11 فبراير 2020

العتابا ذاكرة المغلوبين

العتابا ذاكرة المغلوبين

ما من شيءٍ يُمكِنُه خدش ذاكرة الفلسطينيين في بلادنا، مثل ما يمكن لشعر العتابا أن يفعل. أو لِـنَـقُـل إنّ هذا اللونَ من الشعرِ المحكي يظلُّ أحد أبرز ألوان أدب التذكّر، الذي يدلّنا بعاميّتِهِ على كلّ ما يتصلُ بالناس وهواجسِهم، الزمان والمكان، الأرض والإنسان، الشوق والحنين والحب، الخوف والغضب والحرب، وكل ما لامس ومسّ الحس والحواس طوال العقود التي طوت.

قيل: العتابا من العتاب والتعتب، أي ما يقع في اللوم والتأفف، فكان مطلع بيت العتابا بالأووف الممدودة تعبيراً عن اللوعة والألم. أما عن نظم العتابا ووزن البيت، فيعتمد على فنٍ بديعيٍّ هو الجِناس، فالبيتُ مكوّنٌ من أربع شطرات، الثلاثة الأولى منها تنتهي جميعُها بنفس المفردة من حيث اللفظ، إلا أنّها تختلف في معناها. بينما تنتهي الشطرة الرابعة وهي خاتمة البيت غالباً بحرف الباء أو الألف المكسورة، والباء لأنّها الباب، وهي باب الخروج من البيت ودخول البيت التالي. لذا، فإنّ العتابا هي أبياتٌ، وليست قصائد، إذ أنّها محكومةٌ في جِنَاسِها الذي يصعب نظمُه في قصيدةٍ طويلةٍ. 

ومن ذلك الفن، قولهم في بيت عتابا فلسطينيّ: 

المخلص إذا لمخلص عار مالو
بعيش الـدهر عــالي عـار مـالـو
ومثل ما حافظ بحـرنا ع رمـالـو
أنا محافظ ع عهد الحبـااااب ..

في أصل العتابا ومنشأها

ليس سهلاً الإمساكُ بلحظة نشأة شعر العتابا في بلاد الشام، إذ نبت هذا اللونُ على ألسن الشعّار والفلاحين والرعيان في جبال عامل منذ مئات السنين. اختلفت الآراء في النشأة، فمنهم من ردّ العتابا إلى القبائل العربيّة وفي العراق، التي نزحت من العراق وتوطنت بلاد الشام بعد الفتح العربي، والبعض ينسبه إلى أواخر العصر العباسيّ حين انتشرت اللهجات العاميّة وكثر اللحن.

غير أن العتابا تعني الموال أيضاً، والموال اشتق لفظه اللغويّ من الـ"موالي"، وهم المسلمين من غير العرب الذين اشتكوا في ظل الدولة الأمويّة من جور الأمويين بتقديمهم العنصر العربيّ على الأعاجم، وتحديداً المسلمين من أصول فارسيّة.1أبو الفرج الأصفهاني، كتاب الأغاني، دار الكتب العلمية، ج4. عَبّرَ الموالي عن تهميشهم وسخطهم قولاً وشعراً، ويُذكَر أن الخليفة العباسيّ هارون الرشيد حين نكب جعفر ويحيى البرمكيّين بعد أن استوزرهما في خلافته، وهما مواليان من أصل فارسيّ، يقال إنّ جاريةَ جعفر أخذت تبكيه شعراً معاتبةً الرشيد على قتله، فسمعها وقال في قولها: "إنّ فيه حنين وعتاب". وهكذا، يبدو أنّه من الموالية والموالي جاء الموال الذي نسمّيه في بلاد الشام العتابا، لأنّ الموال هو عِتاب ومعاتبة شعراً.

في رواية أخرى عند أهل شاغور الجليل في فلسطين عن أصل العتابا، يُقال إنّ أميراً تزوّج فتاةً جميلةً، وأَفْرَطَ في حبِّها إلى حدٍّ خَوفِهِ أن يراها الناس، فقام وأسكنها في غابة الجرمق، وكان يتركها صباحاً ذاهباً إلى صيده ليعود إليها في المساء. في أحد الأيام مرّ في الغابة صيادون فاستضافتهم وزوجُها غائب، وبعد أن أحسنت ضيافتَهم اختطفها الصيادون وولوا هاربين. ولما عاد الأمير ولم يجدها، ظنّ أنّها تركته هاربةً منه، فصار يعاتبها بالشعر ويلومها في الفراق، وأخذ ينتقل بخيمته من مكان إلى آخر بحثاً عنها، وكلّما كان يدق أوتاد خيمته في الأرض بمطرقة الميجنا (مطرقة أوتاد الخيمة)، ينشد مخاطبا ميجنته: "يا ميجنا يا ميجنا - وين صاروا حبابينا"، فغدت الميجنا بنبرتِها الشعرية الجبليّة مُلازمةً لشعر العتابا متى ما ونى شاعرٌ بأبيات عتابه.2رواية شفوية شعبية متداولة لدى أهل دير الأسد والبعنة في شاغور الجليل. 

