تحت الأسطح المهترئة للمخيمات الفلسطينية في لبنان، يختبئ ما هو أكثر من الفقر واللجوء: بندقية معلّقة، وذاكرة مواجهة، وقلق دائم من القادم. ظلّ السلاح الفلسطيني هناك، لسنوات، ملفّاً مؤجّلاً، تدور حوله التسويات والصراعات من دون حسم. اليوم، ومع تصاعد الضغوط الدولية ووقف إطلاق النار الهشّ في الجنوب، يعود هذا الملف إلى الواجهة في ظل ترتيبات جديدة، تبدو أكثر جذريّة من سابقاتها.
فقد أعادت التطورات الأخيرة في لبنان ملف السلاح الفلسطيني داخل المخيمات إلى دائرة الضوء. وعقب إطلاق صواريخ من الجنوب اللبنانيّ خلال معركة "طوفان الأقصى"، وصدور بيان رسمي من المجلس الأعلى اللبناني للدفاع حذّر فيه حركة حماس تحديداً من "المساس بالأمن القومي"، تكثّفت الضغوط الأمنية والسياسية على الفصائل الفلسطينية، بالتوازي مع الحديث عن تفاهمات جديدة يُقال إنها بدأت تتبلور برعاية السلطة الفلسطينية.
وفي خضم هذه التغيّرات، جاءت زيارة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلى بيروت، وسط معلومات عن بدء خطوات عملية لحصر السلاح الفلسطيني بيد الدولة اللبنانية، بدءاً بمخيمات العاصمة. لكن غياب التنسيق مع الفصائل، وضبابية الآليات، وغياب الضمانات بشأن حقوق اللاجئين، فجّرت أسئلة حساسة بشأن مستقبل المخيمات: من يقرر مصيرها؟ ومن يجمع سلاحها؟ وهل يفتح هذا المسار الباب أمام مرحلة جديدة من الإقصاء السياسي والتجفيف الأمني؟ وماذا عن السياق التاريخي الذي يعيد نفسه في كل مرة؟
هذه المرّة لا يدور الحديث عن "نزع السلاح" فحسب، بل عن إعادة هندسة العلاقة بين الدولة والمخيم، وبينما تتحدث الجهات الرسمية عن "ضبط السلاح" و"فرض النظام"، تتخوّف المخيّمات من تهميش جديد، وتطرح سؤالها المزمن: أين تذهب البنادق حين لا يُستشار أصحابها؟
صواريخ آذار ذريعة لضبط المخيمات؟
عاد ملف السلاح الفلسطيني ليطفو من جديد على سطح السياسة اللبنانية، في أعقاب وقف إطلاق النار في الجنوب. بيان المجلس الأعلى للدفاع كان مؤشّراً لافتاً، حذّر فيه حركة حماس من استخدام الأراضي اللبنانية في عمليات تهدد "الأمن القومي"، بعد إطلاق صواريخ لم يتبنّها حزب الله، وحُملت فصائل فلسطينية مسؤوليتها ضمنياً.
اقرؤوا المزيد: هل يخوض "حزب الله" معركة أعمدة؟
هذا البيان لم يكن معزولاً عن تحرّكات أمنيّة شملت اعتقالات في مخيمات مثل برج البراجنة ونهر البارد والرشيدية، طاولت عناصر من حماس أُفرج عنهم لاحقاً. مصدر في الحركة قال لموقع "متراس" إن لقاءً مع مدير الأمن العام اللبناني أسفر عن تفاهم غير معلن يقيّد الملف بصواريخ أواخر آذار/ مارس الماضي، من دون تحميل الحركة مسؤولية مشاركتها في "حرب الإسناد".
وبحسب المصدر، سلّمت حماس ثلاثة من عناصرها إلى السلطات اللبنانية، وجرى تنسيقٌ لتسليم رابع، في خطوة هدفت لتجنّب التصعيد مع الحكومة اللبنانيّة. بدأت القضية بعد العثور على صور ومقاطع فيديو بحوزة أحد العناصر، لتتحوّل إلى ملاحقة أمنية أوسع داخل المخيمات.
