2 فبراير 2024

حين تَغيّر مجرى التاريخ في خانيونس

<strong>حين تَغيّر مجرى التاريخ في خانيونس</strong>

في يوم سماء صافية من عام 1799، وبينما كانت الحملة الفرنسيّة بقيادة الجنرال كليبر متجهةً نحو سوريا، كان نابليون وزمرة معه يحاولون اللحاق بالجيش، لكنهم تاهوا على أرض خانيونس. ظنّ العرب حينها أنّ الجيوش الفرنسيّة قد دخلت مدينتهم ففروا من نابليون ومن معه، وهو ما أثار استغراب تلك الزمرة الفرنسيّة، فقرروا هم أيضاً الهرب قبل أن يُكتشف أمرهم. يقول مصطفى الدباغ في موسوعته "بلادنا فلسطين"، مُعلّقاً على هذه الحادثة: "فلو عرف العرب الحقيقة وألقوا القبض على عدوهم لتغيّر مجرى التاريخ في خان يونس".1بلادنا فلسطين والفردوس المفقود لمصطفى مراد الدباغ، إصدار دار الهدى، طبعة 1991، الجزء الأول، القسم الثاني، ص 139.

اليوم، وبعد نحو 225 سنة، تُجري خانيونس استدراكاً على ما فاتها من محاسبةٍ لرأس الاستعمار الفرنسي، وتقرّر تغيير مجرى التاريخ بمحاسبة رأس الاستعمارات كلّها: "إسرائيل". ففي يوم الإثنين 22 كانون الثاني/ يناير الجاري، الموافق لليوم 118 على الحرب، كان مقاتلو القسّام الذين يلازمون عقدهم القتالية منذ أسابيع، في انتظار "صيدهم الثمين". ظنّ الاحتلال أنّ أمطار قصفه قد مشّطت شرق مخيم المغازي، فأدخل جنودَه من قوّات الهندسة وهو مطمئن، لِتُـفخّخ المباني وتمارس هوايتها المعروفة في القطاع: نسف المربعات السكنيّة. 

شخّصت هذه الزمرة من المجاهدين صيدها هذا، وآثرته على صيدٍ آخر مضمون، مكوّن من قوة راجلة كانت تقف على حقل ألغام أعدته في وقتٍ سابق. وعند الساعة الرابعة من مساء ذاك اليوم، تنطلق قذيفة "الياسين 105" نحو "إيجو إسرائيل"؛ دبّابة "الميركافا"، فتقتل جنديّين بعد إعطابها. بالتزامن مع ذلك، يقف أحد المجاهدين بثباتٍ حاملاً قذيفة أخرى؛ "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى"، فتطير القذيفة نحو المنزل الذي تتواجد داخله قوّات الهندسة الإسرائيلية والذين كانت تحرسُهم الدبّابةُ المُدمّرة، ويكون المنزل وآخر مُلتصق به مُمتلئيْن بالذخائر والمتفجّرات، فيضاعف الله قذيفة ذاك المجاهد فيقتل بها 19 جنديّاً نتيجة تواطؤ قنابلهم مع قذيفته. لم تنتهٍ القصّة هنا، فحقل الألغام الذي آثروا عليه أوّل الأمر، كان جاهزاً لأن ينفجر بقوّة راجلة من الجنود، فقُتل 3 منهم. 

هكذا، في يومٍ واحد، بل وفي ساعاتٍ معدودة، تحوّلت أرض خانيونس إلى مقبرة جماعيّة لـ 24 جنديّاً إسرائيليّاً. 3 أهداف اجتمعت في الوقت ذاته، أبقت "إسرائيل" مشغولة لمدة 12 ساعة تُلملم قتلاها وجرحاها، فيما غادر المجاهدون إلى عُقدهم القتاليّة بسلام. يقول الدبّاغ: "إن ابن خان يونس مشهور بعنايته بأراضيه.."، وهو وإن كان يقصد حرث الأرض وزراعتها بالمحاصيل، إلا أن مقالته كما يبدو تصحّ على أشكال أخرى من الحرث والزراعة والقطف.2المصدر الأول، ص 140.