العتابا في الثقافة الشعبيّة

اعتُبِرَت العتابا في فلسطين ثقافةً شعبيّةً بكل ما يعنيه الشعبيُّ من معنى، فأيُّ فلاحٍ دَارَتْ عليه الأيامُ أو راعي غنم كان قادراً على التعتيب دون أن يكسر بحرفٍ في الوزن. إلى حدّ أن نساء قرية دير الأسد التي تعتبر معرّة الشعراء في الجليل تجرأن على فحول الشعّار فيها ونظمن العتابا، ومنهن من كانت ترد على لعّاب اليرغول كذلك.

شكّل شعرُ العتابا أدباً اجتماعيّاً، تبادل من خلاله الناس المراسيل والأخبار، بمهجة العتاب تارةً، وبهجة الترحاب تارة أخرى. ففي نادرةٍ تُذكر، يُقال إن مارق طريق كان يمرّ بقرية حطين كل يوم عائداً من عمله في مدينة طبريا إلى قريته لوبية. كانت حطين في حينه قريةً وادعة على سفوح تلالٍ، تصطف بيوتها بشكلٍ متدرجٍ مثل درج السلّم. أثناء مروره من بين بيوت الحطاطنة كان يتعمد طرح السلام على كل أهل بيتٍ يمر من عنده، آملا بعد ردّ السلام أن يدعوه أحدهم للراحة والنوم حتى الصباح. إلا أنه غير ردِّ السّلامِ لم يلقى، فعزّ عليه ذلك إلى أن وصل إلى أعلى التل المطل على بيوت حطين، وصاح بأعلى صوته معتّباً ومعاتباً:

صـاح محمد العـابر يـا حِطـين
عرايش فوق عالي السطح حاطين
هـذولا مـا يعـرفـوا بـ قـول حُطين
ولا ضيفِ لفـا بعد غـياااب...

سمع الحطاطنة صيحة العابر، فأَخْجَلَهم قولُه، ونادوا عليه معتذرين منه وأصرّوا على استضافته، وبقي في ضيافتهم حتى الصباح.

وللعتابا وقعٌ في حسّ الفلاحين ووجدانهم، للحد الذي غدت فيه بعضُ أبياتِها مضربَ مثلٍ بينهم، فقد تتضمن واحدة من شطرات البيت مثلاً شعبيّاً يعرفه الناس، أو قد تعلق شطرة من بيتٍ في ذاكرة الناس وتروح مثلاً شعبيّاً تتواتره الأجيال.

في قرية شفاعمرو الجليلية مثل متداول بين أهلها يقول :"وينو زلمتك يا حاج عاصي". يُنسب المثل إلى الحاج عاصي الشفاعمريّ، وتعود حكايته إلى عام 1936 حين دعا الحاج كلاً من الشّاعرين الراحلين محمد الأسدي - أبو سعود، وفرحات سلّام، لإحياء سهرة عرس ابنه البِكر. وصل أبو سعود العرس وبدأ الحداء في الناس، بينما تخلّف فرحات الحادي عن السهرة، ولما تأخر هذا الأخير إلى ما بعد صلاة العشاء ولم يصل، صاح الأسدي بصوته الجهور قائلاً:

نزل دمعي ع خدي نهر عاصي
صرت طايع بعد ما كنت عاصي
أي وينو زلمتك يا حـاج عاصي
فرحـات إلي وعدنـا وما وفـا

 إلى ما بعد النكبة، بقي يردد أهالي شفاعمرو كلّما تخلّف أحدهم عن جمعٍ ينتظرِهُ قولَ أبو سعود: "وينو زلمتك يا حاج عاصي".3مقابلة أجراها الكاتب مع المربي الشاعر تميم الأسدي، حفيد الحادي الراحل محمد الأسدي- أبو سعود، بتاريخ 13.01.2020.

عُرف عن شعّار فلسطين الحَدائين منهم والزجّالين براعتهم في قول العتابا، ففي المباريات الشعرية التي كانت تقع بين زجّالي لبنان وحدائي فلسطين، يُذكر أن اللبنانيين كانوا يتفوقون بزجل المُعنّى، بينما يتغلب عليهم الفلسطينيون بشعر العتابا. كانت تلك المباريات تُقام مرةً في كلّ عام، بالتناوب بين مدينتي عكا وصور.4مقابلة أجراها الكاتب مع الأديب والشاعر سعود الأسدي أبو تميم، بتاريخ 12.12.2018.

