15 يناير 2023

حياةٌ تُبصرها الفتاوى: العلائي وفلسطين القرن الثامن الهجري

حياةٌ تُبصرها الفتاوى: العلائي وفلسطين القرن الثامن الهجري

لمّا دَخَلَتْ سنةُ سبعٍ وأربعين وستمئة هجمت الفرنجُ على دمياط، واستحوذوا على الثغر، وقتلوا خلقاً كثيراً من المسلمين، ومات الملك الصالح أيوب أثناء هذه المعركة، وبايع الأمراءُ ابنه توران شاه، إلى أن دخلت سنة ثمان وأربعين وستمئة فكان كَسْرُ توران شاه للفرنج على ثغر دمياط، فقتل منهم ثلاثين ألفاً، وقيل مئة ألف، وغنموا شيئاً كثيراً. ثمّ قتل جماعة من الأمراء الذين أُسروا، وكان فيمن أُسر ملك الإفرنسيس (لويس التاسع) وأخوه.

هذا اختصارٌ لرواية ابن كثير، لِما اصطُلِح عليه بالحملة الصليبية السابعة. تلك الحملة التي فشلت في الوصول إلى بيت المقدس، بعدما استردّها المسلمون سنة 642 هـ، حينما هاجم الخوارزمية الفارّين من جنكيز خان القدس، وسَحقوا الصليبيين فيها، ليتجهوا إلى غزّة متحالفين مع الملك الصالح في معركة هُزم فيها الصليبيون وبعض حلفائهم من الأيوبيين، لتبقى القدس بعد ذلك 700 سنة بأيدي المسلمين، بعدما كان الفرنجة قد عادوا بالاستيلاء عليها "سِلماً" في "صلح" بين الملك الألماني فريدريك الثاني والسلطان الأيوبي الكامل.

الواقف الخفيّ

بين عامي 642 هـ التي حرّر فيها المسلمون القدس، و648 هـ التي كُسرت فيها الحملة الصليبية السابعة، كان هناك رجلٌ في بيت المقدس، لم يحفظ التاريخُ اسمَه، يُفكّر في الكيفية التي يُمكِنه بها المساهمة في حماية بيت المقدس من الحملات الصليبية المتتابعة، وفي تثبيت بعض أهلها فيها مرابطين على ثغرها. فكان أن اهتدى إلى أن أوقف وقفاً على شخصٍ معيّن مدّة حياته، ثمّ من بعده على أولاده وأولاد أولاده ما تناسلوا وتعاقبوا ما داموا مرابطين ببيت المقدس.

لم نعرف اسمَ الرجل الذي أوقف الوقف، ولا الرجل الذي استحقّ برباطه وذريته ذلك الوقف، ولكنّنا وقفنا على هذه القصة بعد سنوات، في القرن الثامن الهجري، وربما بعد مئة عام من تاريخ هذا الوقف، إذ ظلّ نسل الرجل يتعاقبون على الوقف. استدعى ذلك من البعض سؤالَ فقيه بيت المقدس، الإمام صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلائي الشافعي، عن استحقاق تلك الذريّة للوقف، بالرغم من انتفاء الخطر الصليبي، بالنظر إلى ما يعنيه معنى الرباط.

نظر العلائي في كتاب الوقف، فوجده مؤرخاً سنة 643 هـ، أي بعد سنة من تحرير بيت المقدس، وقبل ثلاث سنوات من انطلاق الحملة الصليبية السابعة، فوجد أن بيت المقدس كان "إذ ذاك ثغراً من الثغور لقرب الفرنج منه ومجيئهم إليه في كلّ وقت، وقد زال هذا المعنى" لمّا وصله الاستفتاء، فكتب بعد التروي والاستخارة، أنّ أصل الرباط حبس النفس على شيء ما، ثمّ غلب استعماله في الشرع في المصابرة على مطلق الخير، وهو المراد بقوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اصبِروا وَصابِروا وَرابِطوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُم تُفلِحونَ﴾، ثم غلب استعماله كثيراً في ملازمة ثغر من الثغور بنية الجهاد. ثم أفتى: "وإذا لم يكن بيت المقدس، حماه الله، بعدُ متصفاً بكونه ثغراً فيكفي في استحقاق النسل الذكور أن يكونوا مقيمين به على ملازمة الخير والمواظبة على ذلك في الاستحقاق، دون مطلق السكن، اعتباراً بمعنى الرباط والمرابطة".

حفظت لنا فتاوى العلائي، المسمّاة بالقدسية، والمستغربة[1]، هذا النصّ المهيب، عن رجل لم نعرف اسمه، فكّر في تثبيت رباط بعض أهل بيت المقدس إلى ما شاء الله من الزمن، أو فكّر، بلغة عصرنا، في واجبه الذي يستطيع النهوض به لتعزيز صمود بعض أهل بيت المقدس في مواجهة الخطر الصليبي، ولم يفكّر في فعل ينفع في وقته فحسب، بل سعى أن يكون فعله ممتدّاً بأثره، لو قدّر الله، إلى يوم القيامة، بالسعي إلى ضمان صمود ذرية متناسلة بعضها من بعض، في بيت المقدس.

صورة عن مخطوط كتاب "فتاوى العلائي"، أو "الفتاوى المستغربة".

من هو الإمام العلائي؟ 

العلائي، حافظ بيت المقدس، رجل ولد في دمشق سنة 694 هـ، لرجل من أمراء الأجناد الأتراك، ليُعنى به جدّه لأمّه الإمام إبراهيم بن عبد الكريم بن راشد القرشي الدمشقي الذهبي المتوفى سنة 718 هـ. أخذ العلائي عن كبار علماء عصره، كابن الزملكاني (ت 727 هـ)، وابن الفركاح (729 هـ)، وشمس الدين الذهبي (ت 748 هـ)،  والمزي (ت 742)،[2] وكان قد أتمّ حفظ القرآن صغيراً، وقرأ العربية، وسمع غالب دواوين الحديث، وحفظ "التنبيه" لأبي إسحاق الشيرازي، أحد أهمّ متون الشافعية، ومختصر ابن الحاجب في الأصول، ومقدمتيه في النحو والصرف، وسوى ذلك.

وخلّف مؤلفات ورسائل كثيرة في الحديث والأصول والفقه، ودرّس الحديث بالناصرية بدمشق سنة 718 هـ، والأسدية بدمشق سنة 723 هـ، وفي دار الحديث الحمصية سنة 728 هـ التي نزل له عنها شيخه سيّد حُفّاظ وقته الإمام المزي، إلى أن استقرّ بالمدرسة الصلاحية بالقدس[3] سنة 731 هـ، وظلّ بها إلى حين وفاته سنة 761 هـ، مما يعني أنه ظل ثلاثين عاماً متصلة بالقدس. وكذلك، تولّى بالقدس مشيخة دار الحديث السيفية[4]، ودرّس فيها بدار الحديث والقرآن التكنزية[5].

ينقل التاج السبكي في طبقاته[6] عن أبيه التقي السبكي، أهمّ فقيه شافعي في وقته، أنّ أحداً لا يصلح لمشيخة دار الحديث غير ابنه التاج، والعلائي. ويصف التاجُ العلائيَ قائلاً: "وكان حافظاً ثبتاً ثقة، عارفاً بأسماء الرجال والعلل والمتون، فقيهاً متكلماً، أديباً شاعراً ناظماً ناثراً، متقناً، أشعريّاً صحيح العقيدة، سنّيّاً لم يخلف في الحديث بعده مثله"، ويشهد له بأنه في الحديث لم يكن في عصره من يدانيه، "وأمّا في بقية علومه من فقه ونحو وتفسير وكلام، فكان في كلّ واحد منها حسن المشاركة". ولكن الناظر في فتاويه، يجده في الفقه لا يقلّ عنه في الحديث، بإحاطته بالمذاهب، ولاسيما بالمذهب الشافعي، ووقوفه على كتبه، وقدرته على معرفة مآخذ فقهاء المذهب، والمحاكمة بين شيوخه، وله من الفتاوى ما تشفّ عن تجاوز التقليد، ومخالفة شيخي المذهب الرافعي والنووي، وقد كانت تصله، كما في الفتاوى، العديد من الأسئلة في دقائق المذهب وخلاف أشياخه، فيجيب إجابة الغائص الخبير، وقد اتسمت فتاواه بالتفصيل والاستدلال والسعة، والمكنة من عدة الفقيه متعدد المواهب السالك في مختلف شعاب العلم.