أهلاً بكم في خانيونس

ما إن انتهت الهدنة المؤقتة التي استمرّت أسبوعاً، حتّى سارع الاحتلال في الأول من كانون الأول/ ديسمبر 2023 إلى التصعيد في إجرامه، وتوسيع رقعة الاستهداف، فباتت صواريخه تنهال بكثافة على سكّان خانيونس؛ أكبر محافظة من حيث المساحة في القطاع، والثانية من حيث عدد السكان.3يبلغ عدد سكانها حسب إحصاءات عام 2022؛ 463,744 نسمة. فخلال 24 ساعة، كان الاحتلال قد أعلن استهدافه برّاً وبحراً وجوّاً أكثر من 400 "هدفٍ" من حيوات الناس وآمالها، أكثر من 50 منها كانت في خانيونس.بعد أن استغرق الاحتلال يومين في تمشيط المحافظة بالقصف الجويّ، بدأت آليّاته وجنوده بالتحرّك البريّ نحو الأرض التي قال إنّ ثقل حركة "حماس" موجودٌ فيها. 

كان الجيش المُغلّف بالمبالغات معنيّاً بالمبالغة في أهميّة خانيونس، حتّى إذا ما حقّق فيها أي شيءٍ جعله بمثابة الانتصار المُجلجل له، فهو خارجٌ لتوّه من شمال القطاع دون أن يحقّق فيه ما وعد جمهورَه به من "القضاء على حركة حماس"، فما لبث أن سحب قوّاته حتّى خرجت أكبرُ الرشقات الصاروخيّة من الشمال، وحتّى خلال تواجده فيه سلّم القسّام والسرايا أسراه من قلب غزّة؛ العاصمة الإداريّة للحركة. ولاكتمال صناعة الصورة التي يريدها الاحتلال، دخل إلى خانيونس للاطلاع على سير المعارك، كلٌّ من قائد أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي ورئيس "الشاباك" وقائد القيادة الجنوبية وقائد "فرقة غزة". 

لكن رجال خانيونس وحاملي لوائها، لم يردّوا مبالغات الاحتلال الإعلاميّة، بل أخذوها وحوّلوها من حقٍّ أُريد به باطل، إلى حقٍّ دلّت عليه أساطير قتال ملحميّ. فمنذ اليوم الأول للاجتياح البريّ لخانيونس، والذي وافق اليوم 58 على بداية الحرب، فجّر المجاهدون حقل ألغام شمال المدينة بقوّة من 8 جنود، ثمّ أجهزوا على من بقي منهم حيّاً. وفي اليوم 60، قنصوا 6 جنود، وفجّروا منزلاً كانوا قد فخّخوه بقوّةٍ إسرائيلية تحصّنت فيه، وفجّروا حقلين من الألغام بقوّتين أخريين، وقصفوا حشوداً عسكريّة بمنظومة صواريخ "رجوم" قصيرة المدى، ودمّروا نحو 25 آليّة عسكريّة. 

هكذا، استقبلت خانيونس جنود الاحتلال بحرارة متفجّرة من الكمائن، مُنبئةً عن حجم ونوعيّة المعارك التي سوف تقع في قادم الأيّام على هذه الأرض. تنتظر الزمرة في عقدتها لأسابيع -كما قال صاحب اللثام- وهي تتحيّن الفرصة، ثمّ تخرج من تحت الأرض وفي يدها شتّى الصنوف المؤدية إلى الموت: رصاصٌ وقنصٌ وقذائف مدفعيّة وصواريخ وعبوات ناسفة، تقتل وتجرح وتُعطِب جنوداً وآليّات. كلّ هذا جُرّب في خانيونس.

تتّكئ خانيونس على إرثٍ من القادة والمعارك، فمنها رئيس حركة "حماس" وصاحب الطوفان يحيى السنوار، ومنها رجل الظل والقائد العام لكتائب القسّام محمد الضيف، ومنها عضو المجلس العسكريّ للقسّام محمد السنوار، ومنها قائد لواء خانيونس ورافعه رافع سلامة، كما استُشهد خلال الطوفان بعض قادتها أمثال شادي بارود، وقديماً كان عبد العزيز الرنتيسي والحاج محمد النجّار. 

اقرؤوا المزيد: ليلة المكالمة المذعورة.. تحقيق إسرائيلي عن اللحظات الأولى للطوفان

وعلى أراضيها، جرى انكشاف تسلّل الوحدة الإسرائيليّة الخاصة عام 2018 على يد الشهيد نور بركة ورفاقه، والتي سعت لاختراق الاتصالات الداخلية للحركة وجهازها العسكري، ولم يُفشل رجال خانيونس العملية فحسب، بل اغتنموا منها معدّات سرية للغاية تركتها الوحدة خلفها، وبحسب موقع "واي نت" الإسرائيلي، فإن الحركة استفادت منها جداً في تطوير تقنيات اتصالاتها وصولاً إلى لحظة الطوفان.