لم يألف شعّار فلسطين زجل المُعنّى، فهو لبناني الموطن حتى أيامنا، فأصوله تعود إلى تراتيل المغنيشو التي كانت تُرتل في قداس كنائس السريان في جبل لبنان. يُنظم شعر المُعنّى باللهجة العامية على البحر اليعقوبي، حيث تنتهي قافية صدر البيت بنفس قافية عجزه، ويُتيح غناؤه مشاركة الجمهور الشعراء في ترديد قفله شطراته، وهذا ما جعله شعر التباري والتحدي في الزجل اللبناني إلى يومنا.

إنّ ميزة شعّار وحَدائي فلسطين في العتابا، جاءت من قدرتهم على ارتجالها بشكل تلقائي، فانتشر تباري الحَدائين في الأعراس قبل النكبة وبعدها من خلال العتابا. التباري بالعتابا كان على شكلين: إما أن يقول الحادي بيتاً كاملاً من العتابا، وبالتالي على الحادي الآخر الردّ عليه ببيت على نفس القافية، وهذا ما كان يُعرف بـ"اللـحاق على الحرف". غير أن الشكل الثاني من التباري يُعتبر الأصعب والأكثر بلاغة وإثارة! حيث يقول أحد المتبارين نصف بيت عتابا مكون من شطرتين، وعلى الآخر إكماله بشطرة ثالثة ومن ثم قَفلهِ. على الشاعر المبادر هنا البحث عن مفردة يصعب صرفها في بيت كامل – أي تكرارها في ثلاث شطرات – من أجل الإيقاع بخصمه وإحراجه.

الريناوي وتذكرة العبور  

عن هذا الشكل من التحاور والتباري، يُذكر أن الشاعر توفيق الريناوي المشهور بـ"أبو الأمين"، والذي أصبح من أبرع شعّار العتابا في الجليل وبلاد الشام قاطبة، أنه لما شب عن طوقه مولعاً بقول الأووف أراد في أحد الأعراس محاورة الحادي المعروف في أيام ثورة الـ36 فرحات سلّام.

فرحات الذي لم يجرؤ شاعر على اقتحام ساحته، اشترط على الريناوي من أجل منحه شرف الوقوف مقابله، بأن يكمل نصف بيت عتابا يقوله فرحات من شطرتين، وعلى الريناوي إكماله، فإن فشل في ذلك فعليه أن يرد بنصف بيت يصعب إكماله. أنشد فرحات نصف البيت التالي:

شفت الحمامة مع السبع بومات
راحـوا يعـزوا السبع بـو مــات

حين سمع توفيق الريناوي نصف هذا البيت، عرف أنه يستحيل إكماله، فنصف هذا البيت مشهور منذ مطلع القرن العشرين، أنشده أحد فلاحي جبل لبنان، ولم يتمكن شاعر من إكماله حتى يومنا. لم يبقَ لصاحبنا وقتها، سوى أن يرد بنصف بيت يعجز فيه فرحات عن إكماله، كي يحظى بشرف الوقوف في ساحته، فقال الريناوي: "اسمع هاذ يا فرحات":

تأخرت عليـكو ماتت مـرت خية
وصلت زعلان واعصابي مرتخية

انتبه فرحات لفطنة الريناوي وخطورته، فنصف هذا البيت أيضاً يستحيل إكماله، فقال له: " قوم ع قبالي يا توفيق"، فكانت تذكرة عبور توفيق الريناوي إلى عالم العتابا والحداء.5مقابلة أجراها الكاتب مع الحادي الشعبي محمد قاسم مصطفى علي - أبو جوهر، بتاريخ 19.03.2019.

ظلّ الريناوي وأخواه ومعهم الديراوية – شعّار دير الأسد في شاغور الجليل- يحملون مشعال الشعر المحكي والعتابا على كامل التراب العربي المتبقي ما بعد النكبة في فلسطين المُحتلة، في الأعراس والولائم والأحزان والمآتم، فما من عرس أحيوه في الجليل إلا وتحول إلى مهرجانٍ وطنيٍّ، وعكاظ شعريّ في التباري والتحدي، لينقسم العرس على نفسه بين فريق داعم للريناوية وآخر مساند لشعّار الدير، وكثيراً ما تلاسن المصطفون خلف الشعّار إلى أن يصيح صاحب العُرس "بس خربتولي العرس". 



22 ديسمبر 2022
الإحساس الحادّ بالحياة

في بواكير عام 2003، جاءني رجلٌ ليبيّ أسمرُ قصيرٌ مهموماً. وبعد تلكؤٍ فاتحني في أمر يود رأيي فيه. قال إنه…

16 يناير 2021
في مديحِ الحياة "أوفلاين"

حينَ تنوي تعطيلَ حسابك على "فيسبوك"، يعدِّد لكَ الموقعُ أسباباً محتملة لذلك، ويجبرك على اختيار واحدٍ منها. بعضُ تلك الأسباب…