كانت الأسئلة تأتي إلى العلائي من القدس بطبيعة الحال، والخليل، وغزة، والرملة، والصلت (السلط)، ودمشق، ومصر، والمدينة النبوية، واليمن (جاءته الأسئلة من اليمن أثناء مجاورته بمكة سنة 755 هـ). وإذا كانت بعضها استفتاءات فقهية معهودة، وبعضها استفتاءات في دقائق الفقه والعلم، فإنّها في الجملة كاشفة عن الأوضاع الاجتماعية والدينية في الحقبة المملوكية في فلسطين، فضلاً عن تضمن بعضها إشاراتٍ تاريخية.

المسجد الأقصى والبلدة القديمة في القدس كما بدت في أواخر القرن التاسع عشر. (Universal Images Group via Getty Images)

الحياة التي يشكّلها الوقف

يمكن القول إنّ الأسئلة حول الأوقاف كانت تحتلّ المكانة الأهمّ في مجموع فتاوى العلائي[7]، وهو ما يسفر عن موقع الوقف في الحياة الاجتماعية في تلك الحقبة[8]، فضلاً عن اتصال ذلك بالكيفيات التي كان يتحاكم فيها المجتمع إلى الشريعة من خلال الفقهاء، والنزول عند أحكامهم، والتحرّي الدقيق لألفاظ كتب الوقف، لضمان العمل بشرط الواقف.

كان المجتمع يستند إلى نفسه من خلال نظام الوقف[9]، الذي ساد على نحوٍ ظاهرٍ في تلك الحقبة. وكان الترابطُ الاجتماعي، على المستوى الأُسري الضيق، أو على المستوى العام، منعكساً في نظام الوقف، فقد كان ابن تلك المرحلة يسعى لضمان حياةٍ كريمة لأبنائه وذراريهم، بل وفي بعض الأوقاف لعتقائه وذراريهم، بل ولأشخاصٍ من غير قرابته وذراريهم، فضلاً عن الإنفاق على الحرمين والمسجد الأقصى وغيرها من المساجد والمدارس والمكتبات والربط والخانقاوات والزوايا من خلال الأوقاف، وكانت بعض الأوقاف جامعة لهذه الأغراض كلها. بحيث يمكن القول إنّ المصدر التمويلي الأهم للمؤسسات الدينية وللحركة العلمية في الحقبة المملوكية كان يأتي من ريع هذه الأوقاف[10].

ففي واحد من الأوقاف، شَرطَ الواقفُ للناظر[11] أُجرتَه بعد عمارته الوقف، ثمّ شرط من ريع الوقف العُشرَ لولي الواقف ولمن يحدثه الله تعالى من أولاد لهم في ذراريهم ونسلهم وعقبهم، فإن لم يبق منهم أحد صرف ما يخصهم وهو العشر لعتقاء الواقف وأولادهم، ثمّ يُرسل من ريع الوقف ألف درهمٍ تُصرَفُ إلى خمسة عشر نفراً من أهل مكة بالسوية، وألف درهم تُصرَف لخمسة عشر نفراً للمجاورين بحرم المدينة، فإن تعذّر ذلك، صُرِف ذلك مع باقي ريع الوقف على الفقراء المقيمين برباط الواقف المجاور لحرم القدس (وهذا يعني أنه كان قد أقام رباطاً[12] للصوفية في القدس بجوار الأقصى)، ونصّ الكتاب على راتبٍ لقارئ الميعاد[13] الذي يرتبه الواقف بالمسجد الأقصى، ولشيخ الميعاد[14]، ولخازن الكتب[15]، وللفقراء المجاورين والواردين بالقدس.. على تفصيل في هذا الكتاب الجامع!

ويتضح بذلك أنّ هذا الوقف، الذي هو نموذج مركّب من صور متعددة لأوقاف ذلك الزمن، قد جمع الوقفَ الأهلي بالسعي لضمان رزق ذراريه ما تعاقبوا، ثم عتقائه ما تعاقبوا، والوقفَ للأغراض الدينية بالإنفاق على المجاورين بالحرمين والأقصى، ورَبَطَ الصوفية، والأغراضَ التعليمية بالإنفاق على قارئ الميعاد، وشيخ الميعاد، وخازن الكتب. وهذه الصور، من الوقف، مُفرَدة؛ بالوقف على غرضٍ من هذه الأغراض، أو مُركّبة؛ بالوقف على عدة أغراضٍ معاً في الوقف الواحد، كثيرةٌ في هذه الفتاوى. وهو ما يُمكن أخذ صورةٍ منه عن حال المجتمع المسلم، في الفترة المملوكية في بقية البلاد، بالإضافة إلى بيت المقدس، كالحجاز ومصر والشام بعمومها!

أوج الصعود العلمي في فلسطين

يشير ذلك من جهة إلى الآليات التي اعتصم بها المجتمعُ الإسلامي لمواجهة التحديات التي كان من شأنها أن تمزّق أيّ أمّة مرّ بها ما مرّ بذلك المجتمع، من الانقسام الطائفي (التحدّي الباطني)، وكذا البويهي الشيعي، والحملات الصليبية، والهجمة التترية، لا ابتداءً من الفترة المملوكية، بل قبل ذلك، منذ أن أخذ هذا المجتمع في الحقبة السلجوقية بالتسوّر بالمدارس النظامية[16]، والنسق المذهبي، والمسلك الصوفي، الذي حفظ لهذا المجتمع وحدته، وضمن له السلامة، لا في مواجهة التحدّيات الكبرى فحسب، ولكن في تجاوز الانقسامات السياسية الداخلية في الصفّ السنّيّ نفسه، كما في المرحلة التالية على صلاح الدين بين خلفائه الأيوبيين، ثمّ في صراعات المماليك أنفسهم.

وبهذا تتضح المسافة، بين الوسط السياسي وصراعاته، وبين الوسط الاجتماعي وتماسكه، بما في ذلك من تداخل، مع احتفاظ الحركة العلمية في العلوم الشرعية بمكانتها[17]، وأخذها موقعاً مهمّاً في هذه الحقبة، في تاريخ المأسسة العلمية للعلوم الشرعية، بما في ذلك فلسطين[18]. وهو ما يدفع الكثير من التصورّات الهجائيّة لهذه الحقبة من تاريخ المسلمين، لا سيما على المستويين الاجتماعي والعلمي، فقد استمر التطوّر العلمي بالتصاعد طوال الفترة المملوكية، منذ منتصف القرن السابع، لاسيما منذ عهد الظاهر بيبرس (658 – 676 هـ)، وحتى انتهاء الفترة المملوكية سنة 922 هـ. بل كان القرن التاسع الهجري ذروة هذا التصاعد، حتى ازداد العلماء في فلسطين، والتي باتت مقصداً كذلك للعلماء من خارجها[19]، فقد صار بناء المدارس[20] كبناء المساجد وبيوت الصوفية، وذلك في حين، أنّ المدارس لم تكن معروفة في فلسطين على نحوٍ واسعٍ قبل هذه الفترة، باستثناء مدرستين، ترجعان إلى أواسط القرن الخامس الهجري، هما المدرسة النصرية[21] ومدرسة أبي عقبة[22]. وذلك ناجم، أولاً عن تطور المدارس المستقلة بالتدريج في عموم الحضارة الإسلامية، عن نموذج المسجد، ثم مجمع المسجد/ الخان[23]، فقد بدأت المدارس تظهر مؤسسة للتعليم بعد 400 سنة هجرية عموماً في بلاد المسلمين، لاسيّما مع تأسيس المدارس النظامية، ثمّ لا ينبغي إغفال ما مرّ بفلسطين من غزوٍّ صليبي، ومن تمدّد باطني[24].