عباس في بيروت.. والفصائل خارج الحسابات: نزع السلاح يثير الغضب
تزامنت الضغوط الأمنية مع زيارة محمود عباس إلى بيروت، حيث التقى الرئيس جوزيف عون، ورئيسَي الحكومة نواف سلام ومجلس النواب نبيه بري. وبحث ملف السلاح الفلسطيني في المخيمات. بيان مشترك صدر بعد اللقاء أكد "ضرورة حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية"، في حين أفادت تقارير محلية أن أولى خطوات نزع السلاح ستبدأ من مخيمات العاصمة منتصف حزيران/ يونيو الجاري.
لكن اللقاءات الرسمية لم تُرضِ الفصائل الفلسطينيّة. فبحسب مصادر مطلعة تحدّثت لموقع متراس، عقدت حماس والجهاد الإسلامي وفصائل أخرى اجتماعاً في بيروت، أبدت خلاله استياءها من تغييبها عن المشاورات، ورفضها التعاطي مع الملف من دون ضمانات حقيقية تتعلق بحقوق اللاجئين. كما عبّرت عن قلقها من غموض آلية جمع السلاح، ومن صعوبة تصوّر دخول الجيش اللبناني إلى أزقة المخيمات وتفتيشها بغير خطة واضحة لإدارة الوضع الأمني والاجتماعي.

وتشير هذه المصادر إلى أن السلطة الفلسطينية تسعى لاستثمار الظرف السياسي الذي أحدثته الحرب المستمرّة في المنطقة، لتوسيع نفوذها في الساحة اللبنانية، عبر تقاطع رؤيتها مع الطرح الأميركي بخصوص نزع سلاح المقاومة، سواء في غزة أو في لبنان. ويُعزّز هذا التوجّه غياب التنسيق مع الفصائل، حتى خلال زيارة عباس إلى لبنان في أيار/ مايو الماضي.
وبالتوازي مع الترتيبات الرسمية، أوفد الرئيس عباس نجله ياسر مبعوثاً خاصاً لإدارة ملف السلاح في الكواليس. فبينما ظهر في وفد الرئاسة بصفة مبعوث الرئيس الخاص، عقد ياسر لقاءات أمنية بعيداً عن الفصائل، وروّج لوجود قرار فلسطيني بتسليم سلاح المخيمات. تحرّكه، الذي جرى بلا تنسيق حتى مع كوادر "فتح"، فجّر اعتراضات داخلية حادّة، أبرزها رفض السفير أشرف دبور حضور الاجتماعات، واعتكاف فتحي أبو العردات، أمين سر حركة فتح وفصائل منظمة التحرير في لبنان. وبين الخطاب الرسمي عن "السيادة" و"السلاح الشرعي"، والممارسات الميدانية غير المتفق عليها، بدت المبادرة محمّلة بتناقضات يصعب احتواؤها، كما ورد في تقرير صحيفة "الأخبار" اللبنانيّة عن "سلاح المخيّمات".
الخلفية التاريخية لسلاح الفلسطينيين في لبنان
السلاح الفلسطيني في لبنان ليس ملفاً طارئاً، بل رافق وجود اللاجئين منذ عقود. فقد شرعنته "اتفاقيّة القاهرة" عام 1969 بين ياسر عرفات والجيش اللبناني، مانحةً الفصائل حريّة التحرك جنوباً. لكن الاتّفاق أثار انقساماً داخلياً لبنانياً، ووُصف بأنه تفريط بالسيادة، إلى أن ألغاه مجلس النوّاب اللبناني عام 1987 بعد خروج منظمة التحرير من لبنان.
لاحقاً، نصّ "اتفاق الطائف" عام 1989 على نزع سلاح الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية، لكن المخيّمات استُثنيت فعلياً من التطبيق ضمن تفاهم غير معلن. وفي 1991، سلّمت فصائل فلسطينية مواقع عسكرية خارج المخيمات إلى الجيش اللبناني، وهي خطوة غير مسبوقة ترافقت مع لقاءات في القاهرة وبيروت، شارك فيها ممثلون عن فصائل التحالف والمنظمة، قبل الوصول إلى عملية تسليم السلاح، ومثّل الجانب الفلسطيني عن فصائل التحالف فضل سروره، وهو قياديّ في "الجبهة الشعبية - القيادة العامة"، وعن منظمة التحرير حضر عضو المجلس الوطني السابق صلاح صلاح.
