوعي، الذي خرج أفراده من عباءة الأجهزة الأمنية وانخرطوا في صفوف المقاومة الشعبيّة وبوصلتها الموجهة نحو المحتل وحده.

هل تنتصر الملاحقة على الانخراط؟

يشي السرد السابق، والخاص بالفترة ما بين 2015 و2024، أن ارتفاع موجة المقاومة في الضفة الغربية، وانطلاق معركة "طوفان الأقصى" وما تلاها من حرب على قطاع غزة وإبادة جماعية شاملة لسكانها، وتهجير منظّم لسكان الضفة، واقتحامات يومية ينتج عنها شهداء وأسرى ودمار كبير؛ جميع هذه العوامل حفزت بعض أفراد الأجهزة الأمنية على الانخراط في العمل المقاوم، وتنفيذ عمليات نوعية صدمت الاحتلال. لكن هذا الانخراط ما زال فرديّاً ومحدوداً وفي أطر ضيقة، ناهيك عن أنّ عدداً من المقاومين ذوي الارتباطات المسبقة مع الأجهزة الأمنية ينأون بأنفسهم عن ذكرها، ربما خوفاً من سيناريوهات انتقاميّة قد تلحق بهم.

اقرؤوا المزيد: "الأرض المفخّخة.. عبواتُ حفظ البلاد"

في المقابل، تتزايد جهود الأجهزة الأمنية لوأد العمل المقاوم شراسةً، متجاهلةً تأثيرها على النسيج الاجتماعي والوطني الفلسطيني، ومواصلةً تكريس التنسيق الأمني بوصلةً لعملها، بتفكيك للعبوات الناسفة في طريق آليات الجيش، ومشاركته لمعلومات ميدانية عن أماكن وجود المقاومين ونشاطهم، وقمع للمظاهرات الشعبية المتضامنة مع غزة، واستمرار ملاحقة المقاومين اعتقالاً واستهدافاً واغتيالاً جسدياً ومعنوياً، ومن ذلك ما وقع مؤخراً من ملاحقة المقاوم قيس السعدي في مدينة جنين وإطلاق النار عليه، واغتيال المقاوم معتصم العارف في طولكرم. 

هذا البون الواسع ما بين المتوقع والواقع، أفرز انفصالاً وتمرداً شعبيّاً متزايداً في وجه الأجهزة الأمنيّة، دفع المقاومين جهاراً نهاراً لاستهداف مقرات الأجهزة في كلٍ من نابلس وجنين وطولكرم وطوباس، وإطلاق النار عليها بشكلٍ مباشر، والتشهير بالمسؤولين في الأجهزة عن ملاحقة المقاومين. وجاء ذلك بعد سلسلة من البيانات بدأت من السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 وحتى نهاية آذار/ مارس 2024، تدعو أبناء الأجهزة الأمنيّة للكف عن ملاحقة المقاومين والانخراط في مواجهة المحتل وحده، دون جدوى.

في ذاكرة الفلسطينيين مشهد راسخ من مشاركة عددٍ كبير وبارز من أبناء الأجهزة الأمنيّة في انتفاضة الأقصى، هو مشهد يستعاد عند الحديث اليوم عن هذه النماذج التي عُرضت أعلاه. لم يصل الحال اليوم إلى ما كان عليه في زمن الانتفاضة، فهذه النماذج ما زالت استثناءات. إلا أن السؤال الذي يبقى مفتوحاً على مختلف الاحتمالات: هل ستزيد هذه الاستثناءات بفضل الطوفان وتتحوّل شيئاً فشيئاً إلى انخراط واسع؟ أم ستبقى في دائرة ضيّقة تحرص السياسات الأميركية والإسرائيلية على تضييقها أكثر فأكثر؟