منظر عام لمدينة القدس كما بدت في القرن التاسع عشر. (Universal History Archive/Getty Images).

الفتاوى بوصفها مدونة اجتماعية 

تكثر استفتاءات الوقف في فتاوى العلائي، بما يحول دون الوقوف عليها جميعها، سواءً من حيث دواعي الاستفتاء، أو أغراض تلك الأوقاف، لكن تمكن الإشارة العجلى إلى بعض تلك الأغراض، الدينية والعلمية والاجتماعية. ومن ذلك مثلاً في وقفٍ على وظيفة يُشترط في مُباشِرِها أن يكون قيّماً بمذهب أبي حنيفة أصولاً وفروعاً، والوقف على إمامٍ يُحيي العشر الأواخر بالمسجد الأقصى، ووقف على رباط فيه خمسة عشر نفساً ولهم شيخ وشرطُهُ أن يقرأ كلُّ واحدٍ منهم كلَّ يوم جزءاً من القرآن، ووقف على المشتغلين بالقرآن المجيد والنحو المفيد.

وقد ذُكِر أكثر من وقفٍ في هذه الفتاوى على مدارس فقهية وفقهائها والمدرسين فيها والمشتغلين بالعلم من طلابها[25]، ومن ذلك وقف قريةٍ على مدرسة بحيث يذهب الثلثان من ريع القرية على مدرسة للشافعية والحنفية والثلث الباقي على جهات البرّ. وتكرّر ذكر جهات البرّ مرّات في هذه الفتاوى، ويمكن أن يدخل في الأوقاف ذات الصلة بالحركة العلمية الأوقاف على المكتبات، أو وقف كتب بعينها، ومثل هذا مذكور في هذه الفتاوى.

ومن أمثلة الأوقاف على جهات البرّ، وقف على جهات برّ في جامعٍ كان من شرطه صرف معلوم لثمانية نفر من المؤذنين الحسني الأصوات، والذين حدّدت لهم مراتب ووظائف، يمكن منها أخذ صورةٍ لجانب من العادات الدينية في ذلك الوقت، فقد اشترط الواقف أن يكون بينهم اثنان عارفان بتحرير أوقات الصلوات، والستة الباقون مؤذنون يرتبون لإقامة وظيفة الأذان في الجامع المذكور في نوبتين، كل نوبة فيها ثلاثة مؤذنين ورئيس واحد في كل يومين ولياليهما، على أنّ كلاً من أرباب النوبتين المذكورتين يقومون في نوبتهم ولياليها بوظيفة الأذان في المئذنة التي بالجامع المذكور في الأوقات المشروعة، والأذكار والتسبيح في أيام الجمع والأعياد وإقامة الصلاة والتبليغ خلف الإمام على العادة في ذلك كله. (هذا لفظ كتاب الوقف بتصرف يسير)، كما تكرّر في الفتاوى ذكر الأوقاف على أئمة المساجد.

القدس كما تبدو من جبل الطور، 1875. (Universal History Archive/Getty Images)

ومن الأوقاف اللافتة، أن يشترط الواقفُ من ريع الوقف معلوماً لقُرّاءٍ على تُرتبته بعد موته. ومن ذلك وصية أرغون الكاملي الذين كان من مماليك الصالح إسماعيل، واستقرّ بالقدس ومات بها، وكان قد وقف وقفاً لِتُربته، بحيث يُبنى إلى جانبها مسجد ومئذنة وسقاية يُسبَّل فيها، ويكون للمسجد مؤذن وإمام، وقيم وبواب ومصابيح، وستة نفر من القراء العارفين بالقراءات السبع، يجتمعون في التربة المذكورة كل يوم بعد صلاة الصبح، يقرأ كلّ واحد منهم حزباً من القرآن العظيم ويدعون للواقف وذريته.

وعلى أية حال فقد كانت الأوقاف للأغراض الدينية كثيرة[26]، وكان من أمثلتها في الفتاوى وقف على جامع ومسجد أنشأهما الواقف، ووقف على زاوية بها وليّ مدفون ينفق منه على الفقراء المقيمين بها والواردين إليها مع ترتيب إمام أو خادم أو كاتب للوقف، ويدخل في هذا النوع من الأوقاف الأوقاف على الربط والزوايا والخانقاوات[27]، كوقف الخانقاه الفخرية بالمسجد الأقصى، وفي شأنها فتوى في هذه الفتاوى[28].

وأمّا الأوقاف ذات الطابع الاجتماعي الصرف فهي كثيرة، كالأوقاف على الأبناء وذراريهم، والعتقاء وذراريهم، والإخوة والأخوات، وعلى أشخاص بأعيانهم، وهكذا. وقد تضمنت فتاوى العلائي حكاية وقف حارة المغاربة، وما أثارته من استشكالات بين فقهاء القدس ودمشق ومصر، فقد أوقفها الملك الأفضل نور الدين أبو الحسن ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين على جميع طائفة المغاربة على اختلاف أوصافهم وتباين حرفهم، ذَكَرِهم وأُنثاهم، ليسكنوا فيها، ويرتفقوا بها، ويقيموا في مساكنها.. شرط ألا يتخذ شيء من مساكنها ملكاً ولا بيعاً ولا احتجاراً، وأن ترتيب ذلك راجع إلى من يكون شيخاً ورئيساً من المغاربة المقيمين في كل عصر وأوان بالقدس الشريف. فكان أن كثرت المساكن المستجدة بها، ومنها ما هو مستجد في براح الأرض الموقوفة، وسكن فيها من ليس من المغاربة وأجّر منها الكثير ما بين دار وحانوت وفرن وغير ذلك، وكان الإشكال في كتاب الوقف هذا، أن الشهود شهدوا عليه عند القاضي علاء الدين علي بن صاعد بالقدس الشريف سنة 666 هـ، أي بعد وفاة الملك الأفضل بـ 44 سنة، إذ توفي سنة 622 هـ، فهل سمع الشهود شرط الواقف من الواقف نفسه وهذا محتمل لقرب زمن الوفاة؟ أم شهدوا بمضمون كتاب الوقف عند حاكم ثبت عنده كتاب الوقف؟ أم شهدوا على مضمونه على جماعة أشهدوهم؟

وقد تداول فقهاء كثر مشكلة هذا الوقف، ذكر أكثرهم العلائي، وناقش بعض الفتاوى بالتفصيل، وتضمنت بعض تلك الفتاوى تاريخ بيت المقدس من حيث الفتح الإسلامي، وهل هي وقف لعامة المسلمين بموجب الفتح؟ ووصفاً لحارة المغاربة ومبانيها.. وعلى أية حال، فقد اشتملت العديد من فتاوى العلائي على تواقيع بالموافقة لعدد من فقهاء زمانه، وذلك راجع في الأغلب، على آليات تحكيم الشريعة، إذ يستفتي القضاة الفقهاء، ويرسل الفقهاء بالإجابة، وقد تتضمن بعض الفتاوى عدة تواقيع لفقهاء عدة من مذاهب متعددة، وهكذا.

