28 يونيو 2020

المقاولات في غزّة.. بين الحصار الإسرائيليّ وعقوبات السّلطة

المقاولات في غزّة.. بين الحصار الإسرائيليّ وعقوبات السّلطة

يستمرّ انهيار قطاع المقاولات والإنشاءات في غزّة، في ظلّ حالة الركود الاقتصادي التي يعاني منها القطاع. إذ خفّضت الهيئات المحليَّة والدوليَّة تمويلها الممنوح لشركات المقاولات منذ بدء الحصار، قبل أربعة عشر عاماً، وشددت السلطة الفلسطينيَّة عقوباتها على غزة في السنوات الثلاثة الأخيرة. وقد جدت شركات المقاولات نفسها عاجزةً عن تنفيذ المشاريع الممنوحة لها نتيجة نقص الموارد، وشحّ السيولة، ما أدى إلى إفلاس ثُلثي شركات المقاولات في القطاع على الأقلّ.

يعدّ قطاع المقاولات العمود الفقريّ للاقتصاد الغزّيّ، إذ شكّل العاملون فيه 23% من إجمالي القوة العاملة عام 2006، لكنّ تلك النسبة انخفضت إلى 9% فقط عام 2019. تكمن أهمية هذا القطاع بغزّة في توفيره لمستويات مختلفة من الوظائف، بدءاً من الوظائف الإداريّة كالمحاسبة وإدارة الأعمال والمحاماة، والوظائف الإشرافيّة كالهندسة بمختلف تخصصاتها، يُضاف لها العاملون في المهن ذات الصلة بالمشروع كالسباكة والنجارة والحدادة والكهرباء والدهان. على مستوى آخر، يساهم قطاع المقاولات في تشغيل المصانع والورش، ما يجعله رافداً مهمّاً في توفير فرص العمل لعشرات الآلاف من العمّال.

مؤخراً انسحبت 200 شركة مقاولات من السوق الغزّيّ لدواعي الإفلاس، أو لعدم قدرتها على المنافسة، وتعمل حالياً 100 شركة فقط، بطاقةٍ لا تزيد عن 15% من قدرتها التشغيليّة. وقد مرّ قطاع المقاولات في غزّة بالعديد من الأزمات والتقلبات الاقتصاديّة التي انعكست على أدائه. تتعدّد الأسباب والأطراف المسؤولة عن الوصول لهذه المرحلة الخطيرة من الإفلاس.

فوق الحصار.. كورونا

في آخر هذه الأسباب حلَّ فيروس "كورونا" والذي كان ضيفاً ثقيلاً على قطاع المقاولات في غزَّة، فمبجرد الإعلان عن أولى الإصابات به بدأت إجراءات التباعد الاجتماعي، مما فرضَ على غالبية المقاولين إيقافَ المشاريع التي يشرفون عليها. 

وعلى الرغم من العودة التدريجية إلى كثير من الورش والمشاريع إلا أنّ جزءاً كبيراً من المواد الخام المستوردة ما زالت عالقة في الموانئ الإسرائيليَّة، ودول الاستيراد كالصّين وإيطاليا. وتترتب على ذلك تكاليف إضافيَّة يتحملها المقاول، مثل تلك المتعلّقة بالتخزين واستئجار أرضيّات في الموانئ، كما قد تتعرّض بعض المشتريات للتلف نتيجة سوء التخزين أو العوامل الجويَّة. تُقدَّر الخسائر الناجمة عن هذا التعطيل بما قيمته 2.2 مليون شيكل شهرياً (600 ألف دولار).

قنوات التمويل/ التعطيل

رجوعاً إلى واقع قطاع المقاولات بمعزلٍ عن الوباء، فإنّ هذا القطاع يعتمدُ على عدة قنوات لتمويل مشاريعه. يُعرَف القسم الأول بالتمويل المحليّ، ويأتي عبر الموازنة التطويريّة في الموازنة السنويّة للسلطة، والتي تُقدر بـ300 مليون دولار. إضافةً إلى مخصصات وزارة الحكم المحليّ، وصندوق تطوير البلديات، وتخصيص شركات القطاع الخاصّ- البنوك وشركات الاتصالات- جزءاً من أرباحها السنويّة لمشاريع البُنَى التحتيّة ضمن التزامها بالمسؤوليّة الاجتماعية.

أما القسم الثاني، فيُعرَف بالتمويل الخارجيّ، ويأتي عبر تمويل جهات دوليّة كمشاريع البنك الدوليّ، والبنك الإسلاميّ للتنمية، والتمويل المباشر من الولايات المتحدة ودول عربيّة وأوروبيّة.

وقد تأثر قطاع المقاولات، كغيره من القطاعات الاقتصاديّة في فلسطين، بعقوبات الإدارة الأميركية، التي فرضتها على السّلطة الفلسطينيّة، والتي تمثّلت بموقف التمويل المخصص للمشاريع عن طريق الوكالة الأميركية للتنمية الدوليّة (USAID) بقيمة 200 مليون دولار سنوياً. وبطبيعة الحال، فإنّ قطاع المقاولات هو المستفيد الأول من هذا التمويل، ما يُضاف للأزمات الأخرى التي يعاني منها قطاع المقاولات في غزّة منذ سنوات.

