نقف على أعتاب موسمٍ تهويديّ شرسٍ سيشهده المسجد الأقصى، ففي الثاني والعشرين من سبتمبر/ أيلول الجاري ستبدأ أيام عيد رأس السنة العبريّة، وبعدها ببضعة أيام يبدأ عيد العُرش إلى أن ينتهي في منتصف تشرين الأول/ أكتوبر المقبل. على مدار هذه الأسابيع تتكثّف عمليات تهويد المسجد عبر اقتحامه من المستوطنين وأدائهم مختلف الشعائر فيه.
وقد كانت مثل هذه المواسم فيما مضى من أعوام (خاصّةً بين عام 2008-2015) تُقابل بأيام نفيرٍ ورباط ومواجهة، تُحبِطُ في كثيرٍ من الأحيان الاقتحام أو تُقلّصه إلى حدّه الأدنى. لكننا اليوم نشهد واقعاً صعباً لا يعلو فيه صوتٌ سوى صوت بوق الحاخامات أناشيد وصلوات المستوطنين، وأين؟ في قلب الأقصى. ومن شواهد هذا الواقع الصعب أنّ تلك الصلوات والانتهاكات لم تعد مُقتَصِرَةً على الأعياد، باعتبارها مواسم للتهويد، لكنها أصبح المشهد اليومي و"العادي" للأقصى.
في هذا المقال نستعرض ونشرح للقارئ أبرز ما يحدث بشكل شبه يومي في الأقصى من أداءٍ علنيّ للطقوس الدينية اليهوديّة، كيلا يقول أحد: لم نكن نعرف!
لا حاجة لانتظار المعبد!
تبنّت "منظمات المعبد" منذ عام 2019 استراتيجيةً سمّاها الباحثون "التأسيس المعنويّ للمعبد"، والتي تعني التعامل مع المسجد الأقصى وكأنّه كنيس فعليّاً، والتصرف فيه كما يجب التصرف في "المعبد" المفترض. يرى المستوطنون وفق هذه الاستراتيجية أنّه بدلاً من الانتظار حتى يُهدم الأقصى ويتأسس المعبد بالمعنى الماديّ فلنبدأ بتأسيسه معنويّاً عن طريق فرض الطقوس الدينيّة اليهوديّة علناً في الأقصى. يحصل ذلك اليوم عبر مسارين: الأول: أداء الصلوات وسائر الطقوس التي تؤدّى في أي كنيس في العالم، والثاني: إحياء الطقوس المرتبطة بـ"المعبد" والتي لا تتم إلا فيه (بحسب المعتقدات اليهوديّة)، وأبرز مثال على ذلك السعي لتقديم القرابين الحيوانيّة والنباتيّة وهو طقس مرتبط حصراً بـ"المعبد".
اقرؤوا المزيد: لحظة الصفر.. كيف يُؤسس لكنيس في الأقصى؟
ومع ملاحقة ومحاصرة كل أشكال الحضور والرباط والتصدي الفلسطينيّ في الأقصى، أصبحت هذه الاستراتيجيّة واقعاً يومياً، وأصبحت الطقوس اليهوديّة جزءاً من العدوان شبه اليوميّ على الأقصى. يوميّاً يقتحم المستوطنون المسجد، وهم حفاة الأقدام (كما يجدر بهم أن يفعلوا في المعبد)، ويؤدون طقوساً تعبديّة، مثل "بركات الكهنة"، وطقس "الموصاف" قرب مصلى باب الرحمة، وقراءة أسفار من التوراة، بشكلٍ فرديّ وصوتٍ عالٍ، إضافةً إلى القراءة من الكتب الدينية اليهوديّة. هذا عدا عن الشعائر التي تتكثف ويتصاعد أداؤها في فترات الأعياد الدينية والقوميّة.
على بعد بلاطتين من "المذبح"
أبرز ما يعكس مسألة التعامل الصهيونيّ مع الأقصى كأنه "معبد" فعليّاً هو موضوع تقديم القرابين الحيوانيّة والنباتيّة. يُقدّم القربان - وفق الاعتقاد التوراتيّ - في عيد الفصح اليهوديّ ويجب أن يتم ذلك حصراً في "المعبد". منذ عدة سنوات تعمل "منظمات المعبد" على إحياء هذا الطقس ومحاولة فرضه في الأقصى من خلال إقامة ما تسمّيه "تمرين تقديم القربان"، في إشارة إلى أنّ ذلك مجرد "تمرين" وأنّ التقديم الحقيقيّ يجب أن يكون داخل "المعبد".