مشهد عام في القدس في العام 1841، طباعة حجرية ملوّنة باليد رسمها لويس هاجي. (Universal History Archive/Getty Images)

عادات الناس الدينيّة

كما كشفت فتاوى العلائي عن العادات الدينية للمسلمين في فلسطين في ذلك الوقت، ومن ذلك "التعريف[29] بالمسجد الأقصى". وهو أن يخرج الخطيب يوم عرفة إلى صحن المسجد الأعلى، ويصعد المنبر، ويقف معه الناس عشية عرفة يدعون، ويختلط الرجال بالنساء، ثمّ يتفرّقون بعد الدعاء عند غروب الشمس، ويذهب بعض العوامّ يطوف بقبة الصخرة، وغالبهم ينفر بعد الدعاء إلى الجامع بصياح وضجيج، وتضمّن السؤال أن كثيراً من العوامّ وأهل النواحي يعتقدون أنّ أربع وقفات بالمسجد الأقصى تعدل حجة[30].

وقد بيّن العلائي أن التعريف (أي الوقوف بالمساجد يوم عرفة للدعاء) قد حصل زمن التابعين واختلفوا فيه، ولكنه على الهيئة التي كانت تجري في بيت المقدس، محرّم لا يجوز فعله ولا الإقرار عليه.

ومن العادات الدينية التي ذكرها العلائي في معرض إجابته عن إحياء ليلة النصف من شعبان في المساجد، ما ذكره من أنّ ابتداء هذه العادة ببيت المقدس كان سنة 448 هـ، على يد رجل من أهل نابلس يُعرف بابن أبي الحمراء[31]، قدم إلى المسجد الأقصى ليلة النصف من شعبان، وكان حسن التلاوة، فقام يصلي، واجتمع خلفه جماعة ثم كثروا في السنة القابلة، ثم شاعت وانتشرت في البلاد، ثمّ أبطلت هذه العادة وحسمت، إلى أن جاء شخص من كبار الكتّاب بدمشق قدم إلى القدس الشريف، في شهر شعبان سنة 737 هـ، فأقام جماعة يصلّون بالناس تطوّعاً يحيون ليلة النصف من شعبان. فسُئل العلائي عن ذلك فأجابه بأنّه من البدع المكروهة التي ينبغي تركها، وكان جوابه هذا من أسباب منع رجوع هذه العادة من جديد. وعلى أية حال تُبين هذه المسألة، الاتصال الوثيق الذي ظلّ قائماً بين أهل دمشق وأهل بيت المقدس، وانتقال العادات فيما بين البلدين.

ومن العادات الدينية ذات الصلة، إحياء العشر الأخير من رمضان في المسجد الأقصى، وغيره من المساجد، وقد سبقت الإشارة إلى وقف يوقف على إمام هذه العشر. وقد أفتى العلائي بجواز ذلك، وأنه ليس من البدع المذمومة، وفي فتاواه تفصيل حول أقسام البدعة، وما هو من بدعة الضلالة، وما هو من إحداث الخير الذي لا يعد ضلالة.

ومما كشفت عنه الفتاوى، عادات الناس في الصلاة بالمسجد الأقصى، إذ لم يكن يصلّي بالناس المغرب إلا إمام واحد (يبدو أنه من مضمون السؤال كان شافعيّاً)، ولكبر المسجد يحتاج الناس مبلغين يبلغون في جوانبه خلف ذلك الإمام، فأراد شخص إحداث إمام حنفيّ بقبة الصخرة، يصلّي المغرب بالناس في وقت الإمام المعتاد بالجامع، مما يؤدّي إلى التشويش على المصلين، واختلاط صوته بصوت المبلغين. وقد تضمن السؤال ما يبين العادة في بلاد المسلمين بشأن المساجد التي يتعدّد أئمتها (على الأقل فيما هو محيط أو قريب أو ذو صلة بأهل بيت المقدس)، فقد قال السائل: "فهل يجوز ذلك وهو مخالف لما هو معهود في البلاد الإسلامية كلّها من إقامة صلاة المغرب بإمام واحد في كلّ جامع تعدّدت به الأئمة، وصلاة الفقهاء خلف بعض مع اختلاف المذاهب"، وهو ما يدلّ على أنّ المساجد التي كان يتعدّد أئمتها كانت تقام فيها صلاة مغرب واحدة خلف إمام واحد، على الأقل فيما هو متصل ببيت المقدس ومحيط بها. وإذا كان العلائي قد منع إحداث هذه الصلاة، وكتب تحت فتواه بالموافقة القاضي صدر الدين ابن الخابوري، والقاضي تاج الدين الحاكم بالقدس الشريف[32]، والشيخ تقي الدين القرقشندي، والشيج جمال الدين البسطامي الحنفي، والشيخ سراج الدين بن القياني الحنبلي، فإنّ السؤال دالّ على أعداد المصلين الهائلة في ذلك الزمن، إذ تمتد صفوف مصلّي المغرب من الجامع القبلي حتى قبّة الصخرة بما يحتاج هذه الأعداد من المبلغين خلف الإمام في أنحاء المسجد الوسيعة!

ويبدو أنّ مكانة المسجد الأقصى في وعي أهله في ذلك الوقت كانت شديدة الحضور، إلى درجة السؤال إن كان أجر الصلاة فيما زيد لاحقاً على ما كان من مسجد النبي صلّى الله عليه وسلم في زمنه، يُضاعف بالمقدار نفسه الذي يضاعف فيه بما كان مسجداً في زمن النبي صلّى الله عليه وسلم، أم أنّ المضاعفة مختصة بما كان مسجداً في زمنه، ومن ثمّ فهل تكون الصلاة في الموضع المزيد في مسجده صلّى الله عليه وسلم أقل رتبة من المسجد الأقصى أم لا؟ وقد أفتى العلائي أن المضاعفة في المسجدين (الحرام والنبوي) مختصة بما كان مسجداً في زمانه، ومن ثمّ، فالظاهر، أنّ الصلاة في المسجد الأقصى أفضل منها في ذلك القدر الزائد، لأنّ مأخذ المضاعفة التوقيف.

وفي سياق العادات الدينية، وما يتصل بها من عادات اجتماعية، تبين في واحدة من الاستفتاءات أنّ الناس كانوا يشيعون الجنازات بالتكبير والتهليل بصوت مرتفع، وهو ما عدّه العلائي فعلاً محدثاً ومكروهاً. ويتبين من استفتاءات أخرى أن المساجد الجوامع كانت مبيتاً للفقراء الواردين وغيرهم، وأنّ المؤذنين كانوا يسبّحون على المآذن فجراً قبل الأذان. كما تضمنت فتاوى العلائي إشارة تاريخية، في استفتاء ورد العلائيّ من الخليل، إلى طاعون نزل بأهل غزة والرملة وبعض السواحل، وبالقرب منهما في الجبل بلاد لم ينزل بها، وبينها وبين تلك مسافة القصر وهم أصحاء[33]، وقد كان الاستفتاء عن القنوت بالدعاء لهم، وصلاة الغائب على موتاهم[34].

خاتمة

يمكن، من فتاوى العلائي، استخلاص صورة أوسع، عن الحياة في فلسطين في القرن الثامن الهجري، والنظر من ذلك إلى عموم بلاد المسلمين المحيطة بفلسطين في ذلك الوقت، سواء بدراسة فتاوى الوقف كلها، وما يمكن استظهاره منها من مشكلات اجتماعية استدعت تلك الاستفتاءات، أو الإطلالة منها على طرائق المسلمين حينها في تدعيم مجتمعهم عبر هذا النظام، المستند بالكامل إلى الشريعة من خلال الاحتكام المباشر إلى الفقهاء؛ الذين تكشف فتاواهم الاجتماعية، عن النسق المذهبي المتكامل، بخلاف ما تتصوّره الانطباعات المعاصرة عن الانقسام المذهبي (الحديث عن المذاهب السنّيّة الأربعة)، فالواقع الذي يكشف عنه التلقّي الفقهي المتبادل، وإنفاق الوقف الواحد على مدارس لعدة مذاهب، واجتماع فقهاء المذاهب المتعددة على فتوى واحدة، ثم انتظام الحياة الاجتماعية بالاستناد إلى هذا النسق، كاشف عن الدور الجوهري الذي قامت به المذاهب في الحفاظ على الوحدة الاجتماعية، منذ تبلورها النهائي في القرن الخامس وصولاً لانهيار هذا النسق مع الاستعمار، ثمّ مع استدخال الدولة الحديثة إلى بلادنا.