رحلة التحديات.. من العدوان الإسرائيليّ إلى عقوبات السّلطة

يتحكّم الاحتلال بمقومات الاقتصاد الفلسطينيّ في غزّة تحكّماً شبه كامل، ومنها قطاع المقاولات. مثلاً، تتحكم "إسرائيل" بحركة انتقال المقاولين من وإلى غزّة عبر الحواجز التي تسيطر عليها. كما أحكمت قبضتها على دخول المواد الخام الخاصة بالمشاريع، والتي كانت تأتي حصراً من الشركات الإسرائيليّة. وبالرجوع إلى الوراء قليلاً، نستذكر أنّ "إسرائيل" استهدفت بشكلٍ مباشر مكاتب شركات المقاولات ومقرّاتها ومخازنها خلال سنوات الانتفاضة بين عاميْ 2000 و2005، وما تلاها من اعتداءات وحروب متكررة شنت على قطاع غزّة خلال الفترة بين عاميْ 2008 و2014.

ومنذ عام 2007 تقريباً، بات قطاعُ المقاولات ضحيةَ الإجراءات والعقوبات التي فرضتها السّلطة الفلسطينيّة على غزّة. وقد تباينت سياسات السّلطة ما بين عقوبات مباشرة، وتنصّل من التزاماتٍ ماليّة مفروضة عليها، وبين تعطيل مساعٍ للخروج من أزمة هذا القطاع وانهياره.

اقرأ/ي المزيد: "غزّة: حصار على الافتراضيّ أيضاً..".

بدايةً، استثنت السّلطة الفلسطينيّة حصةَ غزّة من الموازنة التطويريّة في  الموازنة العامّة، والتي تُقَدّربحوالي 40%، كان من المفترض أن يكون قطاع المقاولات واحداً من المستفيدين منها. تأتي تلك الموازنة عادة على هيئة مشاريع ومناقصات تمنحها السّلطة للمقاولين بشكل مباشر.

قضية شائكة أخرى أجّجتها السلطة الفلسطينية مع قطاع المقاولات منذ عام 2008، هي رفضها المتكرر لصرف مخصصات الإرجاع الضريبي للمقاولين. تسبّب رفض السلطة لإعادة صرف ما قيمته 200 مليون شيكل (56 مليون دولار) مستحقة لـ120 شركة، في إفلاس العشرات من الشركات، كما اضطرت شركات أخرى لتسريح عاملين لديها، نظراً لعدم قدرتها على تحمل الأعباء المالية لتوظيفهم.

وفي التفاصيل، تحصّل السّلطة ما يُعرَف بضريبة القيمة المضافة على جميع المشتريات الواردة للأراضي الفلسطينيّة، وهي ضريبة تتفاوت حسب نوع السلعة، ولكن تقدر بالمتوسط بـ16% من قيمة السلعة. ويقضي قانون الاستثمار الفلسطيني بحصول المشاريع المقامة في فلسطين على إعفاءات جمركيّة وضريبيّة كنوع من التشجيع على الاستثمار، أي أنّ السلطة ملزمة بإعادة صرف قيمة ضريبة القيمة المضافة للمقاولين، في حال تقديمهم أوراقاً تثبت شراءهم للمواد الخام اللازمة لمشاريعهم من الخارج.

آليَّات إعادة الإعمار وتحديات ما بعد الحرب

مع انتهاء الحرب الإسرائيلية على غزة في العام 2008-2009، استضافت مدينة شرم الشيخ المصرية مؤتمراً دولياً لإعادة إعمار غزّة، وأقرّ المؤتمر تعويضاتٍ تقدر بـ2.8 مليار دولار، يخصص نصفها لدعم الموازنة التطويريّة للسلطة، والنصف الآخر لإعادة بناء ما دمرته الحرب.

بناءً على ذلك، تتولى الأمم المتحدة، بالتعاون مع وزارة الأشغال التابعة لـ"حماس" مسؤولية إعادة البناء لمرافق المتضررين من الحرب، بينما تقوم السّلطة بصرف تعويضات مالية للشركات والمقاولين لتعويض ما دمرته الحرب. ولكن في الواقع، لم تلتزم السلطة الفلسطينية بتعهدها، ولم تصرف كامل التعويضات للمقاولين.

أعمال البناء في مشروع تركي لتعويض أصحاب الشقق المدمرة خلال عدوان عام 2014. محمد عبد/ AFP

أفادت مصادر من اتحاد المقاولين لـ"متراس" بأنّ وزارة الماليّة التابعة للسّلطة الفلسطينية رفضت الاعتراف بخسائر شركات المقاولات بعد الحرب، وذلك بعد أن تقدّم اتحاد المقاولين بكشفٍ يُجمل فيه الخسائر المالية للشركات، ما اشتملَ على خسائر في الآلات كالجرّافات، ومكاتب الشركات والهندسة والمخازن. طالبَ الاتحاد بصرف تعويضات لـ270 شركة تضرّرت بفعل الحرب، بقيمة 130 مليون دولار، ولكنّ ما صرفته وزارة الماليّة لم يتجاوز 40 مليون دولار.