تتبعنا في مقالٍ سابق على "متراس" تطوّر قضية القربان ومحاولات إدخاله إلى الأقصى حتى تاريخه، والمستجدّ ها هنا، التطورات التي حصلت في الأشهر الماضية. فقبيل حلول عيد الفصح اليهوديّ في نيسان/ أبريل الماضي، دعت منظمة "عائدون إلى جبل المعبد" أنصارها إلى الاستعداد لمحاولة ذبح "قربان الفصح" داخل الأقصى أو على أبوابه قبل حلول العيد بأسبوع، لـ "تحقيق وصايا التوراة في الوقت المناسب"، وشجّعتهم على الحضور إلى البلدة القديمة برفقة القربان، في محاولة لتنفيذ هذه الطقوس في الوقت المحدد، كما طالب عدد من الحاخامات حكومة الاحتلال بالسماح لهم بتقديم القربان داخل الأقصى.
لم تتم أي من تلك الدعوات والمحاولات خلال العيد، لكنها لم تتوقف بعده. في 12 أيار/ مايو 2025 بالتزامن مع عيد "الفصح الثاني"، نجح مستوطنون في إدخال قربانٍ حيّ إلى داخل الأقصى عبر باب الغوانمة. أشارت المعطيات إلى أنّهم اختاروا ذلك الباب كونه لا يشهد عادةً وجوداً بشريّاً كثيفاً. دخل المستوطنون وهم يحملون القربان خطوات معدودة داخل الأقصى، إلا أنّ مناوشات وقعت بين أحد المسنين المقدسيين والمستوطنين وعناصر الشرطة عند الباب، وتَدّخُل حرّاس من الأقصى بعد ذلك، مما حال دون إكمال المستوطنين طريقهم، إذ أخرجتهم شرطة الاحتلال من الأقصى. دلّت تلك الحادثة الخطيرة على إصرار المستوطنين على المضي قدماً في قضية القرابين، مهما بدا تنفيذها متعسراً في الظرف الحالي.
اقرؤوا المزيد: "الأقصى يشتعل في وجه قرابين وصلوات المستوطنين".
لم تقف هذه المحاولات عند هذا الحدّ، فلم يعد عيد "الفصح" هو المحطة الوحيدة للقربان، فخلال "عيد الأسابيع/الشفوعوت" في الثاني من حزيران/يونيو 2025، تمكّن عددٌ من المستوطنين، خلال اقتحامهم للمسجد، من الفرار من بقية المجموعة معهم باتجاه قبّة السلسلة المجاورة لقبة الصخرة، وبحوزتهم جزء من "قربان" مذبوح تقطر منه الدماء، إلا أنّ حراس الأقصى تمكّنوا من منعهم من إكمال طريقهم، ومن بعدها أخرجتهم شرطة الاحتلال من الأقصى. وفي المعتقد اليهودي يُعدّ صحن قبة الصخرة وقبة السلسلة تحديداً، مكان "المذبح" المزعوم.1يُمنع المستوطنون خلال اقتحامهم المسجد من التجول في صحن قبة الصخرة، أي الساحات المحيطة بها أو ما يُسمّيه المقدسيون "سطوح الصخرة".
وتُشير هاتين المحاولتين وما سبقهما من محاولات فشلت إلى إصرار المستوطنين على القيام بهذا الطقس، وهو ما يعني أنّهم سيستمرون في المحاولة وسيُصعدّون ويبتكرون أدوات جديدة لتحقيق غايتهم، وقد يكون موسم الأعياد اليهودية القادم فرصة ثالثة لهم لتجديد اعتدائهم هذا.
الصلاة وكلّ ما يلزم لها..
لم تقتصر التطورات عند أداء الطقوس أو محاولات إدخال القربان فقط، بل شملت إدخال الأدوات الدينيّة إلى الأقصى، وكانت أول مرة يُدخل فيها المستوطنون شال "طاليت" في موسم الأعياد في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2022. ومن ثمّ تكرر الأمر عام 2023 أكثر من مرة. وفي الخامس من حزيران/ يونيو 2024 في ذكرى احتلال شرق القدس، اقتحم أحد الحاخامات الأقصى مرتدياً "تميمة التيفلين" وملابس الصلاة الدينيّة، ومن ثمّ أدّى صلاة "شماي"، وفي مطلع العام الجاري اقتحم أحد المستوطنين الأقصى مرتدياً التميمة ذاتها مرة ثانيةً، ثم في 14 نيسان/ أبريل 2025 ارتدى عدد من المقتحمين لباس "الكهنة" وارتدى أحدهم شال "طاليت" مجدداً.