تضيء الفتاوى على هموم الناس المبثوثة في استفتاءاتهم، وعلى العادات الدينية، وعلى الحياة العلمية، وعلى علاقات المسلمين بأهل الذمة[35]، وعلى بعض العادات الاجتماعية؛ ومن ذلك ما جاء في سؤال من كون العادة جارية بالقدس الشريف من السير المتقادمة أنّ من سكن بشيء من أملاك بيت المال لا يخرج منه ولا يباع من غيره، ولم تزل مطردة بذلك. كما تضيء على تصدي الفقهاء لسطوة الأمراء، كما في فتوى العلائي بخصوص نائب للسلطنة تحكّم على ناظر وقف كتب إليه يشفع عنده في شخص أن يوليه مباشرة الوقف بعزل المباشر الذي ولاه، فأفتى العلائي بعدم نفاذ عزل الأول، وعدم صحة تولية الثاني، وهو ما يحيل إلى مستوى التداخل بين الوسطين الاجتماعي والسلطوي، بما يستدعي إعادة النظر في فهم نمط الحكم في ذلك الوقت، بحيث لم تكن السلطة مركزية ولا متفاحشة كما هو الواقع الآن في ظلّ الدولة الحديثة، وإن كان التدافع موجوداً بين المجتمع والسلطة السياسية، كما أن التداخل موجود كما سلف قوله.

سوف يبقى في هذه الفتاوى ما يستدعي المزيد من البحث والنظر واتخذاها مصدراً للإطلالة على تلك الأزمنة، وإذا كانت الدهشة قد أخذتني حين وقوعي على حكاية الوقف لتثبيت المرابطين بالأقصى، بما يمدّ أهل هذا الزمن بأفكار عتيقة أصيلة بخصوص الواجب تجاه أهل فلسطين، ولاسيما أهل القدس منها، وأنّ الأصل في مسؤولية التصدّي للعدوّ الراهن هو تعزيز صمود أهل فلسطين، فإنّ ثمة جِدَّة وطرافة في الإطلال على التاريخ وأهله من خلال فتاوى الفقهاء بما قد يوجد في غير فتاوى العلائي.


الهوامش

[1]. طُبعت هذه الفتاوى ثلاث مرات، أو على الأقل راجعت بشأنها ثلاث طبعات، فضلاً عن رجوعي لمخطوطة الأزهرية لهذه الفتاوى. أما الطبعات فهي طبعة دار الفتح بعمان في الأردن بتحقيق عمر حسن القيام وصدرت في 2009، وطبعة دار النوادر بدمشق ولبنان بتحقيق عبد الجواد حمام وصدرت في 2010، وصدرت الفتاوى كذلك ضمن مجموع رسائل الحافظ العلائي عن عن دار الفاروق الحديثة بالقاهرة وصدرت في المجلد السابع من المجموع عام 2017. وقد اعتمدَتْ هذه الطبعات الثلاث على نسختين مخطوطتين الأزهرية والظاهرية، وكان رجوعي في هذه المقالة للطبعات الثلاث، إلا أن أكثر اعتمادي كان على طبعة دار الفتح. بلغ عدد المسائل بحسب إحصائي 133 مسألة، في حين عدها محقق طبعة النوادر 132 مسألة، بينما لم يعدها محققا الطبعتين الأخريين.

[2]. ذكر الحافظ ابن حجر في كتابه "الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة" أن عدد شيوخ العلائي بالسماع 700 شيخ، وللعلائي كتاب مطبوع سمّاه "إثارة الفوائد المجموعة في الإشارة إلى الفرائد المسموعة"، ذكر فيه ثبت سماعاته. قال محققه، مرزوق بن هيّاس آل مرزوق الزهراني، إنه أحصى فيه 310 من شيوخ العلائي ذكرهم في ثبته هذا، و400 كتاب مسموع أو مقروء عدا ما عرض ذكره من مؤلفات العلماء.

[3]. وهي أهم مدرسة بنيت بعد الفتح الصلاحي، بناها صلاح الدين الأيوبي سنة 588 هـ.

[4]. نسبة إلى الأمير سيف الدين بكتمر.

[5]. أقيمت مكان حمام هدمه نائب السلطنة تنكز الملكي الناصري، وأقام مكانه هذه الدار.

[6]. أي طبقات الشافعية الكبرى.

[7]. وليس هذا بمستغرب، يشير طونجاي باش أوغلو، مؤلف كتاب "الفقه في العهدين الأيوبي والمملوكي: خصائص التأليف وسرد المؤلفات"، إلى أنّ نصف الأراضي المصرية تحولت إلى أراض وقفية، وأنّ معظم هذه الأوقاف في الفترة المملوكية كانت من الأوقاف الإرصادية، أي المرصودة للمنافع العامة، ومن ثمّ ساهمت هذه الأوقاف في نشر العلم والتعليم وتقوية المجتمع المسلم والمدن وإتمام التحول الاجتماعي بتطهير بقايا النظام القديم (الصليبيين، والفاطميين العبيديين)، وإعادة أسلمة المنطقة، ومن ثم كثرت الفتاوى وتعددت المؤلفات بخصوص الأوقاف في هذه الفترة.

[8]. كتبت العديد من الدراسات حول الأوقاف في الحقبة المملوكية، وخاصة عنها في فلسطين، منها مثلاً "الأوقاف في فلسطين في عهد المماليك 648 – 922هـ / 1250 – 1517م"، وهو أطروحة ماجستير لفايز إبراهيم الزاملي عن الجامعة الإسلامية بغزة.

[9]. جرى التركيز في هذه المقالة على الأوقاف التي انبثقت عن المجتمع وأفراد الناس سواء لأغراض دينية أم علمية أم اجتماعية، لكن سلاطين المماليك وأمراءهم، بالتأكيد كانت لهم أوقاف كثيرة، ولم تغب عنهم أهمية الوقف في تعمير القدس، وتعزيز أهلها، وجلب المسلمين إليها، لمواجهة الخطر الصليبي، بالإضافة إلى ما في الوقف من تعزيز لنفوذهم في المجتمع، أو ضمان الأمن الاقتصادي في مستقبل أولادهم.

[10]. يمكن تقسيم الأوقاف إلى قسمين، خيرية مرصودة للنفع العام، وأهليه أو ذرية مرصودة لنفع أشخاص معينين من القرابة أو غيرهم، ويمكن إضافة قسم ثالث مخصوص بالحرمين الشريفين.

[11]. ناظر الوقف ونحوه من المباشرين هو الذي يوكل إليه من الواقف أو بمقتضى شرط الواقف الإشراف على الوقف وتنميته وعمارته وإخراج ريعه بحسب شرط الواقف، ويأخذ أجرته على ذلك بحسب ما شرط له في كتاب الوقف.