وبحسب ما نقل صلاح صلاح، عضو المجلس الوطني السابق، لموقع متراس، فإن التفاهم الثلاثي آنذاك شمل: تسليم السلاح خارج المخيمات، وتنظيمه داخلها، مقابل إقرار الحقوق المدنية للفلسطينيين، وهو ما لم تلتزم به الدولة اللبنانية حتى اليوم.
في 2006، عاد الملف إلى طاولة الحوار الوطني اللبناني بعد اغتيال رفيق الحريري، وسط إجماع على المبادئ الثلاثة ذاتها. ومنذ ذلك الوقت، ظل الملف مُجمّداً، حتى أعادت مشاركة الفصائل الفلسطينية في معركة الجنوب وإسناد غزة فتحه من جديد، ولكن هذه المرّة في ظل واقع سياسي وأمنيّ مختلف كلياً.
من القليلة إلى "مرغليوت": العمليات الفلسطينية في معركة طوفان الأقصى
مع اندلاع معركة "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2023، فتحت فصائل المقاومة الفلسطينية في لبنان - خاصة حماس والجهاد الإسلامي - جبهة مساندة عبر الحدود، من خلال عمليات صاروخية واشتباكات محدودة في الجنوب.
اقرؤوا المزيد: على وقع الطوفان.. مخيمات لبنان تستعيد عافيتها
فقد أعلنت كتائب القسام مسؤوليتها عن عدة ضربات، أبرزها إطلاق صواريخ من سهل القليلة نحو الجليل، وقصف الجليل الغربي بـ30 صاروخاً، وكذلك استهداف "شلومي" و"نهاريا"، وإطلاق 40 صاروخاً رداً على مجازر غزة واغتيالات الضاحية.

أمّا "سرايا القدس" الذراع العسكري لحركة الجهاد الإسلاميّ، فتبنّت عملية تسلل قُتل فيها ضابطان إسرائيليان واستُشهد المقاتلان رياض قبلاوي (عين الحلوة) وحمزة موسى (برج الشمالي). كذلك أعلنت حماس عن استشهاد ثلاثة من عناصرها في عملية "مرغليوت": أحمد أسامة عثمان، ويحيى نايف عبد الرازق، وصهيب عمر كايد.
ورغم تصعيد العمليات، حرصت الفصائل على تنفيذها من مواقع مفتوحة خارج المخيمّات، كأحراش الناقورة وتلال البقاع، لتجنّب تعريض المخيمّات المكتظة للقصف الإسرائيلي.
العلاقة مع حزب الله في مهبّ التوازنات!
نفّذت الفصائل الفلسطينية عملياتها العسكرية من جنوب لبنان في إطار تنسيق معلن مع حزب الله، بحسب تصريحات قيادات في حماس والجهاد الإسلامي، ما وفّر غطاءً سياسياً للفصائل طيلة الأشهر الأولى من الحرب.
اقرؤوا المزيد: قوات الفجر: للسلاح وجهة واحدة
هذا الغطاء أثار حفيظة أطراف لبنانية معارضة، استحضرت دور فصائل منظمة التحرير خلال الحرب الأهلية، محذّرة من تكرار مشاهد السلاح الفلسطيني في الداخل اللبناني. ووجد هذا الخطاب صدى واسعاً في وسائل الإعلام المناهضة لحزب الله.
ومع تصاعد العدوان الإسرائيلي وتوسّع الاستهدافات في الجنوب، تراجع هامش الحركة لحزب الله، وبدا أنّ الغطاء السياسي للفصائل الفلسطينية يتآكل. ويعزّز هذا الانطباع تسلُّم الجيش اللبناني مواقع عسكرية تابعة لحزب الله جنوب نهر الليطاني، في مشهد يُوحي بإعادة رسم للمعادلات الميدانية.
السلاح من خارج المخيمات.. نهاية نفوذ قديم
لم يقتصر الحراك اللبناني بعد وقف إطلاق النار على المخيمات، بل شمل أيضاً السلاح الفلسطيني خارجها، وهو ملف قديم ارتبط تاريخياً بفصائل محسوبة على النظام السوري، أبرزها "القيادة العامة" و"فتح الانتفاضة".