تكسير المُسلّمات

كعادته، يرفع الاحتلال كلفة الكرامة على أهل خانيونس أسوةً بباقي مناطق القطاع، هذا لأنهم اختاروها عندما اختاروا المقاومة. يحاول الاحتلال تثبيت قاعدة في مناطق توغله البريّ، وهي أنّه كلّما اشتدّ القتال وأظهر المجاهدون بأساً، زاد الاحتلال من قتله وإبادته للناس العُزّل من كلّ شيء، كي يرتبط، لا في أذهان الناس فحسب، بل في السيالات العصبية في أجسامهم، أنّ المقاومة نتيجتها مزيدٌ من الاحتلال، بينما لم تنشأ مقاومة واحدة على مرّ التاريخ إلا لوجود الاحتلال أولاً.

تقريباً لا يمرّ يوم في خانيونس بدون قتلى أو جرحى من جيش الاحتلال، وممّن أصيب نجل وزير "الاستيعاب والهجرة" أوفير صوفر، الذي يعمل ضابطاً في "لواء المظليين". لقد كسرت هذه الأرض مسلمة مُتجذّرة لدى الاحتلال، بأنه لا يحتمل خسارات القتلى والجرحى، وهو اليوم يخسرهم بالعشرات والمئات، حتى بات حكومة وجيشاً ومجتمعاً مُعتاداً على ذلك. 

يضع الاحتلال ثقله في خانيونس، فمن 3 فرقٍ إسرائيلية في القطاع، هناك فرقة كاملة "98" تتوغل في جميع محاور القتال في خانيونس، مخصّصة للأنفاق والعثور على الأسرى وقادة حماس، وهي تحت قيادة العميد في الجيش الإسرائيلي دان جولدفوس. تحت هذه الفرقة التي يطلقون عليها اسم "تشكيل النار"، تعمل عدد من الوحدات الخاصة مثل الكوماندوز و"جفعاتي". وقد دمجت فيها حين توغلها في خانيونس 7 ألوية، تنضوي تحتها مجموعة من الكتائب؛ كلّها في مواجهة لواء واحد، رجاله حافية أقدامهم. 

تصعّب خانيونس القتال عليهم، فيسحب جيش الاحتلال ألوية مثل "كافير" و"كرياتي" منها ليستبدلها بألوية أخرى، ويقوم طيرانه بإنزال جويّ فيها (في اليوم 66 واليوم 103)، ليمدّ الجنود بالسلاح والعتاد والوقود والغذاء، وهو ما لم يقم به منذ حرب تمّوز 2006. 

خانيونس: الأرض الصعبة 

بأبسط العتاد، استكملت خانيونس استقبال الجيش "الذي لا يقهر" ودلّلت مراراً وتكراراً على إمكانيّة قهره. وإلا، فما الذي يعنيه، وفي اليوم الـ115 على الحرب، أن يخرج مجاهدون من عقدهم القتالية جنوب خانيونس، فيُخرِجوا معهم منصّات إطلاق الصواريخ قبل أن يُذخّروها، ثمّ يطلقون رشقة كبيرة من الصواريخ تجاه "تل أبيب الكبرى"؛ رمز الكيان الإسرائيلي وسطوته، ثمّ يخفون تلك المنصات وينسحبون بسلام، وسط حصار بريّ وجويّ إسرائيلي خانق ومن كل الجهات؟ 

رسالة ذلك واضحة: إنّ هذه الأرض صعبة ولحمها مُرّ. ومن مرارة لحمها، أنّ ثمن استكشاف النفق فيها، انفجاره في وجه مكتشفيه، كما جرى في اليوم 75 مثلاً. 

حتى أنّ خانيونس كانت تتهيأ لمواجهة العدوّ قبل اجتياحه قطاع غزّة بريّاً، وربّما كانت تستفزّه للدخول، فعلى تخوم المدينة كمن المجاهدون في اليوم 16 لجرّافة عسكريّة فقتلوا جنديّاً إسرائيلياً وأصابوا ثلاثة، واستهدفوا في اليوم 19 طائرة إسرائيلية في سماء المدينة بصاروخ "مُتبّر".