[12]. الرباط والزاوية والخانقاه، تسميات لأشياء متقاربة. فالخانقاه والتي أصلها فارسي، بيت للصوفية، فيه مسجد وغرف للمبيت وقاعة للاجتماع وقراءة الأذكار، ومكتبة، وقد تقام فيها مدرسة لتعلم العلوم الشرعية. والرباط كذلك، والذي استفاد أصل اسمه من الرباط على الثغور، وقد اشتهر من عباد الصوفية، عباد الثغور، وترجم ابن الجوزي في كتابه "صفة الصفوة" لمن أسماهم "ذكر المصطفين من أهل العواصم والثغور"، واصطلح الدكتور علي سامي النشار في كتابه "نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام" على تسمية "مدرسة الثغور"، وقال فيه: "ولكن أهمّ الثغور والعواصم التي تسترعي أنظار الباحث كانت ثغور الإقليم السوري، سواء على شواطئ البحر أم في شمالها حيث كانت المرابطة أمام العدوّ الروماني البيزنطي، وقد استنّ العباد من قبل ثمّ الزهاد من بعدهم، بل الصوفية أنفسهم سنة المرابطة، فكانوا يذهبون إلى هذه الربط لمجاهدة العدو"، ثمّ صار الرباط يطلق على تجمعات الصوفية التي كالخانقاه، ويبدو أن الرباط كان أشبه بالمأوى لفئات اجتماعية متعددة من الطلبة وعابري السبيل والمنقطعين والرحالة والتجار، وأسست فيها خزائن الكتب والمدارس. ويبدو أن الزاوية نموذج مصغر من هذه الربط والخانقاوات، وغالباً ما تكون مصلى صغير يتحول إلى بيت للصوفية، وغالبها في البراري كما يقول التاج السبكي في "معيد النعم ومبيد النقم"، أن من واجب شيخ الزاوية: "تهيئة الطعام للواردين والمجتازين، ومؤانستهم إذا قدموا، بحيث تزول خجلة الغُرْبة عنهم. ولا بأس بإفراد مكان للوارد؛ لئلَّا يستحي وقت أكله وراحته". وفي الجملة عدّ المقريزي الخانقاوات والأربطة والزوايا بيوتاً للصوفية، لكن بالنظر إلى كتب الوقف يمكن ملاحظة الفروق بينها وكيفيات تطورها التاريخي، كما يذكر ذلك الباحث محمد محمد الأمين في كتابه "الأوقاف والحياة الاجتماعية في مصر 664 هـ - 923 هـ/ 1250م – 1517م، دراسة تاريخية وثائقية".

[13]. قارئ الميعاد، هو الذي يتولّى قراءة القدر المقرّر في الدرس، سواء كان درساً للشرح أم لسماع كتب الحديث، وسمي بالميعاد لأنّ لكل درس وقتاً معلوماً، قال السخاوي في "الضوء اللامع لأعيان القرن التاسع" في ترجمة عبد الله بن أبي بكر بن حسن أو حسين الجمال السنباطي ثم القاهري الشافعي الواعظ: "ولازم البلقيني في الفقه وغيره وسمع عليه البخاري بل كان هو قارئ الميعاد عنده من كلامه وكلام غيره ثم عند ولديه من بعده"، وقال المقريزي في "المواعط والاعتبار" في حديثه عن أحد الربط في مصر: "ويحضره الفقهاء يوماً في الأسبوع وهم عشرة شيخهم منهم ومنهم قارئ ميعاد وقرّاء"، وقال الذهبي في "معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار" عن أبي بكر بن محمد بن أبي بكر الإمام المقرئ: "وصار شيخ ميعاد ابن عامر مدة" أي أنه الذي تولّى التدريس بقراءة ابن عامر، أو إقراءها فترة من الزمن، وذكر الذهبي في "البداية والنهاية" عن الشيخ محمد بن محمود بن علي الشحام المقرئ كذلك أنه كان "شيخ ميعاد ابن عامر"، وقد ذكر جورج مقدسي في كتابه "نشأة الكليات: معاهد العلم عند المسلمين وفي الغرب" أن الميعاد يستعمل في دمشق والقاهرة للدلالة على حلقة الحديث، وينقل عن النعيمي، صاحب كتاب "الدارس في تاريخ المدارس" أن الطلبة كانت لهم "مواعيد" على ابن الكمال المقدسي يعلمهم فيها قراءة الحديث ويفيدهم، وأن المواعيد، بحسب جورج مقدسي، ارتبطت بالحديث وبالوعظ، لكن بالنظر إلى المواعيد فنجدها لا تقتصر على الحديث، بل وعلى إقراء القرآن، وربما الفقه كما في الكلام السالف عن قارئ ميعاد البلقيني، كما أنها ارتبطت بالوعظ بكل تأكيد، وقد ألفت كتب خاصة لإعانة قارئ الميعاد في المواعظ كما كتاب "تحفة الإخوان في قراءة الميعاد في رجب وشعبان ورمضان"، ولعله ما يزال مخطوطاً، لأحمد بن حجازي بن بدير الفشني، من أهل القرن العاشر، وبهذا قد ينفصل قارئ الميعاد دون شيخ ميعاد إن كانت وظيفته مجرد قراءة مواعظ جاهزة في المناسبات. وعلى أية حال فالوظائف الدينية والتعليمية كانت كثيرة، كما كانت المدارس، ويمكن الرجوع لكتاب النعيمي سابق الذكر حول المدارس، وهو له أهمية خاصة في هذا السياق، وكذا كتاب التاج السبكي "معيد النعم ومبيد النقم"، وكتاب جورج مقدسي سابق الذكر.

[14]. انظر ما سبق.

[15]. وظيفة خازن الكتب، كانت وظيفة أساسية في الحركة العلمية في هذه الفترة، قال التاج السبكي في وظيفة خازن الكتب في كتابه "معيد النعم ومبيد النقم": "وحقَّ عليه الاحتفاظ بها، وترميم شَعَثها، وحبكُها عند احتياجها للحبك، والضِنَّة بها على من ليس من أهلها، وبذلها للمحتاج إليها، وأن يقدم في العارية الفقراء الذين يصعب عليهم تحصيل الكتب على الأغنياء. وكثيرًا ما يشترط الواقف ألَّا يخرج الكتاب إلَّا برهن يحرز قيمته؛ وهو شرط صحيح معتبر: فليس للخازن أن يعير إلَّا برهن؛ صرَّح به القفال في الفتاوى، والشيخ الإمام في تكملة شرح المهذَّب؛ وذكر أنه ليس هو الرهن الشرعي".

[16]. نسبة لنظام الملك (ت 485 هـ)، وزير السلاطين السلاجقة ألب أرسلان وابنه ملكشاه، ومؤسس المدارس النظامية لتدريس المذهب الشافعي، والتي كان من أشهر مدرسيها أبو حامد الغزالي، والتي يمكن عدّها من أدوات السلاجقة في مواجهة الباطنية بتجلياتهم المتعددة، الفاطمية والقرامطة والحشاشين.