منحنى آخر من السياسات التي مارستها السلطة الفلسطينيَّة تجاه قطاع المقاولات في غزة، هو دخولها كطرف في منظومة دوليّة لمراقبة دخول المواد الخاصة بإعادة الإعمار، والمعروفة بنظام بنظام (GRM).

GRM هو اتفاق تم توقيعه، بعد نهاية الحرب على غزّة في صيف 2014، بين السلطة الفلسطينيّة و"إسرائيل" والأمم المتحدة، ويقضي بتقنين دخول الحديد والإسمنت لقطاع غزّة، والتأكد من أنّ هذه المواد ستذهب مباشرة للمتضرّر.

اقرأ/ي أيضاً: "المحررات.. حين صارت الأرض راتباً لموظفي حكومة غزة".

ويجري العمل بهذه الآلية من خلال تقديم المتضرر أو المقاول قائمةً بما يلزمه من مواد لإعادة الإعمار، يتبع ذلك تشكيل لجنة تفحص وتتأكد من مطابقة قائمة المشتريات مع متطلبات المشروع المنوي إعادة إعماره، ومن ثم اتخاذ قرار الصرف من عدمه.

جاء إقرار هذه الآلية كجزء من المطالب الإسرائيلية لتطبيق قرار وقف إطلاق النّار نهاية الحرب، وجرى توقيع الاتفاق في القاهرة بحضور السلطة الفلسطينيّة كممثل عن الطرف الفلسطينيّ. أما الهدف الإسرائيلي من وراء هذه الآلية، فيتمثّل في منع وصول مواد البناء لفصائل المقاومة في غزة، خشية أن تستثمرها في تطوير قدراتها العسكرية، أيْ تحديداً بناء الأنفاق أو مواقع التدريب.

كان العمل بهذه الآلية سبباً في عدم قدرة المقاولين على القيام بمشاريعهم بحريّة تامة، لأنّ ما هو متوفر أمام المقاول من مواد البناء يكفي فقط للمشروع الذي وافقت عليه اللجنة الثلاثيّة. في حال قرّر التوسع في مشاريعه، عليه التقدم بطلب للجنة، والانتظار للموافقة على طلبه، الأمر الذي دفع بعشرات المقاولين إلى شراء مستلزمات إعادة الإعمار من السوق المحليّ بأسعار مضاعفة.

يقدّر ما أُدخل من مواد البناء عبر آلية إعادة الإعمار (GRM) منذ نهاية حرب 2014، وحتى اليوم، بـ3.6 مليون طن، بمتوسط سنوي يقدر بـ600 ألف طن. لكن رئيس اتحاد المقاولين في غزة، أسامة كحيل، قال لـ"متراس" إنّ العمل بنظام (GRM) قد قلّص من كميات مواد إعادة الإعمار إلى أقل من 50% عن الوضع الطبيعيّ. وقال إنّ القطاع يحتاج سنوياً إلى مليون طن من مادتيْ الإسمنت والحديد، وما يدخل عبر هذه الآلية لا يكاد يكفي لتعويض أضرار الحروب والاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة.

أبعاد سياسيّة؟

لا يوجد تفسير معلن للضغوط التي تقودها السلطة الفلسطينية ضدّ قطاع المقاولات في غزة، ولكن من الممكن قراءة موقفها من عدة اتجاهات. أوّلها أنَّ السلطة تعمل- منذ بدء الانقسام- على سياسة تجفيف لمنابع تمويل حركة "حماس"، باعتبارها خصمَ السلطة في الساحة الفلسطينيَّة. ترى السلطة أنّ عدداً من المقاولين منتمون لحركة "حماس"، أو قيادات فيها، لذا تمنعُ تطوير أدائهم، حتى لا ينعكس ذلك بشكل إيجابيّ على أوضاع "حماس" الماليّة.

إنّ اتحاد المقاولين هيئة نقابية، كغيرها من النقابات الاقتصادية والعمالية في فلسطين، وتجري إدارته من خلال انتخابات دوريّة كل أربع سنوات، وقد تولى رئاسة الاتحاد في وقت سابق وزير الاقتصاد في حكومة "حماس"، علاء الدين الأعرج. قد ترى السلطة أنّ قطاعاً واسعاً من المقاولين المنطوين تحت الاتحاد يميلون إلى توجهات سياسيَّة أقرب إلى "حماس"، وهذا ما قد يبرّر سياستها العقابية ضدّ المقاولين. وبالنظر لما يمثّله قطاع المقاولات من قيمة اقتصاديّة على مستوى تشغيل القوى العاملة، وارتباطه بقطاعاتٍ اقتصاديّة متعدّدة، فقدْ يكون مرشَّحاً جيداً ليشهد صراعاتٍ سياسيَّة بين الحركتيْن.