وهو ما تكرر في أكثر من اقتحام لاحق، ففي 26 أيار/ مايو 2025 بالتزامن مع ما يُسمّى "يوم القدس"، فقد أدخل عددٌ من المستوطنين بعضهم أدوات الصلاة اليهودية من بينها تميمة "التيفلين" وشال "طاليت" إلى داخل الأقصى، وفي 2 آب/ أغسطس 2025 بالتزامن مع ذكرى "خراب المعبد" حاول مستوطن إدخال لفائف التوراة، إلا أن شرطة الاحتلال منعته، وتكرر حينها إدخال هذه الأدوات الطقسية وغيرها من الاعتداءات المتصلة بأداء الطقوس العلنية بشكلٍ جماعي.
اقرؤوا المزيد: السؤال الذي يتكرر: "ليش الأقصى فاضي"؟
تضع "منظمات المعبد" في أولوياتها إدخال هذه الأدوات وغيرها وتعمل من أجل تحقيق ذلك. مثلاً، في نيسان/أبريل 2025 أرسلت هذه المنظمات عريضةً عليها أكثر من 700 توقيع إلى وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، يطالبونه فيها باقتحام الأقصى على مدار 24 ساعة احتفالاً بـ"يوم القدس"، والسماح لهم بأداء الطقوس اليهودية الكاملة، إضافةً إلى إدخال الأدوات المقدسة مثل "السيدور" (كتاب الصلوات اليهودية)، وشال "طاليت"، وتميمة "التفلين"، إلى جانب مخطوطات التوراة، وحملت العريضة عنوان "الهجرة والعبادة الكاملة لليهود في جبل المعبد من المساء إلى المساء".
مع ضمان "حقّ الرقص"..
لا شكّ بأن مطالبات هذه المنظمات وصلت إلى بن غفير، وعلى الرغم من عدم تحقيقها كلّها، إلا أنّ الرعاية التي يُقدّمها بن غفير خاصّةً، والحكومة اليمينيّة عامّةً إلى هذه المنظمات كبيرة جداً، وتنعكس على سلوك شرطة الاحتلال، التي تحمي المستوطنين وتؤمن لهم أداء طقوسهم بكل حريّة وأريحية. وأحد أبرز أمثلة ذلك أن بن غفير فتح المجال لتقنين الرقص والغناء خلال الاقتحام، ففي 11 حزيران/ يونيو 2025 اقتحم بن غفير الأقصى بعد وقتٍ قصير من منع شرطة الاحتلال مجموعة مستوطنين من الاقتحام وهم يرقصون ويغنون. بحسب ما نشر في الإعلام الإسرائيلي في حينه، وبّخ بن غفير عناصر من الشرطة على إثر ذلك.
شهد الأقصى منذ ذلك التاريخ تصاعداً في أداء الرقص والغناء بصوتٍ عالٍ، من دون وجود أي تدخل من قبل شرطة الاحتلال، حتى نشرت زوجة بن غفير مطلع تموز/يوليو 2025 على حسابها في فيسبوك معلّقةً على أداء المستوطنين للرقص في الأقصى: "بعد سياسة إيتمار التي تسمح بالصلاة بصوت عالٍ والعبادة على الجانب الشرقي من الجبل، انضمت إليها سياسة إمكانية الغناء في جميع أنحاء جبل المعبد.. أشكر رجال الشرطة الأبطال".
اقرؤوا المزيد: معادلة الأقصى التي كُسِرت.. لا صلاة تحت الحراب
وفي سياق متصل بهذه الانتهاكات، تشهد اقتحامات الأقصى في المناسبات "الوطنية" للكيان، رفع علم الاحتلال، وإنشاد نشيد "هتيكفاه"، وعلى الرغم من أنها ذات طابع قومي، إلا أنها في الأقصى تُشير إلى محاولة المستوطنين تأكيد سيادتهم على المسجد.