وبعد أكثر من مئة يوم على الحرب، تفاخر جيش الاحتلال بتوصّله إلى مُخلّفات 20 أسيراً إسرائيلياً في نفق في خانيونس، قال إنّه بطول حوالي 830 متراً وعمق حوالي 20 متراً. هناك، وقف ضبّاط وجنود "الفرقة 98" على أطلال مجاهدي "وحدة الظل" في القسّام، يصوّرون ويتباهون بالسراب، فلا أسرى استُرجعوا ولا أنفاق دُمّرت (80% من الأنفاق ما تزال بخير) ولا قادة قُتلوا. كان هذا الإعلان للمتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، قبل واقعة الجنود الشهيرة بيوم؛ تلك الواقعة التي قال عنها الاحتلال إنّها "من أصعب أيام القتال".

لا تسكت أصوات صليات الرصاص في خانيونس، ولا يكف المجاهدون عن إعداد المفاجآت. ففي اليوم الـ108 على الحرب، نفذت سرايا القدس ما وصفته بـ "عملية استحكام" ضدّ تجمعات للجنود والآليات الإسرائيلية. أنزلت من الجوّ طائرة استطلاع من نوع "AUTEL EVO MAX 4T"، والتي تستخدم في إنشاء مسارات طيران ثلاثية الأبعاد، ومزودة بمكتشف ليزر لتحديد الإحداثيات بدقة عالية، وبكاميرا تصوير حرارية عالية الدقة، مع احتوائها على جهاز "GPS". بواسطة هذه الطائرة، حصلت السرايا على معلومات هامة عن تمركزات الجيش الإسرائيلي، وبناءً على ذلك استهدفتها أكثر من مرة.  

أما على الأرض، فكلّ الجهات في خانيونس شاهدة على الكمائن وحقول الألغام والأبنية المفخخة وعبوات "الشواظ" و"العمل الفدائي" وقذائف "الياسين 105"؛ أشهر شخصيّة في الحرب. ففي اليوم الـ110 مثلاً، فجّر مقاتلو القسّام منزلاً أوقع الجنود بين قتيل وجريح، ثمّ انتظروا قوّات الإسناد فاشتبكوا معها، فأجهزوا على أكثر من 10 جنود غرب خانيونس، وكذلك أكثر من 15 جنديّاً إسرائيلياً كانوا متحصّنين في منزل، تلقّفهم قاذف الـ"TBG"، فأوقعهم بين قتيلٍ وجريح. ليس الجنود فحسب، فناقلات الجند والجرّافات ودبّابات "الميركافا" أجرى عليها شباب "جاكيتات الجوخ" قدر الله، فأكتافهم كانت منصّة لإطلاق قذائف "الياسين 105" و"التاندوم". 

وخانيونس درس الوحدة الوطنية الحقّة، تلك التي تُعقد عند محاور القتال لا على طاولات مستديرة. حيث العشرات من العمليات المشتركة التي نفذتها القسّام والسرايا، فمثلاً؛ في اليوم 89 قصفوا بـ"الهاون" 60 تجمعاً لآليات وجنود الاحتلال، وفي اليوم 91 استهدفوا معاً ثلاث دبابات.

منذ بداية الطوفان، ذُكرت خانيونس في قناة "كتائب الشهيد عز الدين القسام" على "تلغرام" أكثر من 360 مرّة، وفي مجموعة "سرايا القدس الإعلام الحربي" أكثر من 150 مرّة. إلا أن ذكرها بين الناس هو أكثر من ذلك، وذكرها في الملأ الأعلى أعلى وأجل. 

لقد استدارت خانيونس بمركبة التاريخ. كانت دول العالم المهيمنة تمشي على طريق سريعٍ نحو مشاريع ليس لنا أي حضور فعليّ فيها، وفجأة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 التفت العالم أجمع لهذه القطعة الجغرافية الصغيرة، وعلى وقع معارك خانيونس أنصتوا وفتحوا أعينهم كما لم يفتحوها من قبل.



4 أبريل 2024
الأرض المفخّخة.. عبواتُ حفظ البلاد

بالبارود والدم، بدأت العبوة المتفجرة تشق طريقها في الضفة الغربية. مؤقتاً، لساعات وربّما حتى لدقائق، تتحرّر البقعة المفخخة عند انفجارها.…