اقرؤوا المزيد: جيش لبنان الجنوبي.. كيف صنعت "إسرائيل" حلفاءها
فمنذ خروج منظمة التحرير من بيروت عام 1982، حافظت هذه الفصائل على مواقع عسكرية خارج نطاق المخيّمات، بدعم سوري مباشر. من أبرزها:
- أنفاق الناعمة جنوب بيروت، المحفورة في التلال منذ أوائل الثمانينيات، والتي فشلت "إسرائيل" في تدميرها رغم محاولات متكررة.
- معسكر قوسايا في جرود زحلة قرب الحدود السورية، ويضم مخازن صواريخ وأنفاقًا، وقد استخدمته "الجبهة الشعبية - القيادة العامّة"، إحدى قواعدها الرئيسة بعد خروج منظمة التحرير من لبنان.
- مواقع أخرى في البقاع الغربي والأوسط، مثل السلطان يعقوب ودير الغزال، وُزّعت بين "القيادة العامة" و"فتح الانتفاضة".
لكن تطوّرَين أساسيين غيّرا المشهد: سقوط نظام بشار الأسد في دمشق، واتفاق وقف إطلاق النار في الجنوب. وفي أواخر كانون أول/ ديسمبر 2024، سلّمت تلك الفصائل طوعاً أو كرهاً مواقعها في منطقة الناعمة وفي سلسلة جبال لبنان الشرقية إلى الجيش اللبناني، من دون مقاومة. شملت عمليّة التسليم أيضاً قاعدة حَشمش، ومعسكر دير الغزال، وموقع قوسايا، وصادر الجيش اللبناني ذخائر وأسلحة متوسطة وثقيلة، في خطوة بدت كأنها إنهاء لمرحلة امتدّت لعقود.
لا حقوق.. الوجه الآخر لأزمة الفلسطينيين في المخيمات
لم يكن السلاح الفلسطيني في لبنان يوماً منفصلاً عن سياق اجتماعي مضطرب. فمنذ أواخر التسعينيات، فرضت السلطات اللبنانيّة قيوداً متصاعدة على المخيمات، بدأت في الجنوب (الرشيدية، وبرج الشمالي، والبص)، ثم امتدت إلى برج البراجنة في بيروت، وأشدّها ظهر في عين الحلوة، حيث أقيم جدار إسمنتي حول المخيم منذ 2002.
اقرؤوا المزيد: مخيم عين الحلوة.. السير في متاهات النفوذ
في الشمال، لا يختلف الحال كثيراً. مخيم نهر البارد، المدمّر منذ معارك 2007 مع تنظيم "فتح الإسلام" ما يزال خاضعاً لإجراءات أمنيّة صارمة، في حين أُغلقت مداخل مخيّم البداوي بالسواتر، ما فاقم عزلة اللاجئين الفلسطينيين.

يُحرم الفلسطيني في لبنان من حقِّ التملك بموجب قانون برلماني، فلا يستطيع البناء داخل المخيمات، ولا شراء مسكن خارجها، بينما ظلّت حدود المخيمات على حالها منذ النكبة. ومنذ بداياتها، تعاملت الدولة مع المخيّمات باعتبارها مصدر تهديد، فوكلت مراقبتها إلى أجهزة استخباراتية (ما يُعرف بالمكتب الثاني) والتي بدورها مارست قمعاً ممنهجاً، قبل أن تُعد شرعنة السلاح في "اتفاقية القاهرة" 1969 شكلاً من أشكال تخفيف هذا الضغط.
ولطالما طُرح ملف السلاح في إطار ثلاثي: نزع السلاح خارج المخيمات، وتنظيمه داخلها، مقابل إقرار الحقوق المدنية. هذا ما اتُّفق عليه في 1991، وأعيد تأكيده في 2006. لكن ما جرى فعلياً هو اختزال كل المشكلة بـ"السلاح"، وتجاهل واقع اجتماعي واقتصادي منهك يعيشه نحو 250 ألف لاجئ فلسطيني، محرومون من العمل والتملك والتعليم، في بيئة تُراكم الغضب وتُسهّل الاحتكام إلى السلاح، وتُقوّض قدرة الدولة على فرض سيادتها بشكل متوازن.