[17]. في باب الفقه وحده، وهو أهمّ ما يمكن أن يعكس الأوضاع الاجتماعية، ويدلّ على استمرار الكدّ العلمي في تنزيل الأحكام الشرعية على تطوّرات المجتمع، يتحدث طونجاي باش أوغلو، مؤلف كتاب "الفقه في العهدين الأيوبي والمملوكي: خصائص التأليف وسرد المؤلفات"، أنه أحصى من بداية الأيوبيين حتى نهاية المماليك 470 عالماً ألفوا في الفقه عملاً واحداً على الأقل، أكثرهم من الشافعية، وبالنظر إلى كون أنّه ليس كل من عمل في الإفتاء أو القضاء أو التدريس أو الاحتساب له عمل في الفقه، فعدد العلماء الفعلي أكبر بكثير من هذا العدد، وذكر المؤلف المذكور أنه أحصى أكثر من 2000 كتاب في الفقه فقط في هذه الفترة. وبعض أشهر فقهاء المسلمين وأصولييهم ومتكلميهم ومحدثيهم ومؤرخيهم بزغ في هذه المرحلة، كعبد الغني المقدسي، وسيف الدين الآمدي، والموفق ابن قدامة، وابن الصلاح، والعز بن عبد السلام، وابن الحاجب، والنووي، والمزي، والقرافي، والقرطبي، وابن دقيق العيد، والطوفي، وابن تيمية، وابن القيم، والذهبي، وابن كثير، وابن جماعة، والتقي السبكي، والزيلعي، والتاج السبكي، والإسنوي، والبابرتي، وخليل بن إسحاق، وبدر الدين الزركشي، وابن رجب الحنبلي، وابن حجر العسقلاني، وبدر الدين العيني، وابن قطلوبغا، وابن الهمام، وجلال الدين المحلي، وعلاء الدين المرداوي، وجلال الدين السيوطي، وزكريا الأنصاري. ومن نافلة القول إنّ هؤلاء ساهموا في صياغة الشكل الذي نعرفه اليوم من العلوم الإسلامية، في الحقول كلها، بل وكانت هذه الفترة الأهم في تنقيح وتصحيح المذاهب الفقهية، كالمذهب الشافعي الذي يبرز من الأسماء فيه في هذا الصدد النووي، والسبكي، والإسنوي، وزكريا الأنصاري، وغيرهم. ويمكن القول كذلك إن مؤلفات هذه الحقبة، ساهمت في الاحتفاظ بما سبق من مؤلفات وأتى عليها الزمن، إما لتقادم الزمن، أو لما مرّ بالأمة من خطوب عظمى كالهجمة التترية وما فقد فيها من مكتبات بغداد والشرق الإسلامي. ومن المفيد هنا نقل تقييم المؤلف المذكور لنمط التأليف الأصولي في الفترة المملوكية تحديداً، إذ يقول: "إنّ التأليف الأصولي في العهد المملوكي يتسم بالحيوية والنوع، وأن الأصوليين مشوا على مسائل أصولية والكتابة الملهمة من الرازي والآمدي ولكنهم لم يتقيدوا بهما في المسائل وأساليب الكتابة. إضافة إلى تنوع أسلوب الكتابة؛ ظهر في هذا العهد فكرة تأصيل الفقه على القواعد الكلية الفقهية بشكل واضح، وإعطاء الأهمية إلى مسائل المصالح والمقاصد، كما أن عهد المماليك أتى بأنظمة وتطبيقات حقوقية/ قانونية وفّرت أرضية النقاش حول معنى التمذهب والتقليد والاجتهاد والانتقال بين المذاهب ونحوه".

[18]. ذكر مجير الدين الحنبلي، في كتابه "الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل" 440 عالماً وخطيباً ممن عاشوا في بيت المقدس منذ أن فتحه صلاح الدين وحتى سنة 900 هـ.

[19]. يذكر كامل العسلي في دراسته له، منشورة في مجلة القدس الشريف (العدد 8، 1985) وموسومة بـ "الطابع الدولي للعلماء الذين أموا القدس وعاشوا فيها"، أنه بدراسة إحصائية لـ 80 عالماً عاشوا في القدس، بين القرن الخامس والقرن التاسع، أنهم جاؤوا من 22 قطراً ومن 6- إلى 70 مدينة، والكثير منهم من المغرب العربي.

[20]. ومن أشهر المدارس بالإضافة للمدرسة الصلاحية، المدرسة الأشرفية بنيت سنة 875 هـ، والمدرسة الأفضلية بنيت سنة 589 هـ والتي أوقفت للمالكية في حارة المغاربة، والمدرسة التنكزية وقد أتمّ بناؤها سنة 729 هـ، والمدرسة الجاولية أوقفها علم الدين سنجر الذي كان نائب غزة والقدس (683 هـ - 745 هـ)، والمدرسة الخاتونية والتي أوقفت 755 هـ، والمدرسة الطشتمرية أسست حوالي 758 هـ، والمدرسة المعظمية أسست 614 هـ، والمدرسة الأرغونية أسسها أرغون الكاملي وسوف يأتي الحديث عنه، وسوى ذلك العديد من المدارس، بحيث لا يتسع المقام للإتيان عليها، ولكنها كلها شاهدة على اتساع المدارس في العهدين الأيوبي والمملوكي.

[21]. مدرسة نصر المقدسي، فقيه شافعي كبير، توفي في دمشق سنة (490 هـ)، وعرفت مدرسة الشافعية بالقدس باسمه.

[22]. كامل العسلي، "التعليم في فلسطين من الفتح الإسلامي حتى بداية العصر الحديث"، الموسوعة الفلسطينية، القسم الثاني، الدراسات الخاصة، الجزء الثالث. 

[23]. يذكر جورج مقدسي في كتابه "نشأة الكليات: معاهد العلم عند المسلمين وفي الغرب"، أن المسجد بوصفه مدرسة للفقه، والخان الذي كان يقام بجوار المسجد ليقيم فيه الطلاب الذين يدرسون الفقه في المسجد، هما المؤسسة التعليمية الشائعة، قبل تأسيس المدارس التي انتشرت لاحقاً، وكان قد توسع منذ سنة 369 هـ، في بناء مجمعات مسجد/ خان، ثم تأسست لاحقاً شبكة المدارس النظامية، ثم اتسع في القرن السادس تأسيس الدور المتخصصة، كدور الحديث ودور القرآن، ودور الصوفية. فلم تكن فلسطين متخلفة عن هذا التطوّر، إلا بالقدر الذي أعاقه الغزو الصليبي.

[24]. يذكر ابن العربي القاضي المالكي الشهير، (ت 543 هـ)، في كتابه "قانون التأويل" من مشاهداته لمّا دخل بيت المقدس "فدخلنا الأرض المقدسة، وبلغنا المسجد الأقصى، فلاح لي بدر المعرفة، فاستنرت به أزيد من ثلاثة أعوام، وحين صليت بالمسجد الأقصى فاتحة دخولي له، عَمَدْتُ إلى مدرسة الشافعية بباب الأسْبَاطِ، فألفيت بها جماعة من علمائهم… في يوم اجتماعهم للمناظرة عند شيخهم القاضي الرشيد يحيى الذي كان استخلفه عليهم شيخنا الإِمام الزاهد نصْرُ بنُ إبراهيمَ النابلسي المقدسي، وهم يتناظرون على عادتهم… والتزمت فيه القراءة، لا أقْبِل على دنيا، ولا أكلم إنسياً، نواصل الليل بالنهار فيه، وخصوصًا بقبة السلْسِلَة، منه تطلُعُ الشمس على الطُورِ، وتغرب على محراب داود، فيخلفها البدر طالعًا وغاربًا على الموضعين المكرمين، وأدخل إلى مدارس الحنفية والشافعية في كل يوم، لحضور التناظر بين الطوائف، لا تُلْهِينَا تِجَارَة، وَلَا تَشْغَلُنَا صِلَةُ رَحِم، ولا تَقْطَعُنَا مُوَاصَلَةُ وَلِي، وَتُقَاةُ عَدُو". (من كتابه المذكور بتصرف). وهذا النص بحديثه بالجمع عن مدارس الشافعية والحنفية قبيل الاحتلال الصليبي للقدس، قد يوحي بوجود مدارس متعددة، لكن على أية حال، كان المسجد الأقصى بقبة الصخرة، هو المدرسة الكبرى الذي ربما كانت تنعقد فيه حلقات متعددة للمذاهب الفقهية، وأمّا المدارس بالنمط الذي عرف لاحقاً فلا شك أنه اتسع في العصر المملوكي، كما سبق القول. ولا شكّ أن أول مدرسة مهمة بنيت في القدس، كانت المدرسة الصلاحية وقد سبقت الإشارة إلى ذلك.

[25]. كانت الوظائف العلمية في المدارس كثيرة، كالمدرس، والمعيد (وهو الذي يساعد الفقيه المدرس في تفهيم الطلبة)، والمفيد (وهو الذي عليه تحصيل بعض الفوائد بمزيد بحث)، والمنتهي (وهو الذي يترتب عليه من البحوث والمناظرة فوق ما هو دونه من فقهاء المدرسة)، وقارئ العشر (وهو الذي يقرأ شيئاً من القرآن قبل الدرس وأثناء استراحته)، وكاتب الغيبة (الذي يكتب حضور الطلبة وغيابهم)، وشيخ الرواية (وهو الذي يسمع المحدثين ويسمع قراءتهم عليه لضبط حديثهم)، وكاتب غيبة السامعين (وهو الذي يسجل حضور وغياب المحدثين).