ومن الاعتداءات التي تصاعدت في الأقصى مؤخراً عقد المستوطنين قرانهم تلمودياً في ساحاته. من ذلك ما حصل في تموز/يوليو 2025 إذ عقد مستوطنان قرانهما قرب السور الشرقي داخل الأقصى، وتلقيا التهاني من بقية المقتحمين، وأظهر مقطع مصور هذا التدنيس. وفي السابع من الشهر ذاته احتفل عريسان صهيونيان شاركا في اقتحام الأقصى بزفافهما، برفقة عشرات المستوطنين في ساحات الأقصى الشرقية، حيث رقصوا وغنوا واحتفلوا بصخب بحماية شرطة الاحتلال. وبحسب "القدس البوصلة"، شهد الأسبوع الأول من تموز/ يوليو 2025 احتفال ستة أزواج صهاينة بعقد قرانهم أو زفافهم داخل الأقصى، وسط رقص وغناء صاخب، وهو مشهد تكرر في أشهر أخرى وإن كان أقل كثافة".
توسيع الجدول اليومي للاقتحام
حتى يُسمح بمواصلة سياسة التهويد يحتاج المستوطنون "مزيداً من الوقت"، ولذلك عمدت شرطة الاحتلال مؤخراً إلى توسيع أوقات الاقتحام وزيادة عدد المستوطنين في فوج الاقتحام الواحد، وذلك زيادة عدد الأفواج المقتحمة في الآن ذاته. في 14 نيسان/ أبريل 2025، تزامناً مع عيد الفصح اليهودي، قلّصت شرطة الاحتلال الفاصل الزمني ما بين أفواج المقنحمين إلى عشر دقائق فقط، وهو ما أدّى إلى وجود ستّة أفواج من المقتحمين في الوقت ذاته دخل الأقصى بعد أن كان العدد لا يتجاوز ثلاثة أفواج في الوقت ذاته.
اقرؤوا المزيد: تقسيم الأقصى.. ماذا فعلنا حتى الآن؟
ليس هذا بحسب، فقد زادت شرطة الاحتلال عدد المستوطنين المسموح لهم الاقتحام في الفوج الواحد، وذلك من 30 مستوطناً بالمتوسط في أيام الاقتحام "الاعتيادية"، إلى ما بين 120 حتى 200 مستوطن في الفوج الواحد خلال الاقتحامات المركزية (اقتحامات الأعياد). سمحت هذه السياسة برفع عدد المقتحمين بشكلٍ كبير، حتى وصل ذلك إلى نحو 4 آلاف مستوطنين ف يوم واحدٍ وهو ما يُسمّى ذكرى "خراب المعبد" الذي صادف الثاني من آب/ أغسطس الماضي.2بدأت شرطة الاحتلال بهذا الإجراء بالتزامن مع اقتحامات عيد "الفصح"، وتكررت في اقتحامات الذكرى العبرية لاحتلال شطر القدس الشرقي في 26/5/2025، وما تبعها من اقتحامات مركزية، وهو ما سيتكرر في موسم الأعياد القادم في نهاية شهر أيلول/سبتمبر.
دلالات خطيرة.. أين نقف الآن؟
بالملخص فإننا بتنا نشهد تصاعد الانتهاكات في الأقصى خلال الاقتحامات شبه اليومية، بعدما كان هذا المستوى من التدنيس حكراً على الأعياد اليهودية ومناسبات الاحتلال. وأمام جملة الاعتداءات الآنفة، ومع استمرار حرب الإبادة في قطاع غزة، تؤكد هذه التطورات أن أذرع الاحتلال المختلفة تسعى إلى حسم هوية المسجد الأقصى. وهذا النجاح في تحقيق "التأسيس المعنويّ للمعبد" سيُشجّع "منظمات المعبد" على تكثيف مطالبها بتحقيق الحضور الماديّ "للمعبد، وهي التي طالبت غير مرّة بتخصيص جزء من المسجد للمستوطنين بشكلٍ دائم.
والخلاصة المؤسفة، ولكنها ضرورية في استقراء هذا المشهد، بأن غياب ردود الفعل الحقيقيّة والمباشرة تجاه عدوان الاحتلال، هي التي فتحت المجال لغلبة الهوية اليهودية، وهو ما أغرى العدو لتصعيد هجمته بحق الهوية الإسلامية الأصيلة، وفي حال استمرار حالة "العجز والركون" في القدس، سنرى وقائع تدفعنا للقول لو رأينا إحراق الأقصى مرة ثانية لكان أهون علينا مما نراه الآن، وإن كان الاحتلال اليوم يعرقل دخول المسلمين، فإنه في ظلال هذا التغول قد يأتي الوقت - لا قدّر الله - الذي يسمح للمسلمين بدخول المسجد بوصفهم سياحاً.