[26]. ويترتب على الأوقاف للأغراض الدينية وظائف كثيرة، سوى ما ذكر في هذه المقالة من فقهاء ومدرسين وطلبة بأنواعهم، ووظائف داخل هذه المدارس بأنواعها، وخانقاوات وربط وزوايا بما فيها، ومكتبات بما يتصل بها من وظائف، فمن الوظائف الأخرى: المنشدون، والقراء، والوعاظ، والقصاص، وقارؤوا الكراسي، (وقارئ الكرسي كما يقول التاج السبكي في "معيد النعم ومبيد النقم": "هو من يجلس على كرسيّ يقرأ على العامَّة شيئاً من الرقائق، والحديث، والتفسير؛ فيشترك هو والقاصّ في ذلك، ويفترقان في أنَّ القاص يقرأ من صدره وحفظه، ويقف، وربَّما جلس ولكن جلوسه ووقوفه في الطرقات، وأمَّا قارئ الكرسيّ فيجلس على كرسيّ في جامع أو مسجد أو مدرسة أو خانقاه ولا يقرأ إلَّا من كتاب")، وكان من مقروءاتهم إحياء علوم الدين للغزالي، وكتاب رياض الصالحين والأذكار للنوويّ، وكتاب سلاح المؤمن في الأدعية لابن الإِمام، وكتاب شفاء السّقام في زيارة خير الأنام، للتقي السبكي، وكُتُبُ ابن الجوزيّ في الوعظ. ومن الوظائف الدينية ذات الصلة بالمساجد، الإمام والمؤذن والمؤقت، وكلهم وردت استفتاءات على العلائي بشأنهم، وقد يجدر الإشارة إلى وظيفة المؤقت، وهي مذكورة في واحدة من الاستفتاءات، إذ لا بدّ له من معرفة علم الهيئة (أي علم الفلك)، وجهة القبلة على الخصوص، ويبدو بسبب ارتباط دورهم بالفلك، كثير فيهم المنجمون كما يقول التاج السبكي في كتابه "معيد النعم ومبيد النقم".

[27]. ومما يترتب في الخانقاوات شيخ الخانقاه والذي وظيفته "تربية المريد، وحمل الأذى والضيم على نفسه، واعتبار قلوب جماعته قبل قوالبهم، والكلام مع كل منهم بحسب ما يقبله عقله، وتحمله قواه، ويصل إليه ذهنه"، وفقراء الخانقاوات، وهم سكانها من الصوفية، والذين يقول بشأنهم التاج السبكي في "معيد النعم ومبيد النقم" (والكلام السابق له أيضًا): "إن دخلتها لتسُدَّ رمقك، وتستعين على التصوّف فهذا حق، وإن أنت دخلتها لتجعلها وظيفة تحصِّل بها الدنيا؛ ولست متصفًا بالإعراض عن الدنيا، والاشتغال غالب الأوقات بالعبادة، فأنت مبطل، ولا تستحق في وقف الصوفية شيئًا، وكلُّ ما تأكله منها حرام؛ لأنَّ الواقف لم يقفها إلَّا على الصوفية، ولست منهم في شيء. وقد كثر من جماعة اتخاذ الخوانق أسبابًا، والدلوق المرقعة طرائق للدنيا، فلم يتخلقوا من أخلاق القوم بغير لباس الزور"، وخادم الخانقاه والذي بحسب التاج السبكي: "ومن حقِّه توفير أوقاتهم للعبادة؛ فإنَّه في عبادة ما دام يعينهم على العبادة بهذه النية. فينبغي له السعي في كل ما يكون ذريعة إلى ذلك. وينبغي احتفاظه بفاضل أقواتهم، ووضعه في مستحق: من مسكين أو هرّة ونحو ذلك، ولا يرميه؛ فليس من شيمتهم طرح الزاد. وينبغي له تمييز وقفهم كما ذكرناه في مباشري الأوقاف".

[28]. لم تكن تقتصر الأوقاف ذات النفع العام في فلسطين في العصر المملوكي، على ما ذكر من مؤسسات تعليمية وأغراض دينية، ولكن جرى عرض ما ورد في فتاوى العلائي، وإلا فقد كان في فلسطين الكتاتيب التي مثلت أول نموذج للمؤسسات العلمية القائمة في تاريخ المسلمين، وكذلك البيمارستانات (أي دور الإشفاء والعلاج)، كشأن بقية المناطق التي خضعت لنفوذ المماليك.

[29]. لفظ التعريف أخذ من لفظ "عرفة" أي يوم عرفة.

[30]. وهذه عادة قديمة ببيت المقدس ذكر رؤيته لها، في كتابه "الحوادث والبدع" أبو بكر الطرطوشي (ت 520 هـ)، قال: "ولقد كنت ببيت المقدس، فإذا كان يوم عرفة، حشر أهل السواد وكثيرون من أهل البلد، فيقفون في المسجد يستقبلون القبلة، مرتفعة أصواتهم بالدعاء، كأنه موطن عرفة، وكنت أسمع هناك سماعاً فاشياً منهم: أن من وقف ببيت المقدس أربع وقفات، فإنه تعدل حجة، ثم يجعلونه ذريعة إلى إسقاط فريضة الحج إلى بيت الله الحرام"! وذكر أبو شامة المقدسي (ت655) في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث": "وبلغني أنّ منهم من يطوف بقبة الصخرة تشبّهاً بالطواف بالكعبة، ولاسيما في السنين التي انقطع فيها طريق الحج"، وهذا يعني أنّ عادة التعريف بالمسجد الأقصى، كانت ممتدة مستحكمة، فما بين وفاة أبي بكر الطرطوشي ووفاة العلائي 242 سنة!

[31]. ذكر هذه القصة، أبو بكر الطرطوشي في "البدع والحوادث"، قال: "وأخبرني أبو محمد المقدسي، قال: لم يكن عندنا ببيت المقدس، قط، صلاة الرغائب هذه التي تصلى في رجب وشعبان، وأوّل ما حدثت عندنا في أوّل سنة ثمان وأربعين وأربعمئة، قدم علينا في بيت المقدس، رجل من أهل نابلس يُعرف بابن أبي الحمراء…الخ".

[32]. كانت تسمية القدس، بالقدس الشريف من محكيات ذلك الزمن، كما يتكرر في فتاوى العلائي.

[33]. والفتوى المتصلة بهذه الحادثة غير مؤرخة، فليس متضحاً إن كان المقصود بهذه الحادثة، الطاعون الكبير الذي بدأ في أوروبا سنة 742 هـ، واستفحش في سنة 749 هـ، وقد ذكر ابن تغري بردى في كتابه "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" أن هذا الطاعون دخل مدينة حلب ثمّ البلاد الشامية كلها، وأفنى بلاد صفد والقدس ونابلس والسواحل، وكذلك وقع بالرملة وغيرها، وذكر أنه مات بمدينة غزة في ثاني المحرم إلى رابع صفر زيادة على 22 ألف إنسان، حتى غلقت أسواقها وشمل الموت أهل الضياع بها.

[34]. وتضمن الاستفتاء كذلك سؤلاً عن حكم تبرعات من لم ينزل بهم الطاعون وكانت المسافة بينهم وبين من نزل بها مسافة القصر، فهل تحسب تبرعاتهم من الثلث كشأن أهل البلاد التي نزل بها، ومن انتقل من تلك البلاد إلى البلاد التي لم ينزل بها، هل تحسب تبرعاته من الثلث أم لا. ولعل المقصود بذلك الوصية بثلث التركة، والفرق في الحكم بين من أوصى وهو قريب من الموت ومن أوصى صحيحاً.
[35]. ورده سؤال من الخليل عن نصراني علا في البناء على بناء جاره المسلم.



14 نوفمبر 2022
العالم بين بستانَيْن

منتصف الشهر الفائت، صرّح الإسباني جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي قائلاً: "أوروبا بستان متحضّر وباقي العالم (ما…